Friday, November 30, 2007


مــابيـن الـحــلـم ... ومطـرقـة الأحـزان
( في ذكرى مذابح صبرا وشاتيلا)
شعر

قــال الــراوي : يـا ســادةُ
فـــي تلـك الـليـــلة مــن شهــر الأحـــزانِ الأســودِ

لــم يـسـطــع قمــــرٌ

لــم تـظــهـر نـجمــةْ

والـريــــح تــوارتْ

وكـــلاب الـسّـــاحة مــا عـادت تنبــحُ

والـدّيــك المعـــلن أنـبــاء قــدوم الفجــرِ

يـقــرّر أن يلغـي هـذي العـادة الأزليّـةْ

بعـض النّـســوة يجـمعــن بقـايـا أثـوابٍ

عـــن حبــل غسيــل متـراخٍ

وهنــا وهنــاك تـراكـض بعـض الأطفــالِ

وامــرأة تــدفـع طفلتهــا نحــو الــــــــــداخــلِ

فـالشّــمس انطفـأت فــي البحـرِ

وظـــلام اللـــيـل يشجّــع كـلّ خفافيـش الغــدرِ

والغــول ، كمــا يُحــكـى ، يأتـي فـي العتمـةِ

يغتــالُ الفـرحـة فــي الســــــرِّ

=====================

صــمت مشحــونٌ بالحـــذرِ

خُطـــواتٌ تُســمَـعُ عــن بعــدٍ

والجـــوّ خـــلا إلاّ مـــن رائحــة طعــام قـرويٍّ

همســات تمســح وجـه الـلّيــلِ

وتـوقـظ فـي النّـفـس صنـوف الفـزعِ

وعلــــى غـــــرّةْ ...

يمتـلـــيء المســـرح بالحـركـــةْ

جثـث تهـوي فــوق الجثـثِ

ورصـاص الحقــد عـديــم النّــظــرِ

طفــلٌ ، امـرأةٌ ، شيــخٌ

حتّـــى قــطّ لا يـعــلـم مــاذا يجـري

فيموء لآخـــر مــــرّةْ

جنـــديّ محتقــن الـوجـــهِ

يصــرخ فــي رعـب بـريٍّ:

"هــذا المتمــرّغ فــي دمـــه يشبـــه ابنــي

ربّـــاه امنحنــي مغفــرةً

أتمنّــــى أن يخــطـيء ظنّــي

هـــل أقتــل يـا ربّــي ابنــي "

( صــيّــادٌ ) آخـــرُ فــي نـزقٍ

يقتــل حبــــلى

فجنــودُ الـرّبّ العـبـريّ تخــاف الأرحــامَ

وتعــلم أنّ الأطفـــال نـواقيـسُ الفجــر ِ

ومـزاميــرُ الـرّبّ العبـريِّ

لهــا رأيٌ آخــرُ فـي النّسـلِ

فيـــا كــلّ الأحــزان تعـالـَيْ

فـالـيـوم تقـرّر عيــد القتـلِ

====================

سبتمبـــرُ ... يــا شهــر الأحـزانِ الأســود

مــا عـادت ذاكــرة الخيبــة تسعفنــا

والنّكســة لا تُخـلـف مـوعـدنــا

هــل نبقــى دومـــاً نتـألّـم

والمــأتــمُ يتـلـوه المـــــــأتــــــــمْ

كــوم الأهـــوال تـربّــع فــوق القـلـب الصّـــديءِ

ومــواعيـدُ الحلـمِ الـورديّ متـاهـاتٌ

وأنـا مــازلـت أراوح بينهــمـــا

ما بيـن الحلــم ِ الـورديِّ

ومطــرقـةِ الأحــزانْ

أتــوارى بيـن جفـون الخجـل الـسّــاكنِ

فــي وجــه الـشّــرف العربــيِّ

أتــساءل ... مـن أيـن يجـيء الحـزنُ

بهــذا الشّـكـل الهمجـيّ

يفــرّخ فــي النّـفـس جــراداً

يستهـدف كــلّ حقــول البهجــة فينــا

وزواحـفَ أسـطــوريّـةْ

تلقــي فـي قلـب الفـرح الأخضــرِ

كــلّ صنـوف الـرُّعـبِ

فيغــادرنـا أقــداحَ بـلا قطـرة مــرحٍ

وأوانــيَ حــبّ مكســـورةْ

====================

ومــن القهــر أتســاءلُ :

هــل دومــاً مطـلـوب منّــــا

أن نــروي ظـمــــأ الحقـــدِ

وشــراييـن الأطفــالِ

ينـابيــعٌ لا تخلـف مــوعـدهــا

فيســوعٌ مـنّـا ، وجــراح يســوع فينــا

ولهـذا تكـثــر فــي صـدري الـصّلـبــانْ

ولهـــذا أجـبــر أن أتســـوّل منكــمْ

يــا سعـداء العـالـم حفنـــة ضـحــــكٍ

فالضّــــحك لـديـنــا

أصـبــح نــوعـاً مــن تـرف عبثــيٍّ

وكمـاليّــات محظــــورةْ

أصـبـحنــا نضحــك بالـصّـدفــةِ

وإذا متنــا ... متنــا صـــدفـــــةْ
====================
لكنّـــي رغــم الوهــن ...

ولأنّـــي أبـــداً لــن أهــزمْ

سيـكــون غــدي ثــأرَ الحــزنِ

وستعـلم أسنــان المنشــارِ

بـأنّــي أبـداً لــن أُقـطــــعْ

وســأحـمــل جــرحـي فــي صــدري

بــركـانـاً يحمــل بـركـانــاُ

فــي زمــن يتنفّـس ثــورةْ

فــي شعـب أبـداً لـن يـركــعْ
=====================

Thursday, November 29, 2007

لم يبق لي سواها

تعارفنا بعد الفطام مباشرة ، وتحاببنا منذ سنوات المراهقة الأولى ، وتعاشقنا طيلة السنوات التي تلت ، لكنها مع ذلك لم تحظ مني حتى ولا بقصيدة حب واحدة ، رغم أنها كثيراً ما كانت تشتكيني إلى أمي ، وتدق الأرض بقدميها ، ولكن دون جدوى . في تلك الأيام كنت أكتب قصائدي بفوهة البندقية ، وأطرزها بالأحلام القومية ، وأضمِّخُها بعبير الحرية ، وأرسلها بالبريد السريع إلى الوطن . كنت أقول لها - عندما كانت تعاتبني بِرِقَّةِ الورد - : " لدينا وطن ينتظر،، فقط احلمي معي بالحرية وابشِري ، فلا بد يوماً سآتيك بما لم يكتبْهُ أحدٌ في أحد " .
بعد عرض مسرحية (زيارة القدس) ، جمدت أحرفي على فوهة بندقيتي المكسورة ، ورقدت كلماتي في جعبة جندي قتيل وُجِد مطعوناً في الظهر ، ونامت قصائدي بدون غطاء على رصيف مطبعة أقفلتها الرقابة ، فبدأتُ أفكر ثانية في تلك التي انتظرتني حتى ملَّها الملل ، ، تُراجع صندوق بريدها كل يوم مائة مرة ، تفتش عني بين طوابير المهزومين ، وتسأل عني جميع المقهورين ، دون جدوى ، إلى أن وصلتها مني ذات صباح قصاصة من ورق البردي أقول لها فيها : " ربما قد جاء يومُك فافرحي ، ، جرَّدوني من كل شيء إلاّ منك ، ، أفكر أن أكتب إليك في العشق عما قريب ، فلا تملّي الانتظار " .
بعد نشر فضيحة ( أوسلو ) ، تغيرت لغتي ، وتبدلت لهجتي ، ، بِعت على الأرصفة جميع قصائدي التي أنجزتُها أيام " الحلم القومي " ، ، حزمت أمتعتي واستأذنت الوطن مودِّعاً كي أتفرغ لنفسي ولحبيبتي ، فقبلني في جبيني والدموع في عينيه داعياً لي بطول العشق ، ولدهشتي ،، اكتشفت أنني ما زلت عاشقاً حتى أذنيَّ ، ولأنه لم يعدْ في العمر بقية ، هاأنذا أكتب إليكِ وفيكِ - وكما وعدتك - أجمل ما كتبه أحدٌ في أحد ، علَّك ترضين عني
يا عشقيَ القديم المتجدد ، فلقد أصبح العالم في نظري - وللأسف - أنت وأنا فقط ، وليذهب الجميع إلى الجحيم .
((مـمــاحـكـة ))
شعر

يبسطني فوق الجمل

يبعثرني بين الأحرف

يقتحم خفايا نفسي ويعرّيني

يعزف أغنية الكشف على أوتار شراييني

يتركني بصمته فوق الصفحات ... ويلغيني

= = = = = = = = = = = = = =

يحفر ثقباً في ذاكرة الزمن

عفريت تركبه آلاف الجن

يجمح لا قيد يكبحه

يصرخ في صمت يفضحه

لا يعرف كيف يداري ويداهن

في زمن الشدّة

يتأبط شرّاً ، لا يستحيي أن يبصق

في وجه الردّة

لا يتحرّج ، يعد بزمن يأتي أو لا يأتي

يتقمص دور البطل المنقذ للوطن

= = = = = = = = = = = = = =

لم يكذب يوماً أو يجنح للدسِّ ، ،

أو يجبن ، ، ، أو يحني هامته للريح

أو يلغي عادته الألعوبة

في نفخ القرب المثقوبة

يصرخ في وديان الصّمت ، ، ،

يختزل الّلحظة بين المولد والموت

فتردّد أصداء نداه ملايين الخرس

= = = = = = = = = = = = =
يحترف الجدّ مع الهزل ،
وهـدوء البـال مـع القـلــق

يرتاح على كفّي ، ، بين السبّابة والإبهام

من فمه تقطر آيات الإلهام

يدندن آهات القهر ، ، ،

يرتّل أبيات الشعر ويرسم أحلاما فوق الورق

عبثيّ الرّغبة والخجل

كالرّاقص في عرس غجريّ

ثَمِـٍلٍ بين الزمّارة والطّبل

= = = = = = = = = = = = = =

لا يفتأُ ينغزني ، يحرجني ،

يبصق في وجهي ، يركلني ، يتمايل حين يعاكسني

يهزأ من أفكاري في الحبِ وفي البغضِ

في ( النّعـم ) ، وفي الرّفضِ

يستلُّ حماساً متّقداً ، يدفعني أن أدخل معركةً

حتى لو كانت خاسرةً

أو كانت ضدّ قناعاتي

لا يأْبهُ حتّى لو كلّفني ذاك حياتي

في يوم من فرط حماسته يا سادةْ

قلمي قد يقتلني
= = = = = = = = = = =
مقامة ( المواطن عبد الصبور وميزة الوقوف في الطابور )

تتميز شعوب عالم الفقر بضيق الصدر ونفاذ الصبر ، وبالنقد الحاد ، لكل ما هو هازل أو جاد، لا يعجبها العجب ، ولا الصيام في رجب ، تتسرع في توجيه التهم ، وتتفنن في التشكيك في القاضي وفي المتهم .

ومن بين شكاويها التي لا تنتهي ، اتهامها الدوائر الرسمية والمؤسسات ، بالإبطاء في إنجاز المصالح والمعاملات ، وفي زعمها أن المواطن المقهور ، يقضي نصف عمره في الطابور ، ساهماً وقد تبلد لديه الإحساس والشعور . وفي رأي هذه الشعوب أن الموظف يشعر عند احترام وقت المواطن باقتراف غلطة عظيمة ، حيث أن الإنسان في نظر الموظف أقل قيمة ، لكن ، ومع احترامي لرأي الشعوب في هذا الأمر ، فإن نظرتي إليه تتميز – بعد انعدام البصيرة – بنفاذ الصبر ، فقد سألت نفسي مراراً : هل يُعقل أن أولي الأمر لم ينتبهوا إلى ملايين الساعات التي يقضيها المواطنون أمام الدوائر الرسمية والجمعيات ، أو أمام بائعي اللحوم ومواقف الأوتوبيسات ، أمام مكاتب الهجرة والسفارات ، لتجديد الجوازات والحصول على التأشيرات ؟ وكان جوابي دائماً بالنفي ، فسوء الظن بالآخرين ، خاصة إذا كانوا من المسؤولين ، شك يقرب من المهزلة ، وتجريح لا يخلو من زلة ، وقد هداني تفكيري المتواضع إلى إدراك الغاية التي توخاها العبقري الذي اخترع فكرة الطابور ، وسمعته وكأني به يقول :
" لقد ضحلت ثقافة المواطنين إلى الحد الذي لا يجوز السكوت عليه ، فالتلفاز بمسلسلاته السخيفة هاجم البيوت من جهاتها الأربع ، ولعبت دعايات البضائع بعيون المشاهدين التي لا تشبع ، وبدأت صور الحاكم وخطاباته ، تنافس دعاية البامبرز ومميزاته ، ففقد الكتاب أهميته ومات ، وأصبح فك الخط عسيراً حتى على خريجي الجامعات ، ولو كانوا مذيعين أو مذيعات، فكان لابد من تغيير جوهري في حياة الناس ، وبما أن المطالعة تحتاج إلى أوقات فراغ في الأساس ، وبما أن أوقات الفراغ لا تتوفر لهم إلا في الطوابير الطويلة ، فقد اخترعناها لهم لغاية نبيلة ، بحيث يحمل كل منهم كتاباً يقرأ فيه بدل الوقوف كالخشب المسندة ، وبذا يكون حصولهم على الثقافة غاية مؤكدة ، فمن جهة تنتشر بينهم المعرفة السامية ، ولا يملون الوقوف لإنجاز مصالحهم من جهة ثانية ، وهكذا يضربون عصفورين بحجر ، سواء غاب الموظف أو حضر : ينمون ثقافاتهم ، وينهون إجراءاتهم .

وقد كان ، فقد نفذ مخترع الطابور فكرته ، مستخدماً في ذلك سلطته ، ففي أول مناسبة اضطررت فيها إلى الوقوف في طابور المساكين ، تقدم مني أحد الموظفين ، وقدم لي - كما قدم لغيري من المواطنين - كتاباً يحمل عنواناً ولا كل العناوين :
( ثبات المواطن عبد الصبور ، وميزة الوقوف في الطابور )

Wednesday, November 28, 2007


الثوب المفتوق في مؤتمر الخازوق

لم تكن الزفة التي سبقت العرس متناسبة مع تفاهة العريس والعروس والمدعوين ، تلك الزفة التي تبين أنها لم تكن سوى حفل استقبال وعلاقات عامة لا أكثر ، والمؤسف أنه بعد أن كان ( كارتر ) الورع ، و( كيسينجر ) العزيز ، عرابين للسلام مع العرب ، ها هو ذا الرئيس الفلسطيني ( رئيس مجازاً ) يقوم بنفس الدور ، حيث لم يكن لوجوده ولا لقضيته أية أهمية تذكر في المؤتمر لو لم يُحضر معه العرب العاربة والمستعربة والمتعربة ، بكل تفاهاتها وبذاءاتها ، فبعد أن أنكرت هذه القبائل تحالفها الغير المعلن مع الصهيونية العالمية ورأس حربتها إسرائيل، ها هي ذي تنكشف لكل من عنده بصر وبصيرة ، فبعد سكوتهم بل ومشاركتهم في الحرب ضد العراق العظيم وتدميره ، وإعدام زعيمه الكبير ، وبعد أن أظهرت بجلاء وقوفها ضد حزب الله في حربه مع إسرائيل الصيف الماضي ، وهي متيقنة واهمة بانتصار الحليف الإسرائيلي ، ها هي ذي فلول القبائل تكشف عن وجهها الحقيقي فتهرول إلى أنابوليس ، وتستقبل الصهاينة في سفاراتها التي تجيد تحضير القهوة العربية ، المقدمة مع أطباق التمر الشهي. كرم عربي حاتمي لا نظير له.
ولكن : عندما تكون العروس مومس ابنة ليل داعرة ، والعريس وغد حقير تافه كان يجلب لها الزبائن ، فلَكَ أن تتصور كيف يمكن أن يكون المدعوون . في حفل الافتتاح ، ضحكت الحقارة من أعماقها ، وانتشت الخيانة حد الثمالة ، وطربت الدناءة حتى رقصت ، وذلك عندما احتضن العزيز ( أولم ) أخاه ( عبس ) وهمس في أذنه : هكذا هي العلاقة معنا يا صديقي : ( يوم لنا ويوم عليك ، نسيتَ المطالبة بحق عودة اللاجئين ، فطالبناك بحقنا في طرد من بقي عندنا من الفلسطينيين ،، واحدة بواحدة ) والرئيس الأهبل يضحك ويأخذ الصور مع الجلادين.
وهكذا ، فمنذ زمن بعيد والحياة السياسية العربية كاريكاتير ساخر ، يبكي بقدر ما يضحك ، ويدمي العيون بقدر ما يدغدغ الخواصر. فالعناق والأحضان المتبادلة هذه الأيام ، تعيد ذاكرتك البائسة إلى ثلاثين سنة خلت عندما ضمت حديقة البيت الأبيض ( ليس تماماً ) طرفاً عجز عن الاستمرار في الصراع إلى النهاية ، وطرفاً انتزع الاعتراف به عبر فوهة البندقية ، ومنذ ذلك اليوم ظل الحمار العربي الغبي يجري خلف الجزرة التي كانت معلقة بالعصا ، متجاهلاً أن الذي يمتطيه كان قد أكل الجزرة منذ زمن بعيد ، ومازال يلهب ظهره بنفس العصا منذ ذلك الزمن .

وهكذا انتهى المؤتمر الخازوق بأسوأ مما ابتدأ به ، لكن المهم أن الأحضان تمت ، والصور أخذت ، والبطون امتلأت ، والعرب العاربة حضرت ، وحمدنا الله على نعماه ، وهو الذي لا يحمد على مكروه سواه ، وعادت قبائل العربان ( أشباه الرجال ) كما ذهبت بالكمال والتمام : يد من الخلف ويد من الأمام ، ، أعاد الله عليهم وعلى أشباههم كل خازوق قادم وهم ينعمون بالخنوع و( السلام ) عليكم ورحمة الله وبركاته.

Tuesday, November 27, 2007

نظارة الدكتور طه
(قصة قصيرة)


في كل عام ، وفي موسم الامتحانات ، تثور في أذهان من مروا بها بهمومها وأثقالها ، مشاعر مختلفة وأحاسيس متنوعة ، لعل أكثرها إثارة عندي قصة الدكتور طه.

أذكر أنني في بداية عملي بالتدريس عينت في معهد للأيتام كان يشتمل على مراحل التدريس الثلاث ، وكان من أطرف زملائنا في المعهد أستاذ عجوز اسمه "عبد المنعم" ، غير أنه لشبه بينه وبين الدكتور طه حسين –عميد الأدب العربي - في الشكل والنظارة ، فقد لقبه زملاؤه في المعهد ( الدكتور طه ) ، ومع مرور الأيام غلب لقبه اسمه الحقيقي بحيث نُسِي الاسم وبقي اللقب.

يروي الدكتور طه عن نفسه أنه كان واحداً من تلاميذ هذا المعهد منذ ما يزيد على الستين عاماً ، فقد كان والده جندياً في الجيش العثماني ، فُقِدَ في حملة جمال باشا على السويس ، فأدخلته أمه المعهد ثم انقطعت أخبارها ، ولما لم يكن له أقارب يحتضنونه ، فقد أصبح المعهد أمه وأباه ، بل وكل شيء في حياته ، ونظراً لتفوقه في الدراسة ، فقد أرسله المعهد في بعثة دراسية إلى جامعة ( الأزهر ) ، عاد بعدها إلى معهد الأيتام ليتولى تدريس مادتي اللغة العربية والدين .

مع مرور الأيام أصاب الوهن عيني الأستاذ عبد المنعم ( الدكتور طه ) ، فنصحه الطبيب بوضع نظارة طبية ، ومنذ ذلك الحين لم تفارق النظارة عينيه إلا عند النوم ، ونظراً للون زجاجها الأسود الغامق ، وشكلها الذي يشبه شكل نظارة الدكتور طه حسين ، فقد أطلق عليه تلاميذه وزملاؤه لقب ( الدكتور طه ) ، فرضي هو بهذه التسمية ، بل وتباهى بها أيضاً.

ومن أطرف ما رُوِيَ عن الدكتور طه أنه عندما كان يُكلف بمراقبة امتحانات نهاية العام ، كان يدخل قاعة الامتحان حاملاً طربوشه الأحمر بيد ، وبالأخرى زهرة فل بيضاء ، ، وبعد تبادل عبارات التحية بينه وبين طلابه – والمبالغ فيها معظم الأحيان – كان يطوف قبل بدء الوقت الرسمي للامتحان بين المقاعد ، مشجعاً طلابه ، باعثاً فيهم شعور الثقة بالنفس ، فإذا ما وُزِّعت أوراق الأسئلة عليهم ، تراجع الدكتور طه إلى الخلف ، حتى إذا ما وصل إلى حافة المنضدة ، نزع طربوشه واضعاً إياه والفلة عليها ، ثم وبصعوبة بالغة ، مستعيناً بالله ، ترفع ذراعاه الواهنتان جسده النحيل إلى الأعلى ، ثم تنزلق مقعدته ببطء إلى الخلف ، وتتدلى ساقاه الطويلتان حتى لتكاد فردتا حذائه تلامسا أرض الغرفة ، وهو يهزهما باسترخاء واضح ، وربما أحس الدكتور طه بعد قليل بتعب ، فسحب جسمه إلى الخلف مسنداً ظهره إلى الحائط مطلقاً العنان لساقيه لكي يتأرجحا بحرية أكبر.

وتمضي الدقائق وتتراكم حتى تصل إلى الساعة أو يزيد ، والدكتور ثابت على نفس الوضعية لا يتحرك ، وبين الفينة والفينة يطلق تحذيراته إلى التلاميذ منبهاً ومحذراً : " وجهك أمامك يا أخانا " ، " انظر في ورقتك وبدون كلام " ، " اعتمد على نفسك يا بني " ، فكانت هذه التنبيهات ومثيلاتها تنطبق على جميع التلاميذ ، فيحسب كل منهم أن الدكتور إنما يوجه تنبيهاته إليه شخصياً ، فلا يشك أحد منهم بأن الدكتور متنبه لسير الامتحان ، لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، كما لم يكن يدور في خلد أي منهم بأن الدكتور كان يغط في نوم عميق ، حيث اختبأت عيناه خلف زجاج نظارته القاتم ، غير أن أصدقاءه القدامى كانوا يعلمون - لكثرة ما راقب من امتحانات ، ونظراً لتطابق موسمها مع بداية فصل الصيف – يعلمون عجزه عن مقاومة النعاس ، إذ اعتاد سيادته أن ينام خلال مراقبته الامتحانات نوماً عميقاً ، مع التنبه على فترات متقطعة لكي يعطى التلاميذ الممتحنين بعض التعليمات والتنبيهات ، ثم يعود بعدها إلى سباته العميق ، بهدوء ودون أن يلحظ ذلك أحد . لكن بطريقة أو بأخرى ، تسرب هذا السر إلى التلاميذ ، فأدركوا أن أستاذهم العجوز كان يخدعهم بذكائه البارع كل هذه السنين ، فعزموا على تعويض ما فاتهم .

كان أول امتحان يراقبه الدكتور طه – بعد افتضاح سره الخطير – امتحان في الرياضيات. دخل الدكتور قاعة الامتحان ، وبعد عبارات التحية وتوزيع الأسئلة وتوجيه التعليمات والنصائح كالمعتاد ، اتخذ موضعه على المنضدة ، وانتظر التلاميذ دخوله في عالم الأحلام ، ولكن دون جدوى ، فقد لاحظوا أنه يعطيهم تعليماته المعتادة ، وتنبيهاته المتكررة ، بينما يهش بيده الواهنة ذبابة كانت تهاجم بشراسة وجهه النحيل من جميع الجهات بلا هوادة ولا رحمة ، فأيقن الجميع أن مستقبلهم معلق على جناحي تلك الذبابة اللعينة ، فالمادة رياضيات ، والحصول من زميل على قانون رياضي مؤلف من عدة أرقام ربما سيكون مفتاح النجاح ، بل ويعادل جهد سنة كاملة .

وانتظر التلاميذ طويلاً بينما عيونهم تتابع بقلق جناحي الذبابة ، وقلوبهم خافقة بعنف تدعو الله أن تكف تلك اللعينة عن الرعي في وجه مراقبهم العجوز ، ، وأخيراً ، ها قد أتى الفرج ، فقد غط الدكتور على ما يبدو في نوم عميق ، إذ كفت يده عن ملاحقة الذبابة ، وتوقفت ساقاه تماماً عن التأرجح ، هل اعتاد وجهه على إزعاجها ؟ هل تعبت يده من ملاحقتها ؟ ومع أنها ما زالت ترعى في وجهه حد الثمالة ، مازال ممسكاً عن طردها ، صابراً على أذاها ، فماذا في الأمر ؟ هل هي خدعة من الدكتور العجوز يحاول من خلالها ضبط أحدهم متلبساً بالغش ؟ أم أن النعاس قد أفقده الإحساس بإزعاج الذبابة ، فانحدر وعيه مسرعاً إلى وادي النوم ؟ لكن ليس لأي من هذه التعليلات والتأويلات الآن أية أهمية أو قيمة ، طالما أن الرجل قد نام وسنحت الفرصة للجميع ، فبدأت همهماتهم ، وسرت حلول المسائل بينهم سريان النار في كومة من القش الجاف ، وتحول الهمس إلى كلام ، والكلام إلى ضجيج، والدكتور ثابت على وضعه لا يتحرك ، فقد كان نوماً عميقاً جداً هذه المرة .

مدير المعهد جذبته الضجة إلى دخول قاعة الفصل الذي يرابط فيه الدكتور طه ، وحالما ظهر على باب القاعة ، صمت الجميع كما لو أنهم ضغطوا بأسنانهم على ألسنتهم ، وصرخ المدير : "دكتور طه ، هل هكذا تُراقَب الامتحانات ؟" ، كرر صرخته مرة ثانية وثالثة دون أن تصدر عن النائم أية حركة ، والذبابة ما زالت ترعى في وجهه ، واغتاظ المدير ، فهو يعرف أن صاحبه ينام أحياناً أثناء مراقبة الامتحانات ، ولكن ليس بهذا العمق . " دكتور طه ، أأنت في المعهد أم في غرفة نوم ؟ " أيضاً ضاع صراخ المدير كمن ينفخ في قربة مثقوبة ، حينئذ اندفع المدير إلى الدكتور وهزه بعنف من كتفه . طارت الذبابة بعيداً ... مال جسد الدكتور ببطء ، سقطت نظارته عن عينيه ، ثم وقع على الأرض بلا حراك . هنا أدرك الجميع – ما عدا الذبابة – بأن الدكتور طه كان قد فارق الحياة.
كان الدكتور طه قد أوغل في شتاء العمر عندما وافاه الأجل ، ولم يكن أحد من الناس يعرف سنه الحقيقية أثناء حياته ، لكن هذا السر انكشف لهم عندما زاروا قبره بعد بنائه ، فقد كتب تلاميذه على شاهدة القبر :
هنا يرقد المغفور له الدكتور طه
تاريخ الميلاد غير معروف ، قضى عن خمسين سنة دراسية

Monday, November 26, 2007

بين الروديو والسياسة

" الروديو " هي واحدة من أشهر رياضات ( الكاوبوي ) رعاة البقر - هذا إن لم تكن أهمها على الإطلاق - وأحبها إلى قلوبهم ، وإلى من فاتهم شرف مشاهدتها أو التعرف عليها نقول إن هذه الرياضة تتلخص في إبراز قدرة راعي البقر في السيطرة على الخيول والثيران بامتطائها لأطول زمن ممكن ، والعجول بالسيطرة عليها وتوثيق أطرافها في أقصر زمن ممكن.
- بالنسبة للنوع الأول :
آ :الخيول : فقد كان من مهام فارس الروديو القديم أن يبقى ثابتاً على ظهر الحصان ، متشبثاً به ، لا ينزل عن ظهره مهما فعل الحصان من حركات تنم عن رفضه التطبيع والقبول بامتطائه ، متحملاً قفزه ورفسه ، إلى أن يقتنع الحصان أخيراً بأنه مهما فعل فإن راكبه لن ينزل عن ظهره ، فيعلن استسلامه و ( يتطبع ) ويخضع لراكبه بل ويأنس له ، وهذا ما نشاهده في أفلام رعاة البقر ، أما في مسابقات الروديو الحالية ، فيبدو أن الفارس قد يئس من تطبيع الحصان ، أو أن الحصان نفسه قد أنف الخضوع ، فاكتفى الفارس بالبقاء على ظهره أطول زمن ممكن.
ب: الثيران : ولأنه لا حاجة إلى تعويدها على القبول بأن تُركب ، فقد اكتفى لاعبا الروديو ، القديم والحديث ، بالبقاء على ظهورها أطول زمن ممكن ، قبل أن تطرحه أرضاً فيهب زملاؤه لتخليصه من بين قرونها وأظلافها. أما العِجل المسكين الذي يطارده راعي البقر وهو على صهوة جواده ، فليس له إلا مصير واحد هو دخول رقبته في أنشوطة الحبل الذي يلوح به الفارس ، وإلقاؤه أرضاً ، ثم تربيطه بالحبل في أقصر زمن ممكن.
وعلى عكس جميع الألعاب الرياضية - التي يتعاطف فيها الجمهور مع اللاعبين – أجد نفسي شاذاً عن باقي خلق الله ، متعاطفاً مع تلك الحيوانات المسكينة التي تتحمل كل عنتريات وقسوة راعي البقر. ولأن هذه اللعبة لا تمارس – على حد قول دوائر المعارف – إلا في أستراليا وأمريكا الشمالية ( الولايات المتحدة وكندا ) ، فإنني أجد نفسي مضطراً إلى الجزم بأن مسابقات الروديو كانت تُجرى في الماضي على سكان أستراليا الأصليين ( لا بورجيز ) وسكان أمريكا ألأصليين ( الهنود الحمر ) ، وعندما أوشك هذان العنصران على الانقراض، فربما طلب علماء السلالات البشرية من رعاة البقر استخدام الخيول والثيران والعجول بدل البشر.
جالت هذه الأفكار في خاطري وأنا جالس أمام التلفاز أتابع مسابقات الروديو ، وسرعان ما قفز إلى ذهني سؤال لعين خبيث : أي نوع من المخلوقات يعتبرنا رعاة البقر؟ :
- خيول تأبى في البداية ، ثم تخنع وتتطبع ؟
- أم ثيران تُركَبُ فترة من الزمن ، ثم تُسقط الراكب عن ظهورها انتظاراً لراكب جديد يأتي بعده ؟
- أم عجول ليس لها سوى مصير واحد : دخول رقابها في الأنشوطة ، ثم السقوط والتربيط ؟
عندئذ فقط أدركت لماذا تشترط الإدارة الأمريكية أن يكون وزراء خارجيتها ومبعوثوها إلى الشرق الأوسط من أبطال الروديو المشهورين .

Tuesday, November 20, 2007

تقرير طبي

يعتزم " الاتحاد العالمي للمعوقين " في الاجتماع السنوي القادم لجمعيته العمومية ، إرسال برقية عاجلة وشديدة اللهجة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية ، يدعوه فيها إلى سرعة التحرك لإصلاح الوضع العربي الراهن قبل فوات الأوان ، مؤكداً وضع " جميع إمكانياته " المادية والمعنوية للمساعدة في ذلك !!، داعياً الجامعة العربية إلى التخلص من جميع "الرموز" والشعارات المعوِّقة . مصادر عليمة أكدت أن جامعة الدول العربية سوف ترد على هذه الرسالة - إن هي تسلمتها - برسالة أشد لهجة ، ستطلب فيها من الاتحاد المذكور قصر اهتمامه على شؤون المعوقين من أعضائه فقط ، بدل التدخل في شؤون " المعوقين الآخرين " ، كما ستتهمه أيضاً بالتدخل غير المشروع في الشؤون الداخلية العربية ، الأمر الذي يتعارض مع جميع المواثيق والقوانين الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بل والحيوان أيضاً . ناطق أبكم ! بلسان الاتحاد العالمي المذكور قد يكتفي بمناشدة اتحاد الأطباء العرب ( قسم المسالك وعلاج الذكورة ) بإجراء فحص طبي على الأعضاء السفلية من أجسام المسؤولين العرب ، وبالتحديد المشاركين منهم في مؤتمر ( أنابوليس ) القادم ، وذلك للتأكد من ثبوت رجولتهم قبل انخراطهم في محادثات مصيرية ، خاصة بعد أن تم بنجاح كبير إعدام الذكر الوحيد ؟ في أمة الخصيان.

Monday, November 12, 2007

سميرة
(قصة قصيرة )

منذ مدة طويلة وهي تعبر خياله بإلحاح عنيد ، رغم أن أربعين سنة قد مرت على آخر لقاء بينهما ، وهاهو ذا يركب الحافلة التي ستوصله إلى الشارع الذي كانت – وربما لا زالت – تقيم فيه ، والمطر في الخارج يهطل بغزارة يخشى أن تمنعه من الاهتداء إلى المنزل المقصود ، يقطع الوقت عابثاً بإصبعه ببخار الماء الذي تكاثف على سطح الزجاج البارد ، يرسم دوائر وخطوطاً ثم يمحوها بكفه ، ينفخ هواء رئتيه الدافيء لكي يعيد تكوين البخار على الزجاج ، ثم يعبث به مرات ومرات ، وهو في هذه الأثناء يستعيد ذكريات العلاقة التي ربطته بها لأسابيع معدودة ، ثم انقطعت لسنوات طويلة . تقابلا في رحلة جماعية إلى أحد المصايف الجبلية ، كانت صحبة شقيقتها ووالدتها ، وخلال تلك الرحلة التي لم تتجاوز الساعات الثمان تعارفا ، وشعر – وربما هي كذلك - كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ سنوات الطفولة ، ما زال يتذكر جيداً ملامح وجهها البريء ، وجديلتيها الغليظتين ، والحلقات الكبيرة التي كانت تزين بها أذنيها مما أعطاها ملمحاً أندلسياً لا تخطئه العين ، ، مع نهاية الرحلة - وربما بإلحاح من سميرة - طلبت الأم منه أن يعطي ابنتها دروساً في اللغة الإنكليزية ، فهو في بداية مرحلة الدراسة الجامعية ، بينما كانت هي في نهاية مرحلة الدراسة الإعدادية ، كيف سارت الأمور بعدها ؟ ، ، يعبث من جديد بالبخار المتكاثف على سطح الزجاج ، ، ينظر إلى سطح كفه التي بدأ الزمن يطبع بقعه السوداء عليها إيذاناً بدبيب الشيخوخة إليه ، نفس هذه الكف مرَّت مرات على سطح كفيها ، أو قلَّبت معها صفحات كتب ودفاتر كانت تشهد على تصاعد الوجد في قلبيهما الصغيرين ، ، حنين سنوات العشق تتحرك في جوانحه ، أعطافه تهتز بعنف تأهباً للحظة لقاء انتظرها أربعين سنة ، ، لم يكن وضعه المالي والاجتماعي في حينه ، ولا سنها الصغيرة ، تسمح له بخطبتها والارتباط بها ، ، لا أحد يدري كيف تسير سفينة الحياة ، ولا من أية جهة تهب عليها الرياح العاتية تحملها في اتجاهات تعجز مهارة الربان عن السيطرة عليها ، ، خطوط حياتنا مثل هذه الخطوط التي على الزجاج البارد ، تظهر وتختفي دون منطق يحكمها أو أسباب وجيهة تبررها ، لذا كان الفراق قدراً محتوماً استمر كل هذه المدة الطويلة ، لكن وبما أنها كانت تزور خياله مراراً وعلى مدى هذه السنين الطوال ، فإنه يشعر بأنه لن يفاجأ عندما سيراها بعد قليل

ينزل من الحافلة أمام الشارع الذي يذكر أنها كانت تقيم فيه : نعم إنه نفس الشارع ، مع ظهور عدد من المحلات التجارية على جانبيه ، ، شارع ضيق مسدود النهاية تضيئه مصابيح باهتة أضفت - مع المطر الهاطل - مسحة من رهبة ممزوجة بالسكون ، ، يرفع ياقة معطفه اتقاء البرد والمطر ، يُعرِّج على دكان بقال ويسأله عن بيت السيدة سميرة ، فيشير الرجل إلى نفس مدخل العمارة الذي ما زال يتذكره ، ، حسنٌ ، كل شيء يسير حتى الآن على ما يرام ، ، يتحسس خطواته باتجاه باب العمارة ، ، نفس المدخل ذي الضوء الخافت ، مصباح صغير يضيء المدخل الموحش ، وحواف الدرجات الرخامية قد تثلمت تحت وطأة الأقدام ، فأصبحت مصيدة لمن لا يحسن تحسس مواضع خطواته ، وعليه الآن أن يصعد إلى الدور الثاني ، ، نعم الدور الثاني ، مازال يتذكر ذلك بوضوح ، أيامها كان يقفز الدرجات مثنى مثنى أو ثلاث ثلاث يسبقه قلبه قبل خطواته ، أما الآن وقد أذهب الزمن جلَّ نظره ، وأوهنت السنون قوة عضلاته ، فعليه أن يتحسس طريقه مستعيناً بحافة الدرج ، عندما ستفتح له الباب سيسألها مستفسراً : هل هذا بيت السيدة سميرة ؟ . سترد بالإيجاب ، عندها سيقول : وهل عرفتني ؟ ربما ضعف نظرها فاستعانت بنظارة طبية ، سوف تتمعن فيه ثم تصرخ : معقول أنت ؟. لن ينقص المشهد سوى عناق حار ، لكن ربما كانت متزوجة – وهذا مؤكد – إذن فالتقاليد تتعارض مع هذا الأسلوب العصري في التعبير عن الشوق ، لا يهم ، المهم أن المفاجأة ستعقد لسانيهما وبعدها فليكن ما يكون ، ، فيما مضى كانت مربوعة القامة تميل إلى القصر ، لكن نحافة جسمها كانت تضفي عليها مسحة من أناقة ، فهل ما زالت كما كانت ؟ أم تنتظره مفاجآت من نوع ما . وصل إلى الدور الثاني من البناء ، تحسس إطار الباب باحثاً عن الجرس فعثر عليه بعد لأْي ، ربما كان هو نفس الجرس الذي كان يقرعه كلما كان يأتيها بحجة الدرس
رنين الجرس يدوي في الداخل ، حركة أقدام تُسمع تتحرك خلف الباب ، مصباح يُضاء من الداخل ، يُفتح الباب فيظهر وجه امرأة عبثت به الأيام بقسوة : جبين مجعد ، ووجنتين رخوتين ، شفاه تتدلى وكأن صاحبتها مصابة بلوثة عقلية ، طول الجسم مساوٍ لعرضه ، خصر منتفخ مع ترهل نتج عن حالات حمل متكرر ، عينان زائغتان ترقدان خلف نظارة جِدُّ سميكة ، رائحة تبغ وقهوة وهواء ساخن وهمهمات باقي أفراد العائلة تأتيه من الداخل . هي بعينها ، لكنها كائن هَرِمٌ دميمٌ نِتاجُ زمن لا يرحم ، ، ارتعش بعنف ، ، تلجلج صوته ، لكنه تماسك وسألها :
- هل هذا بيت السيد عدنان ؟
- لا يا أخي ، أنت مخطيء بالعنوان .

Sunday, November 11, 2007


يــومـيـــات " بطل "
(شعر)
اليوم الأول:


المشهد الأول:

ينهض صبحاً ، يتمطّــى ، يطبع فوق جبين حبيبته قبلة عشق
يخرج ، يفتح غرفة نوم الأولاد
يبعثر قبلاتٍ دافئةً فوق الوجنات الحمراء
المشبعة برائحة النوم الهانيء
يغسل وجهاً أتعبه جهد ليلي في غرفة نوم ورديةْ
يأخذ حماماً ، يحلق ، يصفر أغنيّةْ
يغلى ماء القهوة ، ويجهز إفطار الأولاد 0 0 0
في المطبخِ ، يتصفح أوراق الصحف اليوميةِ
يصحو باقي أفراد الأسرةِ

بعد الإفطار وقبلات وداعِ للأحباب
يلبس زياً خاكياً ، يتناول خوذته ، يتأبط رشاشاً
وتودعه الأسرة حتى الباب

المشهد الثاني:

يتسلق برج الدبابة ، يتموضع خلف الرشاش
أطفال في الجهة الأخرى في الحارةْ
يرمون حجارة سجيل بغزارةْ
يأتي الأمر بإطلاق النار على كل الأشياءِ
بلا استثناءْ
يطلق أول طلقةْ ، يتبعه باقي الطاقم
كل منهم يقتل طفلاً
باليسرى يأخذ قطعة بيتزا ، باليمنى يضغط
يسقط طفل آخرُ
يهرب باقي الأطفالِ
يجرون بعيداً بين الأطلالِ
إلاّ طفل ما زال يسد طريق الدبابةِ
تمتم في حقد بريٍّ : "هذا الوغد الأرعن يستهزيء بي ، يتحداني ، خذها "
باليمنى يضغط
عطل ما يمنع تفجير الطلقةِ
ما زال الطفل يلوِّحُ بالقبضةِ
ويحاول ثانيةً ، ما زال العطل يعاند تفجير الطلقةِ
والطفل يراقبُ ، يستنكف أن يرمي هذا المتوترَ بالحجرِ
يأبى الطفل إلا أن يتصرف برجولةْ
يضطرب الجنديُّ وينزل جوف الدبابةِ
ويعيد محاولة الإطلاقِ ، يفشلُ
الطفل يمَلُّ الوقفةَ ، يعتبر نزول الجندي استسلاماً
وهروباً من حجر يحمل أحلاماً
ونهاية كابوس يقطر آلاماً
يفرح ، يضحك في الأعماق
ويعود بنشوة نصر تحمله فوق الأعناق

ما زال الجندي يحاول إصلاح العطبِ
ينجح ، يتطاول فوق البرج ، فيرى الطفل يعود إلى اللعبِ
باليسرى يأخذ قطعة بيتزا
باليمنى يضغط ، يسقط طفلٌ رجلٌ
وبلا خجلٍ
باليسرى يأخذ رشفة بيبسي
باليمنى يضغط ، يسقط طفل آخر
باليسرى يأخذ قطعة بيتزا
باليمنى يضغط ، يضغط ، يسقط أطفال أمثالهْ
باليسرى يأخذ رشفة بيبسي
ينظر في الساعة
ها قد أنهى يوماً آخر مملوءاً بالمتعة :
" يأكل بيتزا ، يشرب بيبسي ، يقتل أولاد الناس "
ويعود إلى البيت مساء ، فرحاً كي يحضن أطفالهْ

اليوم الثاني:

المشهد الأول

ينهض صبحاً ، يتمطــى ، يطبع فوق جبين حبيبته قبلة عشق
يخرج ، يفتح غرفة نوم الأولاد
يبعثر قبلات دافئة فوق الوجنات الحمراء المشبعة برائحة النوم الهانيء
" " " " " " " " " " " " " " "
" " " " " " " " " " " " " " "

بعد الإفطار وقبلات وداع الأحباب
يلبس زياً خاكياً ، يتناول خوذته ، يتأبط رشاشاً
وتودعه الأسرة حتى الباب


المشهد الثاني:
" " " " " " " " " " " " " " "
" " " " " " " " " " " " " " "
باليسرى يأخذ قطعة بيتزا
باليمنى يضغط ، يضغط ، يسقط أطفال أمثالهْ
باليسرى يأخذ رشفة بيبسي
ينظر في الساعة
ها قد أنهى يوماً آخر مملوءاً بالمتعة :
" يأكل بيتزا ، يشرب بيبسي ، يقتل أولاد الناس "
ويعود إلى البيت مساء ، فرحاً كي يحضن أطفالهْ
اليوم الثالث وما بعده من أيام :

المشهد الأول :
" " " " " " " " " " " " " "
المشهد الثاني
" " " " " " " " " " " " "
" " " " " " " " " " " " "
باليسرى يأخذ قطعة بيتزا
باليمنى يضغط ، يضغط ، يسقط أطفال أمثالهْ
باليسرى يأخذ رشفة بيبسي
ينظر في الساعة
ها قد أنهى يوماً آخر مملوءاً بالمتعة :
" يأكل بيتزا ، يشرب بيبسي ، يقتل أولاد الناس "
ويعود إلى البيت مساء ، فرحاً كي يحضن أطفالهْ

يـــوميّـــات مهــــزوم
(شعر)

عندمـا كـان إلـه الريـح يكنـس مــن حيـاتـي

ذكـريـاتي

وارتعـاشاتــي الدميمـة

كنــت مــربـوطــاً على كــرسـي الهـزيمـة

فـوق تلّ مـن جماجـم ، قيل ( هــولاكــو ) بنـاهْ

عــندمــا حـجّ إلـــى الـدّجــلةِ

كـــي يغســل فــي النّهــر خـطــاياه

وآثـــــــار خـطـاهْ

عنــدمـا كـنّــــا نـقــاوم

بالتّــمائم

والتعـاويـذ القـديـــــمــة

عنــدمــا كـنّـــا نـحـــارب

بالشتائم

والمفــــاهيــم السقيمــة

(يـومهـا قلنـا بـأن الغزو ( ضـدّ المـدنـيّة
يــومــهـا لــم نكـن نعلـمُ

- أو كنّـا - ولكنّــا نـكـــابـرْ

أنّ صــون الأرض ، والعـرض ، وإبـداعَ البشــائرْ

لــــن يكـــن بالعنجهيّـــة

أو بــأشـــلاءِ الضمــائــرْ

=======================

وعلــــى طــول الطريــق

عنــدمـا كنّــا نهـرول فـــي مـراثينـا

كــانت البـوم تعشش فــي مـآقينــا

وكـانت مــن ريــاح الغـرب تـأتينـا

خيــولٌ وغـزاةٌ ولهــبْ

لــم يعلّــمنـا رعــاة الـرعب إلاّ

حكمـة الصّــمت

وتكبـــيـت الغضــــبْ

ولهــذا لــم نعـد نهتــاجُ

أو نـأســـى لمـاضينــا القتيـلْ

نـدّعــي أنّ التّســامحْ

خيـر طبع فــي البشــرْ

خيــر مـايشــفي العليــلْ

======================

وعـلــى طــول الطـريـــقْ

عنـدمــا كنّــا نـــراوحْ

عبـــــر غــابـات المنـائحْ

فـي أريـحا . . عندما اقتلعـت مآقيهـا ( جنـود الـرّبِّ )

ثــمّ أهـدتهـا ( ليـوشعْ )

فـــي دمشـــق . . عنــدمـا سبيـت مـآذنهـا

ونـامت فــي حمـى تيمـورَ

نــوم العـاثــرةْ

وحتّــى الأســود ( الكــافـور ) ابن العاهـرةْ

قــد طـغـــى بالـقــاهـرةْ

وفــي ( غـرنـاطــةَ ) الأم الحنـــونْ

لــم يوفــر ( اكسمينسْ ) مــن ( تسـامحه ) مع المغلوبِ

شيئــاً مــن جنــونْ

مـن ذئـاب محـاكم التفتيـش تهـديـهِ مـن المـوت فنـونْ

========================

وعلـــى طــول الطـريــق

عنـدمـــا صـرنـا طـعـــامـاً للخيـامْ

عنــدمـا أقبـل ليــلٌ

فــإذا نحــن يتــامـى

فــي سـراديـب اللـئـامْ

لــــم تـكــــن عمّـــان والأحــراش أو عجــلونْ

غيــر فصــل مــن قصيـدةْ

نظمـت قبـــل قــرونْ

=======================

وعلـــى طــول الطـريـقْ

عندمــا كنّـــا نـئــنّْ

عبـــر أجيــال مــن المـاضي العفـنْ

كنـت ألقــي فــي بـراميــل القمــــامــةْ

دمعــة تعـلــو ابتســـامةْ

لــم تجــد حتّــى الكفـنْ

مـــن عـدوًّ أو صــديـقْ

========================

هــــذي حيــــا تـــي كـلّــــها

خــــوفٌ وذلّ واغتـرابْ

هـــي قـصّــتي

تروي المـآســي والمصــائبَ والعـذابْ

يــاراقصـون علــى التـرانيم العقيمــةْ

مــازلـت فـوق التـلّْ

يـــا مـن ينـزل المهـزومَ

عــن كــرســي الهـزيمـــــــةْ
=======================