Tuesday, July 17, 2012

الديمقراطية: تلك الشجرة المحرمة


لا يرمي هذا المقال إلى نفي مميزات الديمقراطية كأسلوب سياسي واجتماعي وتنظيمي لإدارة حياة الناس، بل يهدف إلى بيان العَوَرِ الذي اعترى هذا النظام، والذي هو في الأساس جزء لا يتجزأ منه. ومن البديهي أنه عند الشروع في التلميح إلى رأي سلبي في أمر يعجب الناس ويسلب ألبابهم، لا يتوقع المرء سوى أن يكون مرمى لسهام النقد والتجريح. فاللبان الذي استساغ الناس في العالم الثالث مضغه منذ مدة ليست بالقصيرة، معتقدين أنه الدواء الشافي لما بهم من تخلف لازمهم سنين طوالاً، وأنه المخرج الحقيقي لهم من كل البلايا التي صبتها الأيام على رؤوسهم وظهورهم، فناؤوا بحملها حتى كادت العقول تسيح، والأقدام تقيح، ذلك اللبان هو (الديمقراطية)، تلك الأمنية التي أسرت النفوس وتلبست العقول، وذلك لما رأوا عليه الفارق بين كبد عيشهم من جهة، ورفاهية عيش من يحيون في كنف النظم الديمقراطية من جهة ثانية، وربما كان لهم العذر كل العذر في ذلك، فالمميزات التي يحظى بها الفرد في تلك النظم، وعلى رأسها احترام الكرامة البشرية، ثم توفر فرص العمل لمن يريد أن يعمل، والمميزات التي يتمتع بها من بلغ سن التقاعد من راتب وتأمين صحي ورعاية اجتماعية، وغياب الوساطة في الوصول إلى مواقع العمل والسلطة، كل ذلك كان لا بد أن يكون شيقاً وجذاباً لمئات الملايين من سكان العالم الثالث، أولئك الذين سحقتهم أنظمتهم حتى العظم، بينما هم – وبفضل وسائل الاتصال الحديثة – يرون ما يتمتع به مواطنو العالم الأول من خيرات وأفضال الديمقراطية، ومن أهمها، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، احترام الكرامة الإنسانية.

ولئن كان هناك من مدخل مناسب للخوض في هذا الموضوع الشائك، فهو الإشارة إلى رأي تشارلز ألكساندر روبنسن في كتابه القيم: “أثينا في عهد بركليس – ترجمة أنيس فريحة – مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، بيروت ونيويورك 1966، ص 24″، حيث يقول:{ ولا يعني قولنا هذا أن المجتمع، لكي يكون مجتمعاً خلاقاً مبدعاً، ينبغي له أن يكون مجتمعاً ديمقراطياً، ذلك أنه إلى يومنا هذا -1959-، لم تقم ديمقراطية حقيقية تامة في أية بقعة من بقاع الأرض}، بمعنى أن الإنسان منذ عرف تكوين الجماعة البشرية إلى اليوم، لم يستطع أن يوجد النظام المتكامل الذي حلم به أفلاطون في مدينته الفاضلة، ولا يمكن للنظم السياسية أن تتفاضل عن بعضها البعض في القيمة إلا باختيار السيء واستبعاد الأسوأ، ثم إن ما نعمت به شعوب العالم الأول من وفرة اقتصادية ونظم سياسية مستقرة – يحسدها عليها سكان العالم الثالث – ، لا يعود الفضل فيه إلى تبنيها النظام الديمقراطي فقط، وإنما يعود في الأساس إلى عهد الاستعمار، حين كانت بعض أمبراطورياتهم لا تغيب عنها الشمس، وبعد أن شنوا الحروب باستعمال أحدث أنواع الأسلحة، فأبيدت شعوب بأكملها (الهنود الحمر في أمريكا)، واستعبدت شعوب بأكملها ( الكونغو البلجيكي بأرضه وبشره وثرواته كان يعتبر ملكاً شخصياً لملك بلجيكا)، وتاجروا بالبشر ( جلب العبيد من أفريقيا إلى أمريكا)، واستولوا على المواد الأولية فصنَّعوها، ثم أعادوها من حيث أتت وقد تضاعف سعرها عشرات المرات (أقطان الهند مصر وبترول الشرق الأوسط)، مما أدى إلى إفقار المستعمرات واغتناء المستعمرين، وليس أوضح على تلك المهزلة من وصف أفخر أنواع الشاي بأنه (شاي إنكليزي)، والذي كان مصدره الحقيقي جزيرة سيلان (سريلانكا) والهند، بينما لا يمكن لنبتة الشاي أن تنمو في الجزيرة العجوز حتى ولو بمعجزة. ولكن بعد انتهاء عصر الاستعمار منذ نصف قرن، وبسبب انقطاع الثروات عن التدفق من الخارج، وتآكل الموارد المحلية – هذا إن كانت موجودة بالأصل – وفرض الإمبريالية الأمريكية اتفاقيات التجارة الحرة،،، بسبب هذا وغيره، بدأت اقتصاديات الدول الديمقراطية بالتدهور، وما فشلُ السوق الأوربية المشتركة في مشروعها لتوحيد اقتصاد أوربا، والمتمثل في انهيار اقتصاد بعض دولها حد الإفلاس، سوى دليل على ما ذكر آنفاً، وبذلك لم يعد المواطن الديمقراطي! يملك سوى احترام كرامته الإنسانية وحريته في إبداء رأيه، أما اقتصاده المتردي فقد صرفه عن التفكير سوى في ما يتقاضاه من راتب وما يقتطع منه كضريبة، يحار في كثير من الأحيان عن كمها الهائل، مع ما يقابله من فقر في الخدمات التي كان يتوقع أن يحصل على ما هو أفضل منها.

لا شك أن الموقفين الذهني والنفسي الإيجابيين من مصطلح (الديمقراطية) أمران مبرران لا غبار عليهما، وذلك لانطواء هذا المصطلح على قيم وأفكار تقترب كثيراً من تلبية احتياجات الناس، مما يجعله نقيضاً للأنظمة الرجعية من أوتوقراطية وديكتاتورية وشمولية (وجميعها في المحصلة ديكتاتورية)، والتي تمثل الماضي بما فيه من احتكار للسلطة، يتبعه بشكل آلي احتكارالثروة كذلك، وبالتالي فإن مصطلح الرجعية يمثل في نظر الناس نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً متكاملاً سلباً، تخبو فيه مكانة الفرد في الجماعة، ولا يسمع فيه سوى صوت النخبة من أصحاب السلطة والمال، وربما كان نقيض ذلك المصطلح البالي، هو مصطلح (التقدمية)، ذاك الذي تجعله الجماهير بديلاً عن الماضي، وأملاً منشوداً لكي يملأ حياة الناس عدلاً وسعادة،- بعد أن ملوا ما وجدوا أنفسهم عليه منذ مئات السنين -، وذلك نتيجة التطور العلمي والفكري، خاصة في المجتمعات التي ما زالت تحبو في محاولة منها للخروج من عباءة القديم، لكي ترتدي سروال الحديث، فالمنطق والحال هذه يقتضي أن تعني التقدمية سيادة الديمقراطية بما تتضمنه من قيم وأفكار تعلي من شأن الفرد، فتحترم حريته في اختيار ممثليه التشريعيين والتنفيذيين عبر انتخابات حرة، وكذلك حرية القول عن طريق الحق في إنشاء الأحزاب والجمعيات، ونشر الصحف والمجلات وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة، إلا أن الديمقراطية، وإن تعاملت مع اهتمامات الفرد السياسية والإنسانية بنجاعة ملموسة، غير أنها قصرت عن الاهتمام بالشأن الاقتصادي، بل قد يبدو التمسك بأذيال الديمقراطية في جانبه السلبي، تمسكاً بعدم عدالة التوزيع والعدل الاجتماعي، ذلك أن الحرية التي كفلها النظام الديمقراطي قد امتدت لتشمل حرية الأفراد المطلقة في إدارة شؤونهم التجارية بدون عوائق وحواجز تقيمها الدولة أمامهم، مما أوجد وضعاً متناقضاً داخل البيت الديمقراطي نفسه، فحرية الفرد مطلقة في جميع الأمور باستثناء سعيه للحصول على أكثر من رغيف الخبز، وذلك بسبب إصرار أصحاب رؤوس الأموال على احتكار المصالح الاقتصادية الكبرى، وتحريم تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، حتى ولو لإصلاحه، (نذكر كيف اتهمت الشركات الأمريكية الرئيس أوباما بأنه اشتراكي عندما دعا إلى إعادة تنظيم البنوك الأمريكية بعد أزمتها الشهيرة)، وبالتالي ضمنت الفئات التي تمتلك الثروة الوصولَ إلى مفاصل الحكم (ومن ذلك قرار المحكمة العليا الأمريكية بجواز مساهمة الشركات في دعم الحملات الانتخابية للمرشحين إلى عضوية الكونغرس الأمريكي)، ورغم أن معظم الديمقراطيات الغربية كانت قد تنبهت منذ نشأتها إلى سلبية هذه النقطة بالذات، فوضعت يدها على المرافق العامة من موانيء وسكك حديدية ومطارات ومناجم، باعتبارها ملكاً للأمة، إلا أن قبضتها بدأت بالتراخي عنها منذ النصف القرن الماضي، خاصة بعد توقيع معاهدات التجارة الحرة، فبدأت عمليات الخصخصة عن طريق بيع ممتلكات القطاع العام لكل من هو قادرعلى الشراء وراغب فيه، فانعكس ذلك سلباً على دخول الدول من مرافقها العامة، وكذلك على قطاعات الطبقة العاملة، فازدادت نسب البطالة، والتي ساهم في تزايدها وسائل المكننة الحديثة، وبالتالي ازدادت معدلات الفقر بصورة مقلقة، كما أن دول العالم الثالث – التي استطاعت بشق الأنفس أن تبني اقتصادها الوطني، ومنها مصر وبعض الدول العربية – كانت هي الأكثر تضرراً من تلك الاتفاقيات التجارية التي حضت على اتخاذ إجراءات فورية مثل: (الخصخصة – فتح الأسواق للبضائع الخارجية لكي تنافس الوطنية – فرض شروط البنك الدولي على القروض الممنوحة – تعويم العملات المحلية،،،إلخ…) والتي تبنت تطبيقها بجميع سلبياتها أنظمةٌ عالم – ثالثية ديكتاتورية متسلطة، مدعومة من النظام الغربي الديمقراطي!!!، تزوجت فيها السياسةُ رأسَ المالِ زواجاً باطلاً محرماً، وهذا ما يحتم الخوض قليلاً في مسألة نشأة الديمقراطية وتطورها.

فالمتعارف عليه أن الديمقراطية الأولى قد نشأت في “دول – المدن” اليونانية وفي مقدمتها أثينا، غير أن الكتاب اليونانيين القدماء أنفسهم قد أشاروا إلى بلاد كانت قد سبقتهم بقرن من الزمن إلى إقامة النظام الجمهوري الديمقراطي في بعض جهات الهند وأفغانستان وباكستان الحالية، لكن ربما كان لموقع اليونان وسط العالم القديم، وانتشار لغتها في حوض البحر المتوسط، وفي نفس الوقت صعوبة اللغات التي وضعت بها أدبيات الديمقراطيات الآسيوية، قد ساعدت على ترسيخ الفكرة القائلة بأن منشأ الديمقراطية كان في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وربما كان من الطرافة بمكان الإشارة إلى أن بحارة الأسطول الأثيني، الذي هزم الفرس في معركة سلاميس البحرية عام 480 ق.م. كانوا هم أول من طالب بأن يكون لهم صوت في تسيير شؤون أثينا، فكان لهم ما أرادوا، فتشكلت في أثينا سلطة مركزية، ومجلس أعلى لأصحاب المصالح التجارية والصناعية، ومؤتمر لعامة الشعب ( يلاحظ أن هذا التنظيم نفسه هو الذي تقوم عليه الديمقراطية الأمريكية المعاصرة، فهناك السلطة المركزية في واشنطن العاصمة، ومجلسي النواب والشيوخ، حيث أصحاب رأس المال والمصالح التجارية والصناعية، وعامة الشعب التي القلة القليلة منها حزبية، والكثرة الكثيرة منها لا تبالي سوى بما تكسب من أجر وما تدفع من ضريبة، وتتفرغ باقي وقتها لمتابعة المنافسات الرياضية، وشرب الكوكا كولا).غير أن ما يؤخذ على ديمقراطية أثينا، والديمقراطيات التي سارت على هديها حتى اليوم، جملة من النقاط نبه إليها أفلاطون وتلميذه سقراط، اللذان أسهبا في نقدها حتى أنهما اعتُبِرا من أعدائها،، فقد رأيا فيها نظاماً قاصراً عاجزاً عن الوصول بالناس إلى العدل، الذي هو غاية أي نظام حكم، فالنظام السياسي سواء كان ملكياً أم جمهورياً، أتوقراطياً أم أوليغارشياً (حكم الأقلية – وهو الذي أصبح عليه النظام الديمقراطي الحالي)، يبقى ميزان الحكم عليه متوقفاً على تحقيقه العدل للناس وبين الناس (وقد ورد تأكيد على ذلك في التراث الإسلامي عندما فضَّلَ الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” الحاكم الكافر العادل على الحاكم المسلم الجائر. فعلى الأول كفره وللناس عدله، وللثاني إسلامه وعلى الناس جوره). أما آراء أفلاطون وسقراط حول مثالب الديمقراطية، فقد تلخصت فيما يلي:

1- النظام الديمقراطي يفترض أن الناس سواسية في القدرات والإمكانات عن طريق اعتبار صوت لكل فرد، بغض النظر عن أهليته للحكم على الأشياء، فقيمة صوت العالِم هي نفس قيمة صوت الأمي الجاهل. غير أن البعض رد عليهم بأن وقف الديمقراطية على الأذكياء والخاصة، يحصر منافع الديمقراطية بهم، ولكن ربما كان الصعلوك، بما يتمتع به من حسن نية هي أفضل من فضائل أهل الطبقة العليا، ربما كان قادراً على اكتشاف ما هو خير له ولغيره من الفقراء والجهلة.

2- يصلح هذه النظام جزئياً في المجتمعات الصغيرة المغلقة وليس في الدول ذات المساحات الشاسعة والعدد الكبير من السكان (وهذا ينطبق على ” الدول – المدن ” عندنا كقطر والبحرين والكويت)، وبالتالي لا يمكن لكافة أفراد الشعب أن يبدوا رأيهم فيما يجب عمله لضمان مستقبلهم سوى بانتخاب من يمثلهم، وبهذا الانتخاب تظهر قلة من الناس لكي تتولى تسيير شؤون الدولة وفقاً لمنظورها الخاص، وليس حسب رغبات من انتخبها. ولكن يرد على ذلك أيضاً بأن تطبيق اللامركزية الإدارية يجعل من وحداتها نماذج من “الدولة – المدينة “، وبالتالي يمكن الوصول إلى تحقيق الديمقراطية مهما اتسعت رقعة البلاد.

3- ينتج عن تطبيق النظام الديمقراطي انتقال الحكم الديكتاتوري من يد فرد متسلط إلى يد جماعة متسلطة. لكن يرد على ذلك بأنه إذا سادت المراقبة الشعبية في البلاد، مع تحريم تسلط واستخدام الجماعة الحاكمة للقوات المسلحة في الوصول إلى/ أو البقاء في السلطة، كفيل باستقرار نظام الحكم، والحد من التسلط الفئوي عليه.

4- يعتبر أفلاطون أن الحمقى – مدفوعين بمصالحهم الشخصية وبمن انتخبوهم من العامة الجهلة – هم الذين يحكمون في النظام الديمقراطي، بينما الصحيح هو أن يحكم نواب عن الشعب، يساعدهم ذوي الخبرة والتخصص، ولربما يقترب هذا الرأي من فكرة أصحاب الحل والعقد في النظام الإسلامي.

وإن كان لي أن أبدي رأياً في هذا السياق، فأرى أن الحزبية (وهي المحرك الذي يشغل العملية الديمقراطية)، نقيض ما يرى بعض الآخرين، هي السم الزعاف الذي يفتك بالديمقراطية الشعبية ويشلها – مع أنه جزء أساسي فيها – ، بل ويجعلها عاجزة عن اتخاذ المواقف الكفيلة بتحقيق رغبات الناس (يتسق هذا مع قول القذافي: “من تحزب خان”، مع التحفظ على آرائه الأخرى)، فإذا اتفقنا على أن الحزب هو نتاج تفكير وتنظير شخص واحد (عفلق، هتلر، موسوليني، لينين)، عرفنا كيف أن الحزب يأسر أتباعه، ويقيدهم إلى مواقف ليست بالضرورة متسقة مع قناعاتهم، أو مفيدة للشعب والوطن، وكلما ازداد جهل الفرد المتحزب، كلما أحكم الحزب قبضته على تفكير وإرادة أعضائه، وهذا ما يفسر لنا قيادة بعض الأحزاب السياسية دولها وشعوبها نحو هاوية سحيقة باتخاذها قرارات خاطئة، لم يسهم في تبنيها جميع المنتسبين إلى هذه الأحزاب، مما أفقر البلاد وأذل العباد، وأوضح أمثلتها حزب البعث، والحزب النازي الألماني، والحزب الفاشي الإيطالي، والحزب الشيوعي السوفييتي، فمن البديهي أن جميع البعثيين والنازيين والفاشيين والشيوعيين لم يكونوا بالضرورة موافقين على نهج أحزابهم، لكنهم كانوا مرغمين على ذلك، مما يفسر تاريخياً تشقق الأحزاب وتشظيها، وتكوُّن الأجنحة في صفوفها ( بعث سوريا وبعث العراق، فتح وفتح الانتفاضة، الجبهات الشعبية الفلسطينية الثلاث، كاديما والليكود، الحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي الروسي، إلخ…)، بينما مما لا شك فيه أن المواطن المستقل الإيجابي، هو الشخص الوحيد القادر على اتخاذ قراراته بحرية واستقلالية، فهو يؤيد ويناصر كل ما يراه محققاً مصلحة النظام والشعب (حتى لنلاحظ تسمي بعض الأحزاب السياسية العربية باسم حزب الاستقلال حتى بعد خروج المستعمر)، ولكن بما أن الالتزام الحزبي يسبق التفكير المنطقي الواقعي، ولما كان النظام الديمقراطي يقوم على تنافس أحزاب متعددة تطمح إلى الوصول إلى السلطة، فربما كان هذا العنصر – عنصر الحزبية – من بين العناصر المتعددة التي تدفع إلى التشهير بالنظام الديمقراطي، وتطيح بسمعته التي طبقت الآفاق. لكن ما يرفع العبء عن كاهل مؤيدي ومعارضي النظام الديمقراطي على حد سواء، ويكفيهم مؤونة الدفاع أو الهجوم، هو قول “تشارلز أليكساندر روبنسن” الذي أوردناه في فاتحة هذا المقال أنه: { لم تقم حتى الآن ديمقراطية حقيقية تامة في أية بقعة من بقاع الأرض}، فالناظر إلى البيت الديمقراطي من الخارج يرى سقفه يطاول في ارتفاعه هامات السحاب، بينما يستطيع سكان هذا البيت في الداخل لمس سقفه بأيديهم، ربما حتى وهم جلوس، وهذا هو الفرق بين التوقع والواقع.

بناء على ما تقدم، فإن البشرية في سعيها نحو الكمال فيما يتعلق بنظام الحكم، لم ولا ولن تصل إلى النظام الأكمل، ذاك الذي يحقق العدل المطلق للناس وبين الناس، بل هي في أحسن حالاتها سوف تظل تلهث للوصول إلى النظام الأقرب، ولو قليلاً، إلى الكمال.


Friday, July 13, 2012

(العتب على النظر (+ 40

40+العتب على النظر

كعادته بعيد ظهيرة كل يوم، يستلقي في الصالة على أريكته المفضلة، يتصفح الجريدتين الوحيدتين في المدينة، ونظراً لتشابه المواضيع ...

Sunday, July 8, 2012

كليوباترا.. ليست ملكة فقط، بل هي باخرة أيضاً


(“كليوباترا” عنوان معركة سياسية واقتصادية مع أمريكا، يوم أن كان العرب عرباً)

لا يكاد اسم (كليوباترا) يذكر، حتى يتبادر إلى الذهن صورة تلك الملكة البطلمية، التي حكمت مصر ثمانية عشر عاماً مع نهاية القرن الأول قبل الميلاد، والتي اشتهرت بعلاقتها الغرامية مع مارك أنطونيو، أما عندما يُذكَرُ اسم (الباخرة كليوباترا)، فربما سيتذكرها البعض القليل من الناس، وربما يجهلها الكثيرون، فقد كانت حادثة تلك الباخرة واحدة من أهم الأحداث التي ميزت الصراع العنيف بين المد القومي العربي متمثلاً بقلب الأمة: مصر، والإمبريالية الغربية عموماً، والأمريكية بشكل خاص، خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، ولتفصيل الحديث عنها، لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء.

خلفية الأزمة:

مع قيام ثورة تموز – يوليو 1952 المصرية، بدأ الاحتكاك المباشر، خاصة بين الوطنية المصرية، والقومية العربية بشكل عام، مع المصالح الغربية في الوطن العربي بشكل عام، ومصر على وجه الخصوص، ومع أواخر صيف 1956، كانت سُحُبُ الحرب قد تجمعت في سماء مصر، فبعد نجاح عبد الناصر في كسر احتكار السلاح، فحصل عليه من الاتحاد السوفييتي عن طريق تشيكوسلوفاكيا، وعندما أمم قناة السويس بعد عدول البنك الدولي عن تمويل مشروع بناء السد العالي، فقد كان لكل دولة من دول العدوان الثلاثي مبرراتها لغزو مصر:

1- فبالنسبة لإسرائيل: كان الحصار البحري المفروض على ميناء إيلات عن طريق منع سفنها من الإبحار عبر مضائق تيران إلى البحر الأحمر، وحصول عبد الناصر على صفقة السلاح الروسي، وتشجيعه دخول الفدائيين الفلسطينيين من قطاع غزة لمهاجمة المستوطنات الإسرائيلية، كانت جميعها أسباباً كافية للعدوان على مصر، وقد اتخذت إسرائيل من ذريعة تحجيم وردع هجمات الفدائيين المنطلقة من قطاع غزة بدعم مصري، سبباً مباشراً للحرب. كل ذلك كان مبرراً “لديفيد بن غوريون” لكي يهاجم مصر.

2- بالنسبة لفرنسا: فقد حرمها تأميم قناة السويس من امتلاك حصتها المقدرة بـ 56% من أسهم القناة، وبعد هزيمة قواتها في معركة ديان بيان فو في فييتنام في الأسبوع الأول من مايو 1954، وقبل مضي ستة أشهر على تلك الهزيمة النكراء، قامت ثورة الجزائر في الأول من نوفمبر 1954، فحصلت على دعم مصري مطلق بالمال والسلاح، فكان رأي رئيس الوزراء”جي موليه” أنه لا بد من إيقاف مصر عند حدها.

3- بالنسبة لبريطانيا: فقد أذلتها مصر بتوقيع اتفاقية الجلاء عن قاعدتها العسكرية في خريف 1954، كما فقدت أسهمها في ملكية قناة السويس والمقدرة بـ 44% من عدد الأسهم الإجمالي، وأصبح طريقها إلى آسيا في يد الثورة المصرية، فتعززت لدى “أنطوني إيدن”، رئيس وزرائها، فكرة الحرب.

وهكذا، فقد عبرت القوات الإسرائيلية حدود سيناء يوم 29 أكتوبر 1956، فأنذرت بريطانيا وفرنسا كلا الجانبين الإسرائيلي والمصري بالانسحاب بضعة أميال عن قناة السويس، مما يعني الإيعاز إلى إسرائيل بالوصول إلى القناة، وحتى لا ينحصر الجيش المصري بين فكي كماشة، أُمِرَ بالانسحاب من سيناء، وقصة ما جرى من العدوان بعد ذلك معروفة، فكان من ضمن نتائج الحرب السماح لإسرائيل بالعبور من مضائق تيران إلى البحر الأحمر، وذلك بعد مرابطة القوات الدولية في سيناء.

بعد اغتصاب إسرائيل حق العبور من مضيق شرم الشيخ بالقوة، التفتت إلى المطالبة بحق المرور عبر قناة السويس، ولذا فقد شن “بن غوريون”، رئيس وزرائها، في أوائل عام 1960 حملة داخل الولايات المتحدة الأمريكية للمطالبة بمقاطعة السفن المصرية للضغط على القاهرة من أجل السماح للسفن والبضائع الإسرائيلية بعبور القناة، وكانت مصر قد صادرت عدداً من السفن التي كانت تحمل بضائع من وإلى إسرائيل، وبعد تدخل الأمين العام للأمم المتحدة، ونظراً لحاجة مصر في ذلك الوقت إلى قرض من البنك الدولي لتوسيع وتعميق القناة، فقد أفرجت عن السفن المصادرة، مع الاحتفاظ بالبضائع التي كانت عليها.

في بداية شهر نيسان – إبريل 1960 آتت حملة بن جوريون أكلها، ففي الثالث عشر من ذلك الشهر رست الباخرة المصرية”كليوباترا” – التي تبلغ حمولتها 8 آلاف طن، وبطاقم عدده 103 بقيادة الكابتن أحمد بهاء الدين مندور(الأهرام 1960/4/17) – رست في ميناء نيويورك وهي تحمل شحنة من القطن المصري طويل التيلة، وكانت قد أبحرت من ميناء بيروت مارة ببعض الموانيء الإيطالية، حيث حملت مجموعة بضائع بزنة 2311 طن للتنزيل في ميناء نيويورك. والباخرة كليوباترا مملوكة لشركة”البوستة الخديوية” أي البريد الخديوي، وكانت البوستة الخديوية قد أسست في الإسكندرية في أوائل العقد الخامس من القرن التاسع عشر على يد رجل إيطالي كشركة صغيرة لنقل البريد داخل مصر، ثم توسعت أعمالها لإيصال البريد إلى استامبول وبعض الدول الأوربية، لذا اشترت عدداً من البواخر بلغ عددها 26 سفينة، والتي كانت تجوب موانيء البحر الأحمر انطلاقاً من ميناء السويس (قبل افتتاح القناة عام 1869)، ومن ميناء الاسكندرية وميناء بورسعيد، لكي تجوب موانيء شرق البحر المتوسط، ناقلة البريد والبضائع والركاب.

كانت حملة بن غوريون السياسية ضد مصر ترتكز على أن لسفن إسرائيل الحق في عبور قناة السويس، وأن هذا المنع يضر كثيراً بمصلحة السفن الأمريكية، التي تدخل أسماؤها في اللائحة السوداء للمقاطعة العربية بمجرد تعاملها مع إسرائيل، لذا توقف عمال الشحن والتفريغ في ميناء نيويورك عن التعامل مع الباخرة كليوباترا لدى وصولها ميناء نيويورك يوم 1960/4/13 ، بل وصل الأمر إلى حد منع تموين الطعام والشراب والدواء لركابها وطاقمها، وكان من المرجح أن تشمل المقاطعة فيما بعد جميع السفن العربية، ذلك أن اتحاد البحارة الأمريكيين كان قد أصدر بياناً فُهِمَ منه أن الحظر سوف يشمل سفن جميع الدول التي تفرض المقاطعة الاقتصادية على إسرائيل، وتوضح مقالات صحيفة النيويورك تايمز لتلك الفترة مدى تخبط الإدارة الأمريكية في تلك الأزمة، ففي بدايتها حاول (مصطفى كامل)، السفير المصري في واشنطن، مناشدة وزارة الخارجية الطلب من الرئيس (آيزنهاور) التدخل لحل الأزمة، لكن الخارجية الأمريكية رفضت ذلك بدعوى أنه لا يحق للرئيس القيام بذلك إلا في الحالات التي تؤدي إلى تهديد الأمن القومي ( سنرى بعد ذلك كيف أنها سوف تتدخل لإنهاء الأزمة بعد تهديد اتحادات العمال العربية بمقاطعة السفن الأمريكية).

ولمتابعة تطورات أزمة الباخرة كليوباترا، من المفيد استعراض أخبارها من خلال بعض المصادر، وخاصة صحيفتي الأهرام القاهرية ونيويورك تايمز*:

بداية الأزمة:

- نيويورك تايمز: في 4/14 ترد قضية الباخرة كليوباترا لأول مرة في هذه الصحيفة، حيث تنقل خبراً عن مظاهرة عمال الشحن والتفريغ في ميناء نيويورك ضد وصول الباخرة المصرية (كليوباترا)، وذلك احتجاجاً على المقاطعة العربية لإسرائيل.

- أما صحيفة الأهرام الصادرة يوم 4/15 فيتصدر صفحتها الأولى المانشيت الذي يقول (إسرائيل تحرض عمال الشحن في أمريكا ضدنا)، وتذكر أن نقابتين من نقابات العمال الأمريكيين قد قدمت احتجاجاً لدى الحكومة الأمريكية على إدراج السفن الأمريكية التي تتعامل مع إسرائيل في القائمة السوداء لمكتب المقاطعة العربية لإسرائيل، كما طالبت الحكومة الأمريكية بالإيعاز إلى سفن الأسطول الأمريكي في الشرق الأوسط بعدم شراء أية تموينات من أي ميناء عربي، كما تشير الأهرام إلى مقالات في الصحف الإسرائيلية في عددها ليوم الأمس 4/14 تحرض فيها الموانيء الأوربية على فعل نفس الشيء الذي قام به عمال نيويورك.

في نفس هذا اليوم 4/15 تذكر صحيفة جيروزاليم بوست أن سكرتير عام الهستدروت (اتحاد العمال الإسرائيليين) قد أبرق إلى رئيس الاتحاد العالمي لعمال الشحن يشكره على موقفه من الباخرة كليوباترا، كما تشير نيويورك تايمز إلى دعوى قضائية تقدم بها أصحاب الباخرة لرفع المقاطعة عنها، وتضيف الأهرام في عدد 4/16 بأن أصحاب السفينة يطالبون بتعويض عطل وضرر مقداره 10 آلاف دولار.

تصاعد الأزمة:

- وفي يوم 4/17 تذكر الأهرام بأن حادث الباخرة في طريقه إلى أن يتحول إلى أزمة سياسية كبرى، وأن المحكمة الفدرالية في نيويورك قد أجلت النظر في الدعوى.

- وفي عدد 4/18 يتصدر الصفحة الأولى في الأهرام عنوان رئيسي (إنذار إلى البواخر الأمريكية)، وتشير إلى أن عمال ميناء اللاذقية قد بدأوا المقاطعة بالفعل، وأن عدد السفن الأمريكية التي تدخل موانيء الجمهورية العربية المتحدة (ج.ع.م.)يصل إلى حوالي الخمسين سفينة يومياً. وتشير نيويورك تايمز إلى توجه العمال العرب لمقاطعة السفن الأمريكية وذلك في عددها ليوم 4/19.

- ابتداء من يوم 4/20 تبدأ الأهرام في إيلاء موضوع الباخرة أولوية في التغطية الصحفية، فالصفحة الأولى تخلو من أي خبر باستثناء أخبار كليوباترا، فيقول المانشيت الرئيسي (محاولات في واشنطن لتفادي الأزمة العنيفة)، وتستنتج من تأجيل المحكمة النظر في دعوى أصحاب الباخرة، تنصل الإدارة الأمريكية من تصرف عمال ميناء نيويورك، موضحة أنه لا علاقة بين الإدارة وتصرف النقابات العمالية، كما تشير الأهرام بأنه قد تم تزويد السفينة باحتياجاتها التموينية من طعام وشراب وأدوية، كما طلب مكتب البريد الأمريكي من العمال السماح بتنزيل 185 كيس بريد، و302 طرد بريدي مرسلة من بيروت والاسكندرية.

- في4/21 تذكر الأهرام في عددها بأن عمال النقل الجوي العرب قد هددوا بمقاطعة الطائرات الأمريكية، أما نيويورك تايمز فتذكر أن اتحاد البحارة الأمريكيين قد أبلغ الرئيس عبد الناصر بأن موقف العمال كان بسبب تقييد مصر حرية السفن الأمريكية التي تتعامل مع إسرائيل بعبور قناة السويس، كما تنقل عن الإدارة الأمريكية قولها بأن مقاطعة الباخرة يسبب حرجاً للعلاقات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية.

- يوم4/22 تذكر الأهرام استعداد جميع اتحادات العمال العرب للتضامن مع مصر، وتشير إلى أن الأمر سوف يعرض على اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم4/30، كما تقول بأن السفير الأمريكي في القاهرة (فريدريك رينهارت) قد أرسل إلى إدارته محذراً من عواقب هذه الحادثة على العلاقات مع ج.ع.م. ، وتشير إلى رسالة السفير المصري (مصطفى كامل) حول الأثر الإيجابي لرسالة السفير الأمريكي، وتأثيره على مواقف الإدارة الأمريكية من مقاطعة كليوباترا. وفي نفس اليوم تنقل نيويورك تايمز تهديد اتحادات العمال العرب بالمقاطعة خلال أسبوع إن لم تحل القضية.

تفجر الأزمة:

- يوم 4/23 تصدر الأهرام بعنوان رئيسي يقول:( إنذار حاسم يوجهه العمال العرب: مهلة 7 أيام وبعدها المقاطعة الكاملة) التي حددت مع بداية يوم4/30. ومن سياق أخبار الأهرام لهذا اليوم يفهم بأن الحظر عن نزول البحارة إلى البر قد رفع، حيث تنقل خبر طعن البحار (عز الدين محمود) خلال عودته ليلاً إلى السفينة من قبل بحار أمريكي، فأصيب بجروح خطيرة في رأسه وعينه اليسرى ( وفي عددها ليوم 4/24 تقول بأن البحار المصري مهدد بفقد بصره)، كما تقول الأهرام بأن برقية من العمال الأمريكيين تنفي أن تصرفهم تجاه الباخرة المصرية نابع عن ضغط صهيوني، وتنقل عن الخارجية الأمريكية قولها بأنها، مع أخذها بعين الاعتبار عدم مشروعية مقاطعة إسرائيل، إلا أنها ترى أن موقف عمال نيويورك يحرج موقف الإدارة نظراً للخشية من إجراء عمالي عربي مضاد.

- أيضاً يأتي مانشيت الأهرام ليوم 4/24 الرئيسي: (أزمة كليوباترا تشتد بعد أن رفضت محكمة نيويورك إصدار حكم بتفريغ شحنتها)، حيث رفض القاضي (توماس ميرفي) إصدار أمر لعمال الميناء بمباشرة تفريغ الباخرة اعتماداً على ادعاء العمال بأن بعضهم كان قد فقد وظيفته نتيجة مقاطعة ج.ع.م. للسفن الأمريكية التي تتعامل مع إسرائيل، كما تذكر بأن عمال النرويج والسويد والدانمارك قد رفضوا الإذعان لطلب مقاطعة السفن العربية.

وربما كان من الطريف الإشارة إلى أن اتحاد العمال السويديين كان قد قرر مقاطعة سفن ج.ع.م. منذ يوم 4/7، أي قبل البدء بمقاطعة عمال نيويورك، وذلك رداً على مصادرة السفينة الدانمركية (أنجي توفت) في مايو 1959، والتي كانت تحمل إسمنت وبوتاسيوم إسرائيلي إلى شرق آسيا، لكن السلطات المصرية صادرت حمولتها وأوقفت السفينة، ولكن بعد إطلاق سراحها وعودتها إلى حيفا، فقد تراجعت السويد عن قرارها، وكذلك إفراج مصر عن السفينة اليونانية (استباليا) التي كانت تحمل الاسمنت الإسرائيلي إلى جيبوتي. هنا تجدر الإشارة إلى أن معظم هذه

المصادرات للبضائع الإسرائيلية تمت خاصة بعد خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في حلب فبراير 1959، شمال سوريا، والذي قال فيه بأن البضائع الإسرائيلية المصادرة سوف تستخدم في تحسين أحوال اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم.

- يوم4/25 يقول مانشيت الأهرام (المؤامرة تظهر على حقيقتها)، وتفسر ذلك بأنها مؤامرة إسرائيلية للضغط على ج.ع.م. لوقف المقاطعة العربية، مسرحها نيويورك، كما تشير إلى هجوم الصحافة الإسرائيلية على الأمين العام للأمم المتحدة (داغ همرشولد) الذي كان لتصريحاته دور في توقف اتحاد عمال السويد عن مقاطعة السفن العربية، كما تنشر الأهرام في عدد هذا اليوم لأول مرة صورة كابتن الباخرة كليوباترا (أحمد بهاء الدين مندور) وصورة العامل المصري الذي طعن وهو (عز الدين محمود).

- عدد الأهرام يوم 4/26 يتصدره عنوان ذو أهمية كبرى: ( عبد الناصر يتحدث عن أزمة كليوباترا)، ففي حديثه إلى تلفزيون كولومبيا في برنامج (واجه الأمة)، يتحدث عبد الناصر عن عدم حق إسرائيل في المرور عبر خليج العقبة – والذي حصلت عليه بعد العدوان الثلاثي عام 1956 – ولا عبر قناة السويس، مؤكداً على أن منع إسرائيل من استخدام هذين الممرين لا يرتبط بحرية الملاحة، ولكن بحقوق شعب فلسطين، وقد ربط السماح بمرور إسرائيل من قناة السويس بتطبيقها القرارات الدولية المتعلقة بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم، وتعويضهم – وليس “أو تعويضهم” – عما لحق بهم من خسائر جراء العدوان على بلادهم، وقال: { إننا نعتبر كل ممتلكات إسرائيل هي ممتلكات عرب فلسطين، الذين حرموا من أراضيهم وممتلكاتهم }. وعندما سأله المذيع عن صحة اتفاقه مع همرشولد على السماح بمرور بضائع إسرائيلية على سفن محايدة، نفى عبد الناصر ذلك تماماً.

وفي نفس هذا اليوم 4/26 تذكر نيويورك تايمز بأن المحكمة الفدرالية قد رفضت للمرة الثالثة الدعوى القضائية المقدمة من قبل أصحاب الباخرة لرفع المقاطعة عنها.

- عدد الأهرام ليوم 4/27 ينشر تعليقاً لرئيس تحريرها محمد حسنين هيكل يتهم فيه بن غوريون بتدبير هذا الأمر، وفشله في تحريض عمال موانيء السويد والنرويج والدانمرك، ويصف المعركة الحالية بأنها (حلقة أخرى من نفس السلسلة الطويلة في الصراع بين القومية العربية وبين أعدائها وفي مقدمة صفهم إسرائيل والصهيونية العالمية)، كما ينقل الأهرام خبراً عن برقية أرسلها اتحاد العمال العرب إلى الرئيس الأمريكي آيزنهاور يطالبه فيها استخدام الحكمة، والتدخل لإنهاء الأزمة.

أما نيويورك تايمز لعدد هذا اليوم، فتنقل عن مراسلها في القاهرة بأن اتحاد العمال العرب سوف يبدأ مقاطعة السفن الأمريكية مع الدقائق الأولى ليوم الجمعة 4/30، وأن هناك تهديداً بتوسيع المقاطعة لتشمل المطارات العربية.

- في 4/28 يأتي المانشيت الرئيسي للأهرام: (اللحظة الحاسمة تقترب)، يقصد اقتراب موعد بدء المقاطعة العربية، ويشير إلى إرسال الخارجية الأمريكية اثنين من مندوبيها لمقابلة زعماء العمال، وإبلاغهم بالضرر الذي سوف يلحق بالسفن الأمريكية لو استمروا في مقاطعة الباخرة المصرية، كما تتحدث الصحيفة بالتفصيل عن وقائع جلسة المحكمة في نيويورك حيث فشلت الدعوى للمرة الثالثة، إذ أجل القاضي النطق بالحكم.

- يوم 4/29 يتصدر الأهرام المانشيت:( الليلة تبدأ المقاطعة)، ويكتب هيكل مقاله بعنوان (الرجل الذي أفلتت منه الفرصة)، ويقصد به الرئيس آيزنهاور، الذي يقول عنه بأنه فشل في تفكيك الأزمة، ويتساءل هيكل: (لماذا لم يتدخل آيزنهاور من أجل وطنه لا من أجلنا؟)، ثم يختتم مقالته بالقول:( ولكن الفرصة في كفه راحت، وتسربت كحفنة من الرمال الناعمة).

وفي هذا العدد نجد أيضاً تهديداً بامتداد المقاطعة العربية إلى السفن الكندية، حيث أن عمال ميناء مونتريال امتنعوا عن التعامل مع باخرة مصرية أخرى هي (نجمة أسوان)، التي تبلغ حمولتها 5000 طن، وكانت تحمل كميات من القطن والأرز وزيت الزيتون والفلين، بقيادة الكابتن اليوغسلافي (شولتش)، وذلك بحجة عدم وجود مكان لها على رصيف الميناء، كما تنقل عن عمال كليوباترا أن الماء والغذاء قد منع عنهم، وأن أحد العمال قد فقئت عينه اليسرى.

وفي نفس اليوم 4/29 تقول نيويورك تايمز بأن وزارة الخارجية في واشنطن أعربت عن قلقها بشأن تداعيات موضوع الباخرة المصرية.

- عدد الأهرام ليوم 4/30 تصدره المانشيت:( 21 ميناء بدأت المقاطعة)، حيث توقف عند منتصف الليل العمل في إصلاح وتفريغ السفن الأمريكية، ورفعت في الموانيء لافتات كتب عليها ( لا ماء – لا طعام – لا وقود – لا شحن – لا تفريغ)، كما ذكرت الصحيفة أن عمال مونتريال قد توقفوا عن مقاطعة الباخرة (نجمة أسوان). كما تنشر الأهرام خبر تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي على وقف تزويد مصر بمساعدات القمح الأمريكي**.

- أما عدد يوم 5/1 من الأهرام، فقد تصدره المانشيت:( من المحيط إلى الخليج)، يقصد امتداد مقاطعة السفن الأمريكية في جميع الموانيء العربية، وعنوان آخر عن تحذير عبد الناصر للدول الأفريقية والآسيوية من مخاطر السياسة الإسرائيلية، كما ينتقد دفاع الرئيس الأمريكي عن حق إسرائيل في عبور سفنها وبضائعها قناة السويس، بينما ينسى الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني، أما نيويورك تايمز فتشير إلى المقاطعة العربية للسفن الأمريكية.

- يوم 5/2 يبشر مانشيت الأهرام بتهديد العمال السود في ميناء نيويورك بتفريغ الباخرة كليوباترا بالقوة إن لم يتدخل الرئيس.

- مانشيت يوم 5/3 في الأهرام:(تطورات خطيرة في أزمة كليوباترا)، وتقول بأن وزير الخارجية الأمريكي يحذر الكونغرس من ربط المساعدات إلى مصر بموضوع الحظر المفروض على مرور إسرائيل من قناة السويس، وتشير إلى أن عمال ميناء (بومباي) الهندي قد هددوا بالاشتراك في الإضراب ضد السفن الأمريكية، أما نيويورك تايمز فتتحدث عن مناشدة البيت الأبيض للعمال بالبحث عن حل للأزمة.

- مع مرور الأيام، تبدأ مضاعفات مقاطعة السفينة تصل إلى صراع بين الخارجية الأمريكية ومجلس الشيوخ، وبينها وبين نقابة العمال، فيظهر عدد الأهرام ليوم 5/4 بمانشيت عريض يقول:(انقسام في الكونغرس بسبب الجمهورية العربية)- هكذا، ربما لأن السطر لم يتسع لإضافة كلمة”المتحدة” – ومؤدى الخبر أن السيناتور فولبرايت فشل في منع الكونغرس من التصويت على قرار يرفع إلى الرئيس يقضي بمناشدته وقف المساعدات الاقتصادية لمصر بسبب أزمة القنال مع إسرائيل، أما نيويورك تايمز فتذكر بأن نقابة العمال رفضت طلب الإدارة رفع المقاطعة عن كليوباترا، والإدارة ترد بأنه من الخطورة بمكان أن يأخذ بعض الناس تسيير الشؤون الخارجية للبلاد بأيديهم، وتعيد الطلب من العمال برفع المقاطعة فوراً.

- يوم 5/5 يتزايد تشابك تأثيرات حادثة السفينة، فيأتي عنوان الأهرام:(أمريكا تعلن فجأة عقد صفقة أسلحة مع إسرائيل)، (أزمة الباخرة تزداد تعقيداً)، ثم عنوان فرعي يتحدث عن رسالة من الرئيس الأمريكي إلى العمال لفك الإضراب، لكنهم يرفضون الاستجابة، كما تقرر محكمة استئناف نيويورك تأييد الحكم السابق بعدم تنزيل الباخرة.

- أما يوم 5/6 فيظهر مانشيت الأهرام نبرة تحدٍّ عندما يقول: (لن تحكمنا نقابات البحر الأمريكية)، ويكتب هيكل مقاله الأسبوعي بعنوان:(ليست مهزلة،،،بل هي مأساة)، ويقصد بذلك المسؤولين الأمريكيين الذين التقاهم، والذين يطالبون جميعهم العرب بالتروي وإعطاء الفرصة لرئيسهم لحلحلة الموقف، ثم – كما يقول هيكل – نفاجأ بصفقة أسلحة إلى إسرائيل، كما تذكر الأهرام أن الأمين العام للأمم المتحدة “داغ همرشولد” يؤكد بأن مقاطعة السفينة المصرية لن يؤدي إلى فتح قناة السويس أمام الملاحة الإسرائيلية، ونيويورك تايمز تتحدث عن مشاورات بين وزير الخارجية جيمس ديلون مع رئيس اتحاد نقابات العمال ومجلس المنظمات الصناعية لإنهاء الأزمة.

انفراج الأزمة:

- أما مانشيت الأهرام ليوم 5/7 فكان كلمة واحدة (انتصرنا) – بدأ تفريغ كليوباترا عند منتصف الليل في ميناء نيويورك، وذلك بناء على برقية من “جون ميني” رئيس اتحاد نقابات العمال الأمريكيين إلى رئيس عمال البحر في نيويورك، واعداً العمال بالسهر على متابعة مصالحهم التجارية، كما تذكر الصحيفة أن الباخرة (نجمة أسوان) قد اتجهت إلى كويبك في كندا، وأن أمور شحنها وتفريغها تسير بصورة منتظمة.

وهكذا، بعد أزمة امتدت على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، أظهرت فيها الأمة العربية جمعاء وقوفها خلف الجمهورية العربية المتحدة بقيادة جمال عبد الناصر، وأرغمت فيها عمال أمريكا على وقف مقاطعة البواخر العربية، وذلك عندما وقفت جميع اتحادات العمال العرب خلف ج.ع.م. فأرغمت عمال ميناء نيويورك رغم أنفهم، والإدارة الأمريكية رغم أنف رئيسها آيزنهاور، على الرضوخ للإرادة العربية،، بعد هذه الأسابيع الثلاثة أسدل الستار على واحدة من أشرس المعارك بين الحركة القومية العربية الناهضة وأمريكا، بتحريض من الصهيونية العالمية وإسرائيل. تلك صفحة مجيدة من التاريخ العربي المعاصر لا ينبغي أن تُنسى.


 -------------------------------------------------------

*نظراً لندرة المؤلفات التي وضعت حول حادثة الباخرة كليوباترا، فقد اعتمدت في هذا البحث على أرشيف صحيفتي الأهرام المصرية، ونيويورك تايمز الأمريكية، الصادرتين في تلك الفترة، ذلك لأن الأولى صحيفة مصرية رسمية تعكس الرأي الحكومي، بينما الثانية تصدر في نفس المدينة موطن الحدث، فهي – ونظراً لوسائل الاتصال في ذلك الوقت – أقرب من غيرها لتغطيته. كما تم الاعتماد على مؤلفات محمد حسنين هيكل المتعلقة بنفس الفترة، وعلى عدد من المقالات المتناثرة على الشبكة العنكبوتية.
**- بدأت مساعدات القمح الأمريكي لمصر منذ عام 1953، وكما في غيرها من السياسات الدولية، تهدف هذه المساعدات إلى كسب ود الحكومات التي تتلقاها، كما يبني بواسطتها رأي عام يمكنه التصدي لحكومته عند تحديها السياسة الأمريكية، إضافة إلى أنها تبعد الزراعة المحلية عن الاهتمام بزراعة القمح، لكي يتحول فيما بعد إلى سلاح استراتيجي تستخدمه السياسة الأمريكية لإخضاع الدول التي تعارض مصالحها وسياساتها. ومثال إهمال زراعة القمح في مصر خلال العقود الأربعة الأخيرة أوضح مثال على خطر الاعتماد على مساعدات القمح الأمريكي.

Thursday, July 5, 2012

دجاجة جدتـي


     في قريتنا الجبلية الوادعة، حيث الأرض كريمة معطاءة، والإنسان كسول الهمة متخلف الوسائل،لم تكن الفاقة متفشية بيننا، كما لم يكن الغنى معروفاً عندنا، بل كنا نعيش حياة هي أقرب إلى الكفاية منها إلى الوفرة،  فتناول اللحوم كان يتم فقط في الأعياد الدينية – وما أندرها – ، أو في مناسبات الأفراح – وما أفقر أصحابها – ، وجدتي واحدة من سكان القرية الذين يعتمدون في غذائهم على تناول البروتين النباتي المتمثل في الحبوب المطبوخة والمسلوقة، كالفول والعدس، أما البروتين الحيواني، فكان يأتينا من حليب المواشي وبيض الدجاج .

   جدتي هذه مربوعة القامة تميل إلى القِصَر، عيناها زرقاوان صغيرتان، وأنفها مستدق يتوسط وجهاً   مازال يحمل بعضاً من نضارة أيام الشباب،، أصولها الشركسية تبدو جلية في لغتها العربية، تلك التي كان جدي يسميها (المكسَّرة)، حيث كانت تستبدل التذكير بالتأنيث وبالعكس، وكان هذا باعثاً لنا على الضحك – المفضوح أحياناً، والذي كان يُغضبها ، والمكتوم في معظم الأحيان، حتى لا يثير غضبها – ، خاصة في أحاديث سهرات ليالي الشتاء الطويلة.

    بين دجاجات جدتي كانت هناك(المحروسة): دجاجة لونها ناصع البياض،، ماهرة في التقاط غذائها بمنقار  وردي اللون،، ثخينة الفخذين،، تباعد ما بينهما حين المشي حتى لتحسبها ديكاً يتبختر،، ذيلها طويل مزدوج الانحناء، وجناحاها متينان كأنهما جناحا صقر شرس، يعلو رأسها عُرفٌ أنيق الشكل،، رشيقة القفز،، تسير بين بنات جيلها، فتبدو أعلى منهن قامة، وأكثر عنفواناً. (المحروسة) هذه كانت هي الأقرب من بين جميع الدجاجات إلى قلب جدتي، وكأنها لم تكن تملك سواها،، كانت تطعمها الحبوب من كفِّها، وتمسح برفق على عُرفها وذيلها، فكانت (المحروسة) تستكين لها وتهدأ بين يديها، على عكس باقي الدجاجات الجموحة. كانت جدتي تجمع البيض صباحاً من أقنان الدجاج، وتقسم على أن بيض (المحروسة) ألذّ في طعمه من طعم بيض الأخريات، معللة ذلك بالدلال الذي تتمتع به المحروسة على يديها، والحُبوب التي كانت تغدقها عليها دون سائر الطيور.

    في ذلك الصباح، لم يعلم أحد من العائلة السر الكامن وراء صراع نشب بين الديك الوحيد في الحظيرة وبين  (المحروسة)، فقد انهال الديك الشرس عليها ضرباً بجناحيه القويين، ونقراً بمنقاره المعقوف الجارح، وركلاً بساقيه الطويلتين، حتى أفقدها الوعي، وسال الدم من رأسها وشارفت على الهلاك، وهي تحاول الدفاع عن نفسها أو الفرار منه دون أن تتمكن من ذلك، والجميع ممن يراقبون المشهد يحاولون الفصل بينهما دون جدوى، إلى أن انهالت جدتي على الديك بعصى غليظة، ففر هارباً إلى داخل القن، تلاحقه توعُّدات جدتي له بالويل والثبور. حملت جدتي (المحروسةَ) بين يديها والدموع تكاد تنفر من عينيها، والدجاجة تنظر إليها باستعطاف وكأنها تشكو إلى أمها العجوز قسوة ذلك الديك المجرم. وسَّدت جدتي الدجاجة في سلة قديمة، ثم وضعتها على رف في المطبخ، وبدأت تتفقدها مرة بعد أخرى للاطمئنان عليها، والدجاجة تغفو وتصحو، ثم تغفو، ربما من شدة الألم .

    صباح اليوم التالي، كانت جدتي تجلس في ساحة الدار الترابية وقد تربع على جبينها همٌّ مقيم، إذ يبدو أن الإصابات التي لحقت بالدجاجة بعد عراك الأمس مازالت مؤثرة في نفس جدتي، فقد لاحظنا أنها لم تتناول طعام الفطور كعادتها في كل يوم، بل اكتفت باحتساء كوب من الشاي، ومن بعيد كنت جالساً أختلس النظر إلى وجهها، فأقرأ فيه علامات يأس بائس من شفاء (المحروسة). أطرقت جدتي رأسها وأطالت ، دمدمت وهمهمت بلغتها التي لا أفهم منها شيئاً، ثم فجأة، رفعت رأسها وسمعتها تنتهرني قائلة: ( تعالي ياولد، خذيها في الحال واذبحيها عند جزّار القرية). إذن صدق ظني في يأس جدتي من شفاء (المحروسة)، وهاهي ذي تريد إنهاء عذاباتها بذبحها على يد جزّار القرية، أما بالنسبة لي فقد كان هذا بشارة باقتراب تناول وجبة دسمة من لحم الدجاج، تلك التي لم نتذوق طعمها منذ أشهر. أصدرت جدتي أمرها ذاك، وانطلقَت إلى الحقل لقطف بعض الخضروات من أجل تجهيز وجبة الغداء .

    بفرح غامر قفزت إلى السلة التي ترقد فيها (المحروسة)، ولدهشتي وجدتُها وقد انتعشت قليلاً، غير أنني   خشيت أن أخبر جدتي بذلك فتعدل عن ذبحها، فأسرعت إلى كيس صغير من الخيش أدس فيه الدجاجة، وأنطلق بها إلى دكان الجزار، بسرعة طفل في العاشرة يحلم بوجبة شهية من لحم الدجاج .

    من خلف كفَّيِّ الصغيرتين اللتين غطيت بهما وجهي، كنت أرى الدم يتدفق من عنق الدجاجة المسكينة وقد جزَّتها نصل السكين الحادة، والدجاجة انفلتت من بين يدي الجزار تضرب الأرض بجناحيها مثيرة غباراً عالياً في ساحة القرية، والجزار يضحك عليَّ أنا المختبيء خلف أصابعي المرتعشة، ، وعدد من الأطفال يتابعون هذا المشهد بكثير من الفضول. سكنت حركة الدجاجة تماماً، وكان عليّ أن أعيدها إلى كيس الخيش، فنفضتُ التراب عنها وأنا أرتعش أكثر من ارتعاشها هي بين يدي الجزار، ثم انطلقتُ عائداَ بها إلى البيت، مسرعاَ وكأن جميع شياطين العالم تلاحقني، وثلة من الأطفال تتبعني مهتدية بخيط الدم الذي بدأ يرشح من أسفل الكيس، وسحابة من الغبار المتناثر من قدميَّ السريعتين تفصلني عن المطارِدين الذين عجزوا عن اللحاق بي، فعادوا أدراجهم ، إلى أن وصلت الدار لاهثاً تعِباً.

    وضعتُ الكيس أمام جدتي – فرحاً بإتمام المهمة -،- والدم مازال يقطر منه، ، تحسَّسَت جدتي الكيس بلطف، ثم فتحَتْهُ ونظرتْ داخله. وجمت جدتي،، راوَحَتْ نظرها بيني وبين الكيس،، نظرت إليَّ نظرة كسيرة ودمعتان تقفزان من عينيها، ثم تمتمت بلغتها الشركسية التي لا أعرف منها حرفاَ واحداً، وأطالت التمتمة، وعندما لم أجبها بشيء، صاحت بي بصوت عالٍ جمع أهل الدار كلهم: ” يا حمارة، ألا تفهمين، قلت لكِ أن تأخذي الديك لتذبحيها وليس الدجاجة “. عندها فقط أدركتُ أن اللغة العربية (المكسّرة) التي تتكلمها جدتي – وليس فقط طمعي في وجبة شهية من لحم الدجاج – هي التي كانت السبب في إزهاق روح (المحروسة) المسكينة.


Sunday, July 1, 2012

زمن العجبِ



في زمن العجبِ

أتسكّعُ فوق الأرصفةِ المسكونةِ بالوَهَنِ

أعرض عقلي وكتاباتي للبيعِ

بأبخس ثمنِ

أخجل أن أتذكّر عمّن ولمن كنت أسطّرُ

(أكوامَ الأدبِ ( العفِنِ 

أتأبَّطُ ممحاتي، أمسح من ذاكرتي كلماتِ الوهمِ

وعهرَ الزمنِ

(أخشى أن تضبطني في حالة ( وعيٍ وطنيٍّ  

(أزلامُ ( السِّلمِ 

وأفرادُ الأمنِ

(أتمرّغ في حلّ ( سلميٍّ 

أحلم بالطّلقة والكفنِ

=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+

انقلبتْ كلُّ الأشياءْ

فالواحد منّا يفعل ما شاءْ

ولهذا يا هذا ، ، ، افعل ما شئتَ

ولا تخش حُكمَ الأيامْ

اعملْ سمساراً بعمولةْ ، اسرق قوتَ الأطفالِ

وأرزاق الأيتامْ

شرّق ، غرّب ، عش في الأحلامِ

وقطّع في الأرحامْ

اعمل قوّاداً في ماخورٍ 

كُنْ زير نساءٍ مُتَصَعْلِكْ

هرّبْ ما شئت من الأموالٍ المسلوبةْ

كنْ ألعوبةْ

اسرقْ وانهبْ ، حشّشْ واكذبْ

اقتلْ وافتكْ ، افعلْ واتركْ

لكن … لا تُشهرْ قلماً مجنوناً

يفضحُ خوّاناً متهتّكْ

واقطع عهداً: ألاّ تكتبَ للوطنِ قصيدةَ شِعرْ

واركعْ يا هذا … اركعْ واحنِ الرأسَ

ومرّغْ أنفكَ … وارهِنْ نفسكَ

عند طواغيت العصرْ

+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=

كلُّ الأشياء انقلبتْ

قِيَمٌ ظهرتْ ، أخرى انقرضتْ

أضحى إرهابياً من يتحدّثُ عن زمن الثورةْ

صارت صُوَرُ الشهداء بقايا ذكرى

وُئِدَتْ أحلامُ الأسرى

وزهورُ الفرحةِ … لم تزهرْ

وتوارى قمرٌ… لم يقمرْ

فتحسّ بكابوسٍ وحشيّ يغزو عقلكْ

ينهش قلبكْ

وحشٌ أحمقْ

والطوقُ على عنقكَ

يصبحُ أضيقْ ، أضيقَ أضيقْ

فاسألْ نفسكْ

ماذا تملكْ ؟

وانظر حولكْ

ماذا تبصرُ إلاّ الظلمةْ ؟

فاقرأ فاتحة الرحمةْ

واحزمْ أمركْ ، واخترْ قدركْ

أو بيديكَ … تحفرُ قبركْ