Sunday, November 18, 2012

الأهرامات، مقابل الحرية



    منذ تهاوت أمارة بني الأحمر في غرناطة، فخرج المسلمون من الأندلس بعد حوالي سبعة قرون وواحد وثمانين عاماً من تواجدهم هناك (711-1492) بسبب تمزق أماراتها وتشتتها شذر مذر بين أيدي ملوك الطوائف، والذين يشبههم إلى حد بعيد حكام عرب هذه الأيام،،، منذ ما يزيد على القرون السبعة تلك وحلم زيارة بلاد الأندلس يراود أذهان جميع العرب والمسلمين، استذكاراً  لمجد غابر، وبكاءً على حضارة بكى عليها قبلهم أبو عبد الله محمد الثاني بن الأحمر، ذاك الذي سخرت منه والدته عندما سلم مفتاح آخر مقعل للمسلمين، مدينة غرناطة، لأعدائه قائلة: (ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال)، وكأولئك الملايين كان ذلك حلمي أنا أيضاً، إلى أن قيض الله لي زيارتها في ربيع السنة التاسعة من القرن الحادي والعشرين، وبالرغم من وجود مئات الآثار الإسلامية في مختلف مدن الأندلس، إلا أن سمعة قصر الحمراء في غرناطة قد طبقت الآفاق، فأصبح شمعة الحضارة الأندلسية، حيث يزوره ملايين السياح كل عام، وتجني إسبانيا من هذه الآثار الإسلامية مليارات الدولارات سنوياً، وبدون هذه الآثار لم يكن بالإمكان أن يزور تلك البلاد من السياح سنوياً ما يوازي عدد سكانها البالغ حوالي الخمسة والأربعين مليون نسمة.
    لا شك أن زيارة قصر الحمراء هي واحدة من متع العمر لما لهذا البناء الشامخ من روعة وإتقان، فهو عبارة عن مدينة حصينة صغيرة، تقع على تلة مرتفعة تطل على غرناطة المدينة، ومن شمالها تطل عليها سلسلة جبال "سييرا نيفادا" بقممها التي تغطيها الثلوج معظم أشهر السنة، والإسهاب في وصف هذا المعلم السياحي الهام لا يوفيه حقه في التدليل على عظمته، لكن المثير للانتباه حقاً، أنه بالرغم من العداء الديني والقومي الذي كان ناشباً بين العرب المسلمين والإسبان المسيحيين على مدى مئات السنين، وبعد حروب طاحنة لسنوات طويلة، ورغم أن محاكم التفتيش قد طاولت الفكر والبشر، فأحرقت أطناناً من الكتب، وأكرهت المسلمين واليهود على التنصر أو مغادرة البلاد إلى البر الأفريقي، إلا أنها رغم كل ذلك لم تدمر القصر والحجر، بل حافظت على الآثار الإسلامية كما هي، فالزائر للآثار الإسلامية الأندلسية، وبالخصوص قصر الحمراء، يلاحظ بقاء الكثير من الآيات القرآنية التي تزين الجدران والأبواب والأفاريز، كما أن شعار بني الأحمر (لا غالب إلا الله) ما زال يزين الجدران، ولا تخطئه العين حيثما جالت بين هذه التحف المعمارية، فبقيت هذه المنجزات الحضارية على حالتها الأصلية، بل وتتلقى عناية وترميماً دائمين، فالإسبان المتعصبون لمسيحيتهم لم يروا ضرراً في بقاء هذه الآيات القرآنية على حالتها الأصلية، ولم يخافوا أن يعود المسلمون لاسترجاعها مرة ثانية بعد أن أضاعوها بتفرقهم وتخاذلهم، والأغرب من ذلك ما يراه الداخل إلى أحد أبهاء (جمع بهو) قصر الحمراء، إذ أن دائرة السياحة قد وضعت حاجزاً من الأعمدة الصغيرة حول بقعة من أرض البهو على شكل مستطيل لكي تمنع الناس من المشي على هذه البقعة، وعندما تتمعن في الأرضية، تجد لفظ الجلالة (الله) وقد نقش عليها باستخدام بلاطات ملونة، ويقال بأن هذه البقعة هي الوحيدة على سطح الأرض التي يوجد فيها اسم الجلالة منقوشاً على أرضية بناء،،، عندها لا تملك سوى الإعجاب والاحترام لمن سوّر الأرضية بتلك الأعمدة لكي يمنع الزوار من الدوس على لفظ الجلالة.
    جالت بذهني هذه الذكريات وأنا أشاهد على إحدى الفضائيات العربية سلفياً غضنفرَ، يُرغي ويزبد متوعداً بتحطيم الأهرام والآثار الفرعونية، وذلك بحجة أنها أصنام، فهو يخشى على الناس الفتنة، فيعودون لعبادتها، وكأني به أحرص من المسلمين على عقيدتهم، معتقداً أن الإسلام قد لامس الألسن ولم ينفذ إلى القلوب، وأنهم بانتظار رؤية أي صنم فيعبدوه لكي يعودوا إلى جاهليتهم التي ما زالت راسخة في القلوب والعقول!، ومن ثم لم أعجب من رأي بعض السلفيين  بضرورة تحزيم المرأة بمئة طبقة وطبقة من الملايات وأغطية الوجه، وكأنهم يشكون فيما لو أن أي مسلم رآها على غير هذه الحالة، فسوف يغتصبها على الفور، مما يؤكد لنا بأن إخواننا السلفيين هؤلاء هم الذين لم يرسخ الإسلام في قلوبهم، ولم يتحكم في تصرفاتهم الإنسانية، بل اكتفوا بأن أخذوا منه الثوب الطويل واللحية الكثة والزبيبة التي تتوسط الجبهة، أما غير ذلك من صفات فلا أدري عنها شيئاً، فأمرهم إلى الله. من هنا تأكدت من أنه لو قيض الله لآثارنا في الأندلس إسبانياً سلفياً مثل ذلك المسلم السلفي الهِزَبر، فهدمها حتى سواها بالأرض، ومحاها من الوجود بحجة وجود آيات قرآنية على جدرانها، إذن لاعتقد الناس أن المسلمين سكان الأندلس كانوا حفاة عراة، يعيشون في خيام منسوجة من شعر الماعز، ولخسرت إسبانيا مئات مليارات الدولارات التي ضختها وتضخها الأثار الإسلامية في الخزينة الإسبانية كل عام.
    نقطة أخرى ربما تكون هامة في هذا السياق: بما أن الله تعالى قد أخبرنا في قرآنه الكريم أنه (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير – فاطر 24 -)، وكما يخبرنا في سورة إبراهيم الآية 9 عن أقوام وأمم بادت واندثرت، ولا يعلم عنها شيئاً سوى الله تعالى( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم)، ويحدثنا القرآن الكريم عن رسل لم يرد ذكر أسمائهم في متنه (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما – النساء 164)، كما أن بعض المؤرخين يعيدون اسم الإله الفرعوني (أوزيريس) إلى أصله القديم وهو النبي (إدريس)، وبما أن بعض الرموز والكتابات الهيروغليفية الموجودة على التماثيل وجدران المعابد والقبور الفرعونية لم تحل أسرارها وتُقرأ بشكل واضح لا لبس فيه، أفلا يمكن والحال هذه أن تكون تلك الرموز والنقوش بعضاً من آيات كتب سماوية أنزلت لانعلم عنها شيئاً حيث لم يذكرها القرآن الكريم، ويمكن للقادم من الأيام أن يكشف أسرارها؟، أفلا يمكن أنها قد نقشت في الصخر لأن الله تعالى تعهد في حينه بخلودها أبد الدهر؟، فهل يتحمل ذلك الأخ السلفي وزر محو وإزالة ما يمكن أن نشك بأنه، ولو واحداً في مئة مليون، بعضاً من كلام الله؟، ولماذا لا تقوم جهات دينية وسطية مصرية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، بشرح هذه الفكرة وغيرها لهؤلاء المتزمتين، وإلزامهم بوقف هذا الهراء الذي يجعل الآخرين يستهزئون بديننا وأسلوبنا في التفكير؟.
    وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، ففي قناة فضائية أمريكية، يتجول مقدم البرنامج في بعض الشوارع، يسأل المارة بعض الأسئلة البسيطة، فتأتي بعض الإجابات وكأن المجيب عليها ما زال يعيش في العصر الحجري، ومن تلك المقابلات أذكر أن مقدم البرنامج سأل إحدى الفتيات هذا السؤال: من هو الذي أهدى تمثال الحرية إلى الولايات المتحدة؟، فأجابت الفتاة بثقة مطلقة: مصر. عاد المقدم ليسألها ويستكمل المهزلة: وماذا قدمت الولايات المتحدة لمصر مقابل ذلك؟، نظرت الفتاة إلى الأفق البعيد نظرة تأمل، ثم قالت: الأهرامات. على هذا الأساس، أتمنى على وزير السياحة المصري - إن صحت رواية تلك الفتاة –، أن يعيد الأهرامات - قبل أن يدمرها السلفيون - إلى الأمريكان، وأن يستعيد للمصريين " تمثال الحرية "، أو نصفه الثاني على الأقل: " الحرية ".






No comments: