Thursday, November 29, 2007

مقامة ( المواطن عبد الصبور وميزة الوقوف في الطابور )

تتميز شعوب عالم الفقر بضيق الصدر ونفاذ الصبر ، وبالنقد الحاد ، لكل ما هو هازل أو جاد، لا يعجبها العجب ، ولا الصيام في رجب ، تتسرع في توجيه التهم ، وتتفنن في التشكيك في القاضي وفي المتهم .

ومن بين شكاويها التي لا تنتهي ، اتهامها الدوائر الرسمية والمؤسسات ، بالإبطاء في إنجاز المصالح والمعاملات ، وفي زعمها أن المواطن المقهور ، يقضي نصف عمره في الطابور ، ساهماً وقد تبلد لديه الإحساس والشعور . وفي رأي هذه الشعوب أن الموظف يشعر عند احترام وقت المواطن باقتراف غلطة عظيمة ، حيث أن الإنسان في نظر الموظف أقل قيمة ، لكن ، ومع احترامي لرأي الشعوب في هذا الأمر ، فإن نظرتي إليه تتميز – بعد انعدام البصيرة – بنفاذ الصبر ، فقد سألت نفسي مراراً : هل يُعقل أن أولي الأمر لم ينتبهوا إلى ملايين الساعات التي يقضيها المواطنون أمام الدوائر الرسمية والجمعيات ، أو أمام بائعي اللحوم ومواقف الأوتوبيسات ، أمام مكاتب الهجرة والسفارات ، لتجديد الجوازات والحصول على التأشيرات ؟ وكان جوابي دائماً بالنفي ، فسوء الظن بالآخرين ، خاصة إذا كانوا من المسؤولين ، شك يقرب من المهزلة ، وتجريح لا يخلو من زلة ، وقد هداني تفكيري المتواضع إلى إدراك الغاية التي توخاها العبقري الذي اخترع فكرة الطابور ، وسمعته وكأني به يقول :
" لقد ضحلت ثقافة المواطنين إلى الحد الذي لا يجوز السكوت عليه ، فالتلفاز بمسلسلاته السخيفة هاجم البيوت من جهاتها الأربع ، ولعبت دعايات البضائع بعيون المشاهدين التي لا تشبع ، وبدأت صور الحاكم وخطاباته ، تنافس دعاية البامبرز ومميزاته ، ففقد الكتاب أهميته ومات ، وأصبح فك الخط عسيراً حتى على خريجي الجامعات ، ولو كانوا مذيعين أو مذيعات، فكان لابد من تغيير جوهري في حياة الناس ، وبما أن المطالعة تحتاج إلى أوقات فراغ في الأساس ، وبما أن أوقات الفراغ لا تتوفر لهم إلا في الطوابير الطويلة ، فقد اخترعناها لهم لغاية نبيلة ، بحيث يحمل كل منهم كتاباً يقرأ فيه بدل الوقوف كالخشب المسندة ، وبذا يكون حصولهم على الثقافة غاية مؤكدة ، فمن جهة تنتشر بينهم المعرفة السامية ، ولا يملون الوقوف لإنجاز مصالحهم من جهة ثانية ، وهكذا يضربون عصفورين بحجر ، سواء غاب الموظف أو حضر : ينمون ثقافاتهم ، وينهون إجراءاتهم .

وقد كان ، فقد نفذ مخترع الطابور فكرته ، مستخدماً في ذلك سلطته ، ففي أول مناسبة اضطررت فيها إلى الوقوف في طابور المساكين ، تقدم مني أحد الموظفين ، وقدم لي - كما قدم لغيري من المواطنين - كتاباً يحمل عنواناً ولا كل العناوين :
( ثبات المواطن عبد الصبور ، وميزة الوقوف في الطابور )

No comments: