Thursday, December 20, 2012

تهويمات في اللا مكان واللا زمان



    أن تكتب – ككاتب يحترم نفسه وكلمته – مقالاً تربط فيه بين السياسة والاقتصاد، أو بين السياسة وعلم الاجتماع، أو بين السياسة والجغرافيا، أو بين السياسة وأي شيء آخر، فهذا مفهوم ويتوقع أن يلاقي الاستحسان والقبول، أما أن تربط بين السياسة وسد هائل من الخرسانة، فهذا تهويم وهذيان لن يُغفر لك، وربما صرف عنك أكثر القراء صبراً وجلداً.

    لكن القصة من الطرافة بحيث تستحق أن تُروى، ففي يوم صيفي قائظ، رمتني إحدى رحلاتي التي لا تنتهي في مكان لا ينتمي إلى مكان، وفي زمان لا ينتمي إلى زمان. كنت أقف في منتصف المسافة الفاصلة بين ولايتي أريزونا في الشرق ونيفادا في الغرب، أبعد عن كل منهما مئة وتسعين متراً بالتمام والكمال، ولا أدري لأي منهما أنتمي مكانياً، فأشعر بأنني في اللا مكان، وأنظر إلى جهة اليمين، فأرى ساعة ضخمة تنتصب على عمود خرساني في أريزونا تشير عقاربها إلى الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق، وألتفت إلى جهة الشِّمال، فأرى ساعة أخرى تنتصب على بر نيفادا وعقاربها تشير إلى العاشرة وخمس دقائق، فلا أدري لأي منهما أنتمي زمانياً، فأشعر أنني أقف في اللا زمان،،، يملؤني إحساس غريب بأنني موجود في اللا مكان واللا زمان.

    أنا هنا في منتصف قمة سد ”هوفر” الشهير، ذاك الذي أنشيء في بداية ثلاثينيات القرن الماضي بين ولايتي أريزونا ونيفادا، لكي يقبض على عنق نهر الكولورادو، فيعتقل مياهه خلف جداره الصلب الذي يتألف من كتلة خرسانية هائلة، وبذلك يؤمن المياه لمناطق شاسعة صحراوية أو شبه صحراوية، ويولد طاقة هائلة من الكهرباء، ويمنع أخطار فيضان النهر في بعض السنين. معلومات المركز السياحي في إدارة السد تقول بأن ارتفاعه يصل إلى 221 متراً، وعرضه عند القاعدة 200 متر، بينما يبلغ عرضه عند القمة 14 متراً، وطوله 380 متراً، وبذا يكون وزن كتلته الخرسانية 6 ملايين طن، (حجمها 2,5 مليون متر مكعب، مضروباً بـ 2,4 طن وزن المتر المكعب من الخرسانة). أما مساحة البحيرة، بحيرة ”ميد”، التي تتشكل وراء السد – تلك التي أنظر إليها الآن – فتبلغ 640 كم مربعاً، أي حوالي ضعف مساحة قطاع غزة، عمقها في المتوسط حوالي 180 متراً، أما كمية المياه التي تتجمع فيها فتبلغ 35200 كم مكعب (لأنه حجم)، أي 35 مليار ومئتي مليون متر مكعب، ولو اعتبرنا أن وزن المتر المكعب من المياه هو طن واحد، لكان وزن المياه التي يحتجزها السد يزيد على 35 مليار طن، فتكون المعادلة ببساطة أن 6 ملايين طن من الخرسانة تسيطر على 35 مليار طن من المياه وتتحكم بها، أي أن وزن المياه يعادل 5833 مرة ضعف وزن السد.

    بينما غص المكان بعدد كبير من السياح الذين انشغلوا بالتقاط صور للبحيرة من جهة الشمال، ثم القفز إلى الجهة الأخرى لتصوير جسم السد من جهة الجنوب، كان ذهني يقفز في عالم آخر له زمانه ومكانه،،، زمانه عصر اضطهاد وتسلط وبطش، تكمم فيه الأفواه، ويرمى الناس في السجون بلا محاكمة دون أن يعلم عنهم ذووهم أي شيء، وفرد أو عائلة تحكم البلاد عقوداً وعقوداً من السنين،،، أما مكانه فمساحات شاسعة من بلدان العالم الثالث، تزخر بموارد حد الغنى الفاحش، بينما تتضور شعوبها جوعاً حد الموت،،، أنظمة الحكم تلك وجدتُ بينها وبين شعوبها، وبين هذا السد وهذه البحيرة، شبهاً كبيراً. تصورت البحيرة شعباً هائلاً بقدراته وخيراته وجيشانه،،، هائل العدد هول عدد الأمتار المكعبة من مياه البحيرة،،، قادر هادر عندما ينطلق بحرية في مجراه الإنساني،،، نافع لنفسه وللإنسانية بعطائه عندما يحوز حريته، لكن، وكما يرقد النهر الهادر هنا خلف هذا السد الديكتاتور، – والذي بحجمه الضئيل مقارنة مع حجم المياه – يستطيع كبح جماحها، يرقد الشعب خلف حكم الدكتاتور، ذاك الذي بنى جسم نظامه السياسي باستخدام كمية هائلة من الخرسانة السياسية، جمعها على شكل خلطة من الخانعين والمنتفعين والخونة، دعمته في صموده أمام فوران شعبه وتدفقه، فكبح جماحه، وحوله إلى بركة راكدة آسنة، ينمو فيها العفن، وتتراكم على حواشيها الطحالب،،، يأسن ماؤها حتى تنتن رائحته، وتتكاثر فيها الكائنات البحرية التي يأكل الكبير منها الصغير. لكنه، وبعقلية خبيثة هي جزء من تركيبته النفسية والأخلاقية، يحرص الدكتاتور على السماح ببعض مظاهر الحرية للذين احتجزهم وكبلهم، فكما يعلم السد أنه لا يستيطع كبح جماح المياه خلفه إلى الأبد، فقام بتصريف كميات منها من خلال فتحات في الجهة الأخرى منه حيث مخرج المياه حتى لا تجرفه في لحظة طوفان، كذلك فعل الديكتاتور، فسمح لشعبه بالتنفس المحدود عبر فتحات مسيطر عليها ومتحكم بها، كبعض الصحف المأجورة التي تهاجم الديكتاتور فقط في شكل ربطة عنقه، أو تسريحة شعره، أو لون عينيه، ولا تتجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، وكذلك من خلال أحزاب كرتونية، تسمى أحياناً ”جبهة القوى الثورية”، وأحياناً أخرى ”اتحاد المعارضة الوطنية”، أو ربما ”كتلة الخلاص الوطني”، إلى غير ذلك من الأسماء التي يتفضل الدكتاتور باقتراحها، وبينما يحتل نواب هذه الأجهزة الكرتونية كراسيهم في مجلس الشعب، إلى جانب حزب الأغلبية، حزب السلطة، ينامون ملء جفونهم خلال معظم الجلسات، وعندما يستيقظون أحياناً، يطالبون بصوت عالٍ باستجواب وزير التموين، أو حتى رئيس الوزراء نفسه، حول أسعار الطماطم والبقدونس، أو يقترحون زيادة رواتب نواب الشعب بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وكذلك مضاعفة أسعار المواد التموينية حفاظاً على صحة الشعب حتى لا يأكل الناس كثيراً، فيصابون بالسمنة وما ينتج عنها من ارتفاع في ضغط الدم والسكر والكولوسترول، ورفع الضرائب على كل شيء للتمكن من سداد قروض البنك الدولي، ولو بالغ هؤلاء النواب وتطرفوا في مواقفهم الناطقة باسم الشعب!، لتقدموا باستجواب لوزير المالية حول عدم دفعه فواتير استهلاك الماء والكهرباء الخاصة بقصره ومصانعه. كذلك لا ينسى الدكتاتور بعض الكتاب المنافقين لكي يساعدوه في التخفيف من كبت جماهير شعبه، فلديه من يكتبون المسرحيات النارية الوقع التي تهاجم قشور حكمه ولا تنفذ إلى العمق، أو الأفلام السينمائية التي تفضح ممارسات الفاسدين، لكنها لا تقترب من عتبات القصر الجمهوري، كما يجد المخرجين والممثلين لهذه الأعمال، أولئك الذين يصل بهم الغرور والجهل إلى حد الادعاء بأنهم إنما يقومون بترسيخ الديمقراطية الشعبية بأعمالهم الوطنية، بينما لا يزيد دورهم الحقيقي على تخفيف الاحتقان الشعبي، ومن ثم إطالة العمر السياسي للدكتاتور. هي مجموعة مطبلة مزمرة، تأتمر بأمر سيدها – الدكتاتور – فلا تتنفس إلا بعدد الأنفاس المسموح لها به، ولا ينطلق لسانها إلا عندما يضغط الزعيم على زر التشغيل. ولكي يكتمل المشهد، لا يمل الدكتاتور من التذمر من الصحافة الوطنية التي تهاجمه ليل نهار، ومن الأحزاب التي تنهش لحمه بأنياب نوابها وكتاب صحافتها، والمسرحيات والأفلام التي أضحكت الجماهير عليه وعلى عائلته، لكنه يصر دائماً على أنه متمسك بهذا العرس الديمقراطي!. كل ذلك يجري بينما مياه الشعب راكدة ساكنة، لا حراك فيها سوى عند فتحات التصريف تلك،،، تصفق دون أن تعي ما تسمع، وتؤيد دون أن تعلم ماذا تؤيد،،، تردد الشعارات كالببغاوات،،، فرِحةٌ بوجود انتخابات حتى ولو كانت مزورة،،، لا تحتفل سوى بعيد ميلاد الرئيس، ولا تذبح الخراف فتتذوق طعم اللحم، إلا عندما يزور سيادته إحدى القرى لتدشين صنبور مياه، وعندما ترى تلك الجماهير وجه الرئيس الضرورة! من خلف زجاج سيارته المصفحة، لا تنام ليلها من شدة الفرح، ولو تجرأ ومد يده مصافحاً، لتهافتت عليها الشفاه مقبلة إياها وكأنها تلثم الحجر الأسود على جدار الكعبة،،، استراحت بين يدي حكمه المديد، فأسِنَتْ وفسدت حد العفونة. ذلك هو السد والبحيرة، وهذا هو الدكتاتور والشعب.

    جميع الناس تذهب إلى الأماكن السياحية لكي تعود منها بصور تذكارية عن رحلاتها الممتعة، ثم لتحدث الأهل والأصدقاء عنها، أما أنا، فبدلاً من الاستمتاع بما أرى كما يفعل الآخرون، إلا أنني، ونظراً لسوداويتي القاتلة التي تميزني عن أقراني من الكتاب المتفائلين، أعود محملاً بهموم عالمنا الثالث التعيس، أجترها كجمل صبور في بيداء قاحلة، وأكتوي بلهيبها كفراشة حلقت حول نور شمعة قاتلة، لكنني، ولكي أخفف بعضاً من ثقل هذه الهموم عن نفسي، وحتى أحفظ توازنها وثباتها استعداداً لرحلات مقبلة، أقوم – وبنوع من العشم – بتوزيعها على القراء الصابرين، متمثلاً القول الشائع:( وزّع الحمل، بينشال).


Saturday, December 8, 2012

المقامة الماسوشية:( هذه ترجمة حرفية، لنص أسطورة شعبية، وجد محفوراً على جدران معبد في إحدى إمبراطوريات أمريكا اللاتينية، والتي اندثرت منذ مليون سنة قبل الميلاد،،، للدقة العلمية ).




    لم يصدق الإمبراطور ما تسمعه أذناه وما تراه عيناه، وقد أحاط به وزراؤه وقادة جيشه ومستشاروه ومن والاه،، عندما قال له مندوب الشعب بلهجة ملؤها التذلل والاعتذار، مع مسحة من العزم والإصرار:
-         سيدي الإمبراطور، إن شعبكم الذي يحبكم، ومستعد لدفع حياته فداء لكم، هذا الشعب الذي تعلمون أنه آخر ما يهتم به الحاكم في هذا البلد العظيم،،، شعبكم الذي بايعكم بالإجماع يوم توليكم العرش، وأقسم على أن يفديكم بروح وبماله وبكل ما يملك، شعبكم الوفي هذا أرسلني إليكم اليوم راجياً منكم التلطف والتكرم والتعطف بتلبية رغبته، وتحقيق أمنيته، وهو يرجو أن تكون هذه آخر آمانيه التي يتوق إليها، وخاتمة مطالبه التي يصر عليها، وتتكرمون بها عليه، وبذلك تردون جميل خضوعه لكم أضعافاً مضاعفة إليه.
-         تكلم يا مندوب الشعب العظيم، فمنذ توليت حكم هذه الإمبراطورية، وأنا أعمل ليل نهار على خدمتكم وتلبية مطالبكم، وتنفيذ ما يدور في رأسي بموافقتكم أو بمعارضتكم، والعمل بمشيئتي سواء بتأييدكم أو بممانعتكم، وأنا هنا رهن إشارة الشعب الذي برهن لعقود طويلة على الخنوع تحت حكمي السديد، واستكان بلا حراك أو تذمر خلال عهدي المديد،،، تكلم ولا تخف أيها المندوب النجيب، ماذا يريد مني شعبي  الحبيب؟.
-         سيدي الإمبراطور: بما أنه قد مضى علينا - نحن الشعب – حوالي المئة قرن الماضية من الزمان ورقابنا تحت نعالكم، ومن قبل ذلك تحت نعال آبائكم وأجدادكم، وأبصارنا عند مستوى أقدامهم وأقدامكم، ورقابنا اعوجت لكثرة طأطأة رؤوسنا أمامهم وأمامكم، ولأننا شعب مسكين لا يستحق عظيم كرمكم وعطائكم، ولأننا قمنا بالقدر الكافي من الخنوع لعرشكم ومقامكم، وعقاباً من الله لنا على تذللنا أمامكم، والذي هو أشرُّ من عقوق الوالدين، وأسوأ من قتل الحسن والحسين، لكل ذلك فقد رمانا الله بعقدة نفسية يسمونها "الماسوشية"، والتي تعني – عافاكم الله - الاستمتاع بالإذلال المفرط والتعذيب المحبط، والذي نتمنى أن يصل في نهايته السعيدة إلى الموت الزؤام، كذلك يعرف شعبكم العظيم  بفطنتته التي لا تغفو ولا تنام، أنه - وكما أصيبت نفوس أفراده بتلك العقدة - فقد أصابتكم أنتم وحاشيتكم عقدة نفسية، تدعى "السادية"، والتي تعني التلذذ بإذلال الناس حد إقناعهم بأنهم أقل أهمية، وأدنى قيمة من البهائم، والاستمتاع بتعذيب الآخرين حتى الموت باعتبارهم نوعاً من سقط المتاع ورخص الغنائم، لذا، ومن منطلق الوفاء لقيادتكم التاريخية، واعتماداً على وعودكم بأن تكونوا مخلصين لنفوس شعبكم الوفية، وحرصكم الدائم على منحه الرعاية الأبوية، فقد جئت إلى أعتاب عظمتكم اليوم لكي أطلب منكم، باسم الشعب، واستكمالاً منه لهذه العلاقة التاريخية المميزة بينكم وبينه، والتي غمرت نفوس أبنائه بالامتنان والشكر والعرفان لشخصكم السامي الكريم، جئتكم باسم المساجين الذين أكلت عتمة الزنازين زهرة شبابهم، والتهمت سياط الجلادين لحم ظهورهم وجنوبهم وأكتافهم، وامتهنت أحذية جنودكم ما تبقى لهم من شهامتهم وكراماتهم،،، باسم الفقراء الباحثين عن قوتهم في صناديق القمامة، وباسم أطفال الشوارع وجموع اليتامى،،، باسم الأرامل والمشردين، الذين أصبحوا الأغلبية الساحقة في شعبكم الخانع المستكين ،،، باسمهم جميعاً جئتكم راجياً أن تبادروا إلى تخليصهم وتخليص أنفسكم من تلك العقد الغبية: السادية والماسوشية.
    نظر الإمبراطور إلى وجوه قادته ووزرائه ومستشاريه، فوجد على محياها علامات الرضى والترحيب والعجب، لِما سمعوه من مندوب الشعب، إلى درجة أن بعضهم لم يملك نفسه من التصفيق، بل والبكاء تأثراً بما يرى ويسمع، فاستمروا بالتصفيق لساعات أربع. ابتسم الإمبراطور مرحباً بهذا المطلب الذي وجد في نفسه قبولاً، وانشرح صدره به لكونه عملياً ومعقولاً، وعبر عن تأييده له بقوة، خاصة وأنه يمنحه الفرصة للبر بالقسم الذي أداه يوم تولى إمبراطوراً منذ سنوات لا يذكر عددها، لا يهم منذ متى، المهم أنه ما زال يتذكر القسم، ولأنه يخاف الله، فالأيمان لها قداستها، وللعهود مكانتها وحرمتها، من نكص عنها تلبّسه العار والشنار، ومن نقضها كان مصيره جهنم وبئس القرار، ولما تساءل الإمبراطور عن الكيفية التي يرتئيها مندوب الشعب لتنفيذ هذا المطلب، ذكّره المندوب بأن الشعب قد أنفق من قوت يومه وعرق جبينه على قواته المسلحة، التي يعتمد عليها في أن تكون خادمة لما يطلبه الشعب من حاجاته الملحة، خاصة وأنها من الشعب وإليه، وتعتمد – بعد الإمبراطور – على الله وعليه، فاشتعل حماس القادة العسكريين، ودارت أعينهم عجباً ذات الشمال وذات اليمين، وازدادت النجوم على أكتافهم لمعاناً، ورقصت الميداليات على صدورهم فرحاً وافتتاناً، فانفرجت أسارير الإمبراطور، وأوعز إلى قادته أن يكونوا هم وجنودهم جاهزين لتنفيذ رغبة شعبه المقهور، فقد جاءهم اليوم الذي يردون فيه الجميل لأبناء شعبهم التقي، وأمرهم الإمبراطور بتنفيذ مطلب هذا الشعب الوفي، طبقاً لرغبته التي يستحيل أن ترد، ولإراته التي لا يمكن أن تحد.
  في الأيام التالية لهذا اللقاء التاريخي الفريد من نوعه، بدأ القادة وجنودهم بتنفيذ مجازرَ قُتِلَ فيها مئات الآلاف وشرد الملايين، مستخدمين فيها جميع أنواع الأسلحة المتوفرة لديهم من سيوف ورماح وخناجر وسكاكين، حتى المنجنيقات استخدمت في دك المدن والقرى، وكان القتل هائلاً كما لم ُيرَ، إلا أنه لم يكن شاملاً كلَّ الورى، وورغم تدمير الكثير من المنشآت، لكن التدمير لم يكن واسعاً، والخراب لم يكن جامعاً مانعاً، وللأسف، فقد نجى الكثيرون من أفراد الشعب من الموت، فبدأت شكاوى وصيحات الجماهير التي نجت، وضج الناس باتهام الإمبراطور وحاشيته، ووزرائه وقادته، بالتمييز والطائفية، في القتل بين أفراد الشعب الواحد حسب اللون والهوية، مما أدى إلى موت قسم وبقاء قسم منه على قيد الحياة، فطلب مندوب الشعب أن يقابل الإمبراطور مرة ثانية وعلى عجل، وفي هذه المرة، قدم المندوب إلى الإمبراطورالتماساً من الشعب يطلب فيه زيادة وتيرة القتل واتساع حملة التدمير، ولما تذرع الإمبراطور بأن بعض القادة والجنود يمتنعون عن تنفيذ الأوامر لأن جميع الناس بدوا مسالمين، هوَّن المندوب الأمر عليه، وأمعن في النفاق والخبث بين يديه، فاقترح على الإمبراطور أن يرسل بعض عناصر استخباراته من النساء والرجال، لكي ترمي الحجارة وجميع ما تصل إليه أيديها على الضباط والجنود من الخلف ومن اليمين ومن الشمال، وبذلك يستفزونهم للانخراط في المعركة الفاصلة، التي يجب أن يكون هدفها السامي النبيل إفناء جميع الشعب بضربة قاتلة، وتخليصه من عقدته اللعينة السادية، وكذلك تخليص الإمبراطور وحاشيته من عقدتهم المزمنة الماسوشية.
    وبالفعل تم تنفيذ عملية الإبادة هذه المرة بنجاح منقطع النظير، فبعد شهر واحد أو نحوه لم يبق من الشعب أي فرد من صغير أو كبير، فقد أبيد الجميع وهم فرحون متلذذون بالموت، فاستراحوا من متاعب ماسوشيتهم اللعينة، وشفي الإمبراطور وقادته من عقدتهم المشينة، وبذلك نجح الإمبراطور – بناء على طلب شعبه الذي لا يرد - في علاج نفسه وحاشيته وقادته من ناحية، وتخليص شعبه المخلص الوفي من ناحية ثانية. بعد انتهاء المجازر والمذابح بالتوالي، ومواراة الضحايا ثرى وطنهم الغالي، أقيم نصب (الشعب المجهول) على قمة التل المجاور لقصر الإمبراطور، الذي سار وقادة جيشه الباسل في موكب فخور، بين صفين من الحرس الإمبراطوري الذين يرفعون قنطرة من السيوف، بينما هرع بعض الخدم يرحبون بالضيوف، ينثرون أمامهم موكبهم البخور، ويقدمون لهم القهوة العربية والتمور، وفرقة موسيقى الجيش تعزف لحن الانتصار العظيم، وأسراب من طيور معدنية تقرقع في الفضاء الرحيب، محلقة بصوتٍ مدوٍّ فوق موكب الحفل المهيب، وقام الإمبراطور بوضع إكليل من الزهور على النصب التذكاري، وقد زين بشريط أسود كتب عليه بخط أحمر ناري:(هنا يرقد الشعب المجهول الذي ضحى بنفسه من أجل خلاص أفراده، وفي سبيل راحة إمبراطورهم وسعادة أولاده وأحفاده).
    ومنذ ذلك اليوم والإمبراطور ووزراؤه وقادته وحاشيته يعيشون بفرحة غامرة، ويهنأون بسعادة آسرة، ولا ينسون وضع إكليل من الورود كل سنة على قبر الشعب المجهول، في حفل مهيب يسلب الألباب والعقول، كيف لا وقد ضحى الشعب بنفسه، من أجل إمبراطوره وأسرته وحرسه، بعد أن تفضل الإمبراطور العظيم بالقضاء عليهم، لأن الأصل في شرعية الحاكم العادل تكون من الناس وإليهم.

Friday, December 7, 2012




المكرم الأستاذ وائل الأبراشي: بعد التحية والدعاء إلى الله أن يوفقك ويمتعك بالصحة والعافية، وبعد:
فمن باب المحبة والاحترام أقول لك بأنك خيبت ظننا بتغطيتك الفاشلة لأحداث يومي الرابع والخامس من الشهر الجاري، فناهيك عن كونك صحفي عليه واجب التمتع بالحياد الإيجابي، والتعبير عن رأيه بلا مبالغة أو تحيز، فإنك بوصفك ما كان يجري أمام الاتحادية بأنه حرب أ
هلية قد ارتكبت زلة مهنية، وخطيئة لغوية، ربما لن يغفرها الله لك قبل عباده. فعبارة (الحرب الأهلية)، كما تعلم أو لاتعلم، تطلق على القتال عندما ينشب بين فئات طائفية مسلحة داخل الوطن الواحد مع غياب تام لقوة الدولة، ومثالها الحي ما جرى في لبنان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وما جرى بين الهوتو والتوتسي في أفريقيا، أما مصر، فيتمتع شعبها ببنية اجتماعية متماسكة، ليس بين أفراده فرق سوى في الديانة: مسلم ومسيحي، وصلى الله وبارك، وجيشها سليم معافى، أما عبارتك (حرباً أهلية)، فقد ساهمت في إحجام الناس عن زيارة مصر وأنا منهم، مصر قلب العرب، ومهبط أفئدتهم، والتي تحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى للدخل من السياحة. أما التزامك بخط من يسمون أنفسهم هذه الأيام (قادة الثورة الحقيقيين)، فعمرو موسى من بقايا النظام البائد، ومحمد البرادعي معتاد على الخضوع لإملاءات واشنطن، وهو الذي استعان مؤخراً بأوربا وأمريكا للتدخل في الشأن المصري، وهذه خيانة لا جدال حولها، أما حمدين صباحي، فقد لوث نفسه بالانضمام إلى المذكورين، وخسر بذلك الكثيرين من أتباعه. أما الذين يهاجمون الإخوان المسلمين اليوم، فهم الذين بتفكك جبهتهم وتخاذلهم ومطامعهم الشخصية في الحكم، قد ساهموا في وصول الإخوان إليه. للعلم فأنا لست من الإخوان، ولست مصرياً، ولكن قلبي مع مصر وشعبها. وفي الختام أرجو أن تكون متوازناً ومنطقياً في طرحك على قناة دريم التي أشاهدها وأنا مقيم في أمريكا.
ختاماً: كنت أود أن تكون رسالتي هذه أكثر لطفاً ورقةً، لكن انحيازك الغير متبصر دفعني، وبدافع من الحب والتقدير والاحترام، إلى كتابة ما كتبت، والذي إن كان له عذر فهو حب مصر وشعبها العظيم، متمنياً لك التوفيق والنجاح.

Wednesday, December 5, 2012

قريبٌ قريب، بعيدٌ قريب



    رغم بعد الشقة الزمنية، إلا أنني ما زلت أحن إليهم،،، أتوق لقربهم،،، أحزن على فراقهم،،، كانوا أشخاصاً من لحم ودم،،، ألمس في حضورهم دفء المشاعر، وأحس في أكفهم حين المصافحة دفق العواطف، وأتوسم في نخوتهم الحصول أية مساعدة أحتاج إليها، صغيرة كانت أم كبيرة،،، أبعدُهُم عني كنت أصله بالسيارة خلال دقائق، وأقربهم مني كنت أراه بمجرد أن أفتح نافذتي، فالبعيد منهم، قريب، والقريب منهم، قريب جداً. هم أصدقاء ما قبل الكهرباء ومشتقاتها،،، طوى الزمان صفحتهم، وطوحت الأقدار بهم بعيداً، لكنهم سكنوا القلب والذاكرة،،، واليوم حل مكانهم أصدقاء جدد، تفصلني عن أقربهم آلاف الأميال، لا أعرف وجوههم إلا بالتخمين من خلال قراءة أفكارهم التي تحملها إلي أحرف سوداء على شاشة صماء، والسعيد منا من امتلك كاميرا رأى من خلالها من يفترض أنه صديق، ولو عن بعد. بعضهم يعمل بتيار بقوة 110 واط ، وآخرون - لاختلاف المكان – يعملون بتيار قوته 220 واط، أما البعض القليل منهم فيعمل بالبطارية إن كان على سفر أو في مقهى. تقطعت بيني وبينهم لغة الجسد وحلت مكانها لغة الطابعة،،، يفاجئني بعضهم بالإصرار على رؤيتي عبر الكاميرا، وبما أن إعجابي بصورتي قد انقطع منذ زمن، فقد أصررت على ألا أستجيب لهم مهما كلفني ذلك من لوم وتقريع، حتى لا أفاجئهم بما لا يحبون، فتتلبسهم الكوابيس في النوم واليقظة، أو يقعون في حب من يرون، فيهجرهم النوم في ليالي الشتاء الطويلة، أما إن كان لهم عتبٌ عليَّ، فليعتبوا على الزمن الذي لم يجمعهم بي عندما كنت صالحاً للمشاهدة. هذا لا يعني أنني دميم إلى الدرجة التي أخشى فيها أن يراني الناس عليها، لكنني بذلك أتيح لهم بأن يرخوا العنان لخيالهم لكي يتصوروني كما يشاؤون،،، أريد أن أبقى قصة مقروءة لا يتحول بطلها إلى هباء عندما يظهر على الشاشة الفضية.
    الفارق الحقيقي الوحيد بين أصدقائي القدامى وأصدقائي الجدد، أن القدامى كانوا غير قابلين للإلغاء، أم الجدد فمن السهل أن تلغيهم بمجرد الضغط على زر delete  . وهل هنالك فارق أهم من هذا؟. لكن: لا ينكرن جاحد بأن من بين الأصدقاء، الذين يعملون بالكهرباء أو بالبطارية على حد سواء، من لديه القدرة على تذكيرك بالزمن الجميل،،، أيام صداقة ما قبل عصر البطارية وما قبل زمن الكهرباء ،،، هؤلاء الأصدقاء لا يخضعون للنسيان، ولا حتى للإلغاء.   

Sunday, December 2, 2012

جرم الدعاة في قذف المحصنات



    اتهام الداعية ”عبد الله بدر” للسيدة ”إلهام شاهين” بالفاحشة قد يكون مدخلاً ومخرجاً مناسبين لهذا المقال. فالسيد المذكور اتهم السيدة المذكورة بأنها زانية من خلال الأفلام السينمائية التي شاركت في تمثيلها، دون أن يقدم الدليل الشرعي وهو أربعة شهود عدول، يرون الواقعة بمواصفاتها الشرعية، ذاك الدليل الذي يستحيل عملياً تقديمه بطبيعة الحال، وهو بذلك قد حكم على نفسه بالجلد ثمانين جلدة، حسب ما قرره القرآن الكريم (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون – النور -4- ) (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم – النور 23).

    وللحديث عن هذا الموضوع، لا بد من العودة إلى نشأة السينما المصرية مع بدايات القرن العشرين، فقد عُرِضت الصور المتحركة على شاشة في الاسكندرية في عام 1897، مباشرة بعد عرضها في فرنسا، ثم تتابع بعد ذلك تمثيل وإخراج الأفلام السينمائية، والتي كان أصحاب استديوهاتها ومنتجوها من الأجانب المقيمين في مصر. وربما ركزت الأفلام الأولى على بعض الروايات العاطفية المترجمة، وعلى قصص من تاريخ العرب، إضافة إلى إظهار معاناة الفلاحين، وعلاقتهم بأصحاب الأراضي الجشعين، وقد تميزت تلك الفترة المبكرة من تاريخ السينما المصرية بالالتزام بالآداب الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن، فمن نوادر فيلم (الوردة البيضاء)، بطولة محمد عبد الوهاب وسميرة خلوصي، والذي عرض عام 1933(وأذكر أنني حضرته في سينما صيفية بحيفا، حيث أنه في أحد المشاهد يقترب البطل من البطلة، فيتحولان إلى شكل وردة بيضاء، ومن هنا أخذ الفيلم اسمه)، فقد احتج الأزهر آنذاك لدى دائرة الأمن العام (الجهة التي كانت تجيز عرض الأفلام) لأن البطل قبَّل البطلة في أحد المشاهد.

    بعد قيام ثورة يوليو 1952، أممت الدولة قطاع السينما، كونها كانت حكراً على جهات أجنبية، وتميزت الأفلام المصرية حتى عام 1970 بمعالجتها الشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بانحياز تام لمصلحة الجماهير، فظهر بوضوح التركيز على القيم العليا، والجنوح إلى مطلب الحرية والعدل الاجتماعي والتقريب بين الطبقات، وكان من البديهي أن تخلو هذه الأفلام من الإسفاف والانحطاط، سواء في القصة أو في الأداء، أما بعد عام 1970، وبسبب سياسة الانفتاح التي انتهجتها دولة ”أنور السادات”، فقد عادت صناعة السينما إلى يد القطاع الخاص، والذي من البديهي أن يكون همه الربح قبل كل شيء، ولكي يحصل أصحاب هذا القطاع على أكبر قدر من الأرباح، وتحت منافسة التلفزيون الذي بدأ يعرض المسلسلات والأفلام الملتزمة، وللهبوط الحاد في أعداد دور السينما، فقد بدأت موجة من الأفلام الهابطة التي لا تقيم للقيم وزناً، ولا للمباديء أهمية، وبدأ التركيز على مفاتن الجسد على حساب القصة الهادفة، فأعطى هذا الإسفاف أُكُلَه، وأقبل الجمهور، وخاصة منه الشباب، على دور السينما بغزارة أرضت المنتجين والمخرجين والممثلين، وقد كانت السيدة ”إلهام شاهين” من بطلات أعوام الثمانينات، حيث بدأت مسيرتها الفنية عام 1981 بفيلم (أمهات في المنفى)، ومنذ ذلك الحين شاركت في نيف وسبعين فيلماً سينمائياً، وأكثر من عشرين مسلسلاً تلفزيونياً. وانعكاساً لظهور التيار الديني بعد ثورة 25 يناير المصرية، فقد ظهرت أصوات تدعي حرصها على الإسلام بطريقة استعراضية، تخاطب عقول العامة من المسلمين، طمعاً في الحصول على أصواتهم في الانتخابات بكافة ميادينها، ومن هؤلاء كان صوت الداعية ”عبد الله بدر”، وهو في موقعه الإلكتروني يعرف نفسه بأنه ( من مواليد القاهرة، تخرج من جامعة الأزهر، قسم التفسير، ثم أصبح يدرس التفسير والحديث، وكانت رسالة الدكتوراة التي يعدها للمناقشة عن تفسير الفخر الرازي)، والمرء يعجب من التناقض الحاد بين ثقافة الدكتور المذكور، والأسلوب الذي اتبعه في نقد الإسفاف في السينما المصرية، فهو لم يعمم خطابه على ممثلات الإغراء دون ذكر أسمائهن، بحيث يتقي الزلل الذي أوقع نفسه فيه، لكنه باختياره واحدة من الممثلات ”المبتذلات!” دون غيرها، مع وجود الكثرة منهن، يوحي بموقف شخصي لا علاقة له بالقيم التي يتكلم عنها، علاوة على أن حديثه الغاضب عن الممثلة المذكورة قد حمل في طياته مفارقات ليس أقلها قوله (أننا كنا ونحن شباباً نرى أفلامها – أولادنا ونساؤنا يرون أفلامها، علمت أبناءنا الزنى!!!،،، إلخ)، ويصف أعمالها بأنها ( عريُ – وهذا صحيح – وخلاعة – وهذا صحيح – ومجون – وهذا صحيح -، وزنى، وهنا بيت القصيد). حيث أن هذا الداعية الإسلامي المثقف لم يتنبه إلى خطورة هذه التهمة الأخيرة، فتهمة الزنى من أخطر ما يقدم عليه مسلم تجاه امرأة مسلمة، فهذه التهمة – خلافاً عن غيرها من التهم – لا تكتفي بشاهدين، بل تحتاج إلى أربعة شهود، يقسمون بأنهم رأوا واقعة الزنى بتفصيلها المخجل دون أدنى شك أو ريبة ، وهي شهادة أكثر من مستحيلة، إذ انه حتى الحيوانات لا تمارس الجنس بهذه الطريقة المكشوفة، لذا فإن اتهام ”إلهام شاهين” هنا تبدو تهمة باطلة، يستحق عليها من أطلقها عقوبة الجلد ثمانين جلدة، وحرمانه من قبول شهادته أمام المحاكم. إذن تهمة الزنى خطيرة إلى الحد الذي يمنع كل عاقل من إطلاقها واتهام أحد بها، وفي هذا حفاظ من المشرع على أعراض المسلمين، فالزنى بالعموم موجود لا مجال لنكرانه على أرض الواقع، والدعارة كما هو معلوم من أقدم المهن في تاريخ البشرية، أما وجود أربعة شهداء، فهو بحكم المستحيل، والسؤال المحير: ألم يكن ذلك الداعية – وهو أعلم بكثير من غيره في الأحكام الشرعية – ألم يكن واعياً بخطورة ما أقدم عليه، وإن كانت زلة لسان، وهذا احتمال وارد لو ادعاه، ألم يكن من واجبه المسارعة إلى تصحيح خطئه؟.

    كل هذا هو المدخل إلى الموضوع، أما صلبه، فلا بد أن يناقش جريمة الزنى كما وردت في القرآن الكريم، كما لا بد أن يناقش تخبط علماء الشريعة والقائمين على تطبيقها في مجال رؤيتهم لعقوبة الزاني والزانية. فالقرآن الكريم، وخلافاً للرأي الشائع، لم ترد فيه أية إشارة واحدة لعقوبة الرجم على المحصنين (المتزوجين)، والزنى بدأت الإشارة إليه في القرآن الكريم بلفظ (الفاحشة)، والفاحشة أوسع من (الزنى)، إذ أن الفواحش هي كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وهي كثيرة والزنى واحد، يقول تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم- النجم 32)، فقد جاء ذكر الفاحشة بمعنى الزنى في الآيتين 15/16 من سورة النساء: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا – النساء 15-)، وفي الآية التالية (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما – النساء 16)، من الآية الأولى يتبين أن العقوبة في بدايات تشريعها قد اشترطت أربعة شهود، وكانت تنحصر في حبس الزانية في البيت حتى الموت، أو تجد مخرجاً كأن يقبل أحد الزواج بها، أما الآية الثانية، فتشير إلى العقوبة بشكل عام وهو الأذى، الذي ربما يكون معنوياً أو جسدياً، ولكنها تفتح باب التوبة للزانيين. كان ذلك في سورة النساء، وترتيب نزولها في القرآن الكريم الثانية والتسعين، أما في سورة النور التي جاء ترتيبها المئة وثلاثة، فقد ذكرت جريمة الزنا باللفظ الصريح (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين –النور- 2)، وتوصف فاحشة الزنى بالخصوص بأنها (مبيِّنة) أي تظهر للعيان بدون لبس أو تخمين، إذ حتى لو وجد الزوج رجلاً مع زوجته وفي غرفة النوم، فإن ذلك لا يمكّن الزوج من اتهام زوجته بالزنى، إذ أنه في هذه الحالة تتم بينهما الملاعنة، والملاعنة الشرعية كما في النص القرآني لا يترتب عليها عقوبة دنيوية، بل يترك أمر عقاب المرأة إلى الآخرة كما ورد في آيتي الملاعنة في سورة النور(6-7)، والعقوبة المقررة شرعاً هي الجلد مئة جلدة لكل من الزاني والزانية (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين – النور 2)، وهذا لا جدال فيه لأنه مقرر بالنص، أما موضوع رجم المحصنين والمحصنات، فلم يرد ذكره بتاتاً في القرآن الكريم، بل احتج بعض رواة الحديث بحديث يبدو متهافتاً حين التمعن فيه، حيث ورد أن رسول الله (ص) سأل اليهود عما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة من عقوبة بشأن يهودي ويهودية زنيا، فأخبروه بأنها الرجم حتى الموت، فأقرهم عليها، وذلك قبل أن تنزل الآية رقم 2 من سورة النور السابق ذكرها، أما ادعاء بعض الشيوخ أن الرجم هو عقوبة الزاني المحصن، فيدحضها الآي الكريم بشكل لا لبس فيه، إذ كيف يمكن أن تنصّف عقوبة الموت بالرجم أو تضاعف، ففي الآية 25 من سورة النساء، تكون عقوبة المرأة الزانية من الذين ملكت أيمانكم من الفتيات المؤمنات نصف ما على المحصنات من العذاب، فهل يعقل أن يكون هناك نصف رجم،أما زوجات النبي (ص)، فعليهن لو ارتكبن فاحشة، ضعف ما على النساء الأخريات (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا – سورة الأحزاب 30)، فهل يعقل أن يكون هناك ضعف رجم. أما الزنى الذي يستحق عليه من قام به عقوبة الموت، فهو الزنى العلني الفاضح الذي يتباهى به الزناة، والذي يؤدي إلى إشاعة الرذيلة بين أفراد المجتمع، وذلك من خلال ممارسته والمجاهرة به علناً، أو من خلال ترويجه لمكسب تجاري، ففي هذه الحالة يلجأ ولي الأمر، أي القاضي، إلى تطبيق حكم آية الحرابة التي تقول (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض – المائدة 33)، وهذا الحكم المقرر في الكتاب الكريم بالنص لا شك يجد قبولاً في نفوس أفراد المجتمع لأنه صيانة لهم، وتطهيراً لأفرادهم من رجس الفاسدين.

    والآن، لو ختمنا هذا المقال بموضوع قذف الداعية ”عبد الله بدر” للممثلة ”إلهام شاهين”، فيبدو أن الواقعة قد أطفئت بتسوية رضيت فيها ”إلهام شاهين”، بل خضعت للتنازل عن حقها، إذ كان يمكن للسيدة أن ترفع دعوى قذف ضد الداعية الذي اتهمها بالزنى صراحة بالصوت والصورة، وفي هذه الحالة كان لا بد أن يقع نظام الإخوان المسلمين الجديد في حرج وهو لمّا يلملم نفسه بعد في سدة الحكم، فمحاكمة داعية إسلامي والحكم عليه بالجلد وفق النصوص القرآنية، أو حتى بعيداً عن النص القرآني، فالمادة 306 من القانون المصري تقول:( إن كل سب لا يشتمل على إسناد واقعة بل يتضمن بأي وجه من الوجوه خدشاً للشرف والاعتبار يعاقب عليه بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تزيد على مئتي جنيه)، وفي أي من هاتين الحالتين، تطبيق النص القرآني أو القانون المدني، فإن ذلك كان سيشكل حرجاً ما بعده حرج للنظام السياسي الجديد، إذ أن التهمة تتلبس المتهم من رأسه إلى أخمص قدميه، أما لماذا لم ترفع السيدة دعواها، فأحسب أنها قد هددت، إن هي استمرت في المقاضاة، بتطبيق آية الحرابة المذكورة عليها، وقد قيل أنها تلقت اتصالاً ودياً هاتفياً من الرئيس محمد مرسي، لا بد أنه قد حمل تلميحاً إلى تطبيق الآية المذكورة عليها.

    من المؤسف له أن حركة الإخوان المسلمين، والتي هرمت، فزاد عمرها على الثمانين عاماً، ما زالت تحتضن تحت جناحها أمثال هذا الداعية الذي تصرف برعونة وبتصادم مع قيم الإسلام السمحاء، فقد نسي، من بين ما نسي، أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه أمام كل من يريد عبوره، و(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء – النساء 48 – 116) إذ يمكن أن تتحول السيدة ”إلهام شاهين” بين عشية وضحاها – كما حدث مع كثير غيرها من الممثلات – إلى داعية إسلامية، ربما تكون أكثر منطقية والتزاماً، وأعمق إيماناً، وأكثر جذباً للمتطلعين إلى التوبة، من ذاك الذي تهور فاتهمها في شرفها دون أن يقدم على ذلك أي دليل شرعي يثبت تلك التهمة الشنيعة، تهمة القذف.

Sunday, November 25, 2012

رجُلٌ على حافة الإيمان


رجُلٌ على حافة الإيمان
    على فضائية عربية متزنة، شدت انتباهي ندوة كانت تناقش فيلماً سينمائياً بعنوان (الملحد)، فهكذا عنوان لا يمكن أن يسمح للمشاهد سوى بمتابعته، وقد كان الحضور مؤلفاً من بعض ممثلي الفيلم ومخرجه وغيرهم من ذوي العلاقة بالعمل. كانت حجة مخرج الفيلم – الذي تلقى هو وبعض العاملين معه تهديدات بالقتل -، بأنه إنما كان يقدم عملاً يشخص فيه حالة يعيشها المجتمع، أي مجتمع، وهي وجود فئة لا تؤمن بالدين ولا بالإله، وتفتخر بأنها (علمانية)، نسبة إلى العلم، مع أن قسماً كبيراً من هذه الفئة لا يعرفون إلا بالكاد كتابة أسمائهم، تماماً مثلما أن في المجتمعات جميعها ممارسات خاطئة بل ومشينة، كتهريب المخدرات وتعاطيها، والدعارة والجريمة وتجارة الأعضاء، فهذه جميعها موجودة بين ظهرانينا، لكننا لا نعلم بوجودها وحجمه بسبب استتارها عن أعيننا، فلكل مدينة شارعها الخلفي، كما أن لكل عملة وجهين، والمجتمعات التي تتمتع بصحة نفسية واجتماعية، تشهّر بهذه الظواهر، و لا تتستر عليها، بل تحاول تعليل أسبابها، وطرق عملها، ووسائل معالجتها للحد منها، إذ أن الواقع يقول بأن تعديل سلوك الأفراد أمر ممكن الحدوث عن طريق نشر العلم والتوعية والرعاية الصحية وغيرها من الأساليب والوسائل، أما تعديل العقائد والمفاهيم الذهنية، فأمر معقد وصعب، وبدون إعمال صاحب هذه العقائد ذهنه واجتهاده الشخصي، فلا يمكن لأية قوة خارجية مهما بلغ منطقها وحجتها أن تصرفه عما اقتنع به واعتقده، وهذا هو حال الملحدين.
    ذكرتني هذه الندوة بلقاء مع صديق لي منذ عقدين من السنين، وهو من أولئك العلمانيين الذين يتباهون بإنكار الإله والأديان، ويعتقدون بأن الدين والإله هما اختراع بشري، أفرزه عقل الإنسان كقوة خفية تستجلب له الخير، وتبعد عنه الشر، وسبب هذا كما يقول هؤلاء، نابع في الأصل من خوف الإنسان من مظاهر الطبيعة الجبارة، فلكي يتقي خطرها ويستجلب نفعها، كان الكهان – وهم أذكى من في القوم -، يقومون بالواجبات الدينية، فهم يستمطرون السماء، ويسترحمون العواصف والأعاصير والبراكين عن طريق تقديم الأضاحي لها من أنواع الحيوان والغلال، وحتى في بعض الأحيان من الأضاحي البشرية، كعروس النيل مثلاً. أما عن خلق الإنسان، فهؤلاء مقتنعون بنظرية النشوء والتطور الداروينية، حيث يؤمنون بأن الأشكال البدائية للحياة قد تخلقت في مياه البحار والمحيطات، ثم تطور بعضها لكي يصبح على شكل الإنسان الحالي.
    أذكر يومها أنني، وبعد استفاضة صاحبي في شرح نظرياته، تظاهرت بمجاراته ودخلت معه في نقاش كنت فيه أنا المستفسر منه، وكان هو الشارح لي:
-       قلت: إذن تقول أن الطبيعة هي المسؤولة عن كل ما في الكون، بما فيه نحن أيضاً؟، قال طبعاً ولا جدال في ذلك.
-       قلت: وما هي الطبيعة؟، هل هي هذه الجبال والبحار والمناظر الجميلة؟، قهقه صاحبي طويلاً ثم قال: هذه هي الطبيعة في نظر العامة، أما نحن العلمانيون، وإن شئت الطبيعيون، فالطبيعة عندنا هي كل ما في هذا الكون بالمطلق من كواكب ومجرات وكل ما يوجد فيها من أصغر ذرة إلى أضخم الأشياء. الطبيعة يا صديقي مفهوم معقد للغاية، يصعب بدون خيال واسع الإحاطة به، وحتى أوسع خيال لا يحيط إلا بجزء يسير منها. قلت: إذن هي عصية على الفهم؟. قال: لا شك في ذلك.
-       قلت: هل عمل الطبيعة منتظم ومنظم؟، قال بالطبع، ألا ترى حتى مظهرها القريب جداً منك، بل داخل جسدك،،، ألا ترى انتظام دقات قلبك وعمل أعضائك الداخلية؟، إنها تعمل بانتظام مدهش، وكذلك جميع ما يمكن أن ينطبق عليه لفظ (الطبيعة)، ألا ترى دقة دوران الكواكب والنجوم في أفلاكها، تلك الدقة وذلك النظام الذي لولاهما لاضطرب الكون بما فيه، ولانتهى أمره خلال ثوانٍ معدودة. طبعاً يا صديقي، عمل الطبيعة منتظم ودقيق حد الإبهار.
-       قلت – بينما هو ينظر في عيني وقد راقه انغماسي في شرحه -: لا شك كما تعلم أن للطبيعة قوانينها، فهل تعتقد أن الإنسان يمكن أن يأتي عليه حين من الدهر يتمكن فيه من الإحاطة بهذه القوانين جميعها؟. عاد صاحبي إلى الضحك المصحوب بنوبات سعال وقال: يا أخي يبدو أنك لم تستطع استيعاب فكرة الطبيعة، إنها عالم لا يمكن الإحاطة به عملياً، ويبدو ذلك بحكم المستحيل، ولو قربت لك الأمر: هل يعلم أحد مهما أوتي من العلم ماذا يوجد على سطح النجوم والكواكب في مجرات تبعد عنا مسافات خيالية؟، وإذا كنا نستطيع الإحاطة بالقوانين الفيزيائية على أرضنا، هل نضمن أن القوانين في تلك المجرات هي نفس قوانين أرضنا، إذن الإحاطة بقوانين الطبيعة هي بالتأكيد بحكم المستحيل.
-       قلت: هل هذا يعني أن الطبيعة ذات قدرة هائلة؟. قال: لو كنت تعرف شيئاً عن الفضاء الخارجي وعلم الفلك، لعلمت مدى سذاجة هذا السؤال. هل تعلم بأنه في ثانية واحدة يحترق في باطن الشمس ستة ملايين طن من الهيدروجين؟، وهل تعلم بأن سرعة الفوتون الواحد، وهو العنصر الرئيسي للضوء، تبلغ متراً واحداً في الثانية داخل الشمس، بينما تصل سرعته حينما ينطلق منها إلى الأرض حوالي 300 ألف كم في الثانية؟، هل تخيلت حجم الضغط الهائل داخل كرة الشمس؟، وتخيل أن هناك في كل متر مكعب من الفضاء 400 مليون فوتون. والثقب الأسود، أحسبك سمعت عنه، ذاك الذي درجة جاذبيته قادرة على سحق الصوت والضوء الواصل إليه، بحيث لو تخيلت أن الكرة الأرضية دخلت فيه، لتحولت بجميع ما فيها إلى كتلة لا تتجاوز حجم كرة تنس الطاولة، ثم تسألني هل للطبيعة قدرة هائلة، طبعاً بل وأكثر من هائلة.
-       قلت: هل الطبيعة محدودة بحيز مكاني معين، أم أنها لا متناهية؟، قال: هل تعلم أن العلماء يقدرون قطر دائرة الكون من أربعة عشر إلى خمسين مليار سنة ضوئية. تظاهرت بأنني لا أعرف كم هي مسافة السنة الضوئية، فاعتقد صاحبي أنه كالإمام علي (رض) باب مدينة العلم ويمتلك مفتاحها، اعتدل في جلسته وقال: هي يا صاحبي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة، وتقدر بتسعة تريليونات ونصف التريليون من الكيلومترات، يعني اضرب هذا الرقم بأربعة عشر مليار في الحد الأدنى، فالناتج هو قطر دائرة الكون. قلت متظاهراً بالمفاجأة: ياه ،، هذا شيء مدهش فعلاً، ولو افترضنا جدلاً أن الإنسان وصل في المستقبل البعيد جداً إلى حافة الكون، فماذا سيجد هناك؟، ابتسم صاحبي ربما على غباء سؤالي وقال: لن يجد شيئاً، سوف يجد كوناً آخر، وبعده كوناً آخر، وهكذا دواليك. قلت: إذن الطبيعة غير محدودة بحيز مكاني. قال: هذا بديهي.          
-       قلت: إذن ليس للطبيعة ماهية معينة يمكن أن تتجسد في شيء محدد؟. قال: كأنك تعود بي إلى استفساراتك اللامنطقية: كيف يمكن لنا أن نحدد ماهية الطبيعة إن كنا لا نستطيع الإحاطة بها لهولها، فهي هائلة إلى حد لا يستطيع العقل تخيله، فهل تستطيع مثلاً أن تتخيل اللانهاية؟. قلت معترفاً: بالطبع لا وألف لا. قال: إذن الجواب معروف: ليس للطبيعية ماهية ملموسة، فهي تعرف بالكلية، وبمجرد أن تذهب إلى التفاصيل، تضيع وترجع إلى نقطة الصفر.
-       قلت: هل تعلم الطبيعة كل ما يدور في الكون، أي هل هي مطلعة على ذاتها أم لا؟، أم أن كل مظهر فيها مستقل بذاته، لا علاقة له بباقي المظاهر؟. قال: لو كان لكل مظهر من مظاهر الطبيعة استقلال عن غيره، لاضطرب الكون وانفلت من عقاله، لأن التناغم السلس بين مظاهرها، والتناسق التام في عمل مكوناتها، هي أبرز سماتها، وأوضح معالم ائتلافها.
    عندها اعتدلت في جلستي وقلت لصاحبي: استمعت إليك مطولاً، فاصغِ إلى ما أقول: هل يمكن أن نعدد مواصفات الطبيعة هذه مرة ثانية: منظمة، علمها واسع جداً، قادرة، لا متناهية، تعلم كل شيء، ومسؤولة عن كل شيء، لا نستطيع الإحاطة بها وبجميع قوانينها، ولا يمكن معرفة ماهيتها، أليس كذلك؟، قال بالتأكيد، أوجزت فأحسنت.
قلت له: خذ عندك يا صاحبي، ولعلمك فنحن متفقان لا خلاف بيننا سوى بالكلمة، فلو وضعت كلمة (الله) بدل كلمة (الطبيعة) في جميع ما قلته سابقاً، لحُلَّ الإشكال، ولاتفقنا في الجوهر، فأنت يا صديقي عميق الإيمان بالله تعالى، غير أن المنحى الذي اتخذه ذهنك في الإفصاح عن مكنونات داخله وإيمانه، قد أخطأ التعبير، فاستخدم كلمة (الطبيعة) بدل كلمة (الله)، واسمع كيف وصف الله تعالى نفسه - بنفس أوصاف الطبيعة هذه، تلك التي تؤمن بها - في القرآن الكريم:
1-    فهي في دقتها كما قلت، تتمثل في عمل أجسادنا ( وفي الأرض آيات للموقنين – 20 - وفي أنفسكم أفلا تبصرون – 21 - الذاريات).
2-    والطبيعة مسؤولة عن كل شيء ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل – الأنعام 102 -).
3-    ولا يمكن الإحاطة بقوانينها ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء – البقرة 255-).
4-    والطبيعة منظمة (إنا كل شيء خلقناه بقدر – القمر 49).
5-     وهي قادرة (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير – الروم 54 -).
6-     وهي عالمة بكل شيء (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين – يونس – 61 -)، ( عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال – الرعد 9 ).
7-    وهي قاهرة، لا يمكن التحكم بها (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير – الأنعام 18 -).
8-     عصية على الفهم، لا نستطيع الإحاطة بها ولا نعرف ماهيتها (وهم يجادلون في الله وهو شديد المِحال – الرعد 13 – ) ، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير – الشورى 11 -).
    بينما كنت أسترسل في حديثي موضحاً لصديقي أنه شديد الإيمان بالله، وأن كل صفات الطبيعة التي ذكرها، هي نفسها الصفات التي نسبها الله تعالى لنفسه في كتابه الكريم. في هذه الأثناء كان الرجل يرمقني بنظرة فهمت منها أنه يشكرني على حسن ظني به، على عكس الذين صادفهم قبلي، فاتهموه بالإلحاد، ووعدوه بنار جهنم وبئس المصير، ومنهم من قاطعه وحرض الآخرين على مقاطعته. وعندما هم بالوقوف للمغادرة، اتكأ صاحبي بكف يده على ركبتي لألم في ركبتيه قائلاً: (يا ألله، بالإذن)، وعلى الفور ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات دلالة، وقبل أن يغلق الباب خلفه، ألقى عليَّ نظرة وداع، قرأت فيها أن هذا الرجل ليس على حافة الإيمان فحسب، بل إنه بالفعل يغوص في أعماقه.

  24 نوفمبر 2012 

Sunday, November 18, 2012

الأهرامات، مقابل الحرية



    منذ تهاوت أمارة بني الأحمر في غرناطة، فخرج المسلمون من الأندلس بعد حوالي سبعة قرون وواحد وثمانين عاماً من تواجدهم هناك (711-1492) بسبب تمزق أماراتها وتشتتها شذر مذر بين أيدي ملوك الطوائف، والذين يشبههم إلى حد بعيد حكام عرب هذه الأيام،،، منذ ما يزيد على القرون السبعة تلك وحلم زيارة بلاد الأندلس يراود أذهان جميع العرب والمسلمين، استذكاراً  لمجد غابر، وبكاءً على حضارة بكى عليها قبلهم أبو عبد الله محمد الثاني بن الأحمر، ذاك الذي سخرت منه والدته عندما سلم مفتاح آخر مقعل للمسلمين، مدينة غرناطة، لأعدائه قائلة: (ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال)، وكأولئك الملايين كان ذلك حلمي أنا أيضاً، إلى أن قيض الله لي زيارتها في ربيع السنة التاسعة من القرن الحادي والعشرين، وبالرغم من وجود مئات الآثار الإسلامية في مختلف مدن الأندلس، إلا أن سمعة قصر الحمراء في غرناطة قد طبقت الآفاق، فأصبح شمعة الحضارة الأندلسية، حيث يزوره ملايين السياح كل عام، وتجني إسبانيا من هذه الآثار الإسلامية مليارات الدولارات سنوياً، وبدون هذه الآثار لم يكن بالإمكان أن يزور تلك البلاد من السياح سنوياً ما يوازي عدد سكانها البالغ حوالي الخمسة والأربعين مليون نسمة.
    لا شك أن زيارة قصر الحمراء هي واحدة من متع العمر لما لهذا البناء الشامخ من روعة وإتقان، فهو عبارة عن مدينة حصينة صغيرة، تقع على تلة مرتفعة تطل على غرناطة المدينة، ومن شمالها تطل عليها سلسلة جبال "سييرا نيفادا" بقممها التي تغطيها الثلوج معظم أشهر السنة، والإسهاب في وصف هذا المعلم السياحي الهام لا يوفيه حقه في التدليل على عظمته، لكن المثير للانتباه حقاً، أنه بالرغم من العداء الديني والقومي الذي كان ناشباً بين العرب المسلمين والإسبان المسيحيين على مدى مئات السنين، وبعد حروب طاحنة لسنوات طويلة، ورغم أن محاكم التفتيش قد طاولت الفكر والبشر، فأحرقت أطناناً من الكتب، وأكرهت المسلمين واليهود على التنصر أو مغادرة البلاد إلى البر الأفريقي، إلا أنها رغم كل ذلك لم تدمر القصر والحجر، بل حافظت على الآثار الإسلامية كما هي، فالزائر للآثار الإسلامية الأندلسية، وبالخصوص قصر الحمراء، يلاحظ بقاء الكثير من الآيات القرآنية التي تزين الجدران والأبواب والأفاريز، كما أن شعار بني الأحمر (لا غالب إلا الله) ما زال يزين الجدران، ولا تخطئه العين حيثما جالت بين هذه التحف المعمارية، فبقيت هذه المنجزات الحضارية على حالتها الأصلية، بل وتتلقى عناية وترميماً دائمين، فالإسبان المتعصبون لمسيحيتهم لم يروا ضرراً في بقاء هذه الآيات القرآنية على حالتها الأصلية، ولم يخافوا أن يعود المسلمون لاسترجاعها مرة ثانية بعد أن أضاعوها بتفرقهم وتخاذلهم، والأغرب من ذلك ما يراه الداخل إلى أحد أبهاء (جمع بهو) قصر الحمراء، إذ أن دائرة السياحة قد وضعت حاجزاً من الأعمدة الصغيرة حول بقعة من أرض البهو على شكل مستطيل لكي تمنع الناس من المشي على هذه البقعة، وعندما تتمعن في الأرضية، تجد لفظ الجلالة (الله) وقد نقش عليها باستخدام بلاطات ملونة، ويقال بأن هذه البقعة هي الوحيدة على سطح الأرض التي يوجد فيها اسم الجلالة منقوشاً على أرضية بناء،،، عندها لا تملك سوى الإعجاب والاحترام لمن سوّر الأرضية بتلك الأعمدة لكي يمنع الزوار من الدوس على لفظ الجلالة.
    جالت بذهني هذه الذكريات وأنا أشاهد على إحدى الفضائيات العربية سلفياً غضنفرَ، يُرغي ويزبد متوعداً بتحطيم الأهرام والآثار الفرعونية، وذلك بحجة أنها أصنام، فهو يخشى على الناس الفتنة، فيعودون لعبادتها، وكأني به أحرص من المسلمين على عقيدتهم، معتقداً أن الإسلام قد لامس الألسن ولم ينفذ إلى القلوب، وأنهم بانتظار رؤية أي صنم فيعبدوه لكي يعودوا إلى جاهليتهم التي ما زالت راسخة في القلوب والعقول!، ومن ثم لم أعجب من رأي بعض السلفيين  بضرورة تحزيم المرأة بمئة طبقة وطبقة من الملايات وأغطية الوجه، وكأنهم يشكون فيما لو أن أي مسلم رآها على غير هذه الحالة، فسوف يغتصبها على الفور، مما يؤكد لنا بأن إخواننا السلفيين هؤلاء هم الذين لم يرسخ الإسلام في قلوبهم، ولم يتحكم في تصرفاتهم الإنسانية، بل اكتفوا بأن أخذوا منه الثوب الطويل واللحية الكثة والزبيبة التي تتوسط الجبهة، أما غير ذلك من صفات فلا أدري عنها شيئاً، فأمرهم إلى الله. من هنا تأكدت من أنه لو قيض الله لآثارنا في الأندلس إسبانياً سلفياً مثل ذلك المسلم السلفي الهِزَبر، فهدمها حتى سواها بالأرض، ومحاها من الوجود بحجة وجود آيات قرآنية على جدرانها، إذن لاعتقد الناس أن المسلمين سكان الأندلس كانوا حفاة عراة، يعيشون في خيام منسوجة من شعر الماعز، ولخسرت إسبانيا مئات مليارات الدولارات التي ضختها وتضخها الأثار الإسلامية في الخزينة الإسبانية كل عام.
    نقطة أخرى ربما تكون هامة في هذا السياق: بما أن الله تعالى قد أخبرنا في قرآنه الكريم أنه (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير – فاطر 24 -)، وكما يخبرنا في سورة إبراهيم الآية 9 عن أقوام وأمم بادت واندثرت، ولا يعلم عنها شيئاً سوى الله تعالى( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم)، ويحدثنا القرآن الكريم عن رسل لم يرد ذكر أسمائهم في متنه (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما – النساء 164)، كما أن بعض المؤرخين يعيدون اسم الإله الفرعوني (أوزيريس) إلى أصله القديم وهو النبي (إدريس)، وبما أن بعض الرموز والكتابات الهيروغليفية الموجودة على التماثيل وجدران المعابد والقبور الفرعونية لم تحل أسرارها وتُقرأ بشكل واضح لا لبس فيه، أفلا يمكن والحال هذه أن تكون تلك الرموز والنقوش بعضاً من آيات كتب سماوية أنزلت لانعلم عنها شيئاً حيث لم يذكرها القرآن الكريم، ويمكن للقادم من الأيام أن يكشف أسرارها؟، أفلا يمكن أنها قد نقشت في الصخر لأن الله تعالى تعهد في حينه بخلودها أبد الدهر؟، فهل يتحمل ذلك الأخ السلفي وزر محو وإزالة ما يمكن أن نشك بأنه، ولو واحداً في مئة مليون، بعضاً من كلام الله؟، ولماذا لا تقوم جهات دينية وسطية مصرية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، بشرح هذه الفكرة وغيرها لهؤلاء المتزمتين، وإلزامهم بوقف هذا الهراء الذي يجعل الآخرين يستهزئون بديننا وأسلوبنا في التفكير؟.
    وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، ففي قناة فضائية أمريكية، يتجول مقدم البرنامج في بعض الشوارع، يسأل المارة بعض الأسئلة البسيطة، فتأتي بعض الإجابات وكأن المجيب عليها ما زال يعيش في العصر الحجري، ومن تلك المقابلات أذكر أن مقدم البرنامج سأل إحدى الفتيات هذا السؤال: من هو الذي أهدى تمثال الحرية إلى الولايات المتحدة؟، فأجابت الفتاة بثقة مطلقة: مصر. عاد المقدم ليسألها ويستكمل المهزلة: وماذا قدمت الولايات المتحدة لمصر مقابل ذلك؟، نظرت الفتاة إلى الأفق البعيد نظرة تأمل، ثم قالت: الأهرامات. على هذا الأساس، أتمنى على وزير السياحة المصري - إن صحت رواية تلك الفتاة –، أن يعيد الأهرامات - قبل أن يدمرها السلفيون - إلى الأمريكان، وأن يستعيد للمصريين " تمثال الحرية "، أو نصفه الثاني على الأقل: " الحرية ".






Monday, November 12, 2012

أشد على يد البابا تاضروس


    في الثلاثين من الشهر الماضي دونتُ في صفحتي على الفيس بوك الخاطرة التالية: ”في عصرنا الحالي، من يتصور أنه يمكن إقامة الدولة الدينية، يكن كمن يخلط البنزين بالحليب، فإنه يخسرهما في وقت واحد، فلا سياسة أبقى، ولا ديناً أقام”. بعد ذلك بأيام انتخب إخوتنا أقباط مصر بابا جديداً للكرازة المرقصية المصرية هو البابا تاضروس الثاني، ولسعادتي، سمعت تصريحاً لهذا البابا يقول فيه بأنه لا يجوز لأحد خلط السياسة بالدين، وإن فعل، فإنه يخسر الاثنين معاً. لا أقول هنا بأن قداسته قد اقتبس عني، فهو أكبر من ذلك بكثير، ولكنني أذكر ذلك لكي أذكّر بأن نظرة المؤمنين الحقيقيين، من جميع الأديان، تتفق على أن الدين يفسد إن هو أقحم في السياسية، وأن السياسة تتحجر إن هي ارتدت ثوب الدين، ولذا كثيراً ما جادلنا الإخوة الذين فرحوا بإقامة دولة إيران الثورة على أساس المذهب الجعفري (الإثنى عشري) بأن ذلك خطأ ما كان يجب أن يقحم فيه الدين بالسياسة، وكانت حجتنا أن المذهب الكريم – ولو نظرياً على الأقل – صحيح مئة بالمئة، لأنه قام بناء على دين أنزله الله تعالى على رسوله الكريم، ، آمن به الملايين واعتنقوه، وهو في نقائه أسمى من أن يقحم في السياسة، تلك التي تحتاج إلى الكذب كما تحتاج إلى الصدق، وتمارس الاستقامة كما تمارس اللف والدوران، تتخذ من الشعار الميكيافيللي القذر (الغاية تبرر الوسيلة) نبراساً لها في التعاطي مع الآخرين، لذا فإن إنجازها يحتمل الخطأ والصواب، فهل من العدل أن يتحمل المذهب مسؤولية أخطاء السياسة؟. لهذا فالدين الذي يُخلط بالسياسة قسراً، والسياسة التي ترتبط بالدين جبراً، يفسد أحدهما الآخر ويجر عليه المصائب والويلات والأخطاء، فمحل الدين هو المسجد والكنيسة وما تفرع عنهما من مراكز وهيئات دينية، ومكان السياسة هو القصور الملكية والرئاسية والوزارات وما تفرع عنها من مكاتب وهيئات سياسية، أما عامة المؤمنين، فعليهم اختيار واحد من اثنين: إما الجامع والكنيسة، وإما الرئاسة والوزارة.

    بعد سماعي تصريحه المذكور، لن أتردد – كمسلم يعتز بإسلامه – أن أقول بأنني أشدَّ على يد البابا تاضروس، وأدعم رأيه في ضرورة فصل الدين عن السياسة، ناهيك عن أن هذا الفصل هو فصل ظاهري، لا يعني انبتات عمل الاثنين عن الحياة العامة على أرض الواقع، فالمسجد والكنيسة – اللذان يُنشِّئان جيلاً مؤمناً أميناً صادقاً، ذا ضمير حي يستند إلى وحي السماء – يساهمان في تنظيف الساحة السياسية عندما يرفدانها بكوادر مؤمنة محترمة قادرة على خدمة بلدها بأمانة وإخلاص، وينهضان بالمجتمع بجميع مؤمنيه، مسلمين ومسيحيين، أولئك الذين يمتلكون في الوطن حقاً متساوياً لا انتقاص فيه من جانب لحساب الجانب الآخر.

    وربما كان من المناسب أن نشير هنا إلى أن رفض بعض السلفيين الإسلاميين حضور حفل تنصيب البابا رسمياً، هو رفض لا يشجع على بناء علاقة إيجابية بين عنصري الشعب المصري الرئيسيين، خاصة وأن حفل التنصيب لا يتضمن إقامة الصلوات أو الطقوس الدينية، بل هو حفل تنصيب وحسب، وحتى لو رفضوا هم الحضور، فهذا شأنهم، أما أن يطلبوا من الرئيس المصري عدم الحضور، فهذا يعني ببساطة أن الرئيس – لو انصاع لطلبهم – فإنه بذلك يقر بأنه رئيس المسلمين المصريين فقط، ويقيني أن هؤلاء المتطرفين يتصرفون دون وعي منهم بالسيرة النبوية الشريفة، التي هي نبراس ومثال لكل مسلم، وذلك عندما استقبل الرسول ص وفد نصارى نجران في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وعندما حان موعد صلاتهم، أذن لهم الرسول ص أن ينتحوا جانباً داخل مسجده لكي يؤدوا صلاتهم. هذا هو الخلق النبوي الذي يحبب الآخرين بالدين الحنيف، وهذا هو الدين الحنيف الذي لايسمح فيه للمسلم أن ينصب نفسه حكماً على تصرفات الآخرين (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). أما التهديدات التي أطلقها بعض السلفيين مؤخراً بتدمير الآثار الفرعونية والأهرامات، فلا يدل سوى على قصر نظر إلى حد البلاهة، فهم ليسوا أكثر حرصاً على الإسلام من عمرو بن العاص، فاتح مصر، وغيره من الصحابة الأوائل، الذين أبقوا على هذه الآثار ولم يمسوها بسوء، وعلينا أن نعترف بأنه من سوء طالع المجتمعات أن تضم بين مكوناتها ما يعرف بـ (المتطرفون)، أولئك الذين لا يعترفون بالآخر، ويحبون أنفسهم بطريقة مرضية نرجسية بغيضة، هي نفسها التي تقف وراء جميع الحروب والكوارث التي شهدتها البشرية في تاريخها الطويل.


Saturday, November 10, 2012

واحدة اليوم، والأخرى غداً



            


   
    اهتزت قصبة الصيد في يده بشدة أفزعته وأفرحته في آن واحد، وانحنى رأسُها إلى حد خشي معه انكسارها. ها قد جاءته هذه السمكة اللعينة بعد طول انتظار، فقد رمى صنارته في الماء حتى الآن أكثر من مائة مرة، على ما يذكر، دون أن يظفر بأي صيد، النهر هنا - في القسم الأعلى من مجراه - صعب المراس، شديد الانحدار، أرضه مليئة بالصخور الكبيرة التي تتكسر عليها المياه مشكلة موجات عنيفة عالية. من شدة تخبط السمكة وعنادها خشي على القصبة من الانكسار، وهو غير مستعد لهذه النهاية بعد أن أمل في صيد ثمين. أرخى القصبة إلى أقصى حد ممكن، فارتخى معها خيط الصنارة، وابتعدت السمكة أكثر باتجاه التيار،،، عاود الشد مرة ثانية، فعاودت السمكة التخبط والشد العنيف من جديد،،، تبادل مع السمكة حركات الجذب والإرخاء، وهي ممعنة بكل عنف في محاولة الإفلات من الصنارة.
    عائلته في المنزل تنتظر عودته بأي شيء يؤكل، فمنذ أن صادر مرابي المنطقة أرضه - لعجزه عن سداد الدين - وهو يقتات مع أسرته ما تيسر له من صيد نهري أو بري، والنهر هذا اليوم، على غير عادته، عنيف الجريان عالي التيار، ربما ساعد ذوبان الثلوج في الجبال القريبة على ارتفاع منسوب مياهه، وبالتالي ارتفاع درجة جيشانه وتمرده،،، يتدفق بعنف وكأنه يحاول مساعدة السمكة على الإفلات من الصنارة،،، أصغر أبنائه يجلس القرفصاء غير بعيد على مرتفع من ضفة النهر، مراقباً هذا الصراع العنيف بين الموت الذي يريده والده للسمكة، وبين إرادة الحياة التي تتمسك بها السمكة بعناد واضح ونضال شرس. يلقي الصبي بحجارة كبيرة في النهر يزعج صوتها أباه المتشبث بالقصبة، فيعنفه الأب طالباً منه المساعدة بدل التفرج عليه، والصبي يهرب من تعنيف والده إلى شجيرات توت برية قريبة، يطفيء بثمارها القليلة بعضاً من نيران جوعه. تهدأ السمكة قليلاً، ويبدو أنها قد تعبت من كثرة الشد والخبط، فيتمكن الرجل من لف الخيط على ماكينة القصبة، وكلما ازداد اللف حول الماكينة، ازداد انحناء القصبة، وبالتالي ازداد خطر انكسارها، ومن ثم ضياع السمكة في هذه اللجة، مما يعني طي يوم آخر من أيام الجوع لكافة أفراد العائلة. من شدة مقاومة السمكة اعتقد أنها ستكون كبيرة إلى الحد الذي سيكفي نصفها لإطعام العائلة، والنصف الآخر لبيعه للحصول على بعض الخبز والسكر والشاي، ذاك الذي لم يدخل البيت شيء منه منذ أشهر، ولو كان محظوظاً - مثل ابن عمه الذي عثر منذ سنوات على خاتم من ذهب في جوف سمكة - فسوف يستعيد أرضه من ذلك المرابي اللعين، وسوف تتحسن الأحوال عندما ستعود الأسرة جميعها للعمل- كباقي عائلات المنطقة - في الزراعة، لذا ازداد تشبثاً بالقصبة، بينما ازدادت السمكة تشبثاً بالحياة .

    كثيرون من الصيادين نصحوه بأن يأتي إلى هذه المنطقة من النهر، ففيها تحاول أسماك السالمون القفز عكس التيار للوصول إلى حوض النبع الهاديء لكي تضع بيوضها هناك، وهي في قفزها هذا تتجاوز حتى الشلالات الهادرة ، مدفوعة في ذلك بغريزة حب البقاء، فماذا لو كانت العالقة بصنارته الآن واحدة كبيرة منها؟، وهل سيكون قاسياً عليها إلى حد حرمانها من استمرار نسلها؟، وماذا عن نسله هو،؟ وهل حرص السمكة على استمرار نسلها يتعارض مع حرصه هو على استمرار نسله ؟، وماذا لو استطاع الوصول إلى حل وسط لهذه الإشكالية؟، . . أقسم - بينه وبين نفسه - أنه لو حصل على هذه السمكة، فإنه سوف يأخذها حية إلى حوض النبع في جردل ماء، وهناك سوف يعتصر بطارخها، سامحاً لبيوضها أن تستقر في الماء الهاديء، ومن ثم سيكون من حقه، بعد أن ضمن لها استمرار نسلها، أن يضمن لنفسه استمرار نسله. . هكذا كانت نفسه تحدثه، بينما انهمك جاهداً في لف الخيط على الماكينة التي تعطلت أكثر فأكثر، ولم تعد تستجيب لرغبته في تقصير طول الخيط، ومن ثم تمكينه من تناول السمكة من الماء. هذه الماكينة اللعينة تتعطل الآن، تماماً في الوقت الذي يلزم أن تكون مطيعة له أكثر من زوجته. الطريقة الوحيدة المتبقية لاستخراج السمكة الآن - وبعد أن تعطلت الماكينة - تكمن في أن يتراجع بسرعة عن حافة النهر ساحباً السمكة منه، بعد أن كادت هي أن تسحبه إلى النهر، وبالفعل بدأ بالتراجع إلى الخلف مبتعداً عن النهر، ولحسن حظه، ها هي السمكة تهديء من روعها، فتستكين حركتها، وتمتثل له بالانسحاب التدريجي من الماء، وحتى لا يبتعد كثيراً عن ضفة النهر، فقد وضع القصبة أرضاً وشرع في سحب الخيط من الماء بكلتي يديه، لكن، وبسبب شدة التيار، ولثقل وزن السمكة، فقد كان عليه الجذب بقوة بدأ معها لحم كفيه بالتشقق، فسال الدم منهما بغزارة ، ، ، لا يهم، طالما أن السمكة على وشك الخروج من الماء.

    كانت الشمس قد بدأت بالتواري خلف التلال المجاورة، والظلام قد بدأ يزحف رويداً رويداً مبتلعاً كل الأشياء بوحشة قاتلة، تماماً كما ابتلع الجوع أحشاء العائلة لعدة أيام،،، عندما وصلت السمكة إلى الشاطيء، لم يستطع أن يتبين ملامحها بين طيات الظلام، ولدهشته كانت حركتها قد سكنت تماماً، فربما لشدة تخبطها، أنهكها التعب فاستسلمت في راحة أبدية، تماماً كما استسلم هو إلى فرح غامر . . انتبه إلى ضرورة تجفيف الدم من على كفيه، فمسحهما بحركة عفوية بجانبي بنطاله، وتوجه نحو السمكة ، ، ، فلتبشر العائلة بعشاء دسم، ووداعاً أيها الجوع الكافر، وسواء حملت هذه السمكة في بطنها ذهباً أم لم تحمل، فالبطون خاوية، والأفواه مستعدة حتى لقضم العظم، ومن المؤكد أن جاره لن يتردد في شراء نصف السمكة، والذي بثمنه سوف يستمتع بشرب كأس من الشاي طال انتظاره، أما أن تطبخ زوجته نصف السمكة مقلياً أو مشوياً أو مسلوقاً، فذلك ليس بالأمر المهم. يزداد اقتراباً من السمكة: هل ينظفها الآن بماء النهر، أم يترك أمر ذلك لزوجته؟،،، هل يتابع الصيد لكي يظفر بسمكة أخرى، ربما أكبر من هذه؟، أم يكتفي بما حصل عليه؟،،، قرر أن من الأفضل له أن يعود إلى بيته فوراً بعد أن حل الظلام، خاصة وأن هذه المنطقة تعج بالحيوانات المفترسة، والتي ربما ستجذبها رائحة السمكة، فيقوم أحدها باقتناصها من يده، وهو الذي أنفق يوماً بانتظارها، وأنفقت العائلة يوماً بانتظارهما.

    وصل إلى حيث تمددت السمكة بلا حراك ،، رفعها عن الأرض،، قلبها بين يديه،،، نظر باندهاش إلى رأسها حتى آخرها،،، رفعها إلى فوق، فسال منها ماء النهر مع طين كثيف،،، قلبها مرة ثانية وثالثة،  أغمض عينيه وهز رأسه ثم نظر إلى الأعلى ثم أطرق … سالت دموعه بيأس واضح ، ، نزع منها الصنارة  ورفعها بيده عالياً مطوحاً بها باتجاه النهر . . . الصبي يصرخ في أبيه من بعيد : " لا . . لا .. أرجوك يا أبي ألاّ تعيدها إلى النهر، يبدو أنها على مقاس قدمي، وأنا حافٍ كما تعلم والعيد على الأبواب،،، دعني أجربها الآن، فربما نعود إلى هنا غداً لكي تصطاد لي الفردة الأخرى" .                            

Saturday, November 3, 2012

خسارة لا تُعوَّض



    أشجار النخيل القديمة تتجذر على امتداد الساحل بقوة وعمق، وحركة الموج الأزلية ما زالت على حالها كما كانت منذ ملايين السنين، لكنها تبدو اليوم أكثر صخباً، ورمال الشاطئ فتئت تستحم بلا كلل منذ وُجِدَتْ، وعلى الجانب الخلفي للهضبة انتصبت سلسلة جبال سود تشظَّت حوافها كإناء زجاجي مكسور، شكلت للمشهد خلفية تستدعي الكآبة من تلافيف الروح، وخلفها غويمات رصاصية متمايلة، تحجب شمساً تحاول عبثاً استجلاء كنه ما كان يحدث على المنحدر الواصل بين سيف البحر وعنق الجبل.
  
     موكب تشييع يسير بخشوع، يتقدمه ستة رجال حملوا على أكتافهم نعشاً فيه جسد لرجل بدا من كثرة عدد المشيعين أن له مكانة خاصة في قلوب أهل القرية، يتناوبون على حمله بحنو وحزن واضحين، يتهادون بين صفين من أشجار سروٍ عتيقة شاركت المشيعين حزنهم، فتهادت نائحة يمنة ويسرة،،، بينما دموع الجميع تسيل بصمت وحرقة. بعد عبور بوابة المدينة الأبدية ذات السور الملون، وضع الرجال النعش على مصطبة مرتفعة، واصطفوا أمامها كتفاً إلى كتف وأكفهم متشابكة تحت بطونهم، وقد بدى على وجوههم حيرة وقلق، فهم يواجهون اليوم مشكلة فريدة لأول مرة في حياة قريتهم على ما يذكرون، والراقد في النعش أيضاً يمر بهذا الموقف  لأول مرة - هكذا خمن بعض المشيعين- ،  والوجوم الذي خيم على الجمع لم يكن بسبب افتقادهم شخصَ الميت، فهو غريب، طرأ على القرية منذ كان صبياً بعد أن قضت عائلته في زلزال اجتاح منطقة مجاورة، وفي هذه القرية شب وترعرع، لكن وجومهم كان بسبب افتقادهم مهنته التي لم يتخيلوا في يوم من الأيام أنه سيتركهم بلا بديل يقوم بها مقامه.

    الراقد في النعش كان يتوقع ما هو فيه الآن منذ آمن بما يؤمن به المؤمن، مع أنه كان يستبعده خوفاً منه، إلا أنه لم يكن يشعر برهبته لاحتكاكه به، أما هم فلم يخطر لهم على بال في يوم من الأيام أن يفتقدوه في وقت عز فيه مثيله، ولا أمل لهم في تعويضه، وهو لم يكن يتوقع أن يتركهم على هذه الحال، فقد اعتاد على مدار سنوات عمره السبعين – الذي انتهى صباح هذا اليوم - أن تمر بين يديه العشرات، بل المئات منهم، مستسلمة راضية بما يجريه عليها من طقوس لازمة لا يستطيع غيره القيام بها. بين يديه استسلم الكبير والصغير، الغني والفقير، خاضعاً في صمت أبدي ورضوخ مطلق، يقرضهم ذات اليمين فيتحركون، ويُقلِّبهم ذات الشمال فيستجيبون. قال في نفسه: إلى متى سأبقى منتظراً فوق هذه المصطبة؟، همّ بالوقوف، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً،،، انتبه إلى أنه يحاول ضرباً من المستحيل،،، أمر يده أن ترتفع في الهواء عل الجمع يهرع لنجدته، فلم تستجب له،،، أصخى سمعه عل أصوات الناس تصل إلى أذنيه، فوجدهما مسدودتين عاجزتين عن تلقي أية كلمة،،، اعترته حالة من الخوف اللذيذ الممزوج بقلق محرج،،، نسمة بحرية أطارت الغطاء عن ذراعه اليسرى،،، رجل عجوز من الجمع يهرع إلى إعادة الغطاء إلى ما كان عليه،،، ودَّ المستلقي في النعش لو أن العجوز انتظر برهة عله يستطيع التكلم معه،،، الوقت يمر لزجاً أكثر من المحتمل، والرجال المتجمعون حول النعش ما زالوا على حالتهم من الحيرة، فمنذ وضعوه على هذه المصطبة لم يجرؤ أحد منهم على التقدم منه لإنهاء هذا المشهد،،، بضعة نوارس حلقت على ارتفاع منخفض محدثة بأجنحتها أصواتاً خفيفة، عبرت من فوق النعش برفق كأنها تعرف ذاك الذي يتمدد فيه، وثمة نسيمات تهب من جهة البحر دافعة أمامها غيماً كقطع الليل مظلما، وومضات برق يذهب بالأبصار تقدح من بين السحاب، فيتقي الجمع ضوءها بستر أعينهم بسواعدهم، تتلوها زمجرات رعد يصم الآذان. تململ الجمع، واستدارت الأعناق جهة الجبل متنبئة بمطر غزير، والرياح تشتد أكثر فأكثر، ورذاذ خفيف بدأ بالتساقط، والمشكلة التي عرقلت آخر إجراء على صاحب النعش في طريقها إلى الحل،،، هبة ريح قوية أطارت الغطاء عن الجسد كله، أعقبها وابل من مطر أبيض، فأحس الراقد في النعش براحة وعذوبة لم يشعر بهما حتى عندما كان على قيد الحياة، وجسده العاري تماماً تسيل عليه الآن قطرات المطر الناعم برفق،،، أراد أن يفتح عينيه، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً،،، أراد أن يمسح الماء عن وجهه بكفيه، فلم تطاوعاه، فاسترخى أو هو أحس بذلك، ثم ترك جسده مرتعاً لقطرات المطر. همهم الحشد بكلمات لم يفهمها، وأقبل بعضهم عليه،،، جمعوا على جسده أطراف الكفن،،، ربطوا القماش بإحكام من جهة الرأس والقدمين ،،، حملوه بسرعة وخفة واتجهوا به صوب الحفرة،،، لقد انتهت المشكلة التي أخرت دفنه، فقد غسلته شآبيب المطر، وهاهم ينزلونه الآن في حفرته الأبدية، وإلى الأبد.

    عندما وضعوا البلاطة الأخيرة على صدره وأهالوا التراب عليه، كان هناك سؤال وحيد يدور في نفسه: مَن سيغسل لأهل القرية موتاهم بعد اليوم، أما هم فقد تركوه وحيداً في حفرته وعادوا أدراجهم إلى القرية، وسؤال وحيد يدور في أذهانهم: مَن سيغسل لنا موتانا بعد اليوم؟.     

Wednesday, October 24, 2012

فلسطين التي أخشى أن تتحرر الآن


إذا كان أدب الخيال العلمي فن في الكتابة معترف به وله قراؤه، وبمرور الزمن، وبتحقق ما جاء فيه، أو بعضاً منه، أثبت أنه كتابة عن واقع سبق عصره، فلماذا لا يكون لأدب الخيال السياسي من يعترف به ويقرؤه، يصنف الآن على أنه خيال سياسي، لكن الأيام يمكن أن تثبت صدق نبوءته. المقال التالي نوع من الخيال السياسي، ذاك الذي نرجو ألا يتحقق).

{{ أضاع العرب فلسطين عام 48، ثم لما تنبهوا إلى هذا الخطأ الغير المقصود! قرروا استعادتها وتحريرها من أيدي اليهود، أولئك العرب الذين ارتبط زعماؤهم – قبل قيام إسرائيل – بعلاقات صداقة ومودة مع القادة الصهاينة قبل وبعد طرد المحتلين الأتراك!(مراسلات الحسين-

مكماهون، واتفاق فيصل- وايزمن 1919، وعلاقات وايزمن نفسه بالقيادات العربية قبل قيام إسرائيل). بعد عام النكبة بدأنا نحتاج إلى تناول أطنان من أقراص الأسبرين ومهدئات الصداع لكثرة ما جعجع العرب وهددوا بإلقاء إسرائيل في البحر. أيامها كنا صغاراً، وكانت معلوماتنا الجغرافية تنتمي إلى عصر فكرة أن الأرض ليست كروية، فاعتقدنا أن حنث العرب بأيمانهم التي أقسموها لتحرير فلسطين إنما يعود: إما لأن فلسطين تقع في أقصى أقاصي الأرض، أي على حافتها المنبسطة، أو ربما لأنها تقع على سطح كوكب خارج المجموعة الشمسية.

بعد أن عرفنا أن الأرض كروية وأن فلسطين موجودة على سطحها، لم نجرؤ على إظهار تبرمنا من كذب حكامنا، فأيامها لم يكن ليخطر ببالنا أن الحاكم، والذي هو أكبر رأس في البلد، يمكن أن يكذب. قلنا: ربما يكون بعد الشقة، ووجود جبال ووديان وموانع طبيعية، هو الذي يمنع حكامنا الأفاضل من إمكانية الوصول إلى حدودها لكي يبرّوا بأيمانهم }}.

دارت جميع هذه الأفكار والتخيلات في رأسي بينما كانت سيارة الأجرة التي استقليتها من مطار الملكة علياء في عمان، تتهادى هابطة الطريق المؤدية إلى غور الأردن، وسائقها يشعل سيجارة من سابقتها، مدندناً بأغانٍ بدوية جميلة. عندما انتبهت إلى اللحظة التي أنا فيها، شاهدت عن بعد أضواء مدينة تتلألأ، فسألت السائق عن اسم المدينة الأردنية التي أرى أضواءها وأنا أشير باتجاهها. نفث السائق دخان سيجارته مطلقاً ضحكة قطعت صمتاً تواصل لأكثر من نصف ساعة.

- هذ أضواء مدينة القدس يا عزيزي.

لم أصدق ما قاله السائق، واعتقدت أنه يأتي إلى هذه المنطقة لأول مرة في حياته. ألا يمكن أن يكون هذا السائق ممازحاً عندما قال أن هذه الأضواء هي أضواء مدينة القدس؟ وهل يعقل أن تكون القدس قريبة إلى هذا الحد، يا إلهي: إنها تكاد تلامس القلب،،، كررت السؤال عليه، فانتفض معاتباً:” وهل أخبرك أحد أنني كذاب يا رجل؟”. اعتذرت بشدة، مبرراً ذلك بجهلي بجغرافية المكان، وأنني أزور فلسطين لأول مرة منذ غادرتها عام48، ثم عدت إلى أفكاري:

{{ إذن هذه هي فلسطين التي كنا نعتقد أنها في كوكب آخر،،، هذه هي فلسطين التي من أجلها ضحك علينا قادة كذابون وعدونا بتحريرها منذ أكثر من ستين عاماً،،، ستون عاماً لم يستطع هؤلاء الأشاوس! السير بجيوشهم الجرارة ولو كيلومتراً واحداً إلى الأمام. إذن فقد كذبوا علينا والقدس على مرمى حجر، فهل كنا أغبياء فصدقناهم؟ أم كنا نعرف أنهم كاذبون، فخشينا غضبتهم إن نحن كشفناهم؟ فها هي ذي القدس أمامك، تلامس القلب على مرمى حجر}}.

ولأن الطريق هابطة متعرجة، فالسائق يتمهل في سيره، وأعود لأغرق في أفكاري: ماذا لو برَّ العرب بأيمانهم المغلظة، فتقدموا لتحرير فلسطين ” الآن الآن وليس غداً؟ ”.

- {{ سوف يجتاح الجيش السوري الباسل مرتفعات الجولان، ثم سينحدر إلى الجليل الأعلى وسهل الحولة وبحيرة طبريا، كما ستصعد مدرعاته، مدعومة بالطوافات الحربية، مرتفعات الجليل لكي تسيطر على مدينة صفد، تلك التي كانت – أثناء ترسيم الحدود بين مناطق النفوذ البريطاني والنفوذ الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى – تقع داخل الحدود السورية، ثم، ولأنها واحدة من المدن الأربعة المقدسة عندهم إلى جانب الثلاث: طبريا، القدس، الخليل، فقد استطاع الصهاينة، وبجرة قلم رصاص، تحريك خط الحدود الفاصل بين فلسطين وسوريا لكي تدخل صفد في الأراضي الفلسطينية. في الجنوب من بحيرة طبريا سوف تجتاح القوات السورية مدينة بيسان لكي تقترب من طولكرم، وتتوقف شمال حدود الضفة الغربية، وحتى تضمن حماية هذه المناطق التي احتلتها، سوف تتقدم باتجاه الناصرة وحيفا لكي ترابط هناك لدحر أي هجوم يجليها عن تلك المناطق }}.

- {{ في الجنوب: سوف تتقدم القوات المصرية الباسلة لكي تجتاح الجبهة من قطاع غزة غرباً إلى ميناء أم الرشراش شرقاً، متقدمة شمالاً حتى تصل في الغرب إلى شمال أسدود، وفي الشرق إلى جنوب الخليل، وسترابط جنوب حدود الضفة الغربية }}.

- {{ القوات المتقدمة من لبنان سوف تحتل مستعمرة نهاريا، وتتقدم مسرعة جنوباً لكي تصل إلى حيفا، ومنها شرقاً لكي تسترد سهل مرج بن عامر (الذي باعه آل سرسق لليهود على مائدة قمار في باريس أوائل القرن العشرين)، فتجد بأن السوريين قد سبقوهم إليهما، وبما أنه لاقدرة للجيش اللبناني على مواجهة الجيش السوري، فسيقنع اللبنانيون بما حصلوا عليه من مزارع الحمضيات في المنطقة الممتدة من رأس الناقورة إلى جنوب عكا بقليل، وهناك تثبت الحدود بين الجانبين }}.

- {{ في الشرق: القوات الأردنية سوف تتقدم غرباً باتجاه القدس لكي تحتلها بسرعة، منتشرة إلى الشمال حتى تصل إلى حدود الضفة الغربية حيث يرابط السوريون، وإلى الخليل جنوباً لكي تمنع المصريين من التقدم عبر الحدود الجنوبية للضفة الغربية، ثم تتقدم غرباً باتجاه ساحل البحر المتوسط محتلة المنطقة الممتدة بين جنوب حيفا شمالاً إلى شمال أسدود جنوباً، لكي تقف في مواجهة الجيش السوري في الشمال والجيش المصري في الجنوب }}.

بعد هذا التحرير المجيد لفلسطين، وطرد ما تبقى فيها من اليهود على سفن أوربية وأمريكية لكي يعودوا إلى الأوطان التي جاء منها آباؤهم وأجدادهم، بعد ذلك بأسابيع قليلة سوف تنشب معارك طاحنة بين هذه الدول الأربع للحفاظ على ما احتلته كل منها من أرض فلسطين كمرحلة أولى، لكي تتقدم في المرحلة الثانية من أجل بسط سيطرتها على كامل التراب الفلسطيني.

كنا قد أصبحنا على بعد أمتار قليلة من نقطة الحدود عندما أطلق السائق نوبات طويلة من السعال، فتنبهت من تخيلاتي المرعبة،،، قررت كبح رغبتي الجامحة في عبور الحدود إلى القدس، وطلبت من السائق أن يعود بي من حيث أتيت، راجياً الله ألا يحقق للعرب حلمهم بأن يرووا تراب فلسطين بدمائهم الزكية!.

بعد أن استيقظت من نومي فزعاً، وزال عن قلبي كابوس تحرير فلسطين، عاهدت نفسي ألا أتناول عشاء دسماً قبل الذهاب إلى الفراش.