Tuesday, August 9, 2016

الثابت والمتحرك في القضية السورية

يعيب الغربيون على أبناء العالم الثالث  – ونحن منهم - جملة من الممارسات السلبية، بعضها يرونها حكراً على  العرب دون غيرهم، كالاستبداد واختلال الذمة والواسطة، غير أنهم في قرارة أنفسهم يتمنون لو كانت لديهم هذه المواصفات، لكنهم، ولسوء حظهم، قد نشأوا في مجتمعات تطورت وترقت إلى الحد الذي انعدمت عندهم سلبيات، إلى حد كبير، بينما استمرت عند الآخرين:
فمن حيث الاستبداد: لنا أن نتخيل أحلام الرؤساء الغربيين وتمنياتهم لو أنهم كانوا رؤساء جمهوريات عربية، إذن لامتدت سنوات حكمهم إلى عقود طوال من السنين، بدلاً من طردهم صاغرين من قصور الرئاسة بعد دورتين رئاسيتين على أقصى حد. أفلم يكن  جورج بوش يتمنى لو كان رئيساً لجمهورية مصر العربية؟، وألم يكن ساركوزي يتوق إلى ترؤس الجمهورية العربية السورية؟، وهل كان أقرب إلى أحلام طوني بلير من أن يكون رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية؟ أليسوا بشراً مثل رؤساء مصر وسوريا ومنظمة التحرير، فتكون لديهم نفس تمنيات أؤلئك الرؤساء وطموحاتهم؟، لكن دساتير بلدانهم ونظامهم السياسي كبلت أيديهم، فخرجوا من قصور الرئاسة صاغرين.
ومن حيث اختلال الذمة: فحدث ولا حرج عن السرقات التي تقوم بها شخصيات عامة في الغرب كما في الشرق، وهل مثال برلسكوني الإيطالي غائب عن الأذهان؟، وألا يقدم لنا نموذجاً متطابقاً مع رفيق الحريري؟، فكلاهما قد جمع المال والسلطة بشكل مشبوه، وكلاهما سيطر على القضاء، فنجى من تهم بالفساد. المهم أن يسرق المسؤول بشكل مهني محترف يحول دون القبض عليه بالجرم المشهود.
أما الواسطة: فقد برع العرب في استخدامها وتطبيقها بشكل فاق الآخرين، الذين عجزوا عن مجاراتهم فيها. ففي الواسطة يحصل المرء - نتيجة واسطة ودعم من قريب أو نسيب، أو لتنفيذ مصلحة مشتركة - على مواقع وظيفية لا تمت إلى تخصصه بصلة من قريب أو بعيد، وذلك تحقيقاً لمنفعة مادية محضة، أو للتخلص من بعض العناصر الغير مرغوب فيها، أو للسيطرة على موقع معين عن طريق التعيين القسري، فوضع الرجل في غير مكانه المناسب يعتبر خيانة عظمى في الدول المحترمة، يعاقب عليها القانون، أما عندنا فهي أمر واقع، اعتاده الناس كأنه هو الجوهر وما عداه هو الزيف. غير أن المؤيدين لفكرة الواسطة عندنا يرون إيجابياتها دون السلبيات، فهم يصرون على أن عمل المرء في غير مجال تخصصه هو دليل قدرات خارقة، وإرادة صلبة، حيث يكون عليه بذل جهد كبير لإثبات وجوده، كما أنه يُقبِلُ على تعلم مهارات جديدة أكثر من الموظف الذي يعمل في مجال تخصصه فحسب، فمثلاً: هذا المتخصص في الزراعة المدارية يعمل مديراً لمصنع نسيج لأن وزير الصناعة والد زوجته، وذاك الألمعي في الفيزياء النووية يعمل مديراً لإحدى شركات البناءالحكومية لأن رئيس الوزراء خاله، أما الطبيب البيطري المختص بمعالجة البعوض من الملاريا!!!، فيرأس لجنة حكماء للفصل في النزاعات الحدودية العربية – العربية لأنه شقيق وزير الداخلية،،، هؤلاء جميعهم اكتسبوا إلى جانب تخصصاتهم الرئيسية مجالات تخصص أخرى، ولئن لم يبرعوا فيها على الفور، فإن الزمن كفيل بمنحهم فرصة للتعلم، لكن  الإبداع يبدو بشكل أوضح عندما ينتقل الطبيب البيطري للعمل كمدير لمصنع النسيج، وإخصائي الفيزياء النووية لكي يرأس لجنة حكماء الحدود، وصاحب الدكتوراة في الزراعات المدارية لكي يرأس شركة البناء الحكومية. هذه أمثلة واضحة على الجَيَشان والتحدي الإيجابي الذي يسود بين الأخصائيين العرب!، أما في الغرب، وخاصة في اليابان - مع أنها في أقصى الشرق - فيبدأ  الأخصائي العمل في مجال تخصصه ويبقى فيه حتى آخر يوم في حياته العملية قبل الإحالة على التقاعد، دون أن تكون أمامه فرصة الاطلاع على مجالات أخرى سوى مجاله، وفي هذا قتل لمواهبه الدفينة!.
جميع التخصصات المذكورة يستطيع المرء الربط بينها بطريقة ما، حتى بليّ عنق الحقيقة، غير أن المجال الذي لا يمكن للمرء أن يتصور تنوع العمل فيه، فهو طب الأسنان، فطبيب الأسنان - وقد أهمل سائر الجسد وركز اهتمامه على هذا الجزء المليء بالأسنان في أسفل الوجه - لو أسندت إليه مهمة معالجة اللسان أو اللوزتين أو الأنف أو حتى الرئتين، لقلنا نعم، ولحمدنا الله على أن الذي أسندت إليه هذه المهمة قد اطلع على هذه الأعضاء ولو عن بعد وبشكل سريع، أما أن تسند إلى طبيب الأسنان مهمة دبلوماسية، يمثل فيها قضية شعب سلبت أرضه، وتشتت أبناؤه في قارات العالم جميعها، فهو أمر خاضع للنقاش، فما بالك لو كان هذا الطبيب قد أصبح عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني ولما يتجاوز عمره الاثنين والعشرين عاماً، ثم عين مساعداً لمدير البعثة الفلسطينية في الأمم المتحدة وعمره 33 سنة، ثم رئيساً لها وعمره 38 سنة. نحن نفهم أن الدبلوماسي المحنك، والذي يمكن ائتمانه على قضية شعب، ينبغي أن يكون دارساً لعلم السياسة والدبلوماسية، وله فيها من المؤلفات ما تعد مراجع هامة في كبرى الجامعات العالمية، أما أن يكون طبيب أسنان، فلا بد في هذه الحالة أن يكون: إما عبقرياً فلتة عصره، أو ابن شقيقة المرحوم ياسر عرفات، وهنا ينجلي السر في تسلم المذكور هذا المنصب الهام والحساس، ولكن الأروع من كل هذا أن تسند لنفس الدكتور ناصر القدوة - بعد أن نجح في حل مشاكل القضية الفلسطينية ونجح في مفاوضات الحل النهائي وأقام الدولة الفلسطينية العتيدة على أقل من 20% من أرض فلسطين التاريخية – أن تسند له مهمة مساعد لكوفي عنان، المبعوث الدولي والعربي! للقضية السورية.
    ولعل من إبداعات الدكتور القدوة، في منصبه هذا، أنه صرح من مكتبه في الأمم المتحدة، وقبل أن يرى سوريا سوى على الخارطة، وبعد أقل من شهر من تسلمه منصبه، بأن هناك عناصر من تنظيم القاعدة تتواجد على الأراضي السورية، وتحارب ضد كتائب الأسد، ولعل هذا التصريح يذكرنا بتصريح مماثل لرئيس السلطة المنتهية صلاحيته (وصلاحية سلطته) محمود عباس، عندما استعدى العالم بأجمعه على قطاع غزة بقوله أن هناك عناصر من تنظيم القاعدة في القطاع. لو كان عرفات ما زال حياً وأعلن نفس تصريح عباس، لقلنا إن هذا الشبل (ناصر)من خاله الأسد (عرفات)، أما أن يتطوع القدوة لاستعداء العالم ضد الثوار السوريين، فأمر مستهجن ومستغرب، إلا إذا كان عذره أنه صادر عن دبلوماسي هاوٍ وطبيب أسنان محترف. سعادة مساعد المبعوث الدولي للقضية السورية لم يزر سوريا ولا مرة حتى الآن، وأتمنى على مسؤول أي في مكتب الأمين العام للأمم المتحدة أن ينير أذهاننا بتوضيح مهمة هذا المساعد المحترم.

الإبداع الآخر في قضية طبيب الأسنان د.ناصر القدوة أنه هو الثابت الوحيد في مجال دبلوماسية الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية السورية، والباقون متحركون، فهو قد عين مساعداً لعنان، ولكن رغم أن مديره عنان قد استقال من مهمته في معالجة القضية السورية بعد فشله في حلحلة عقدتها، إلا أن الاستقالة لم تنسحب على المساعد د. ناصر، بل استمر في منصبه كمساعد للمبعوث الجديد، والمتوقع فشله قريباً بالتأكيد، الأخضر الإبراهيمي، وسيكون إنشاء الله مساعداً للمبعوث الذي سيعين بعد الأخضر الإبراهيمي، بعد فشله هو الآخر،  وبعد الذي يليه أيضاً،،، بالطبع لأنه الثابت الوحيد، والباقون متحركون. هل هناك إبداع وعبقرية في الإنجاز الدبلوماسي لطبيب الأسنان الدكتور ناصر قصرت أفهامنا عن إدراكها، فساورنا الشك فيها؟، أم أن واسطته كونه ابن شقيقة الراحل عرفات، ما زالت صالحة حتى الآن؟، أم أن أنسباءه، أهل زوجته - سكرتيرته الفرنسية - لهم دور في ذلك؟، الله وحده يعلم، أما نحن، غلابى ومساكين الشعب الفلسطيني المشرد، فعلينا الإقرار، إلى أن يثبت العكس، بأن عبقرية الرجل هي التي تقف وراء كل ما أنعم الله به عليه، ومنها نجاحه الباهر منذ أصبح في سن الثانية والعشرين عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني الموقر، ولغاية بلوغه عامه الستين وقد عين مساعداً لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. نعم هي العبقرية، وليست الواسطة، التي نتوهمها نحن الخبثاء، كونه ابن شقيقة الراحل عرفات، أو أنه صهر مقرب من أهل زوجته الفرنسية.لا شك يا سادة أن بعض الظن إثم، نعم، فقط بعضه إثم، ولكن ليس كله.

وليد الحلبي - الثابت والمتحرك في القضية السورية

وليد الحلبي - الثابت والمتحرك في القضية السورية

Saturday, August 6, 2016

عاصفة رعدية وبرق في باتون روج، لويزيانا

اقتراح جدي:

عدد مشتركي الفيس بوك الآن هو مليار و 540 مليون مشترك، تحصد شركة فيس بوك عنهم وبسببهم أرباحاً سنوية وصلت عام 2015 إلى ثلاثة مليارات و670 مليون دولار كصافي أرباح، وهذا يعني بحسبة بسيطة أن الموقع يتقاضى عن كل مشترك مبلغ دولارين و 38 سنتاً في السنة، وهذه المبالغ بطبيعة الحال تاتي من الشركات التي تنشر دعاياتها على موقع فيس بوك، وبديهي أن أسعار الإعلانات يزداد طرداً بازدياد أعداد المشتركين في هذا الموقع، وينخفض بانخفاضها. لو افترضنا أن هناك 100 مليون عربي مشتركون فيه، فهذا يعني أن الفيس بوك يحصد عن هؤلاء مبلغ 238 مليون دولار سنوياً.
والسؤال: ماذا لو هدد هؤلاء العرب بإغلاق حساباتهم على الفيس بوك ما لم تقم شركته بتمويل جمعيات في البلاد العربية لرعاية لأيتام والمكفوفين ومعاهد التدريب المهني والإنفاق على تعليم الفقراء المتفوقين لاستكمال دراستهم العليا في الجامعات الأجنبية، وغير هذا من وجوه خدمة المجتمع، فلو قدمت هذه الشركة 10% فقط من أرباحها السنوية التي تتقاضاها نسبة إلى عدد المشتركين العرب، فهذا يعني حوالي 24 مليون دولار في السنة، وهو مبلغ يفيد على كل حال في تطويرالأوجه المذكورة، ومع علمي أنها تقوم برعاية مشاريع مماثلة، لكنني لم أسمع عن أي منها في المنطقة العربية.
جميع هذا يحتاج إلى تشكيل لجنة من الأخصائيين والمثقفين النافذين كالكتاب والشعراء والفنانين لكي يقودوا هذه الحملة التي تصب في النهاية في صالح المجتمع العربي.
أعلم تماماً أنه من الصعب على العرب أن يلتفوا حول هدف أسهل من هذا بكثير، لكنني اقترحت ما فيه الفائدة والنفع، اللهم هل بلَّغت.
ختاماً ليس لي سوى أن أردد دعوة نبي الله شعيب عليه السلام: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).


Tuesday, August 2, 2016

هل هي بالفعل أدوات تواصل؟

ليس مفيداً ولا ضرورياً في مطلع هذا المقال الحديث عن بدايات تكون المجتمع الإنساني بدءاً من تكوُّن الأسرة وصولاً إلى عصر الفضاء، لكن البديهي في الموضوع أن الأسرة، الخلية الأولى المكونة للمجتمع، هي التي عليها تتقرر نوعية المجتمعات، قوة أو ضعفاً، تماسكاً أو تشتتاً. وقوة الأسرة، وبالتالي قوة المجتمع، تتناسب طرداً مع نوعية العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، ومن غرائب الأمور أن التطور الحضاري الذي أحرزه الإنسان عبر تاريخه الطويل، بدا كما لو أنه في سباق محموم مع الزمن لإضعاف العلاقات الأُسَرية وتقطيع أواصرها، بحيث وصلت اليوم إلى حد من الهلهلة لا يخفف من وطأتها سوى المظاهر الأخرى من التطور العلمي ومنجزاته.
فقبل عصر النهضة الصناعية والكهرباء، كان الترابط الأسري غير محل جدل، فعَمَلُ كافة أفراد الأسرة، سواء في الحقول أو في المراكز الحرفية، كان دافعاً رئيسياً لتوطيد العلاقات بينهم بشكل لا يقارن مع ما نراه هذه الأيام، فكانت الأمسيات تجمع العائلة من كبيرها إلى أصغر حفيد فيها حول مائدة واحدة، يتجاذبون الحديث، ويتذاكرون ما مر بهم في أوقات عملهم، أو ما يبتكرونه من طرق لتطوير إنتاجهم وزيادة دخلهم، واستمر حال الأسر على هذا المنوال إلى أن جاء عصر المذياع (الراديو)- والذي قبله كانت حكايات الجدات في الأمسيات الطويلة تقوم مقامه - ، فانصرف قسم من وقت العائلة للإصغاء إلى ما تذيعه محطاتها المختلفة، ومع ذلك فقد بقي لتواصل الأفراد متسع الوقت لكي يستمر. بعد ظهور التلفاز، أصيبت وحدة الأسرة وتواصلها في مقتل، وأصبح أفرادها يتسمرون أمام شاشته معظم وقت أمسياتهم، ولئن تكلم أحدهم، فلن يجد أذناً صاغية من الآخرين إلا من باب التظاهر بالتبجيل والاحترام، ناهيك عن تحكم التلفاز بالآراء السياسية والاجتماعية للأفراد، مما أوجد التنافر بين من ساد التواؤم بينهم سنين طِوالاً، بحيث وصل أثر مشاهدة التلفاز في تقطيع أواصرالعلاقات الأسرية حداً دفع بإحدى البلدات الأمريكية منذ عدة سنوات – قبل ظهور الشبكة العنكبوتية -، إلى أن تطلب من سكانها تخصيص أسبوعٍ معينٍ لا يشغِّلون فيه أجهزة التلفاز، ثم ليجتمعوا بعد ذلك الأسبوع في قاعة مسرح البلدة لمناقشة النتائج. وبالفعل وفَّى جميع السكان بالوعد، فأقفلوا أجهزتهم لمدة أسبوع كامل، ويوم مناقشة النتيجة، كان الأمر مفاجئاً للحضور، فقد أجمعوا على أن ذلك الأسبوع كان واحداً من أسعد الأوقات التي قضتها الأسرة منذ بدأ البث التلفزيوني، فقد جلس جميع أفرادها يتناقشون في أمورهم العامة والخاصة: الأب تحدث عن خططه لتطوير مصنعه الصغير والعقبات التي تواجه والإنجازات التي حققها، وناقش الأبناءَ في خططهم المستقبلية للدراسة، والأبناء تحدثوا عن الصعوبات التي يلاقونها في مدارسهم من حيث مواد الدراسة ومكامن القوة والضعف فيها، وعلاقتهم بالإدارة والمدرسين، ونبهت قلة منهم إلى وجود البعض من مروجي المخدرات بين الطلاب، وأسرَّت الفتيات إلى أمهاتهن بعلاقاتهن مع أصدقائهن من الإناث والذكور، وباحت الأمهات بما يشتكين من سلوك أبنائهن واقتراحاتهن لتعديل ذلك، وغير هذا الكثير الكثير من الإيجابيات التي حصدها سكان البلدة نتيجة قيامهم بإقفال أجهزة التلفاز لمدة أسبوع واحد فقط، وكما علقت إحدى الأمهات: (شعرنا أن أسرتنا قد وُلِدت من جديد).
بطبيعة الحال، لا ينكرنَّ أحد حجم المعلومات التي قدمتها الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، والتي بدت كأي وسيلة أخرى، تٌستخدم بوجهيها السلبي والإيجابي، واليوم لن يفكر عاقل، مهما بلغ من الجرأة، أن يقترح إقفال هذه الشبكة كما أقفل سكان البلدة المذكورة أجهزة التلفاز، لكن الطمع في الربح المادي الصرف، والذي تجاهل – كما هو متوقع منه – أية أضرار جانبية، دفع الطامعين فيه إلى ابتكار مواقع على الإنترنت تغري مميزاتها وفوائدها – التي لاينكرها أحد - إلى اشتراك أكبر عدد من الناس فيها، وكلما ازداد عدد مشتركيها، ازداد تدفق الدعايات التي تنشرها الشركات عبر تلك المواقع، وبالتالي حصد المليارات من الدولارات. ولئن قربت تلك المواقع البعيدَ من الأصدقاء، غير أنها أبعدت القريب من العائلة، فالفردية التي أفرزتها هذه المواقع بابتعاد روادها عن الاختلاط المباشر بالآخر، أفرزت شخصية انعزالية لا تشعر بأنها تَمُتُّ إلى وسطها المحيط بصلة، والطريف هنا أنك قد تراسل صديقاً لك في قارة نائية، بينما لا تعرف اسم جارك، وندر أن تبادلتما التحية، كما يندر أن تجد أفراد أسرة واحدة يجلسون في صالة واحدة دون أن تجد في يد كل واحد منهم هاتفه الجوال الذي يحلق من خلاله عبر آلاف الأميال، بينما لا يتبادل ولو عبارة واحد مع أي من أفراد أسرته، أما أن يصل الإدمان على تلك المواقع إلى الحد الذي يطلب أحد الزوجين الطلاق من الآخر، فهذه قمة مأساة هذا الإدمان. وبمناسبة الحديث عن الإدمان، فقد افتُتِحتْ حتى الآن أربع عيادات على مستوى العالم للعلاج من الإدمان على النت – إحداها في الجزائر – على غرار تلك التي تعالج الإدمان على التدخين والمخدرات والمشروبات الكحولية، حيث يجري تحذيرطالبي العلاج من مخاطر الأمراض النفسية والجسدية والاجتماعية الناجمة عن هذا الإدمان، مع وضع برامج زمنية لفترات التفرغ للنت، يتم التدرج في تقصيرها إلى الحد المعقول الذي يسمح للمُعالَج الشعور بأنه قد أقلع عن إدمانه ذاك.
أما عن مستوى العلاقات العامة مع الآخرين، فالخلاف والاختلاف الذي يقع على صفحات تلك المواقع قد يصل أحياناً إلى حد تبادل الشتائم والألفاظ النابية، والتي طبعاً لم توجد تلك الصفحات من أجلها.
جميع ما ذكر لا يلغي المميزات الهامة للشبكة العنكبوتية، والتي ليس أولها أنك تعثر على قريب أو صديق بعد افتراقكما بعشرات السنين، أو صديق طفولة باعد الزمن بينكما، وليس آخرها أنك تحصل على أية معلومة خلال ثوانٍ، مروراً بمواصلة التعلم في جامعات تبعد عنك آلاف الأميال، أما قدرتها على تحريك الملايين من الناس للمطالبة بحقوقها المهضومة، وانتزاعها من قبضة مغتصبيها، فهي قدرة تقترب من حد الإعجاز، ويبقى بعد ذلك حسن استخدام هذه الوسائط، التي أحياناً ما تكون وسائط تواصل اجتماعي، وأحياناً أخرى تتحول إلى وسائط تنافر اجتماعي، وهما احتمالان قائمان مع الصديق البعيد، أما مع القريب القريب وداخل الأسرة الواحدة، فالمؤكد الثابت هو أنها ألغت التواصل بين أفرادها، واقتصرت على أن تصبح وسيلة لتحنيط تلك العلاقات الأسرية، وتكريس الانعزالية المقيتة بين أفرادها، لا شك عندي في ذلك.
وأخيراً، بما أنني لست خبيراً نفسياً ولا عالماً اجتماعياً، فعلى أولئك المختصين في هذين المجالين توصيف هذه الحالة بأحسن مما فعلت، ووضع حلول لها بأفضل مما أستطيع.