Wednesday, March 17, 2010

الدائرة،،،، والمثلث
في كل يوم، نرى آلاف السيارات، ومئات العربات، وبعض القطارات، والقليل من الطائرات – قبل أن تقلع طبعاً- دون يخطر ببالنا أن نترحم على ذلك العبقري الذي اخترع العجلة ( أو ما يسميه بعضنا الدولاب )، فربما قد مرت على الإنسان الأول عشرات آلاف السنين وهو يحرك أشياءه الثقيلة دفعاً بالأيدي، وربما آلاف السنوات الأخرى بعد ذلك وهو يدحرج أشياءه الثقيلة على جذوع الأشجار المقطوعة، والمصفوفة إلى جانب بعضها البعض، لكي توقد لاحقاً في ذهن ذلك العبقري شرارة اختراع العجلة. وربما كان من أجمل صفات الدائرة – وهي الشكل الهندسي لمحيط العجلة – أنه واحد، بعكس الأشكال الهندسية الأخرى كالمثلث والمربع والمخمس والمسدس وإلى آخر ما هنالك من الأشكال الهندسية ذات المحيط المتعدد الأضلاع. للدائرة ضلع واحد ولو انحنى، وللأشكال الأخرى أضلاع كثيرة ولو استقامت.
الشعوب الواعية تستخدم في ثوراتها عربات تسير على عجلات - دائرية طبعاً، والدائرة هنا تعني وحدة الثورة في جبهة واحدة حتى ولو حدث ذلك بعد اقتتال داخلي- ، كالثورة الفييتنامية والسندنستا والماو ماو والجزائرية والعدنية، أما الثورة الفلسطينية فعزمت منذ انطلاقها على اجتراح معجزة استخدام عربة تسير على عجلات ذات أشكال هندسية متعددة الأضلاع. تخيل مركبة تحاول السير بعجلات على شكل مثلث ( فتح، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية)، أو بعجلات على شكل مربع ( فتح، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية، الجبهة الشعبية)، أو بعجلات على شكل مخمس (فتح، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية )، أوبعجلات سداسية (فتح، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الجهاد الإسلامي )، أو بعجلات سباعية (فتح، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الجهاد الإسلامي، حماس )، أو – وحتى لا يطول الكلام فيفقد معناه – بعربة ذات عجلات ثمانية الشكل (فتح، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الجهاد الإسلامي، حماس، جند الله )، والنتيجة المباشرة لهذا الهبل الثوري أن الفلسطيني، المناضل بإخلاص، قد تحول باستخدام هذه العربات المضحكة إلى الأسطوري ( سيزيف ) الذي كان يدفع الصخرة إلى أعلى الجبل، وما أن تكاد تصل قمته، حتى تخور قواه فتتدحرج الصخرة إلى السفح لكي يقوم ثانية بدفعها إلى الأعلى– بدافع الجهل وليس بدافع العزيمة والإصرار، لأنه استمر على هذه الحال عدة آلاف من السنين، أليست أسطورة يتلاشى فيها الزمان والمكان -.هذا العبث العبيط الذي يعيث في قضية عادلة فساداً وتهديماً، لا بد أن يتوقف، وبدون قيام حركة وطنية فلسطينية تستخدم عربة ذات عجلات دائرية، ذات محيط واحد، فلن تقوم لهذه القضية قائمة حتى ولو دخل قادة فصائلها الخائبون كتاب جينيس للأرقام العالمية على أنهم استخدموا لأول مرة في التاريخ عربات دواليبها مثلثة أو مربعة أو مخمسة.
(واحدة اليوم، والأخرى غداً)
(قصة قصيرة)

اهتزت قصبة الصيد في يده بشدة أفزعته ، وانحنى رأسُها إلى حد خشي معه انكسارها . ها قد جاءته هذه السمكة اللعينة بعد طول انتظار ، فقد رمى صنارته في الماء حتى الآن أكثر من مائة مرة ، على ما يذكر ، دون أن يظفر بأي صيد ، النهر هنا - في القسم الأعلى من مجراه - صعب المراس ، حيث انحداره شديد ، وأرضه مليئة بالصخور الكبيرة التي تتكسر عليها المياه مشكلة موجات عنيفة عالية . من شدة تخبط السمكة خشي على القصبة من الانكسار ، وهو غير مستعد لهذه النهاية بعد أن أمِل في صيد ثمين . أرخى القصبة إلى أقصى حد ممكن ، فارتخى معها خيط الصنارة ، وابتعدت السمكة أكثر باتجاه التيار ، عاود الشد مرة ثانية ، فعاودت السمكة التخبط والشد العنيف من جديد ، ، تبادل مع السمكة حركات الجذب والإرخاء ، وهي ممعنة بكل عنف في محاولة الإفلات من الصنارة . عائلته في المنزل تنتظر عودته بأي شيء يؤكل ، فمنذ أن صادر مرابي المنطقة أرضه - لعجزه عن سداد الدين - وهو يقتات مع أسرته ما تيسر له من صيد نهري أو بري ، والنهر هذا اليوم ، على غير عادته ، عنيف الجريان عالي التيار ، ربما ساعد ذوبان الثلوج في الجبال القريبة على ارتفاع منسوب مياهه ، وبالتالي ارتفاع درجة جيشانه وتمرده ، ، يتدفق بعنف وكأنه يحاول مساعدة السمكة على الإفلات من الصنارة . أصغر أبنائه يجلس القرفصاء ، مراقباً هذا الصراع العنيف بين الموت الذي يريده والده للسمكة ، وبين إرادة الحياة التي تتمسك بها السمكة بعناد واضح . يلقي الصبي بحصى صغيرة في النهر يزعج صوتها أباه المتشبث بالقصبة ، فيعنفه الأب طالباً منه المساعدة بدل التفرج عليه ، والصبي يهرب من تعنيف والده إلى شجيرات توت برية قريبة ، يطفيء بثمارها القليلة بعضاً من نيران جوعه . تهدأ السمكة قليلاً ، ويبدو أنها تعبت من كثرة الشد والخبط ، فيتمكن الرجل من لف الخيط على ماكينة القصبة ، وكلما ازداد اللف حول الماكينة ، ازدادت القصبة انحناء ، وبالتالي ازداد خطر انكسارها ، ومن ثم ضياع السمكة في هذه اللجة ، مما يعني طي يوم آخر من أيام الجوع لكافة أفراد العائلة . من شدة مقاومة السمكة اعتقد أنها ستكون كبيرة إلى الحد الذي سيكفي نصفها لإطعام العائلة ، والنصف الآخر لبيعه للحصول على بعض الخبز والسكر والشاي،الذي لم يدخل البيت شيء منه منذ أشهر ، ولو كان محظوظاً - مثل ابن عمه الذي عثر منذ سنوات على خاتم من ذهب في جوف سمكة - فسوف يستعيد أرضه من ذلك المرابي اللعين ، وسوف تتحسن الأحوال عندما ستعمل الأسرة جميعها - كباقي العائلات - في الزراعة ، لذا ازداد تشبثاً بالقصبة ، بينما ازدادت السمكة تشبثاً بالحياة . كثير من الصيادين نصحوه بأن يأتي إلى هذه المنطقة من النهر ، ففيها تحاول أسماك السالمون القفز عكس التيار للوصول إلى النبع الهاديء لكي تضع بيضها هناك ، وهي في قفزها هذا تتجاوز حتى الشلالات الهادرة ، مدفوعة في ذلك بغريزة حب البقاء ، فماذا لو كانت العالقة بصنارته الآن واحدة كبيرة منها ؟ وهل سيكون قاسياً عليها إلى حد حرمانها من استمرار نسلها ؟ وماذا عن نسله هو ؟ هل حرص السمكة على استمرار نسلها يتعارض مع حرصه هو على استمرار نسله ؟ وماذا لو استطاع الوصول إلى حل وسط لهذه الإشكالية ؟ . . أقسم - بينه وبين نفسه - أنه لو حصل على مثل تلك السمكة فإنه سوف يأخذها حية إلى المنبع في جردل ماء ، وهناك سوف يعتصر بطارخها ، سامحاً لبيوضها ان تستقر في الماء الهاديء ، ومن ثم سيكون من حقه ، بعد أن ضمن استمرار نسلها ، أن يضمن استمرار نسله هو . . هكذا كانت نفسه تحدثه ، بينما انهمك جاهداً في لف الخيط على الماكينة التي تعطلت أكثر فأكثر ، ، ولم تعد تستجيب لرغبته في تقصير طول الخيط ، ومن ثم تمكينه من تناول السمكة من الماء . هذه الماكينة اللعينة تتعطل الآن ، تماماً في الوقت الذي يلزم أن تكون مطيعة له أكثر من زوجته . الطريقة الوحيدة المتبقية لاستخراج السمكة الآن - وبعد أن تعطلت الماكينة - تكمن في أن يتراجع بسرعة عن حافة النهر ساحباً السمكة منه ، بعد أن كادت هي أن تسحبه إلى النهر ، وبالفعل بدأ بالتراجع إلى الخلف مبتعداً عن النهر ، ولحسن حظه ، ها هي السمكة تهديء من روعها ، فتستكين حركتها ، وتمتثل له بالانسحاب التدريجي من الماء ، وحتى لا يبتعد كثيراً عن ضفة النهر، فقد وضع القصبة أرضاً وشرع في سحب الخيط من الماء بكلتي يديه ، لكن ، وبسبب شدة التيار ، ولثقل وزن السمكة ، فقد كان عليه الجذب بقوة بدأ معها لحم كفيه بالتشقق ، فسال الدم منهما بغزارة ، ، ، لا يهم طالما أن السمكة على وشك الخروج من الماء . كانت الشمس قد بدأت بالتواري خلف التلال المجاورة ، والظلام قد بدأ يزحف رويداً رويداً مبتلعاً كل الأشياء بوحشة قاتلة ، تماماً كما ابتلع الجوع أحشاء العائلة لعدة أيام ، عندما وصلت السمكة إلى الشاطيء لم يستطع أن يتبين ملامحها بين طيات الظلام ، ولدهشته كانت حركتها قد سكنت تماماً ، فربما لشدة تخبطها ، أنهكها التعب فاستسلمت في راحة أبدية ، تماماً كما استسلم هو إلى فرح غامر . . انتبه إلى ضرورة تجفيف الدم من على كفيه ، فمسحهما بحركة عفوية بجانبي بنطاله ، وتوجه نحو السمكة ، ، ، فلتبشر العائلة بعشاء دسم ، ووداعاً أيها الجوع الكافر ، وسواء حملت هذه السمكة في بطنها ذهباً أم لم تحمل ، فالبطون خاوية ، والأفواه مستعدة حتى لقضم العظم ، ومن المؤكد أن جاره لن يتردد في شراء نصف السمكة ، والذي بثمنه سوف يستمتع بشرب كأس من الشاي طال انتظاره ، أما أن تطبخ زوجته نصف السمكة مقلياً أو مشوياً أو مسلوقاً فذلك ليس بالأمر المهم . يزداد اقتراباً من السمكة : هل ينظفها الآن بماء النهر ، أم يترك أمر ذلك لزوجته ، ، الأفضل أن يعود إلى بيته فوراً بعد أن حل الظلام ، خاصة وأن هذه المنطقة تعج بالحيوانات المفترسة ، والتي ربما ستجذبها رائحة السمكة فيقوم أحدها باقتناصها من يده ، وهو الذي أنفق يوماً بانتظارها ، وأنفقت العائلة يوماُ بانتظارهما وصل إلى حيث تمددت السمكة بلا حراك ،، رفعها عن الآرض ،، قلبها بين يديه ،، نظر باندهاش إلى رأسها حتى آخرها ،، قلبها إلى الأعلى ، فسال منها ماء النهر مع طين كثيف ، ، قلبها مرة ثانية وثالثة ، أغمض عينيه ونظر إلى الأعلى ،أطرق … سالت دموعه بيأس واضح ، ، نزع منها الصنارة ورفعها بيده مطوحاً بها باتجاه النهر . . . الصبي يصرخ في أبيه من بعيد : " لا . . لا .. أرجوك يا أبي ألاّ تعيدها إلى النهر ، يبدو أنها على مقاس قدمي ، وأنا حافٍ كما تعلم والعيد على الأبواب ، دعني أجربها الآن ، فربما نعود إلى هنا غداً لكي تصطاد لي الفردة الأخرى .