Saturday, August 27, 2011



منــاجــاة
                                                                
علــــى  رئــتـي  حملـت  إليك  أشـــواقــي

                                وأســراري  ،،،  وأشعــاري

                  ويمّـمـت  الشّـــراع  إلــى  عينيـك

             يحملنـي  اشتيـاقُ  الـرّاجـف  المنســيِّ

                                           للـتـذكــارِ  والـنّــــارِ

             وسخّـــرت  العـواصـفَ  وانفجــاراتِ  الصّــواعق  والـرّعـودْ

                                 عـمّــدت  طـعـــم  الـطّـيــــن  والعـرقِ

                        وحجــارةَ  الـدّرب  التـي  عـايشتـهــا 

                             حتّــى  تكـون  شهــودَ  مشــواري  الـطّــويــلِ

                    دفعـت  مهــرك مــن  تجــاريحـي

                            ومـن  نبـضِ  الـثّــوانـي  فــي  شـرايينـي

                  حـمّـلـت  ذاكــرتـي  صـدى  الأعــوامِ 

                                    والحــلمِ  المقـعّــر  فــي  حنـايـاهـا

                                               ووخـزِ  الـذّلّ  والقهــرِ

                                    لأحبــو  فــي  صـبـاح  غــدٍ

                           عـلـــى  أعتـاب  صـدرِكِ  يـامــؤرّقتــي

                                                  ويــا حـلــوَ  الحـدائــقْ

                                      وإذِ  التـقـيـنـا ،،،

                          ضـــوءاً  يصيــر  الليــل  فـي  عينيـكِ

             والأشــواكُ  ،،،  حـــــوضـــاً  مــن  زنـــابــــــــــــقْ

Tuesday, August 9, 2011

حقيبة المتشرد

(قصة قصيرة)

أوقات الانتظار في المطارات لزجة سمجة، تحبو فوق النفس بأبطأ من سرعة السلحفاة والحلزون، فيها يتشتت الزمن حتى تخالَهُ يعود إلى الخلف، وتستطيل الساعات كي تتحول إلى كابوس بغيض، وتموت الدقائق فتضجر النفوس، ولأنك مُغرمٌ بفلسفة الأمور حتى التافه منها، فقد درجتَ على التعامل مع عذاباتِ هكذا أوقاتٍ على أنها نوع من اليوغا التي تهذب الجسم والعقل والنفس في آن معاً، ، تتصبرُ على بلادة الوقت بمراقبة هذا المهرجان البشري الصاخب: أناس من كافة الأجناس والألوان والأعمار، هم كالرسائل البريدية، يدخلون من بوابة واحدة، ثم تقوم شركات الطيران بإرسالهم كلٌّ إلى وجهته حسب العنوان الموضح على تذكرة سفره، وكلُّ واحد ممن هم في القاعة - على كثرتهم - واحدٌ من ثلاثة: مسافر أو مستقبل أو مودع. ذاك مسافر يجري بحقيبة يدٍ ذات عجلات، وهو على وشك التأخر عن موعد الإقلاع،، مسافر آخر ما زال أمامه وقت طويل يقضيه في الانتظار، تمدد على مقعد أو شغل نفسه بكتاب، مقطب الجبين، ناظراً في ساعة يده ستين مرة في الدقيقة. ثالث يسلّي نفسه بالتجوال في المحلات التجارية يختار هدية لعزيز، أو يشتري مجلة يدفن بين صفحاتها ساعات الانتظار الطويلة. أما المستقبلون فترى القلق بادياً على وجوههم قبل الإعلان عن هبوط الطائرة التي ينتظرون قادماً على متنها، أحدهم يحمل وردة يستقبل بها زوجة أو صديقة، وآخر ينتظر عزيزاً عليه بقبلة تتربص على شفتيه وذراعين متحفزين للعناق، ، تتغير تعبيرات وجوههم بسرعة البرق من القلق إلى الحبور بمجرد رؤية القادم المنتظَر، أما المودِّعون فإن مرحهم وضحكاتهم تتحول إلى عُبوس ودموع عندما تحين لحظة الفراق، ، الأطفال يُفرِحُهم هذا الهرج المحيط بهم، ولا فرق عندهم سواء كانوا مسافرين، مستقبلين أم مودعين، وبين أصناف هذا الجمع الحاشد، يروق لك استعراض هذا الصخب الإنساني المثير، حتى يحين موعد إقلاع طائرتك .

حتى الآن يبدو هذا اليوم نسخة مكررة عن أمثاله من مئات الأيام التي أنفقتُها في صالات انتظار السفر، غير أن ما أشعرني أن حدثاً غريباً يوشك على الوقوع ، كان ذلك الشاب القادم من بعيد بين الزحام. في منتصف عشرينياته ، يبدو أنه قد وصل إلى قاعة الترانزيت للتو من بلد شرق أوسطي، ويريد أن يلحق بطائرته الموشكة على الإقلاع إلى وجهته النهائية، يحمل حقيبة صغيرة الحجم لكنها تبدو ثقيلة الوزن، ينقلها من يد إلى يد بوتيرة سريعة، وعند كل نقلة، يضطر ثِقَلُ الوزنِ نصفَ جسمه الأعلى إلى أن يميل باتجاه الحقيبة، فحجمها لا يتناسب البتة مع وزنها، وكلما مشى بضعة أمتار، كان الفتى يقف لكي يستريح، ، يفرك كفَّيْه، ثم ينقل الحقيبة إلى اليد الأخرى ويعاود المشي من جديد ،،، عيناه توحيان بأنه على وشك الهجرة، حيث نظراته ترنو إلى البعيد البعيد، أبعد مما يراه الآخرون، حيث سيستطيع أن يعيش هناك كأي كائن بشري محترم، إلا أن صِغَر حجم الحقيبة يدفع إلى استبعاد هذه الفكرة بشدة، فالمهاجرون في العادة يحملون من متاعهم ما خفَّ وزنه وما ثقل على السواء. بسرعة البرق تَبادر إلى ذهني أن هذا الشاب لا بد مُراقَبٌ من قبل مسؤولي الأمن في المطار، فإن كانت غرابة أمره قد لفتت انتباهي أنا الجاهل في الأمور الأمنية ، فكيف يخفى أمره على رجالٍ مهنتهم مراقبة وتتبع كل ما يشتبهون فيه، وهل أَدعى إلى إثارة الشبهة من هذا الفتى الذي يصارع لحمل حقيبة صغيرة، رغم كل مظاهر العافية التي تبدو واضحة على محيّاه .

أنهض من مقعدي وأتبع الشاب ذا الحقيبة وخلفه أكثر من مخبر أمن يتبعه بحذر شديد، هكذا خمَّنتُ، فبخبرتك المتواضعة، لا يمكن أن تخطيء عيناك تمييز رجال الأمن - المتخفّين بثياب مدنية - عن سواهم من الناس: إما كنّاس ينظف الأرض بمكنسته بينما تتتفحص عيناه أرجاء المكان، أو رجل يختبيء خلف نظارة غامقة اللون، يتلمس طريقه بعصى بيضاء متظاهراً بأنه ضرير، أو شاب يرتدي زي مضيفي الطائرات، إلى غير ذلك من أشكال التخفي التي أتقنوها، والتي هي جزء من مهنتهم. يذهب الشاب إلى قضاء حاجته، فنتبعه جميعنا، يدخُلُ ويُدخِل معه الحقيبة إلى داخل الحمام، ، بعد لحظات يخرج لكي يغسل يديه بينما يضع الحقيبة بين ساقيه، فتزداد شكوك ملاحقيه حتى تكاد أن تتحول إلى يقين، ولكن لا بأس، فمهما كان الذي يضعه الشاب في الحقيبة، فإن مروره عبر حاجز التفتيش الذي يسبق الصعود إلى الطائرة كفيل بكشف ما فيها.

في إحدى مراحل سيره في الممر الطويل، يعرض أحد المخبرين على الشاب مساعدته في حمل الحقيبة، إلا أنه يرفض العرض بإصرار ويزداد تمسكاً بها، فتتضاعف الشكوك فيه، ، عينا الشاب تتابعان أرقام بوابات الصعود إلى الطائرة، ، يتلفت خلفه كمن أحس بالمتابعة ويريد أن يفِرَّ منها، وكلما توقف لينقل الحقيبة من يد إلى يد، يتبعثر متابعوه في اتجاهات مختلفة، ثم يتجمعون ثانية ويتبعونه عندما يستأنف المسير .

يصل الشاب – ونحن معه – إلى البوابة المقصودة، يتأكد من رقم البوابة المدون على بطاقة الصعود إلى الطائرة، ثم يأخذ دوره في طابور المسافرين، أما أنا فلا أستطيع التقدم أكثر، فأتراجع إلى الخلف مستمراً في متابعة السيِّءِ الذي سيقع، وأنا أحس به قادماً لا محالة. المكلف بالتفتيش يطلب من الفتى إبراز جواز سفره، وبعد تلكؤٍ وتردد يقدم جواز السفر إلى الموظف، يفتحه هذا، وعلى الفور يتغير لون وجهه فيمتقع، ثم يصرخ :- ماذا؟ ووثيقة سفر أيضاً . . . ؟، وتقوم القيامة ويتكهرب الجو ، ويسود هرج ومرج بين موظفي البوابة، وماهي إلا لحظات حتى كانت مجموعة من فرقة مكافحة الشغب - بأسلحتها الآلية ومعداتها المتطورة وكلابها البوليسية - تضرب طوقاً على المكان، ، طُلِب من جميع الركاب الابتعاد بسرعة عن منطقة البوابة، فالأمر جلل. حضر مدير المطار ومدير الأمن ومدير الجمارك ومدير الصحة وكل من هو مدير في المطار، وعيون الجميع تتركز على الشاب والحقيبة، ، يطلبون من المسكين رفع يديه إلى الأعلى، فلا يفهم لغتهم، تماماً كما لا يفهم شيئاً مما يدور حوله، فيعاودون الطلب بالإشارة، فيستجيب لهم، ، الحقيبة الصغيرة الثقيلة ما زالت مستلقية على الأرض ترنو إلى صاحبها، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها، ، المدير يطلب من أحد الموظفين فتح الحقيبة، ، يبدأ بفتحها على مهل، فتفوح منها رائحة حزن ومواويل غربة وقطرات دمع، ، إذاً ربما سلاح كيماوي هو الذي يحمله هذا الإرهابي الشقي، ، يزداد التوتر، وتنحبس الأنفاس في الصدور، ، في هذه الأثناء تقف حشرةٌ صغيرةٌ على أنف الشاب وهو رافع يديه إلى الأعلى، ، يحاول أن يهشَّها بتحريك رأسه في جميع الاتجاهات، لا تستجيب له، ، يقاوم حاجته إلى استخدام كفه لطرد الحشرة عن أنفه ، يقاوم ويقاوم ويقاوم دون جدوى، ولما لم يعد يحتمل، يضطر أن يُنزِل إحدى يديه لِيَهُشَّ بها على الحشرة، ، المحيطون به يظنون أنه في سبيله إلى الضغط على جهاز تفجير الحقيبة، فينطلق الرصاص من جميع الأسلحة الرشاشة في وقت واحد، ويسقط المسكين وسط بركة من الدم جثة هامدة .

بينما رجال الإسعاف يرفعون الجثة الهامدة على نقالة، يتابع الموظف فتح الحقيبة،، تُحَمْلِقُ جميع العيون داخلها،، ترى فيها من المتاع ما يحمله مسافر لا ينوي العودة، أما أنا فقد رأيت فيها كمّاً هائلاً من الهموم والأحزان والغربة، لم يَرَ مخلوقٌ مثيلاً لها من قبل .