Saturday, October 22, 2011

ليبيا: حظاً سعيداً



في شهر ديسمبر من عام 1976 ،وفي طقس عاصف بارد، وطأت قدماي أرضها، فغبطت نفسي أنني أدخل دولة العرب من المحيط إلى الخليج، فقد سبقتني إليها مشاعري القومية، وتطلعاتي التقدمية، وأحلامي في مستقبل باهر ينتظر شعبها وشعوب العرب كافة.
في تلك الأيام وما قبلها، كانت ليبيا مهبط أفئدة القوميين العرب، خاصة بعد رحيل زعيم العرب في سبتمبر من عام 1970، فورث حكامها الجدد - في حينه - راية القومية والوحدة العربية. في بنغازي لم تصادفني أية عقبات مع وزارة التربية والتعليم في الحصول على عقد عمل للتدريس، وعينت لفترة قصيرة في دار المعلمات، والتي على ما أذكر كانت في منطقة القوارشة، ثم نقلت إلى إعدادية (علي المقصبي). سارت الأمور على ما يرام، فالرواتب معقولة، والسلع متوفرة، والأمن مستتب، والشعب يعتقد أنه مقبل على نهضة تضاهي أعرق الأمم، لكن الأمور بدأت تأخذ منحى تبددت معه الأمال، وانهارت الأحلام، وبدا أن البلاد مقبلة على أوضاع داخلية لا تبعث الاطمئنان في النفوس، فقد تتابعت الإجراءات الفردية لحاكمها المطلق، فبدأ تكوين اللجان الشعبية، وظهرت بشكل غبي فكرة الزحف الجماهيري على مؤسسات وإدارات ومرافق الدولة، فعُزِل المدراء الأكفاء، وتولى مناصبهم حُجَّابُهم، الذين كانوا بالأمس ينظفون مكاتبهم ويقدمون لهم ولضيوفهم الشاي والقهوة، فانعدمت قيمة رجالات البلاد، وسادت الدهماء، وانفلت حبل النظام العام، وربما كان من أكثر المشاهد الكوميدية السوداء مشهد الاجتماع العام لمؤتمر الشعب العام حين انعقد لمناقشة الاسم الجديد للدولة، فبعد مناقشات ساخنة اقترح فيها الحضور مئات الأسماء، قام العقيد – نصف الإله كما كان يظن نفسه – ومسح ما كتب على السبورة، وخط بالطباشير الاسم الذي فرضه، وهو   (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، ثم أضاف إليها بعد الضربة الأمريكية عام 1986 كلمة " العظمى").
استمرت الأخطاء بالتصاعد، فاستيقظنا ذات صباح على قرار يقول أن (البيت لساكنه)، ففقد أصحاب الأملاك الليبيون منازلهم لصالح المستأجر إن كان ليبيا، أو لصالح الدولة إن كان المستأجر أجنبياً، واستحدثت في جميع المدن الليبية مكاتب تحصيل أجور العقارات من الأجانب، وألغيت العملة الليبية، فأمهل الناس أربعة أيام فقط لاستبدال أوراقهم النقدية، وبانتهاء المهلة - التي لم تكن كافية علىى الإطلاق – أحرق بعض السكان أنفسهم، وطفت أوراق العشرة دنانير الليبية، والتي كانت تحمل صورة المجاهد عمر المختار، طفت بالملايين على سطح مياه البحر الأبيض المتوسط، ولم يسلم التاريخ الإسلامي من العبث، فاستبدل بالتاريخ الهجري التأريخ بوفاة الرسول (ص)،  فتيقنت أن البلاد متجهة نحو هاوية سحيقة لا يعلم إلا الله متى ستخرج منها، وفي الوقت الذي كان فيه الأجانب يتهافتون للحصول على فرص عمل في " الجماهيرية " قدمت استقالتي في شهر يوليو  1979، فاتهمنى أصدقائي بالجنون، ورموني بصفات البطر والتسرع والغوغائية، لكنني كنت قد أصبحت مقتنعاً بأن هذه البلاد لم تعد تصلح لسكانها لكي يعيشوا فيها، فما بالك بالأجانب أمثالي.
وعندما كانت الطائرة تقلع بي وبعائلتي من مطار " بنينة " في بنغازي، ألقيت نظرة وداع على الأرض التي توقعتها مهبطاً لأحلامي وأمالي وتطلعاتي، فوجدت هذه الطموحات جميعها وقد تحطمت أشلاء متناثرة غطت سطح الأرض من"امساعد" على الحدود المصرية إلى "راس جدير" على الحدود التونسية.
حظاً سعيداً ليبيا، ودعواتي إلى الله أن يعوض شعبك خيراً عن الأربعين عاماً أو يزيد التي قضاها معتقلاً في سجن كبير اسمه " الجماهيرية الليبية "، والرحمة، كل الرحمة، لشهدائك الذين لم يبخلوا عليك بأغلى ما عندهم: أرواحهم، والعمر المديد والسعادة لثوارك، الشهداء الأحياء، الذين سطروا صفحة لا أظنها ستتكرر في تاريخ الأمم والشعوب.   

Monday, October 3, 2011


قريبٌ قريب، قريبٌ بعيدٌ 
    رغم بعد شقة الزمان والمكان، إلا أنني ما زلت أحن إليهم،،، أتوق لقربهم،،، أحزن على فراقهم،،، كانوا أشخاصاً من لحم ودم،،، كنت ألمس في حضورهم دفء المشاعر، وأحس في أكفهم حين المصافحة دفق العواطف، وأتوسم في نخوتهم الحصول على أية مساعدة أحتاج إليها، صغيرة كانت أم كبيرة،،، أبعدُهُم عني كنت أصله بالسيارة خلال دقائق، وأقربهم مني كنت أراه بمجرد أن أفتح نافذتي، فالبعيد منهم، قريب، والقريب منهم، قريب جداً. هم أصدقاء ما قبل عصر الكهرباء ومشتقاتها،،، طوى الزمان صفحتهم، وطوحت الأقدار بهم بعيداً، لكنهم سكنوا القلب والروح والذاكرة،،، واليوم حل مكانهم أصدقاء جدد، تفصلني عن أقربهم إلى نفسي آلاف الأميال، لا أعرف وجوههم إلا بالتخمين من خلال قراءة أفكارهم التي تحملها إلي أحرف سوداء على شاشة صماء، والسعيد منا من امتلك كاميرا رأى من خلالها من يفترض أنه صديق، ولو عن بعد. أصدقائي الجدد بعضهم يعمل بتيار بقوة 110 واط ، وآخرون - لاختلاف المكان – يعملون بتيار قوته 220 واط، أما البعض القليل منهم فيعمل بالبطارية إن كان على سفر أو في مقهى. تقطعت بيني وبينهم لغة الجسد وحلت مكانها لغة الطابعة،،، يفاجئني بعضهم بالإصرار على رؤيتي عبر الكاميرا، وبما أن إعجابي بصورتي قد انقطع منذ زمن، فقد أصررت على ألا أستجيب لهم مهما كلفني ذلك من لوم وتقريع، حتى لا أفاجئهم بما لا يحبون، فتتلبسهم الكوابيس في النوم واليقظة، أو يقعون في حب من يرون، فيهجرهم النوم في ليالي الشتاء الطويلة، أما إن كان لهم عتبٌ عليَّ، فليعتبوا على الزمن الذي لم يجمعهم بي عندما كنت صالحاً للمشاهدة. هذا لا يعني أنني دميم إلى الدرجة التي أخشى فيها أن يراني الناس عليها، لكنني أريد بذلك أن أتيح لهم بأن يرخوا العنان لخيالهم لكي يتصوروني كما يشاؤون،،، أريد أن أبقى قصة مقروءة لا يتحول بطلها إلى هباء عندما يظهر على الشاشة الفضية. الفارق الحقيقي الوحيد بين أصدقائي القدامى وأصدقائي الجدد، أن القدامى كانوا غير قابلين للإلغاء، أم الجدد فمن السهل أن تلغيهم بمجرد الضغط على زر delete  . وهل هنالك فارق أهم من هذا؟. لكن: لا ينكرن جاحد بأن من بين الأصدقاء، الذين يعملون بالكهرباء أو بالبطارية على حد سواء، من لديه القدرة على تذكيرك بالزمن الجميل،،، أيام صداقة ما قبل عصر البطارية وما قبل زمن الكهرباء ،،، هؤلاء الأصدقاء الجدد لا يخضعون للنسيان، ولا حتى للإلغاء.   
أكتوبر 3-2011