Thursday, June 27, 2013

المعارضة المصرية: ما لها، وما عليها

المعارضة المصرية: ما لها، وما عليها
في أوضاع كالأوضاع التي تعيشها دول الربيع العربي، تكون الكتابة في الشأن السياسي أصعب من السير على حبل سيرك، إذ لن تجد في قرائك من يتمثل قول الشافعي (رأيي خطأ يحتمل الصواب، ورأيك صواب يحتمل الخطأ)، بل ستجد نفسك وقد أصابتك سهام النقد حتى لتتكسر النصال على النصال.
فالذي يحدث في مصر هذه الأيام - وكونها قلب العروبة، إن توقف ماتت بلا أسف عليها- يدفع كل ذي اهتمام بشأنها أن يدلي بآرائه، متجنباً الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، خاصة إن لم يكن حزبياً، فما بالك إن لم مصرياً، ومع أن المثل يقول (أهل مكة أدرى بشعابها) إلا أن وسائل الإعلام التي تدخل غرف نومنا بلا استئذان، سمحت لغير أهل مكة بمعرفة شعابها، ربما أكثر منهم. فبعد التضحيات الجسام التي بذلتها كافة فئات الشعب المصري للتخلص من (كنز إسرائيل الاستراتيجي) وعصابته التي باعت مصر كأسوأ ما يباع العبد في سوق النخاسة، كان لا بد من إجراء الانتخابات لاستطلاع رأي الشعب في من يحكمه، وكان من البديهي لحركة الإخوان المسلمين، الضليعة في التنظيم والحشد، أن تفوز بانتخابات الرئاسة وغيرها من الانتخابات التي جرت عقب نجاح الثورة، فقامت قيامة باقي القوى السياسية، محتجة على نتائج الانتخابات، دون أن تتهمها بالتزوير، ذلك أن القضاة كانوا قد أشرفوا عليها، فلم تقدم طعون ضدها، إلا أن النخبة السياسية المعارضة للإخوان قد تجاهلت دورها في تسهيل وصول الإخوان إلى السلطة، فقد دخلت تلك النخبة المعركة الانتخابية متشرذمة، دون أن تستطيع توحيد صفوفها، كما أنها قبلت بوجود شخصيات ضعيفة ومشبوهة بين قياداتها، فعمرو موسى هو أحد أركان نظام حسني مبارك، فقد كان وزير خارجيته، وأمين عام للجامعة العربية، بإنجاز في كليهما يتجاوز اللاشيء بشيء قليل، وربما كانت المناظرة التي جرت بينه وبين عبد المنعم أبو الفتوح واحدة من مهازل ما قبل الانتخابات الرئاسية، خاصة عندما رفض الإقرار بأن إسرائيل هي عدو مصر الأول، أما محمد البرادعي الذي يعرف مصر جيداً على الخارطة فقط، والذي كان إنجازه هزيلاً عندما كان رئيساً للجنة الدولية للطاقة الذرية، بحيث اعتبره الكثيرون – خاصة خلال أزمة الغرب مع العراق قبل غزوه – بأنه موظف تابع للإدارة الأمريكية، كما أنه اشتهر بمطالبته الغرب صراحة بالتدخل في الشأن المصري، أما حمدين صباحي، فلم يكن يزيد حجمه عن كونه صحفي عروبي ناصري، أسس حزب الكرامة عام 97، وحصل على ترخيصه بعد نجاح الثورة، مع الكثير من النوايا الطيبة. هذه الهيئة التي تسمى نفسها هيئة الإنقاذ الوطني، لم تستطع التوافق على أفضلها، وهو صباحي، لكي ينافس على منصب الرئاسة، فانفرط عقد أصوات أتباعها، مما مهد الطريق لكي يفوز محمد مرسي، والذي انتخبه المصريون نكاية بأحمد شفيق، رئيس وزراء أواخر عهد مبارك، الذي كان السماح له بخوض الانتخابات الرئاسية واحد من أغرب ما حصل في أعقاب الثورة.
هذه الأيام تتهيأ القوى غير الإخوانية لمليونية يوم 30 يونيو الجاري لإسقاط محمد مرسي،  غير مدركة أنها بذلك تؤسس لنسف الأساس الحقيقي لمؤشر الديمقراطية (صندوق الانتخاب) ذاك الذي تتجاهل قوى المعارضة قيمته في العملية الديمقراطية، فلو استطاعت قوى المعارضة إسقاط محمد مرسي وجاءت بغيره، ألن يكون ذلك سابقة تؤسس لأنصار مرسي الحق في اتباع نفس الأسلوب لإسقاط الرئيس الجديد؟، وعلى فرض أن الرئيس قبل، أو أن الجيش أجبره على قبول انتخابات مبكرة، ثم فاز مرسي بها، فماذا سيكون موقف المعارضة؟ هل ستقبل به رئيساً، أم أنها ستعيد الكرة وتنزل إلى الشوارع؟، غير أن موقف المعارضة هذا يشي بخوفها من الذهاب إلى الانتخابات البرلمانية، وعدم ثقتها بدعم الجماهير لها يوم يقول الصندوق كلمته، تلك الانتخابات التي إن فازت بها، ستكون قادرة على لجم رئيس الجمهورية، والحد من تصرفاته التي لا تعجبها. معروف عن التظاهر في النظام الديمقراطي أنه يكون بالحصول على ترخيص من السلطات، فيحمل المتظاهرون لافتات تعبر عن مطالبهم، ويسيرون في خط سير محدد لهم سلفاً، وعند انتهاء المظاهرة، ينفرط عقدهم، ويتوجه كل منهم إلى بيته، أما المرابطة في الساحات أياماً وليالٍ، وإحراق مقرات الأحزاب والشرطة، ومحاصرة القصر الجمهوري وقذفه بالمولوتوف، فهذا ما يستدعي إطلاق النار على فاعليه سواء في أوربا أو في الولايات المتحدة، وعندما تشكك المعارضة بشرعية الحكم، متذرعة بقلة عدد الناس الذين يذهبون إلى صناديق الانتخابات، فهي تتمحك بعذر غير منطقي، فالذهاب إلى ممارسة الحق الانتخابي هو حق أصيل، من تنازل عنه بمحض إرادته، فله الحق في ذلك، لكن ليس له الحق في رفض نتائج انتخابات لم يشارك فيها، حيث كان يمكن له أن يذهب إلى الصندوق لكي يقول لا، فيغير من نتيجة الانتخابات، بمعنى أن المعارضة لم تستطع تنظيم وحشد جماهيرها، ومن ثم إقناعها بالذهاب إلى صندوق الانتخابات لكي ترفض ما استفتيت عليه.
ثم إن الحديث عن الجيش والقضاء المصريين بهذه الطهارة، أمر لا يستقيم مع واقع الطبيعة البشرية، فالقاضي والجندي بشران، يمكن لهما أن يصيبا وأن يخطئا، لكن لمصر توأمها السيامي المقدس (الجيش والقضاء)، اللذان يحرم لمسهما من قريب أو بعيد، فهما فوق الشبهة والاتهام، مع أن بعض قيادات الجيش متهمة بالتعامل غير الحميد مع الأمريكان، كما أن الاتهامات بالرشوة تلاحق بعض القضاة، وليس هذا بالمستهجن، فمن يراجع سيرة القضاء الإيطالي المعاصر، يعرف أن رئيس الوزراء (بيرليسكوني) قد برأه قضاء بلاده من تهم ثابتة عليه ثبوت التهمة على إخوة يوسف، كما أن القضاء المصري قد برأ حسني مبارك ومعظم  قياداته، بينما يتجاهل ذلك سامح عاشور، نقيب المحامين السابق، ويطالب بمحاكمة محمد مرسي رئيس الجمهورية، مع استحالة هذا الأمر قانونياً.
صحيح أن الإخوان المسلمين قد نقضوا عهودهم التي قطعوها بالتعاون مع باقي الفئات السياسية، وهذا محسوب عليهم لا لهم، ويستحقون أن يلفظهم صندوق الانتخاب خارج السلطة غير مأسوف عليهم، لكن التصرف حيالهم اعتماداً على شارع يمكن شراء البلطجية فيه بدراهم معدودة، وخطر صدام يمكن أن يؤدي إلى كارثة وطنية، ربما يجد الجيش المصري نفسه بسببها في موقع لا يريده، وهواستلام السلطة، كل ذلك ليس هو الحل الديمقراطي الذي ينبغي على المعارضة المصرية أن تتبعه، هذا إن هي أرادت الوصول إلى سلطة فقدتها بجهلها وطمعها وتشرذمها.   
  27 يونيو 2013

ضفدع بأقل من حجم نصف الإظفر







Wednesday, June 26, 2013

الحزبية والأحلاف

الحزبية والأحلاف
ربما كان الغرض الحقيقي من هذا المقال بيان بعضٍ من عور الديمقراطية السائدة خاصة داخل الأحزاب والأحلاف، تلك الديمقراطية – بشكل عام - التي تلهث وراءها الأمم والشعوب – ولها الحق في ذلك –، وذلك من أجل بيان جوانب القصور في هذا النظام السياسي، والذي إن لم يكن أفضل الأنظمة، فهو أقلها سوءاً.
الحزبية: رغم أنها واحدة من أهم أذرع النظام الديمقراطي - إن لم تكن أهمها على الإطلاق - غير أنها، بالبديهة، لم تكن معروفة في الأيام الأولى لنشوء هذا النظام في القرن الخامس قبل الميلاد، فمحدودية عدد المشاركين في العملية الديمقراطية في دول المدن، كأثينا وإسبرطة، كانت تفترض أن يكون جميع هؤلاء الأفراد أعضاء فاعلين في حزب واحد، لنسمِّه مجازاً (حزب الشعب)، لكن بعد ازدياد أعداد أفراد الشعب، واتساع رقعة الدولة، وتضارب مصالح الفئات الاجتماعية، وتفاوت المطالب وتنازع المنافع بين الأقاليم، وبسبب وجود نخبة مثقفة قادرة على تمثيل مطالب الناس وقيادتهم، فقد كان لا بد من ظهور تيارات سياسية وفكرية، تجمع أولئك الذين يجتمعون على مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي واحد، غير أن الوقت كان مبكراً جداً لنشوء الأحزاب بالشكل الذي نراه الآن، وكان على المجتمعات أن تنتظر إلى ما بعد قيام الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، لكي تظهر الأحزاب بشكلها الحالي.
ومن نافلة القول أن الحزب يدين في تأسيسه إلى مفكر واحد، وأحياناً إلى أكثر من مفكر، يجتهدون في وضع مجموعة من المباديء والأهداف التي يشعرون أنها تجذب إليهم جماهير الشعب، لأنها تتفق مع مطالبهم ومصالحهم وتوجهاتهم الحياتية، وقد صيغت تلك المباديء والأهداف على شكل شعارات ميزت الحزب عن غيره من الأحزاب، فشعار البعث مثلاً دائرة باللون الأحمر تتوسطها خارطة الوطن العربي، وعلم البعث يرتكز على خارطة سوريا، مع عبارة كتبت تحت الخارطة (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) وقد ذيِّل الشعار بالمباديء:(وحدة، حرية، اشتراكية)، وشعار الحزب الشيوعي السوفييتي (يا عمال العالم اتحدوا). كما أن الحزب يتبنى في العادة علماً أو شارة تدل عليه، فالحزب الشيوعي السوفييتي اتخذ من المنجل والمطرقة (كناية عن الفلاحين والعمال) شارة تدل عليه، وأخذت الأحزاب الشيوعية في باقي الأقطار المنجل والمطرقة لكي تضعها على أعلامها الوطنية، كالحزب الشيوعي اللبناني والحزب الشيوعي التونسي، أما الحزب الشيوعي السوري فقد وضع المنجل والمطرقة داخل النجوم الثلاثة التي تتوسط العلم السوري، بينما اتخذ الحزب النازي شعاره على شكل عقاب فارد جناحيه، ممسكاً بمخالبه دائرة يتوسطها الصليب المعكوف. أما الفاشية فكان شعارها حزمة من العصي والمطرقة، هي شعار الدولة في روما القديمة.
وباختلاف الجغرافيا، وتنوع مصالح طبقات المجتمعات، فقد نشأت أحزاب ذات طابع عالمي عقائدي، كالحزب الشيوعي، وأحزاب إقليمية قومية، كحزب البعث، وأحزاب محلية وطنية، كحزب الكتائب، وكثيراً ما ضربت الشروخ صلب هذه الأحزاب فانشقت واختلفت، كالخلاف بين الحزبين الشيوعيين الروسي والصيني، والخلاف بين بعثي العراق وسوريا، كما يمكن أن تظهر تيارات مختلفة داخل الحزب نفسه، بحيث يطلق على بعضها صفة حمائم الحزب، وعلى البعض الآخر صقوره (كما في حزب الليكود مثلاً)، أما العلاقات داخل الحزب، أي بين أفراده والقيادة، فهي تختلف باختلاف الدول، فحيث تدنى المستوى الثقافي للجماهير، اشتدت سطوة القيادة وتمكنت من تنفيذ ما تقرره وحدها بطريقة جبرية، بينما ترتخي قبضة القيادة وتزداد فاعلية الكوادر الحزبية بارتفاع المستوى الثقافي لأعضاء الحزب (كما في الأحزاب الشيوعية)، لذا يمكن الجزم بأن الديمقراطية داخل الحزب هي موضع شك في حالات كثيرة، خاصة داخل أحزاب العالم الثالث، حيث تنتشر الأمية ويتدنى مستوى التعليم والثقافة. ولأن سياسة الدولة تتضمن السهر على تلبية احتياجات مواطنيها، فقد كان لا بد للحزب من الانخراط في العمل السياسي، ولكي يقود الأمة الحزب أو الأحزاب ذات الغالبية، كان لا بد من إجراء الانتخابات، وهكذا كان، فتكونت البرلمانات، وتشكلت الحكومات من حزب أو أحزاب الأغلبية، وقبعت الأقلية في صفوف المعارضة. لكن ما ميز الأحزاب الذكية عن غيرها الأقل ذكاء، هو أنها كانت لا تجنح إلى تولي السلطة - رغم شعبيتها الكاسحة - عندما كانت تتنبؤ بأن الظروف المحيطة بها ليست في صالحها للنجاح في مهمة تولي الحكم، بينما سقطت الأحزاب التي كانت تلهث وراءه من أجل الحكم نفسه فقط.
 الأحلاف: بداية ينبغي التمييز بين كلمتي (التحالف) و(الحلف):
1- التحالف : هو تعاون مؤقت بين مجموعة من الدول في ظرف معين، يفترض بشكل أساسي أن يكون احتمال قيام حرب، حيث تعمل الدولة على ثلاثة محاور: زيادة قوتها {عن طريق التسلح}، واكتساب داعمين لها {عن طريق إيجاد قواسم مشتركة تجمعها بدول تدعمها أثناء الحرب أو تخوضها معها}، وحرمان أعدائها من اكتساب الأصدقاء. وأفضل الأمثلة على التحالف هو تحالف الدولة العثمانية مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وتحالف دول المحور (ألمانيا – إيطاليا – اليابان) في الحرب العالمية الثانية، وتحالف الاتحاد السوفييتي مع الغرب في الحرب ضد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية أيضاً، وتحالف بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 56 في العدوان الثلاثي على مصر. والملاحظ على الأحلاف أنها مؤقتة، تنتهي بتحقيق الهدف من إنشائها، أو الفشل فيه (الانتصار أو الهزيمة)، كما أنها لا تتطلب تماثلاً في الأنظمة السياسية والاقتصادية ولا حتى الاجتماعية لدول التحالف، فاليابان ذات نظام إمبراطوري وألمانيا نازية وإيطاليا فاشية، كما أن دول الغرب رأسمالية والاتحاد السوفييتي شيوعي، كما يلاحظ داخل التحالف، ونظراً لتقارب موازين القوة بين دوله، أنه ليست لواحدة منها اليد العليا في اتخاذ القرار، خلافاً لما سنرى عليه الحال في الأحلاف، بل يبقى تنسيق عمل أعضاء دول التحالف هو السمة الأبرز للعلاقة فيما بينها.     
2- الحلف : واضح أن الحلف هو تجمع أكثر من دولة في سبيل تحقيق أهداف مشتركة، يتميز بالاستمرارية ربما لعقود طويلة من السنين (حلف الناتو منذ عام 1949)، ويضم دولاً ذات نظام اقتصادي واحد، حتى لو اختلف شكل نظام الحكم (ملكي، جمهوري، رئاسي)، وفي العادة يكون للحلف مجالس سياسية وأخرى عسكرية تنبثق عنها لجان مختلفة، تسهر على رعاية مصالح الحلف وتحقيق أهدافه، كما أن له قوة عسكرية ضاربة دائمة، وربما كان أهم هذه الأحلاف:
1- حلف منظمة الدول الأمريكية، المنبثق عن معاهدة (ريو 1948) ، الذي يضم معظم دول أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية، والذي جسد السيطرة الأمريكية على دول القارة الأمريكية الجنوبية، حديقتها الخلفية.
2- حلف شمال الأطلسي (الناتو-NATO 1949)، الذي يضم الولايات المتحدة ومعظم دول غرب أوربا، وقد نشأ في الأصل بهدف التصدي للنفوذ السوفييتي في أوربا.
 3- حلف بغداد، أو حلف المعاهدة المركزية(Central Treaty Organization): وقد بدأ بتحالف تركيا والعراق في فبراير 1955، ثم انضمت إليه بريطانيا وإيران وباكستان، أما الولايات المتحدة فلم تصبح عضواً كامل العضوية فيه إلا بعد ثورة تموز 1958 في بغداد وانسحاب العراق منه، والهدف منه محاصرة الاتحاد السوفييتي من جنوبه.
4- حلف جنوب شرق آسيا (ٍSEATO) 1954،  بهدف التصدي للنفوذ الشيوعي القادم إلى  المنطقة من الصين، وقد ضم خليطاً ذا مواقع جغرافية متنافرة، فقد تكوَّن من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والباكستان وأستراليا ونيوزيلندا والفلبين وتايلند، وقد انسحبت منه الباكستان بسبب عدم مساعدة الحلف لها في حربها مع الهند عام 1971، والتي أدت إلى انفصال باكستان الشرقية (بنغلاديش) عنها.(سوف نعود إلى هذا الحدث عند الحديث عن تركيا مع حلف الناتو).
5- حلف وارصو: وكان الحلف الشيوعي الوحيد الذي تشكل عام 1955 كرد مباشر، ولو متأخر نسبياً، رداً على انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي، وقد تشكل من الاتحاد السوفييتي وسبع دول شيوعية شرق أوربية هي (بولندا – المجر – تشيكوسلوفاكيا – بلغاريا – رومانيا – ألبانيا – ألمانيا الشرقية)، وكان هدفه الرئيسي التصدي لحلف شمال الأطلسي، وقد انسحبت منه ألبانيا عام 1968 بسبب تبنيها الخط الشيوعي الصيني. ومن البديهي أنه كانت للاتحاد السوفييتي الكلمة الأولى واليد الطولى داخل الحلف، والذي انتهى بتفكك الاتحاد السوفييتي أوائل تسعينيات القرن الماضي.  
يلاحظ بأن القاسم المشترك الأعظم في جميع هذه الأحلاف الغربية هي الولايات المتحدة الأمريكية (كما كان الاتحاد السوفييتي داخل حلف وارصو)، وأن الهدف منها، باستثناء منظمة الدول الأمريكية، كان محاصرة الشيوعية القادمة من الاتحاد السوفييتي باتجاه أوربا والشرق الأوسط، ومن الصين إلى دول جنوب شرق آسيا، وبالتالي كان لا بد – بسبب عنصر القوة الفائقة – من أن يكون للولايات المتحدة الأمريكية النفوذ الأوسع داخل هذه الأحلاف، والصوت الأعلى في اتخاذ القرارات داخلها.
ولو عدنا إلى انسحاب باكستان من حلف جنوب شرق آسيا بسبب خذلانه لها في حربها مع الهند، لوجدنا أن تركيا اليوم هي في نفس الموقف، فالأحداث التي وقعت لها مع جارتها سوريا بإسقاط السوريين الطائرة التركية، وسقوط صواريخ وقذائف سورية على المدن التركية، ووقوع تفجيرات إرهابية في مدن تركية حدودية، يضاف إلى ذلك منع تركيا من إدخال السلاح المتطور إلى المعارضة السورية، كل ذلك يشي بأن الحلف الأطلسي – بسبب عوامل إقليمية معقدة – لا يقف مع تركيا كما تريد هي، بل يضغط عليها لكي تمارس ضبط النفس، إن لم يكن النأي بالنفس عن الشأن السوري، لذا أرجح أن تركيا سوف تفكر في المستقبل بالانسحاب – أو على الأقل – بالتهديد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي بسبب موقفه المتردد مع تركيا تجاه القضية السورية، كما أنه يشير – مع غيره من الأدلة - إلى سيطرة الولايات المتحدة على القرار السياسي والعسكري داخل الحلف.
مما سبق، يتبين لنا أن النظام الحزبي ونظام الأحلاف، كلاهما يستطيع قمع آراء أفراده وأعضائه، ولا يتبقى في النهاية من شعار الديمقراطية – في كليهما - سوى بعض الاسم، وقليل من الديمقراطية، حرصاً على سمعتها، ولدفع العين الحاسدة فقط.
24 جون 2013

    

Tuesday, June 25, 2013

أميرٌ نادرٌ

في أوائل شهر مايو الماضي، تنازلت الملكة بياتريكس، ملكة هولندا، عن عرش بلادها لابنها الأمير فيليم اليكساندر، فأقام العرب الأفراح والليالي الملاح، ثم بدأوا بجلد أنفسهم لأن حكامهم لا يقومون عن الكرسي إلا إلى القبر. 
اليوم، وبعد تنازل الأمير حمد، أمير قطر، لابنه وولي عهده تميم، عن الحكم، لنستعد لسماع كمية من الشتائم والإشاعات والتنبؤات حول هذا الحدث: منهم من سيقول مثلاً بأنه انقلاب أبيض، حيث تؤيد القوات المسلحة القطرية!!! ولي العهد، فاضطر والده للتنازل عن الحكم حقناً للدماء، ومنهم من سيقول بأن الأمير حمد كان قد خلع والده الأمي عن الحكم، فخشي أن يقوم ابنه بما قام به هو، فآثر احترام الذات وتنازل لابنه طوعاً، آخرون سيقولون بأن النظام السوري قد دبر خطة لعزل الأمير حمد بسبب تأييده الثورة السورية، ورب قائل بأن الولايات المتحدة هي التي أجبرته على التنازل لأن سمعته في تأييد ثورات الربيع العربي ربما تدفع شعوباً ما زالت نائمة لكي تتحرك. آخر سيقول بأن زوجته (موزة ) قد هددته بالخلع إن لم يتنازل لابنها عن الحكم، وبما أن موزة أقرب إلى قلبه من حكم قطر، فقد فعل ما أمرته به. وغيرها الكثير. لكن الأمير السابق! حمد يستحق أكثر من ذلك!، فعندما عمر الضاحية الجنوبية، أطلق عليه حزب إيران اللبناني لقب (أمير المقاومة)، لكنه عندما أيد الثورة السورية، أصبح متآمراً على الأمة، وعندما عمر غزة، غضبت عليه الضفة، وعندما بنى استاداً رياضياً بقيمة 10 ملايين دولار لشباب مدينة سخنين الفلسطينية، قالوا بأنه يعمر إسرائيل، أما في مصر فقد اتهموه بأنه يريد شراء الأهرامات وقناة السويس، وفي ليبيا كانت التهمة أشنع: قالوا بأنه يدبر لكي ترفع ليبيا إنتاجها النفطي إلى 5 ملايين برميل يومياً لكي تنعش بذلك اقتصاد مصر وتونس!، يا ألله، جريمة نكراء. 
أمير قطر السابق ليس أول حاكم ظلمته الألسن العربية النتنة، فقبله شتموا عبد الناصر وصدام حسين.
ملايين القصص سوف تحاك حول هذا الحدث النادر في التاريخ العربي المعاصر، هذا التاريخ الذي يقول فيه الحاكم العربي (أنا، أو أحرق البلد) و ( أنا، وإلى الأبد) ومع ذلك يجد من يصفق له، فليستعد أصحاب الخيال الواسع لكتابة قصص شيقة حول أسباب تنحي أمير قطر طواعية عن الحكم. 

Monday, June 24, 2013

الدفاتر القديمة

الدفاتر القديمة
في سنوات حياتنا المبكرة، تفتح وعينا على أهلنا وهم يستشهدون بالمثل القائل:(عندما يفلس التاجر، يبدأ التفتيش في دفاتره القديمة)، والمقصود بالدفاتر القديمة هنا، دفاتر الديون التي يسجل فيها التاجر المستحقات التي له على زبائنه، فقبل عصر البطاقات البلاستيكية، كانت الاستدانة من البائع، أياً كانت بضاعته، عادة معروفة، بل ومتبعة من قبل الجميع، بمن فيهم أسرتي، ومع نهاية كل شهر، وعندما كان والدي يستلم راتبه، كان  يعطيني بعض المال، طالباً مني أن أذهب إلى أحد التجار لكي أسدد له جزءاً من الدين. واليوم أنا ذاهب إلى بائع القماش.
دكانه ضيقة، تنتشر على أرففها لفافات من أقمشة ملونة،،، يجلس صاحبها على دكة خشبية مرتفعة، يصعد عليها صباحاً، ولا ينزل عنها إلا عند ذهابه لتأدية الصلاة في المسجد القريب،،، أمامه (ذراع) من المعدن يقيس بها القماش، ومقص معدني، كاد حدّاه - لقِدمِه – أن يتثلما، وعلى مقربة منه سخان صغير يعمل بالكهرباء يستخدمه لصنع الشاي، وبضع كاسات استلقت على الدكة، لا يبدو من منظرها أنها قد غسلت منذ أشهر، ولضيق مساحة المكان، لم يكن صاحبه بحاجة إلى أن يتحرك على الدكة سوى بضعة سنتيمترات لكي يصل إلى أبعد لفة قماش،،، خلفه على رف متهالك، كدس مجموعة دفاتر قديمة علا الغبار بعضها، كنت أحسبها مصاحف. وفور وصولي إلى الدكان، كنت أدس نفسي بين جمع من السيدات اللائي وقفن بانتظار أن يشترين ما يلزمهن من قماش، وعندما كان يلمحني، كانت عيناه تلمعان ببريق لم يكن يخفى علي، فهو لا يراني سوى مع بداية كل شهر، أحمل إليه قسطاً من الدَّيْن المتراكم على أبي نتيجة مشتروات والدتي من الأقمشة، لذا كان يرجيء التعامل مع زبوناته، ويأمرهن أن يفسحن لي الطريق، وكان يضطر هو أن ينحني بجسده، وأتطاول أنا على رؤوس أصابعي، كي يستطيع أن يتناول مني ما أحضرت له من نقود،،، يستدير إلى الخلف، يتناول أحد الدفاتر القديمة،،، ينفض عنه الغبار المتراكم، ومن خلف زجاجتي نظارته، كانت عيناه تفتشان عن اسم والدي، وعندما كان يجد صفحته بعد لأْيٍ، كان يحسم المبلغ الذي أحضرته له - بعد أن يعده مرات عدة - من إجمالي الدين، ثم يكتب لي باقي المستحق على قصاصة من ورق، مؤكداً عليّ أن أخبر والدي بأن "الحساب قد بلغ الزبى"، وأن عليه أن يسارع إلى "سداد الباقي قبل أن يغرق في الدين". ولصغر سني حينذاك، كنت أصغي إلى التاجر وأنا أرتعش، ومع أنه كان قد بلغ من الكبر عِتيا، فما زال صوته جهورياً، وهو يعلم- كونه الدائن – أن له ملء الحق في تأنيب مدينه، أو من ينوب عنه، أي أنا. لم تكن مشكلتي أن أرى التاجر منفعلاً، غضبان أسفاً على تراكم ديونه في أيدي زبائنه، أتلقى بجلد ألفاظه الفظة وعصبيته المقيتة، فقد اعتدتُ عليها، لكن مشكلتي كانت أولاً: أنني لم أكن أفهم حينها لماذا تشتري أمي، ويستدين أبي، بينما أنا الذي يصفعه التأنيب، ويجلده لسان التاجر،وثانياً: أن أفهم عبارة (أن يغرق في الدين)، فالغرق في عرفي آنذاك، يمكن أن يحدث في الماء فقط، لكن أن يحدث في الدين، فالأمر لا يمكن فهمه بسهولة لطفل في مثل سني، أما (الزبى) فقد تجاهلتها لأن فهم معناها كان خارجاً عن التفكير فيه. لعدة مرات كنت أود إجابة التاجر بأن أبي يعرف السباحة، لذا لا يمكن أن يغرق في الدين، لكنني كنت أخشى أن أفتح فمي أمامه، ولأن تدفق الكلام من بين شدقيه، مع الزبد الذي يتطاير منه، لم يكونا ليسمحا لي بالتلفظ بأية كلمة، بل جُلَّ ما كنت أحلم به بعد كل حفلة تأنيب وتهزيء، هو أن يفتش ذلك التاجر عن دفاتره القديمة في يوم من الأيام، فلا يجدها، فتقلع والدتي عن الشراء، ويستريح أبي من الدفع، فأعفى أنا من تلك المهمة البائسة، بل وصل الأمر بي أنني حولت هذه الأحلام إلى دعوات صرت أرددها في أعقاب كل الصلوات التي كان والدي يرغمنا على تأديتها في مسجد الحي.
 كنت أعود إلى المنزل محبط الهمة، بادي الاكتئاب، مما كان يجعل والدتي تشك بأنني قد تشاجرت مع أحد أبناء الحي، فتعنفني، فيزيدني ذلك اكتئاباً. حاولت مراراً - ولكي أنجو من سلاطة لسان التاجر - إقناع والدي أن يرسل أخي الأكبر في تلك المهمة، فهو أرشق مني وأسرع، ولمتانة في عوده، كان لا يُخشى على المال أن يسرقه منه أحد، لكن في كل مرة، كان أخي – بخبث ومكر - يتظاهر بأنه منهمك في الدراسة، فيتذرع أبي بذلك، لكي تعود الدائرة لتدور علي من جديد.
ذات أول شهر، وعندما لاحظت أن أخي الأكبر بعيد عن كتبه، اغتنمت الفرصة فرجوت أبي أن يرسله عوضاً عني، ففعل، وخرج أخي بعد أن رمقني بنظرة فيها غيظ وانفعال، لكن ليس في يده حيلة، فقد ضبطه والده متلبساً بعدم فتح الكتاب، فذهب. طالت غيبة الصبي، فوضعت والدتي يدها على خدها بانتظاره، أما أبي فقد طيب خاطرها بقوله أن ابنه رجل لا يخشى عليه من العطب، واستمر يرشف فنجان قهوته ويدخن لفافته. بعد الفنجان الرابع واللفافة الثالثة، وبعد مرور ساعة دون أن يظهر، استبد القلق بوالدي أيضاً، فبدأت هي بتهدئته بقولها أن ابنها رجل لا تخشى عليه من العطب، أما بعد مرور ساعتين وستة فناجين قهوة وخمس لفافات، فقد كان لا بد لوالدي أن يذهب لتفقد ابنه، وما كاد يتهيأ للخروج، حتى ظهر الصبي على باب الدار وقد علت وجهه ابتسامة فاترة. "ماذا حدث"؟ صرخت العائلة جميعها في وقت واحد.
وصل أخي يحمل النقود إلى باب التاجر، فوجده مقفلاً،،، سأل بعض أبناء الحي، فأخبروه القصة التي جعلتني للمرة الأولى في حياتي اقتنع بأن الله يستجيب لدعاء الداعي إذا دعاه. قالوا: فتح صاحب الدكان دكانه في الصباح الباكر، فوجد أن الفئران قد التهمت دفاتر الدين القديمة عن آخرها، ولما أدرك المسكين أنه قد فقد جميع مستندات دينه الذي يمثل معظم رأس ماله، ولما أيقن أنه عاجز عن تسديد قيمة البضائع لتجار الجملة، ولما كان يستشعر خطر مصادرة منزله الذي يؤويه وعائلته سداداً لديونه، فقد جن المسكين، فخلع ملابسه جميعها، وبدأ يرقص في الشارع ويصرخ بهستيرية عجيبة، ثم شرع في مهاجمة المارة بالمقص وذراع الحديد، لذا كان لا بد من استدعاء الجهات المختصة لكي تأخذه إلى مستشفى المجانين.
بينما كان والدي يسترجع ويضرب كفاً بكف، ووالدتي تحوقل وتكاد تجهش بالبكاء، كنت أخفي وجهي بين كفيّ الصغيرتين كي لا يرى أحد ابتسامة الشماتة وقد ارتسمت عليه بوضوح.      

15 يونيو 2013
  

Sunday, June 23, 2013

أخطاء شائعة

في السياسة، يطلق لفظ (اليسار) على الاتجاه السياسي الذي يجنح إلى المطالبة بحقوق الشعوب والمساواة بين أفرادها في مقابل تسلط الدولة، واللفظ مشتق من مكان جلوس النواب الفرنسيين في مجلس النواب، حيث كان هؤلاء التقدميون يجلسون على يسار! النواب. في اللغة العربية لا توجد كلمة (يسار) بمعنى الجهة، بل تعني نوعاُ من اليسر والرخاء. الاتجاه المقابل لليمين هو (الشِّمال)، وقد وردت اللفظتان في القرآن الكريم، الذي هو المرجع الرئيسي للغة العربية، للدلالة على أصحاب الجنة (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين - سورة الواقعة 27)، وأصحاب النار (وأصحاب الشِّمال ما أصحاب الشمال -الواقعة 41)، لذا كان يفترض أن يُقال (الشِّمال الفرنسي)، و(الشِّمال العربي)، أي استخدام لفظ(الشمال) بدل اليسار. أيضاً في الجهات الأربع، تطلق لفظة (الشَّمال) بالشين المفتوحة، أما مقابل اليمين، فتكون (الشِّمال) بالشين المكسورة. لكن هناك أخطاء شائعة تترسخ، ولا يمكن الخروج منها إلى الصحيح مهما حاولنا.

Monday, June 17, 2013

لكل أمة طباع

 لكل أمة طباع
مما لا شك فيه أن لكل شعب مواصفاته، ولكل أمة صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم،،، هي مظاهر معينة من السلوك البشري تطبع ملامح الجماعات والشعوب، منها ما هو طيب حسن، ومنها  ما هو سيء خشن. من الشعوب من اعتاد أفراده حسن الإصغاء والاستماع، ومنها من إذا اجتمع منه خمسة في حضرة، سمعت أصواتهم كأنها تصدر في وقت واحد عن عشرة،،، منها من يعطي فسحة للرأي الآخر، بقوله - متمثلاً قول الشافعي - :(رأيي خطأ يحتمل الصواب، ورأيك صواب يحتمل الخطأ)، ومنها من اعتاد تخطئتك بلا دليل، يغلظ الأيمان ويقسم بالطلاق على أمر لا يعلم عنه شيئاً،،، بعضها من اشتهر بالجود والكرم، والبعض الآخر باليد المغلولة،،، هي طبائع وأخلاق صاغتها ظروف سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية، فتوضعت في السلوكيات، ثم ترسبت في الجينات، لكي يرثها الآباء عن الأجداد، ثم بعد ذلك عن الآباء يرثها الأحفاد.
أما الطبع موضع النقاش، فهو أن البعض منا يعتقد أنه أبو العريف، أحاط بالعلوم كلها، فلا تخفى عليه شاردة ولا واردة، فهو إن كان يحمل الثانوية العامة، ناقش فاروق الباز في موضوع طبقات الأرض، وإن كان خريج كلية الشريعة، خطَّأ أحمد زويل في علوم النانو، ولو كان مدرساً للموسيقى، شرح لك معنى (سبحان الله) باجتهاد لا يمت بصلة إلى ما قاله سيد قطب، وإن كان سائق شاحنة، انتقد لوحات الفنان عبد الهادي شلا، أما إن كان تاجر مواد غذائية، فهو محلل سياسي باقتدار، ومنظر عقائدي لا يشق له غبار، إذ لا أحد يلتزم بمعلوماته، ولا فرد يتصرف حسب قدراته وإمكانياته.
والذي أحوجني إلى هذه المقدمة المملة، قراءتي موضوعاً يهاجم الشيخ يوسف القرضاوي، ويصفه بأوصاف لا تليق بمثقف أن يخطها، ولا حتى بنصف مثقف أن يعدها، والغريب أن جل ما يبني عليه الكاتب الكريم موضوعه، هو تغير مواقف الشيخ من بعض الأنظمة العربية، وكأنني بالكاتب يريد من الناس أن تبقى جدراً مسندة، تؤمن برأي وتبقى عليه إلى يوم الدين، تخشى من تغيير مواقفها حتى لا توصف بأنها متقلبة، ناسياً أن الجدران وحدها هي التي لا تغير مواقفها، كما هي الأوطان التي لا تغير مواقعها، متجاهلاً أن احترام الشخص لذاته يكتمل عندما يدرك أنه قد أخطأ، فيتراجع عن خطئه، وأنه قد ضُلِّل، فيتراجع عن ضلاله، فتراجع الشيخ يوسف القرضاوي عن مواقفه من أنظمة مصر وسوريا وإيران وحزب الله، ليس عيباً يُلام عليه، بل هو احترام للذات ربما يفتقده البعض الكثير منا هذه الأيام، وهو تراجع يؤيد القرضاوي فيه الملايين، من العرب والمسلمين، الذين اكتشفوا – لخيبتهم – أن إيران وحزب الله قد تاجرا بقضية المقاومة وتحرير فلسطين، ردحاً من السنين، إلى درجة اهترأت معها هذه القضية، واتضح للعيان، أن إيران، بعد احتلالها بغداد، لا تزود النظام السوري بالأسلحة لتحرير القدس والجولان، بل لتدمير دمشق وحمص وحلب وحوران، وأن نصر الله – بعد أن أصيب بعمى الاتجاهات – قد يمم شطر الشمال إلى القصير، بشكل عجيب، بدل أن يتجه جنوباً، إلى القدس وما بعد تل أبيب!، فهل يريد البعض منا أن نبقى على عمانا؟، وهل من الرجولة أن نستمر في غينا وهوانا، بعد أن تكشفت النوايا، وعمت البلايا والرزايا؟، وواحدة أخرى: أن الكاتب الكريم ربما كان قد نسي أنه في سن أحفاد الشيخ الجليل، وليس في ذلك عيب، إنما العيب – في عرف مجتمعنا على الأقل – التطاول على من هو، ليس أكبر منا سناً فحسب، بل من هو أكثر منا علماً أيضاً، وفي هذا، أنا لا أسبغ التقديس على كل ما يقوله الشيخ، وحتى الشيخ نفسه لا يفعل ذلك، إنما أجنح، كما فعل الإمام الشافعي، إلى إعطاء فرصة للرأي الآخر، كي لا يأتي على المرء حين من الدهر يبدي فيه أسفه وندمه، على ما دبجه يراعه وخطه قلمه.  
هو طبع لا ألوم الكاتب الكريم عليه، لأنه سلوك عام في حياتنا نجنح إليه، ورثناه كابراً عن كابر، فانغرس في العقول والضمائر، لكن السعيد منا من تراجع عن غيه، ومن احترم رأي الآخرين، حتى يُقنِعَ الآخرين برأيه.
  
17 يونيو 2013

Sunday, June 16, 2013

نهاية جميلة


                                 نهاية جميلة   
    تكرَعُ آخر قطرة من الكأس ، وتأخذ أعمق وآخر نفس من السيجارة ، ثم تطفئها وتلقي بها عبر قضبان النافذة ، ، تغرز أصابعها في عمق شعرها الغزير ، وتجوس فيه من فوق الجبهة إلى مؤخرة الرأس ، وتنظر باتجاه الشوارع البعيدة : هل تلك هي سيارة محمود ؟ . . هل سيأتي عبود غداً كما وعدها آخر مرة التقته ؟
-      كم غلة هذا اليوم يا بنت الكلب ؟ لا تحاولي خداعي ، فأنا أعدّهم جرذاً جرذاً ، كلما دخل منهم واحدٌ وضعت خطاً على الورقة ، وعندما يصبحون خمسة أشطب عليهم بخط عرضي لتكوِّن كل مجموعة خمسة سفلة ، فحاذري أن تلعبي بذيلك يا غشاشة .
-      لحظة يا ست جميلة ، لم أفرغ من العد بعد .
هي قوادتها التي تعمل معها منذ جاءت إلى هذا المبغى العام ، عجوز أتلفت شبابها وكهولتها بالعمل في هذا الماخور ، وعندما أحالت نفسها – أو أحالها الزمن بالأحرى – على التقاعد ، لم تجد فرصة تكمل بها مشوارها ( الفني ) سوى الوقوف على باب ( جميلة ) ، تدلل على جسدها أمام العيون الجوعى ، ثم تقبض خمس ليرات من كل زبون قبل أن يتخطى عتبة الغرفة .
-      وهل تُحصين نقود البنك المركزي يا . . .
-      صبرك يا ست  جميلة ، الصبر طيب .

    كل يوم ، ومنذ خمس سنوات ، وبعد غروب الشمس بقليل ، تستحم جميلة ، وتطلي وجهها بالمساحيق من جميع الألوان ، وتتعطر بأرخص أنواع العطور ، ثم ترتدي أشياء هي أقرب إلى العري منها إلى الملابس ، وتقف على باب غرفتها معتمدة على ساق ، بينما الساق الثانية مرتكزة على كرسي لكي تشف وقفتها هذه عن جزء أكبر من فخذيها ، ، تركز بين شفتيها سيجارة تنفث دخانها في جميع الاتجاهات ، وصفوف الزبائن تروح وتجيء أمام أجساد العاهرات - اللاتي يقفن بنفس طريقة جميلة - يأكلونهم بأعينهم قبل أن يفترسوهم على الأسرة ، ، جنود وطلبة وعمال وفلاحون ، ، يعمي دخان سجائرهم الأبصار ، وتفسد روائح أجسادهم النتنة هواء الممر الضيق ، بينما تتعالى أصوات أغنيات هابطة قادمة من غرف البنات لا تصل إلى أسماع الجمهور، الذي يستخدم حاسة النظر فقط ، وصرخات القوادات تنادي على اللحم المعروض بأبخس الأسعار ، وشتائم مقذعة وألفاظ نابية تتعالى من جنبات الممر معلنة بأن هذا المكان هو أحط بقعة في  المدينة .

    كل يوم ، ومنذ خمس سنوات ، وبعد أن تنتهي من آخر زبون ، تأخذ جميلة حماماً ساخناً وتجلس على النافذة المطلة على الشارع العام ، مستعيدة حبل الأحداث التي أوصلتها إلى هذا المكان . عاشت يتيمة في بيت عمها الأرمل الذي تزوج  للمرة الثانية ، ولمّا لم يُرزق بذرية من الثانية طلقها ، وعاش وحيداً في المنزل مع جميلة ، ثم أعلن خطبتها على ابنه من زوجته الأولى : محمود ، ، شاب في بداية العشرينيات ، يعمل سائق سيارة أجرة في المدينة ، حلمت معه بزواجٍ سعيدٍ وأبناءٍ رائعين ، ، كان يمنّيها بالانتقال من القرية للعيش في المدينة بعد الزواج ، وهناك سوف يأخذها كل مساء ، بعد أن ينتهي من ساعات عمله الرسمي ، لكي يطوفا معاً في أرجاء المدينة ، ، تلمح سيارة أجرة ، هل محمود هو السائق ؟ ، ، هل زوجته إلى جانبه ؟ ، ، ، نفس الأوهام تتلبسها كلما لمحت سيارة أجرة عابرة .
   - إذا لم تخبريني كم غلة اليوم فسوف أطردك عن بابي يا عاهرة .
   - بلا عصبية يا ست جميلة ، شارفت على الانتهاء ، أولاد السفلة أكثروا اليوم من دفع النقود المعدنية ، ثواني فقط وأنتهي .
    أسوأ ليلة في حياتها كانت تلك التي اشتد فيها البرد والمطر ، ، أحست بجسد يندس معها في الفراش ، جفلت ، ، هدَّأ من روعها قائلاً إنه يود تدفئة نفسه وتدفئتها ، ، كان ذلك عمها النذل ، والذي لم تستطع الفكاك منه إلا بعد أن أخذ منها ما كانت تخبئه لولده لمحمود لكي تمنحه إياه في ليلة الزفاف . . في الصباح الباكر كانت تجمع صرة ملابسها وتستقل الحافلة متجهة إلى ابنة خال لها تعمل خادمة في منزل أحد أثرياء المدينة . . تقاذفت سفينتها أمواج الحياة إلى أن استقرت بها هنا ، في هذا الماخور الحقير ، ، تعذبت كثيراً حتى تعتاد على جوّه القذر ، لكنها وبعد أن أتقنت مهنتها لمدة خمس سنوات كاملة ، فقد أصبحت على يقين بأنها ستبقى هنا إلى أن تحال إلى التقاعد ، ثم تقوم بنفس العمل الذي تقوم به هذه السافلة التي لم تستطع حتى الآن عدَّ غلة هذا اليوم .
-      ها ، ، أين أصبحت يا لصَّة ، تحاولين ترتيب سرقة ما ، أليس كذلك ؟ ، قلت لك أنني أعدّ هؤلاء الأوغاد بدقة ، اليوم وصل العدد إلى خمسة عشر ، اضربي ذلك الرقم بخمس  ليرات ، تلك هي الغلة ، هل هي عملية حسابية صعبة أم أن غباءك يعجزك عن إنجازها ؟.
-      ما شاء الله عليك ، مخك نظيف والله يا ست جميلة ، وحرام أن تكوني في هذا المكان .

    هكذا قال لها عبود بعد أن توطدت علاقتهما على مر الأيام   ( ما شاء الله عليك ، مخك نظيف والله يا ست جميلة ، وحرام أن تكوني في هذا المكان ) ، ، تعود للنظر عبر النافذة . الآن لا تبحث عن سيارات الأجرة التي علّ في إحداها محمود ، بل تبحث عن الآخَر :  عبّود  . عبود شاب لطيف في منتصف الثلاثينيات ، زبون ولا كل الزبائن ، ذوقه مميز في اختيار ملابسه والعناية بذقنه ونظافة جسده  ، أدمن على زيارتها والنوم معها منذ سنتين ، سائق شاحنة يعمل ما بين دمشق وبغداد ، توفيت زوجته دون أن تخلف له أولاداً ، لو فتشتَ عنه فلن تجده سوى في واحد من ثلاثة أمكنة : يسوق شاحنته ، يسكر في خمارة الخواجا إلياس ، أو يزور جميلة ، ، عندما يكون في المدينة ، يأتي إلى جميلة عند منتصف الليل بعد أن تكون قد انتهت من خدمة زبائنها  ، ، يجلس معها في غرفتها ساعة واحدة لكي يغادرها قبل الساعة الواحدة صباحاً ، موعد إغلاق الماخور ، هذه الساعة من الزمن بدأت جميلة تدمن عليها ، بل وتترقبها بشوق جارف ، ، هل تحبه ، ، ارتعشت ، فهل تستطيع من هي مثلها أن تحب ؟ ، أَوَ ليس الحب ممنوعاً لمن يمتهنون هذه الصنعة ؟ ، وإن هي أحبت بصدق  فمن ذا الذي يصدِّقها ؟ ، ، كلا ، كلا ، هو نزوة فقط ولا يختلف عن غيره من الزبائن سوى أنه أكثر لطفاً معها من جميع تلك الحيوانات التي تمر عليها بالغريزة فقط . كان مما رسخ من مكانة عبود في نفس جميلة أنه كثيراً ما كان يزورها محملاً بالهدايا من ذهب وملابس دون أن يطلب منها النوم معها ، ، كان ينادمها ويأنس لوجودها معه ، ويشعر في قرارة نفسه ، بعد أن عرف قصتها ، أن الزمن قد ظلمها ، وأنه – وليس أحد  غيره – قادر على أن يرفع عنها هذا الظلم ، بل ويعوضها عن العذاب الذي عانت منه طيلة حياتها خاصة في السنوات الخمس الأخيرة ، وأخيراً فاتحها برغبته في الزواج بها ، ، جفلت لهذا العرض ، وشعرت في أعماقها بأنها أجبن من أن تقبل به .
-      أين أصبحت يا عجوزة النحس ؟ وهل أعيِّن لي مديراً مالياً مكانك ؟
-      ست جميلة ، الغلة اليوم ما شاء الله سبعون ليرة بالتمام والكمال .
-      يعني تسرقين عشر ليرات علاوة على العشرين بالمئة التي ستأخذينها حار ونار على  جسدك ؟ ، ياحيوانة : خمسة ضرب خمسة عشر تعطينا ثمانين ، احسمي منها حصتك واعطني الباقي ، يعني سبعين ليرة، هذه طريقتي الخاصة في الحساب، ما رأيك؟
-      ست جميلة أنا آسفة ، الحسبة الصحيحة هي 15×5=75 ليرة ، حصتي منها 20 % يعني ، ، يعني 15 ليرة ، الباقي لك عندي ، الباقي لك عندي ، ، آه ، نعم الباقي لك هو ستون ليرة ، هاهي ، عدّيها لو سمحت .
-      والله وتعلمت الحساب ياحمارة ، تماماً كالذي يتعلم البيطرة بحمير الغجر .
-      محشوم مقامك يا ست جميلة .
وانسحبت العجوز تاركة جميلة مع سيجارتها وكأسها تنظر بسَرَحانٍ عبر قضبان النافذة .

    بين يديها الآن ستون ليرة لقاء عمل يوم واحد ، بل نصف يوم ، بل نصف ليلة ، وهو مبلغ ليس بالقليل ، ، المسكين عبّود يكدح الشهر بحاله، وروحه على كفه، لكي يحصل على خمسمائة ليرة ، بينما يزيد دخلها الشهري عن دخله بأكثر من ثلاثة أضعاف ، فهل اختل عقلها لكي تخرج من هذا النعيم لتسكن في غرفة ضيقة ، تنتظر عودة عبود نصف عمرها الذي تبقى لها ؟ ، علاوة على أنها تشعر بأن نصفها الأسفل لم يعد قادراً على الحمل والإنجاب ، فمن أين ستأتي لعبّود بالأولاد وهو يحلم بأن تملأ له بهم البيت ؟ . بدت لها فكرة القبول بالزواج من عبود انتحاراً اقتصادياً واجتماعياً ليس له ما يبرره ، فبهذا الزواج يضيع ذاك الدخل المرتفع ، وبه كذلك تخسر صحبة عائلتها الكبيرة : نساء الماخور ، فقررت رفض الفكرة من أساسها ، لذا عندما أخبرت عبود بقرارها ، نزل عليه القرار نزول الصاعقة ، فقد شعر بأن هذه المرأة التي ظلمتها عائلتها وظلمها مجتمعها ، ما تزال تصر على ظلم نفسها ، بل والاستمرار في قبول الظلم إلى نهاية حياتها وكأنها تستمتع به . أعطاها رقم هاتف خمارة الخواجا إلياس لكي تتصل به إن هي غيرت رأيها ، قال لها إنه سينتظرها طويلاً ، ولن يمل الانتظار لأنه يعلم بحاسته السادسة حقيقة مشاعرها نحوه ، ثم غادرها بعد وداع حميم . شربت آخر رشفة من كأسها ، وأطفأت سيجارتها ثم أوت إلى الفراش .

    اليوم هو الخميس ، استيقظت مبكرة ، ، اغتسلت ، ارتدت ملابسها وركضت لتلحق بالحافلة التي تنتظرها لكي تذهب مع الأخريات إلى المستشفى لإجراء الكشف الطبي الدوري ، فكما تهتم الحكومة بترخيص مثل هذا الماخور لتأمين الترفيه الاجتماعي عن مواطنيها ، فهي تهتم كذلك بصحتهم ، حيث تُلْزَمُ العاهرات بفحص دوري يثبت خلوهن من الأمراض الجنسية ، لا حفاظاً على  صحتهن ، بل حرصاً على صحة دافعي الضرائب . هذا المسمى ( الدكتور ) رذيل بذيء يغتنم فرصة الفحص لكي يلعب بالفتيات بطريقة مستفزة حقيرة ، إلا أن موقفه القوي يجعل أية فتاة أجبن من أن تشتكيه إلى رؤسائه ، حيث على تقريره يتوقف استمرارهن بالعمل . اعتادت على هذا الفحص الدوري أسبوعياً لمدة خمس سنوات حتى بدا لها أنه عمل روتيني بحت ، حيث لم توقَفْ أية واحدة من البنات عن العمل ، غير أنه لا يمكن لأي منهن التخلف عنه ، ببساطة لأنه أصبح روتيناً له صفة القداسة .

    وقع صوت العجوز على رأس جميلة وقع الصاعقة ، ماذا ؟ : التقرير يقول أنها لم تعد تصلح للعمل ، وعليها مغادرة المبنى على الفور لأنها بحاجة إلى علاج طويل الأمد ، ، أمسكت برأس العجوز وسحبتها إلى داخل الغرفة :
-      والله يا ست جميلة هذا هو تقرير الدكتور وليس تقريري أنا ، لا تقسي عليَّ بهذا الشكل ، بعد كل هذا العمر والصحبة ؟ ، ( تسيل دموعها بغزارة ) اعتبريني بمنزلة أمك . . . يا ابنتي.
-      ( تحضنها بقوة وهي تبكي ) أنا آسفة ، اعذري لي تهوري ، هل تعلمين ماذا يعني هذا يا ، ، يا أمي ؟.
-      لك الله يا ابنتي ، الله الذي في السماء لا ينسى عبيده الذين في الأرض ، لا عليك يا ابنتي سنبقى على اتصال .

الهاتف يرن في خمارة الخواجا إلياس :
-      حظُّكِ قوي ، نعم هو هنا ، لقد دخل منذ لحظات ، تعال يا عبود .
-      حبيبي عبود، هل ما زلت راغباً في الزواج بي ؟


    في الصباح الباكر ، وعندما كانت جميلة وعبّود يبتعدان بالسيارة عن باب المبنى ، كانت العجوز تحاول اللحاق بهما لتخبرها بأن التقرير الطبي الذي أعطتها إياه كان يخص الفتاة التي تقيم في الغرفة المجاورة .                   

Saturday, June 15, 2013

الرقدة الأخيرة


كانت الأشياء التي أراها نقاطاً ساطعة بدون مصدر خارجي للضوء ، تمر بشكل حزم رقمية، تتشابه في جوهرها وتختلف في ترتيبها، يمكن التمييز بينها حسب حجم وتراتب النقاط الضوئية التي تتشكل منها، وعندما تتكلم (هكذا خمنت) يُسمع صوتها بالإيحاء، جلياً واضحاً أكثر من الصوت الذي ألِفتُه بملايين المرات،،، تهتز النقاط وتتمايل وتومض بشكل يشف عن كلام بالغ الفصاحة والتعبير بدون صوت يُسمع. آخر عهدي بالكلام المألوف كانت،،، كانت،،، لا أدري منذ متى، لكنها كانت في حوار مع صديقي "الشيخ عادل". 

رجل دين رائع، غزير العلم، دمث الخلق، أماحكه ويماحكني محتفظين بمحبة جارفة واحترام صادق، نصحته مراراً - على ما رأيت من سعة علمه وخفة دمه – أن يُوَلّي وجهه شطر ديار الفرنجة، فهناك تربته الخصبة لنشر ما يؤمن به، وكفاه مضيعة للوقت بين من لا يُقدِّرون علمَه ولا يستجيبون لنصحه، غير أن تهرُّبَه من فكرة الهجرة لم يكن – على ما أعتقد - سوى لعدم قدرته على تعلم لغة أجنبية، ما عدا ذلك لم يكن في صديقي أية مثلبة. الحِزَمُ الرقمية تمر بي: أعرفها بالإحساس: هذا جارنا أبو محمد: مازال كما كان، خفيف الدم، قريباً من النفس، تهتز نقاطه الضوئية بشكل يبعث على الفرح، عمتي أم إبراهيم : نقاطها تشف عن القلب الرحيم الذي كانت تحمله في صدرها،،، جدتي ،،، جدي،،، أخوالي وجميع من كنت أعرف، تمر نقاطهم الضوئية موحِيَةً بمن هم، يتجهون إلى جميع الجهات في وقت واحد، يبدأون من اللامكان لينتهوا في اللامكان، لا أشياء ولا أمكنة بل تجاوب بالأحاسيس.

في إحدى مناكفاتنا قلت لصديقي الشيخ :(- يحتفلون بأيام الشجرة والطفل والعائلة والعيد الوطني وذكرى انطلاق الثورة ، فلماذا لا يحتفلون بيوم القبر). فغر صديقي فاه، وغالب ضحكة رقصت على شفتيه. أردفتُ: (- الموت يا صديقي هو الحقيقة الوحيدة في حياتنا، والباقي زيف،،، نحوِّل جميع الأوهام إلى حقائق، ونضع الموت في خانة الوهم، لخوفنا منه نلغيه من الذاكرة وهو سابق عليها وباقِ بعدها، نتخيله يتربص بنا في جميع الزوايا والأمكنة، بينما هو غير آبه بنا، لأنه يعرف متى وأين وكيف يأتي، وهو إن أتى، نعشقه ونتعايش معه ونتوحد به لعلمنا أنه لا فكاك منه، فلماذا نصرّ على طرده من أذهاننا، ولماذا يتكرر خوفنا منه مع أنه لا يأتي سوى مرة واحدة، وأما المرات الباقية فنحن الذين نخترعها بأنفسنا لنخاف منه بملء إراداتنا؟،،، ماذا يا صديقي لو خصصنا يوماً واحداً في السنة نزور فيه المقابر؟، في هذا اليوم يستلقي كل واحد منا في قبر من القبور التي حفرها عمال المقبرة انتظاراً لميت حقيقي، هناك نتأمل اللحظة التي سنوضع فيها في مثل هذه الحفرة، ثم توضع على صدورنا بلاطات ثقال، ثم تُهال علينا أكوام من التراب تفصلنا عن عالم الشقاء الذي نحن فيه الآن، علَّ عيوننا تقرُّ، ونفوسنا تطمئن بكسر حاجز الخوف الذي نخترعه ونعيشه،،، لِنُسَمِّ هذا اليوم مثلاً "عيد القبور"، بيوتنا الحقيقية الأزلية. كان الشيخ يضحك مني بأدب جم، دون استهزاء أو تجاهل .

إلى أن كان يوم مشمس دعاني فيه صديقي إلى مرافقته في سيارته لقضاء مهمة عاجلة، رافقته دون أن أدري لماذا ولا إلى أين،،، عبر بي طرقات لا أعرفها ونحن نتجاذب أطراف حديث عام، ولم أنتبه إلا ونحن على أطراف المدينة باتجاه مقبرتها. مقبرة جميلة مشجّرة، ذات ممرات مزروعة بورود تفصل بين صفوف القبور، وبعد آخر قبر مسكون، كانت هناك قبور فارغة، حفرها المشرفون على المقبرة لتكون جاهزة لاستقبال المزيد من الموتى،،، فكما تستقبل المدينة عشرات المواليد يومياً ، فإنها تلفظ عشرات الموتى إلى المقبرة لكي يبدأوا فيها ومنها رحلتهم الأخيرة. تأبطني صديقي الشيخ وسار بي إلى نهاية المقبرة،،، إلى القبور الفارغة التي تنتظر زوارها القادمين حتماً: (- ها هنا ميدان تجربتك التي اقترحتَها عليَّ يا بطل، فلنبدأ الآن بك ولنعتبر هذا اليوم أول عيد للقبور، أرني ماذا ستفعل؟). أجفلتُ وترددت، إذ لم يخطر لي على بال أن أقف هذا الموقف الصعب، فهل أخطأت باقتراحي الذي صدقه الشيخ وبدأ تنفيذه بمن اقترحه؟ هل أتراجع عن اقتراحي وأعلن أنها كانت مزحة سمجة مني ما كان يجب عليه أخذها على محمل الجد؟، هل أجبن عن النزول في حفرة عمقها أكثر بقليل من المتر، أستلقي فيها هنيهات ثم أقفز خارجاً منها وقد دفعت ثمن اقتراحي السخيف لحظات من خوف يفري العظام،،، وصديقي ما زال ينتظر ردي على قفاز التحدي الذي ألقاه في وجهي، والذي لم يكن أمامي سوى قبوله،،، أو الاعتذار عنه، وهذا ما لن يكون .

النقاط الضوئية - التي شعرت أنني أعرفها - تتجمع حولي، تبعث لي أحاسيس الشوق والفرح، وأحاسيس أخرى أشعر بها لأول مرة، أحاسيس يعجز العقل عن تصورها،، تحمِلُها إليَّ موجات متفاوتة الشدة من تيار هو في طبيعته مابين الماء والكهرباء. بعد برهة تبينت أن الكميتين من الضوء اللتين تشكلتا حولي الآن إنما هما أبي وأمي، والداي اللذان رحلا عن الدنيا منذ حوالي الأربعين عاماً، أحس بهما قريبين مني لدرجة التداخل،،، أنست لوجودهما، ثم تابعت روايتي موجهاً كلامي إلى اللاّ أشياء التي تحيط بي . 

يومها، ورداً على تحدي صديقي الشيخ، تلبّسني عِنادٌ أحمل بذوره الحمقاء منذ الولادة، مصدره جبال كردستان الشامخة، فأصلي الكردي هذا، غالباً ما يورطني في مخاطر يصعب علي التراجع عن ركوبها عناداً ومكابرة. قفز قلبي من صدري قبل أن أقفز في حفرة القبر، ولكي أضفي على المشهد نوعاً من الواقعية، قبَّلتُ صديقي مودعاً وقفزت داخل الحفرة،،، تمددت على ظهري، وأغمضت عينيّ علَّ صديقي الشيخ يسير في الركبان، يحدثها عن عمل أقدمت عليه لم يجرؤ أحد على القيام بمثله قبلي، ولن يقدر أحد عليه بعدي،،، طالت إغماضتي وطالت، وبدأت البقع الضوئية والأشكال الرقمية بالظهور بكثافة أكثر من ذي قبل، اختفت حواسي جميعها باستثناء حاسة السمع والإحساس بالأشياء، حاولت فتح عينيَّ فلم أستطع، حاولت تحسس جسمي فلم أعثر على يديّ ولا على أي شيء آخر، لا حرارة ولا برودة تحيطني من أية جهة، السمع والشعور بالأشياء فقط هما اللذان ما يزالان حاضرين لديّ، وهما في تناقص مستمر،،، أشعر بذهن الشيخ عادل وقد بدأ ينشغل عليّ، والتوتر قد بدأ يجتاح نفسه بعنف، فصديقه – أنا - الذي قفز في الحفرة منذ لحظات بين جد وهزل، وهو يبغي الاحتفال بالعيد الأول للقبور، قد استغرق في تمدده دقائق طالت، ولا تبدو عليه أية علامة من علامات الحياة،،، الشيخ مازال يعتقد بأن صاحبه يمازحه متظاهراً بالموت،،، ينادي الشيخ صاحبه برفق، ثم بأعلى صوته، ثم يصرخ، ولظنه بأن صديقه مازال يمازحه، يدخل في موجة عارمة من الضحك الصاخب،،، صراخه وضحكه يجمعان حوله حشداً كبيراً من الناس: عمال المقبرة وجمهور جاء لدفن رجل،،، الجمعُ يلقي القبض على الشيخ، وهو يحاول بما أوتِيَ من حجة وبلاغة شرح الأمر، فلا يمهله الجمع الغاضب. وبينما هم يقتادونه إلى مركز الشرطة، كان آخر ماتناهى إلى مسمعي صراخ أحدهم: هذا الشيخ قتل الرجل،،، ألقاه في الحفرة، ثم تظاهر بالجنون.
تتدفق السعادة من نقاط ضوء أمي وأبي، تقترب نقاطنا الساطعة من بعضها البعض، تندمج أحاسيسنا نحن الثلاثة، ثم ننطلق متجهين إلى مكان ما في الكون، ليس فيه مكان.

Thursday, June 13, 2013

عندما تمنيت أن يأكلني الدب القطبي

عندما تمنيت أن يأكلني الدب القطبي
سمعت من أساطير قبائل الأسكيمو، التي تعيش في الدائرة القطبية الشمالية، أنهم كانوا إذا شاخ الرجل أو المرأة عندهم، فإنهم كانوا يضعونه في قارب عائم على سطح المياه التي ذاب جليدها  بفعل ارتفاع درجة حرارة الصيف، ثم يدفعونه باتجاه المنطقة التي يعيش فيها الدب القطبي لكي يأكله. أتذكر هذه الأسطورة  كلما قرأت إعلاناً عن مسابقة ثقافية في القصة القصيرة، فأول مرة صادفت هذا الإعلان، استبشرت خيراً وقلت في نفسي: (ها قد جاء الفرج بعد طول انتظار، ولا بد أن تكون قصتي هي القصة الفائزة بالجائزة الأولى)، وبدأت بمطالعة شروط المسابقة:
1-     أن تكون مطبوعة على الآلة الكاتبة: فمع أنني أجيد الطباعة بسرعة 5 كلمات في الدقيقة بسبابة يدي اليمنى، إلا أنني أستطيع مضاعفة هذا العدد فيما لو استخدمت سبابة يدي اليسرى، وهكذا حققت الشرط الأول بجدارة  .
2-     ألا يتجاوز عدد كلمات القصة القصيرة الألف كلمة: هنا صُدِمْتُ،،،فماذا تراني فاعلاً بقصصي التي لا يقل عدد كلمات أقصرها عن الألفي كلمة. ولكن لا بد أن أحقق هذا الشرط الثاني، فعمدت إلى قصة قابلة للتشذيب والتهذيب، وهي التي كنت أعتقد أنني قد أطنبت في كثير من جملها وأسهبت، فعمدت إليها حاذفاً جملة من هنا وكلمة من هناك، فقرة من هنا وملاحظة من هناك، حتى أتيت على ألف كلمة وأكثر، وتبينت عدد ما بقي منها بالعداد المساعد في الكمبيوتر، فوجدت أنها قد تقلصت إلى 999 كلمة، ولكي أبقى في الجانب السليم وأدخل المسابقة، حذفت جملة طويلة لم أجد لبقائها مبرراً، فنزل عدد الكلمات إلى 985 كلمة، فهدأت نفسي المضطربة، فقد اجتزت الشرط الثاني.   
3-     هنا كانت – لا أراكم الله – الفاجعة، فقد اشترط منظمو المسابقة ألا تزيد أعمار المشاركين فيها على الثلاثين عاماً، فأُسقِطَ في يدي، فقد ولدت بعد عام الفيل ببضع سنين، وبلغت الثلاثين منذ أكثر من ثلاثين، فما السبيل إلى تجاوز هذه العقبة ؟. فكرت أن أتجاهل الأرقام، وأن أقرن يوم مولدي بحدث تاريخي عربي جلل، واستعرضت تاريخنا منذ مئة سنة، فلم أجد غير باقة من الهزائم، تزينها مجموعة من المجازر التي تصلح كل منها تاريخاً فاصلاً بين عهدين.  فكرت أن أقول أنني من مواليد مذبحة دير ياسين، فوجدت ذلك كثيراً على شبابي الذهني المتوقد، فعزمت على القول بأنني من جيل كارثة كامب ديفيد عام 78، لكنني عندما طرحت هذا الرقم  ( 1978) من 2013 تبين لي أنني سأكون أكبر من المطلوب، أما تأريخ ميلادي بذكرى مصيبة أوسلو فسوف يكون مضحكاً، إذ ليس مسموحاً في عرف العبقرية العربية أن تُشَجَّعَ مواهب من هم في هذه السن الصغيرة، هؤلاء عليهم أن ينتظروا. وأخيراً رسا قراري على إخبارهم بأنني قد ولدت في اليوم التالي لاستشهاد والدي في مجازر صبرا وشاتيلا، ( ولهم أن يخمنوا متى حدثت )، وقبل يوم واحد من استشهاد أمي بنفس تلك المناسبة، علهم يشفقون على يتيم قضى والداه شهيدين خلال 48 ساعة من أجل القضية، لكنني – وبعد التمعن في الأمر - رفضت هذه الأفكار جميعها، فماذا لو اشترطوا لتسليمي الجائزة - التي سأفوز بها حتماً - أن أُعرَضَ على خبير مُسَنِّنٍ ليقدر سني من عدد أسناني، هذا إن وجد منها شيئاً، عندها ستكون الفضيحة، فألغيت فكرة الاشتراك في المسابقة من أساسها، وعمدت إلى القصة التي شوهتها، فأعدتها إلى حالتها الأصلية، ومزقت الإعلان.
فكرت في أمر هذه الأمة، فوجدتها – ويا للمهزلة -  تقصُر الإبداع الأدبي على من هم بين سن العشرين والثلاثين، وتقصر الإبداع السياسي على من هم بين سن الثمانين، والمئة والعشرين، فأدركت سر مكانتنا في العالمين، ومنذ ذلك اليوم، وفي كل مرة أقرأ فيها إعلاناً عن مسابقة ثقافية، أتمنى لو أنني كنت قد شِخْتُ في بلاد الأسكيمو، فأكلني الدب القطبي. 

  

Monday, June 10, 2013

النظام العربي

ربما كان النظام العربي الحالي مؤهلاً لدخول كتاب جينيس من أوسع صفحاته، فحوالي ثلث الدول العربية الاثنتين والعشرين تعيش بدون رئيس، أو بنصف رئيس. خذ عندك:
1- رئيس العراق جلال طالباني: يقيم في مستشفى ألماني مجهول العنوان، ولا معلومات عن ماهية مرضه.
2-رئيس الجزائر بوتفليقة: عاجز عن ممارسة مهامه الرئاسية، ويفتشون عن رئيس للجزائر على مقاس أحذية الجنرالات.
3- ليبيا: لم تختر رئيساً لها بعد، فالذي فيها يكفيها.
4- في اليمن: رئيس بالوكالة، يراقب أعماله المغربي (جمال بن عمر)، مستشار  الأمين العام للأمم المتحدة فيما يتعلق بشؤون اليمن.
5- في الصومال: رئيس لن تعرف اسمه إلا بالرجوع إلى الإنترنت.
6- في رام الله: رئيس سلطة انتهت مدة صلاحيته منذ زمن بعيد، وبما أنه ليس هناك من بين ملايين الفلسطينيين من يصلح لأن يكون رئيساً، فقد مدد الرجل صلاحيته بنفسه ولنفسه.
7- في سوريا: رئيس لم يقتنع بعد أن دمر البلد بأنه (مرفوض يا ولدي مرفوض)، وما زال يتصرف كرئيس دولة. (حالة انفصام شخصية معقدة).
وبعد: هل هناك من يزاحم هذا النظام العربي المتماسك! لدخول موسوعة جينيس ؟؟؟. 

Sunday, June 9, 2013

بداية النهاية

في ملاحظتي التي نشرتها يوم 9 مايو حول قلة عدد المتواجدين في القاعة المغلقة أثناء بث خطاب نصر الله، عزيت ذلك إلى أن حزب الله لم يعد قادراً على حشد عشرات الآلاف لسماع الخطب الكاذبة لنصر الله، وذلك بسبب الشرخ الذي أحدثه حزب الله بدخوله الحرب إلى جانب نظام الأسد. اليوم مقتل هاشم سليمان، المستشار الشبابي لحزب الانتماء اللبناني على يد عصابة القمصان السوداء لحزب الله - سابقاً-، أثناء وقفة الاحتجاج أمام السفارة الإيرانية في بيروت، يؤيد وجود هذا الشرخ في صفوف الطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة. ولا يغرننا الخطاب الأخير لنصر الله الذي حشد فيه الحزب بضعة آلاف، فقد كان هؤلاء متجمعين في بلدة مشغرة، إحدى بلدات البقاع اللبناني، فهل انحسر التأييد الشعبي للحزب في الجنوب والضاحية؟، يبدو أن الأمر كذلك.

الغرور القاتل

من مفارقات الحروب أن الهزيمة ليست هي القاتلة عندما تولد عزيمة تحقق الانتصار، إنما القاتل هو الغرور الذي يعقب الانتصار، وحزب الله الذي سكر بالنصر التافه في القصير، فأصابه الغرور، سوف يدفع ثمن غروره هذا في الريف الحلبي، فحلب ليست القصير إن في الموقع أو الإمكانيات المادية والبشرية. فحزب الله الذي منحته إسرائيل وسام بطولة مزيف من أجل هذا اليوم الذي يحمي فيه النظام السوري الحامي لإسرائيل، هذا الحزب ستكون هزيمته على الأرض السورية وليس في جنوب لبنان، لأن الوقائع أثبتت، خاصة بعد حرب 2006 وتمركز اليونيفيل على الحدود مع إسرائيل، أن هذا الحزب قد خرج من ساحة الصراع الذي ادعاه مع إسرائيل، وأصبحت ساحة عمله في الداخل اللبناني والسوري. فهل قامت الثورة السورية لكي يسقط حزب الله؟. الأيام القليلة القادمة سوف تحمل الجواب.

Thursday, June 6, 2013

عمى الاتجاهات

عمى الاتجاهات
منذ مدة قصيرة كتبت مقالاً تحت عنوان (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)، تحدثت فيه عن (عمى الألوان) الذي أصيب به الرئيس أوباما في طفولته، والذي منعه من رؤية الخط الأحمر الذي كان قد رسمه للنظام السوري، وهو استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبه، وكنت في حينه أحسب أن العمى يصيب الأبصار والقلوب فقط، لكنني لم أكن أعلم أن العمى قد يصيب الاتجاهات، ثم تذكرت أن بعض أصدقائي غالباً ما كانوا ينسون أين وضعوا سياراتهم قبل أن يدخلوا مركزاً تجارياً، وعند خروجهم منه، كانوا يفتشون عنها في أماكن بعيدة عن أماكنها الحقيقية، وعندما كانوا يبدون تبرماً من ذلك، كنت أتعاطف معهم وأهون عليهم الأمر بأن ذلك أمر طبيعي ليس له علاقة بمستوى الثقافة أو الذكاء، بل هي حاسة معرفة الاتجاهات التي تتفاوت من شخص إلى آخر، رغم أنها قد تؤدي أحياناً إلى مخاطر جمة، كأن ينسى المرء الاتجاه الصحيح إلى الحديقة التي ترك ابنه فيها لكي يلهو مع رفاقه.
ولأنني فُطِرت على حسن الظن بالآخر، حتى ولو أبدى نذالة تؤذي الآخرين، كأن يخلع ثوبه فتظهر عورته، وحتى لو اتهموه بجريمة مرعبة كجريمة زنى المحارم مثلاً، فقد كنت دائماً أجد له العذر، حتى ولو جر ذلك علي التهم بأنني أغطي على خطأ المخطيء، ونذالة النذل،  فيمعن المخطيء في خطئه، ويزيد النذل في نذالته، ومع ذلك لا أتردد في ممارسة هذا السلوك الذي أنا مقتنع به، يدفعني إلى ذلك الحديث الشريف القائل:(التمس لأخيك عذراً). ولهذا، لا أرى بداً من التماس عذر للسيد "حسن" على توجيه جحافل مقاتليه الأشاوس! إلى القصير وحمص وحلب، ذلك أن هذا المسكين "حسن"، مصاب بـداء (عمى الاتجاهات)، وربما كان هذا سراً أذيعه لأول مرة – كما أذعت سر عمى الألوان عند أوباما من قبل - ، وأرجو أن يقبله الأغبياء والعقلاء على حد سواء، فعندما علم السيد حسن ،متأخراً، أن الطيران الإسرائيلي قد قصف مواقع سورية على جبل قاسيون، وأن حليفه الجبان القابع في القصر الجمهوري بدمشق، لم يحدد بعد زمان ومكان المعركة مع العدو!، تحركت حميته، وثارت ثائرته، فجمع جمعه، وشهر سيفه، وأعطى جحافله إشارة الهجوم إلى الأمام، وبما أنه – كما أسلفت – مصاب بداء (عمى الاتجاهات)، فبدلاً من أن يشير بسيفه إلى الجنوب باتجاه القدس، أشار به إلى الشمال باتجاه حمص، ونظراً لإخلاص أتباعه لسيدهم المقاوم، فقد انطلقوا بدون تفكير وروية، بكل جرأة وحمية، رافعين الرايات السوداء والصفراوية، ولماذا يفكرون في المهمات، طالما أن سماحته هو الذي يفكر لهم في الملمات، ويحدد لهم بدقة الاتجاهات؟، فتدفقوا يُعمِلون في عدوهم شتى أنواع أسلحتهم، ويصبون عليه  نار جام غضبهم، غير ناسين الاستعانة بأسماء جميع الأولياء، والصالحين والأتقياء، باستثناء اسمه تعالى، لأنها هي إرادته التي لا ترد، ومشيئته التي ليس لها حد، إذ لا يرضى جل وعلا أن يستعين المجرم باسمه، لكي ينفذ جريمته.
لكن الأمل، كل الأمل، وكما اعتذر (حسن) بعد حرب تموز 2006 عن تهوره وطيشه في اختطاف الجنود الإسرائيليين، والذي تسبب في خراب لبنان وقتل 1400 من اللبنانيين، الأمل كل الأمل أن نسمع منه، بعد أن يكون رجاله قد دمروا المدن والقرى، وأشاعوا الخراب والدمار في سوريا، وبعد أن يدفن جثث جميع الذين أرسلهم إلى الاتجاه الخطأ، نأمل أن نسمع منه اعتذاراً يقول فيه: ( نظراً لإصابتي بعمى الاتجاهات، هذه العاهة الخطيرة، والتي هي أخطر من عمى البصر والبصيرة، أعتذر من الشعب السوري الكريم أنني أرسلت إليه الجنود، يقتلونه وهم يحسبون أنهم يقتلون اليهود، وأعدهم بأنني سوف أبحث عن علاج لهذا الداء العضال، حتى ولو كان الشفاء منه ضرباً من المحال، وسوف أعتزل في "قم" متضرعاً إلى الله رب السماوات، أن يغفر لي خطيئتي، وأن يشفيني من داء عمى الاتجاهات).
لن أدعو الله لـ (حسن) بالبرء والشفاء، لأن عمى الاتجاه في السياسات- بحكم إلهي - ليس مرضاً له دواء، بل هو آفة الآفات، وقمة الموبقات.

وليد الحلبي 5 يونيو 2013
              

Wednesday, June 5, 2013

(ليقضي الله أمراً كان مفعولا)

(ليقضي الله أمراً كان مفعولا)
ببساطة: القصير (مدينة الصمود) هي معركة واحدة من مئات معارك التحرر من ربقة نظام أسدي بائس، ودخول الجيش النظامي المجرم إليها، مع عصابات حزب اللات، ليس سوى دليل ضعف وعجز النظام، وخيانة وكذب حزب الشيطان، فالقصير ليست سوريا، وعندما يوزعون الحلوى في الضاحية الجنوبية احتفالاً بهذا النصر! فهم إنما يؤكدون عداءهم للشعب السوري خاصة، وللمسلمين السنة بشكل عام، وتنكرهم لفضل أحذية السوريين على رؤوسهم عندما كانوا بحاجة إليهم، رأس الشيطان في حزب اللات هو الذي دفع إلى هذه الفتنة الطائفية، فبعد أن رسمته إسرائيل حزباً مقاوماً، خدع الجماهير فانساقت وراءه، ثم انسحب إلى شمال نهر الليطاني بعد ادعائه الانتصار في حرب 2006، وعندما استنجد به حليفه الخائب، عدو الشعب السوري، وبعد أن ركع جيش النظام الفاشل أمام اقدام الجيش الحر في القصير، سحب الحزب جميع رجاله من شمال النهر لكي يلقي بها في أتون الثورة السورية، التي سوف يحرقه لهيبها، فيرتد خاسئاً خاسراً ملعوناً أبد الدهر، وعندما نتلو الآية الكريمة (ليقضي الله أمراً كان مفعولا) لا نفهم مغزاها إلا عندما نرى مثل هذه الحالة التي نحن فيها الآن، فقد قضى الله بأن ينكشف أمر حزب الشيطان، فيتبرأ الله منه، ويكشف عورته أنه حزب للشيطان لا غير. هل فهمنا الآن مغزى الآية الكريمة؟.
أما حركة حماس، فالمطلوب منها الآن أن تتبرأ من إيران ودعمها لها ببضعة دولارات تشوه سمعتها، وتضعها في صف أعداء الشعب السوري خاصة، والسنة بشكل عام.