Thursday, March 27, 2008

لقاء
(قصيدة قصيرة)
أخشى عليَّ إذا لقيتك
أن أموت من الفرح
وأخاف أن تبلى عيوني
حين ألقاك بدمع منسفح
حلم اللقاء حبيبتي
قوس قزح

Tuesday, March 25, 2008

سائق القطار
(قصة قصيرة)
قاطرة قديمة عمرها أكثر من مئة عام ، تسير بتثاقل على سكة حديد أقدم منها،تجر خلفها مجموعة عربات للركاب،متبوعة بمجموعة أخرى من عربات الشحن.ثلاثون عاماً أو يزيد قضاها (طلبة) سائقاً لهذا القطار الذي يربط العاصمة بجنوب البلاد، تلك السنوات الطويلة مرت على العائلة بدون منغصات تذكر،باستثناء ما وقع لها من أحداث عكرت صفو حياتها على مدى العامين الماضيين.يضعف ضغط البخار على المكابس،وتتضاءل سرعة القطار،فينحني (طلبة) لتناول المجرفة،ويبدأ بقذف كتل الفحم الحجري في جوف الموقد،،يحدق في ألسنة النيران المتماوجة،فتلفح وجهه حرارتها الشديدة،لكنه يحس بنيران قلبه أكثر اتقاداًً وأشد لفحاً من نيران الموقد،،،يزداد ضغط المكابس بالتدريج،فتزداد معها سرعة القاطرة،وتزداد معهما نبضات قلبه ، فيمسك بتوتر حبل الصافرة ويشده بعنف إلى الأسفل،فتزمجر محدثة ضجيجاً لا يغطي،رغم شدته ،على الضجيج الذي يلعلع داخل رأسه.يمسك دافع الحركة بيد،بينما يمسك بالأخرى دافع الفرملة ،مطرقاً رأسه،ناظراً بين قدميه،،ينتبه إلى أن الشاي في الإبريق المعدني القديم يغلي على مدخل الموقد،،يتناوله ويصب الشاي في كأس نصف نظيفة ، فينسكب بعضه على حواف الكأس بسبب اهتزاز القاطرة لدى عبورها منعطفاً حاداً،لكن الاهتزاز يتوقف عندما تستقيم في سيرها،بينما يستمر هو سارحاً في هواجسه.ينظر في زاوية المكان،فيرى مساعده (محمدين) وقد تهاوى على كرسي صغير،داخلاً في سبات عميق بعد يوم كامل من عمل مضن.

لماذا لم يغادر قريته إلى العاصمة كما فعل بعض أبنائها؟،أولئك الذين اندمجوا في مجتمع المدينة العملاقة،وذابوا بين ملايينها،ونسوا تقاليد الريف بما فيها من محاسن وويلات،،بعضهم عمل في التجارة،بينما استوظف البعض في دوائر الحكومة،بل إن البعض منهم قد بالغ في الابتعاد عن تقاليد العائلة المحافظة ، فعمل حتى في مجالات فنية مختلفة كالتمثيل والموسيقى والرقص،أما كان الأولى به أن يفعل مثل ما فعلوا؟،إذن ما كان ما وقع قد وقع،،،يرشف الشاي ويغالب نفسه كي لا يحسد أولئك الذين انفلتوا من قبضة العادات والتقاليد البالية،خاصة عادة الأخذ بالثأر التي تفسد علاقات العائلة الواحدة،وتفتتها إلى عدد من العائلات المتناحرة المتنافرة،لكنه يثوب إلى وعيه،فيستنكر ما فعله أولئك الخارجون عن روح العائلة،ويقنع بما هو فيه رغم قسوته ومرارته،،،ينظر أمامه عبر زجاج القاطرة مراقباً خطي سكة الحديد اللذين تبتلعهما قاطرته بنهم شديد،يتمايلان قبل الدخول في فمها تحت ضوئها الجديد الساطع،،،زجاج الضوء القديم صدمه الشهر الماضي طائر كبير أدى إلى تحطمه،فقامت ورشة المصلحة باستبداله،وها هو الضوء الجديد يكشف السكة أمام (طلبة) إلى مسافة تمكنه من تفادي قطعان المواشي التي قد تعبر خطي السكة ليلاً،ما جعله يشعر بالأمان الآن أكثر من ذي قبل،هذا بينما تراقصت قامات أشجار اصطفت على جانبي السكة،كأنها رؤوس أشباح تتمايل محتفلة بعرس واحد منها،وخلف صفوف الأشجار ترامت حقول قصب السكر والقطن والأرز والخضروات،والتي خمَّن أنها تمتد حتى خط الأفق الذي لا يستطيع رؤيته بوضوح بسبب الظلام الدامس الذي يلف المكان.

كان ذلك منذ ما يزيد على العامين عندما تقدم أحد أفراد عائلته لخطبة ابنته.(حسنين) كان أحد أبناء عمومة (طلبة) وينتمي لفرع صغير من العائلة الكبيرة،والذي انسلخ عنها بسبب قضية ثأر قديم،وفشلت جميع الوساطات لعودة ذلك الفرع إلى أصله،وبالتالي لم يعد ممكناً الموافقة على (حسنين) عندما تقدم لطلب يد (فاطمة) من أبيها بعد قصة حب نمت ترعرعت منذ أيام الطفولة ،،بتوالي توسلات (حسنين) ازداد رفض (طلبة)،إلى أن أقسم ذات يوم على قتله إن هو استمر في إزعاجه، فاختفى (حسنين) من المنطقة،ثم سرت أخبار عن تطوعه في القوات المسلحة.يقذف (طلبة) كميات من الفحم في جوف موقد القاطرة يستحثها على زيادة السرعة،فما زالت أمامه ثلاث ساعات للوصول إلى المحطة النهائية،وتزداد سرعة القاطرة أكثر فأكثر،ويسكب كأساً ثانية وثالثة من الشاي،ويسرح ببصره في اللاشيء،في الظلام الدامس.هل أخطأ أم أصاب في تعامله مع (حسنين)؟،وهل لو أحسن التصرف معه لكان قد منع وقوع المصيبة التي حلت به وبعائلته؟ كيف انفلت عقال الأمور من يديه،فسارت على هواها بالطريقة الكارثية التي أصابت كرامته في مقتل؟ذات صباح استيقظ أهل الدار على صوت زوجته تولول معلنة هروب (فاطمة) من البيت،، سألوا عنها الأقارب،،بحثوا عنها في كل مكان،دون جدوى،وشاع النبأ في البلدة،فاتجهت الأصابع متهمة (حسنين) باختطافها،خاصة وأن اختفاءها قد تزامن مع سفر ابن عمها،وظن الجميع أنه قد اصطحبها معه-سواء برغبتها أو رغماً عنها لكي يواريا فضيحة ربما تورطا فيها- للسكن في إحدى مدن القنال،بالقرب من خط الجبهة التي كانت ترابط فيها كتيبته.صبايا البلدة وشبانها ربما صفقوا لهما في السر،بينما صبت العجائز اللعنات على رأسيهما،أما (طلبة) فقد أقسم على قتل الاثنين لو استطاع،أقسم على ذلك بشرفه أمام الجميع،وازداد الشرخ في العائلة إلى أن أصبح انفصالاً لا رجعة عنه.

تستمر القاطرة في التهام القضبان الحديدية،،بينما يدفع البخار بعنف مكابس القاطرة التي تخترق الحقول بهمة ونشاط،فيزداد تمايل رؤوس الأشجار على جانبي الخط بفعل تيار الهواء الذي يسحبه القطار خلفه،ومدخنة الموقد تنفث في الجو سحابة سوداء تغطي القطار من مقدمته إلى آخر عربة فيه،وكأس الشاي تفرغ وتمتلئ مرات ومرات ،وعينا (طلبة) تتناوبان بين خط السكة والظلام على جانبيه. ذات يوم سرت في البلدة أخبار عن استشهاد (حسنين)،،يومها هز(طلبة) رأسه مستنكراً:كيف يصبح الخائن شهيداً،وكيف يجمع رجل في شخصه صفتين متناقضتين:الإخلاص والخيانة.لم تسلم قيادة الجيش جثة (حسنين) إلى عائلته،ربما لأنهم لم يجدوا جثته أو بقايا منها بسبب سقوط قذيفة مباشرة على موقعه،فتلاشت أعضاؤه أو تبخرت بفعل حرارة الانفجار،،عائلته لم تفتح له مجلس عزاء،استنكاراً منها لفعلته التي نكست رأس العائلة بين أهل البلدة،وقبل أن يبدأ التساؤل عن مصير فاطمة بعد وفاة خاطفها،كان أحد الغجر يقرع باب عائلة فاطمة ليخبرها بأن ابنتها قد لحقت بإحدى مجموعات الغجر الذين يجوبون القرى ، متكسبين من بيع منتجات مواشيهم،أو من قراءة البخت والرقص في الساحات العامة،أو من تركيب الأسنان الذهبية في أفواه الفلاحين.هنا عادت الفضيحة تضرب العائلة من جديد بعد أن توارى شبحها حيناً من الزمن.وتضاعف حجم الكارثة بعد أيام عندما عاد ذلك الغجري المشؤوم ليخبر العائلة بأن ابنتها حامل على وشك الوضع.إذن فعلها الخائن ومضى،فبعد أن اعتدى على شرف فاطمة وحملت منه ، فر بجلده من العقاب ، وتركها وحدها فريسة التشرد والضياع ، ثم لقي حتفه على الجبهة. يشد (طلبة) حبل الصافرة ليحذر بعض الفلاحين من عبور خط السكة مع مواشيهم ، فتمر بهم القاطرة مسرعة ، تماماً كما تمر في خياله تلك الأحداث بسرعة وكأنها تحاول أن تهرب منه وإلى الأبد.

يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم،،يمسح وجهه بقليل من الماء البارد،ويحاول أن يركز أكثر على قيادة القاطرة،فيفشل،ويبقى ذهنه أسير عذاباته.بعد ربع ساعة سيعبر القطار تخوم بلدته، حيث يقع منزله على بعد عشرات الأمتار من الخط الحديدي. يستعيد ذكرياته التي كانت حلوة كالعسل فأصبحت أمرّ من العلقم،فمنذ أيام طفولتها الأولى،كانت فاطمة تنتظر مرور القطار بلهفة وشوق،وبمجرد أن تراه من بعيد،كانت ترفع بيدها الصغيرة منديلاً أحمر- إن كان الوقت نهاراً– ،أو مصباحاً زيتياً – إن كان الوقت ليلاً–،تلوّح بها لكي يراها أبوها،سائق القطار. كانت تلك اللحظات التي يرى فيها فاطمة عن بعد هي أسعد لحظات الرحلة،ولكثرة تكرارها،فقد حفظت فاطمة مواعيد مرور القطار عن ظهر قلب.بعد ربع ساعة عندما سيمر القطار أمام بيته،سوف يدير وجهه إلى الناحية الأخرى،،يحس بدموعه حارة تسقط على خديه،فيمسحها بكم قميصه المتسخ ،، بعد ربع ساعة ستعود الساعة به إلى الوراء سنوات وسنوات ،، ربما سيلمح خيال طفلة تلوح له من بعيد بضوء سراج باهت،،لن يصدق أنها فاطمة،لأن فاطمة الآن مشردة بين القرى والنجوع،تحمل في أحشائها دليل خيانتها،ورمز خسة ابن عمها.

فجأة ينتبه إلى أن هناك كتلة سوداء مكومة على الخط الحديدي،فها هو مصباح القاطرة الجديد يقوم بدوره خير قيام،ويكشف له الخطر في الوقت المناسب قبل وقوعه،،،سحب مقبض الفرملة بشدة،فتوقفت العجلات عن الدوران،وانزلقت القاطرة على القضبان،ثم وبسرعة فائقة جذب مقبض عكس حركة المكابس،فبدأت العجلات بالدوران إلى الخلف،وتطاير الشرر بشدة على جانبي القطار الذي ما زال مندفعاً بسرعة كبيرة- وكأنه سهم من لهب- نحو الجسم المكوم على الخط الحديدي. نتيجة لهذا التوقف المفاجئ،انقلب الكرسي الذي كان يجلس عليه (محمدين) فصحا من سباته العميق،وارتطمت رؤوس جميع الركاب بظهور المقاعد التي أمامهم،وسقطت بعض حقائبهم،التي كانت على الأرفف ، فوق رؤوس بعضهم،،زحفت القاطرة فوق السكة وزحفت، بينما عينا سائقها معلقتين بين مقدمتها والجسم الغريب،إلى أن استقرت على بعد أمتار منه. تنفس (طلبة) الصعداء بعد أن كاد نفسه أن يتوقف،،ترجل من القاطرة على عجل وتوجه نحو الجسم الغريب لاستجلاء كنهه،بينما استمر الركاب في هرج ومرج من هول الصدمة.هذا الشيء الأسود:هل هو كيس حنطة سقط عن ظهر دابة أثناء عبورها الخط الحديدي دون أن يشعر صاحبه به فتركه عن غير قصد في مكانه؟أم هو عثرة وضعها قطاع طرق على السكة لتعطيل سير القطار،ثم مهاجمته والسطو على ركابه؟نظر حوله فأحس بالهدوء يلف المكان لولا هدير غليان الماء في مرجل القاطرة،،اقترب أكثر فأكثر إلى أن أصبح على بعد خطوات من الجسم الغريب،،هنا تسمر في مكانه،وشعر بأن ركبتيه تخونانه،فركع على ركبة وأسند رأسه على يده المرتكزة على الركبة الثانية،،نظر إليها،كانت فاطمة أمامه بشحمها ولحمها تنظر إليه من خلف عباءة سوداء صارخة باكية:(لماذا توقفت يا أبي؟لماذا توقفت؟لقد جئت بنفسي إلى هنا لكي أجعلك تفي بقسمك وتقتلني ،،هيا يا أبي،عد إلى القاطرة ودعها تمر على جسدي كي تطهر شرفك الذي أقسم لك أنه لم تكن لي يد في تلويثه)،،لم يصدق ما تراه عيناه،،حملق فيها متأكداً:نعم هي اللعينة فاطمة،التي مرغت شرف العائلة،وقلبت حياتها جحيماً وذلاً،تابعت فاطمة:( أرجوك يا أبي،اصعد إلى القاطرة قبل أن يتجمع الركاب حولنا،واجعل الأمر يبدو وكأنه حادث قضاء وقدر)،،أصغى إليها باهتمام،فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن ينال بها منها دون أن يطاله أي عقاب،،بعض الركاب بدأوا بالنزول من القاطرة،متوجهين إليه لاستجلاء الأمر،،نهض على قدميه واستدار لكي يعود إلى قيادة القاطرة،،لوح للركاب آمراً إياهم بالعودة إلى القطار فاستجابوا له،لكنه لم يكد يضع رجله على الدرجة الأولى لسلم القاطرة حتى سمع صراخ مولود قادم من جهة فاطمة،،تسمر في مكانه والتفت إليها،فإذا بها تحاول جاهدة تكميم فم المولود الذي خبأته في عباءتها حتى لا يعلو صراخه ،، نفرت الدموع من عيني (طلبة) بغزارة ،، هجم على ابنته وانتزع من بين يديها حفيده،،،ركع على الأرض مجهشاً بالبكاء،،قالت فاطمة بلسان متلعثم:ابن عمي الشهيد(حسنين) مظلوم يا أبي ،،المجرم الحقيقي هو ابن العمدة.

بينما تحرك القطار بقيادة المساعد(محمدين)،كان الركاب المتجمعون على نوافذ عرباته يرقبون (طلبة) ميمماً شطر الحقول،حاضناً حفيده بحنان غامر،وفاطمة تحث الخطى خلفهما،، وفي لحظات اختفى الثلاثة في جوف الظلام الدامس بين أعواد قصب السكر.

Sunday, March 23, 2008





جــــزيــــرة الأحـــلام
(شعر)

مـن شعري العابق بـالـعـطـر
أهـدي أشعاري للقمـر

لحبيب همت بصحبتــــه
كهيام الكأس مع الوتـر

نقتات الحبّ و نمضغـه
ونعيد المضغ بلا ضجر

نسـعى فـي الروض ونسعده
فيميــس الـورد مـع الشجـر

ونطوف الحقل تدغـدغـنـا
نظرات النّرجس و الزهـر

وأصيـغ لهــــا عقداً ورداً
ليغطّي النّحر مع الصّدر

فـتردّ الـشّكر بنظرتهـا
فيذوب القلب مع النّظر

نفنى في بعض يحملنـا
زورق أحلام في السّحر

نـسـبح في بحر من حلم
فيشيع الدفء بـلا شـرر

مـن حول الـزورق تحرسنـا
أفـواج مـن حور البحر

وأهـيم بـزرقة عـينـيهـا
فـيجنّ اليمّ مـن الحـسر

ونجدف لا نألوا جهداً
نتوارى عـن عين البشر

لجزيرة حلم رائعة
يكـسوهــا الورد مع الثّمر

فـإذا ما الشاطيء عانقنا
والزورق كلّ مـن السّفر

ورست أرجلنا فـي رمل
كالفـضّـة لا بـل كالـدّرر

أشعلـنا الزورق نـيراناً
تـفنيه فـناء لا تـذر

فلقد أصبحنا بلا عقلٍ
وغدت عينانا بلا نظـر

يا أروع أرض ضمّتـنا
لتكون لنا مهبط سـحر

لتخلد ذكرى قصتنا
فتعيش إلى أبد الدهـر

Friday, March 21, 2008

مؤتمر (موسكو) للسلام
بمناسبة اقتراح روسيا استضافة مؤتمر جديد لإقرار السلام في الشرق الأوسط ،يسر أبطال مسرحية (العصى والجزرة والحمار) تقديمها على خشبة مسرح (البولشوي) في موسكو،وذلك بعد النجاح الكبير الذي أحرزته من خلال عرضها على مدى الخمسين سنة الماضية في عدد من عواصم العالم
(للاستعلام والحجز يرجى الاتصال بالخارجية الروسية)
(ملاحظة:هذا الإعلان مدفوع الأجر من قبل حمار لم يفصح عن اسمه)

Saturday, March 15, 2008


مـهـــــزلـة
(شعر)

مـن عادة روّاد المسرح

أن يقفوا دومـاً مشـدوهين

أمام براعات التمثـيلْ

وخصوصاً إن كـان المـوضوع غـراميّـاً

فتسيل دمـوعْ

لتبـلّ الوجنـة والمنـديـلْ

أمّـا لو كـان المشهـــدُ

يتعلّق بمـذابـح شعبي

وصراع الشّـاة مــع الذّئبِ

فيغوص الجمهـور الرّاقي

بالضّـحك المفـرط والصّـخبِ

كالخنجر يسـحق أعماقـي

لكـن...إن كان لنـا سنـدٌ

فـي الجزء الباقـي من الجمهور

فالبعض ينام بلا كلفٍ

والآخـر يـهذي كـالمخمـور

أ لهذا صرتم يـا نـاس

زيّفتم حتـى الإحساسْ

Wednesday, March 12, 2008

سرب البالونات الحمراء
(قصة قصيرة)

كانت صرخته مدوية إلى درجة صُعِق لها كل من كان حوله.دار حول نفسه عدة مرات وعيناه تأكلان وجوه المحيطين به،يفتش بينهم عن أعز ما يملكه في هذه الحياة.قرفص على ركبتيه ودار حول نفسه عدة مرات علَّه يرى ضالته بين أقدام العشرات من الناس الذين جمعتهم صرخته المجنونة.لم يرَ شيئاً.نهض متثاقلاً،ثم،وقبل أن يكتمل انتصابه على قدميه، انهار جسده على الأرض محدثاً ارتطاماً ظن معه الجميع أنه قد فارق الحياة .

الآن يغوص في لجة ذاكرته،فيمر أمام عينيه شريط سريع من الصور التي اختزنها عقله الباطن،منذ تعرف على زوجته، مروراً بأحلامه أن يرزق منها بولد يرث عنه أمواله الطائلة التي درّتها عليه تجارة ناجحة. تتقطع الذكريات برهة،ثم يعود ليرى نفسه وإياها خارجين من عيادة الطبيب الذي بارك لهما حملاً تأخر خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال. رُزِقَ مولوداً ذكراً جاء أجمل من كل أبناء الأرض (أو هكذا كان يراه)، فتجمعت فيه كل آماله وأحلامه.تقترب ذاكرته كثيراً من أحداث هذا اليوم، فقبل قليل كان يمسكه بيده،وأحياناً كان الصغير يتشبث بثياب أبيه،وهما يتجولان داخل حديقة للملاهي،ثم فجأة اختفى الولد.

رشَّةٌ من الماء البارد وبضع صفعات على خديه أيقظته من غيبوبته. يحملق في الوجوه الغريبة التي تحلَّقت حوله بعيون متلهفة فاحصة.أحدهم يقول:الحمد لله،لقد صحا أخيراً.عاد للنظر عند أقدامهم ودموع ساخنة تقفز من عينيه:أين ولدي؟أين هو؟أرجوكم أين هو؟.صوت امرأة تنادي من بعيد: لمن هذا الطفل؟.عندئذ تتجمع في جسده قوة مائة حصان فيهبُّ واقفاً:إنه ابني يا سيدتي،نعم إنه ابني.المرأة تدفع الطفل إلى أبيه وهي تتمتم مؤنبة مُعاتبة:إذا لم تكونوا قادرين على رعايتهم ، فلماذا تنجبونهم؟،ثم تمضي مسرعة.

جلس على ركبتيه محتضناً وحيده الذي لا تعادله في القيمة كل كنوز الأرض.الأب يمسح دموعه والصغيرلا يعلم سبب بكاء أبيه،وهو رفض أن ُيؤنبه على انفلاته من يده واختفائه بين المئات من الناس.قال في نفسه:لا يهم.. الحمد لله عاد بالسلامة،محاولاً أن يُقنع نفسه بأن شيئاً لم يحدث،فهو،بعد انفصاله عن زوجته أصبح بالنسبة لابنه الأب والأم والصديق،ونزهة اليوم لا يجب أن يعكر صفوها ضياع الطفل بضع دقائق-وإن كان قد أحسها دهوراً طويلة-والحمد لله فقد عاد بالسلامة.

يستمران في جولتهما،ولكي يضمن عدم ضياع ابنه ثانية،يحمله على رقبته،ممسكاً ساقي الطفل،قابضاً عليهما بقوة،،يشتري له بعض المثلجات،،يلعقها الطفل بنهم،فيسقط قسم منها على رأس الأب،وتسيل قطراتها الباردة على وجهه،فيمسحها بفرح غامر،وهما يضحكان ويلهوان وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق.على سور الحديقة بائع للبالونات،نفخ بعضها وعلقها بخيوط وأطلقها في الهواء،فتهادت كأنها سرب حمام ملون.الطفل يوجه رأس أبيه باتجاه بائع البالونات طالباً شراء البالونات الحمراء جميعها،والأب لا يمكن أن يرفض هكذا طلب،متأثراً بالموقف الصعب الذي مر به قبل دقائق.يطلب من بائع البالونات أن يفك له البالونات الحمراء من المجموعة المحلقة في الهواء.البائع- لِقِصر قامته- يعتذر عن عدم تمكنه من تناول المشبك الذي عُلِّقَتْ به خيوط البالونات، طالباً المساعدة من زبونه.يتناول الرجل ابنه من على كتفه ثم ينزله أرضاً والطفل متشبث بثياب أبيه.الأب يحاول التطاول على رؤوس أصابعه لكي ينزل البالونات من المكان العالي الذي عُلِّقت فيه.يقترب من مكان البالونات أكثر فأكثر،ودون أن يشعر الأب،يبتعد الصغير عنه أكثر فأكثر.يمسك الرجل بمشبك البالونات بعد جهد،ثم يناولها للبائع،،يفك البائع كتلة الخيوط على مهلٍ،ويجمع بين أصابعه خيوط البالونات الحمراء فقط،ثم يناولها للرجل الذي ينقده ثمنها ثم يلفها حول أصابعه.
يلتفت الأب إلى الخلف،ثم يدور حول نفسه مرات ومرات،والبالونات تدور معه محلقة في الهواء كسرب حمام أحمر.الآن يقف الرجل في مكانه خائر القوى، عاجزاً عن الصراخ،متمتماً بيأس قاتل:(أين أنت يا بني؟هل ضعت مني ثانية يا ولدي لأنك أحببت البالونات الحمراء؟أم أنني ضيعتك لأنني كنت أطول قامة من بائعها؟).
تدور به الدنيا بسرعة مذهلة.يحس بانضغاط في الحنجرة ،وبألم شديد في الجهة اليسرى من الصدر،يحاول أن يفك أزرار قميصه فيفشل.تنهمر دموعه بغزارة ثم يسقط على الأرض جثة هامدة بلا حراك .
بينما كانت نفسه تصعد إلى السماء،كانت خيوط البالونات الحمراء تنفلت من بين أصابعه وهي تصعد في نفس الاتجاه،محلقة كسرب حمام ملون.صبيٌّ يبكي منادياً على سرب البالونات الحمراء طالباً منها أن تعود،وصوت امرأة تنادي من بعيد:لمن هذا الطفل؟.

Friday, March 7, 2008


زمن أبي السبع
(قصة قصيرة)

متبختراً يسير بين صفوف الأدراج المغلقة،في يدٍ سيجارة يوسع بدخانها رئتيه، وفي الأخرى كأس من الشاي الغامق يعدل بها دماغه التي أرهقها عمل نهار طويل.كان يوماً شاقاً استقبل خلاله،وعلى فترات متقاربة،عدداً كبيراً من أبناء البلدة،وهو – وإن لم يكن يشعر بالسرور لرؤية زوار هذا اليوم،وكل يوم، لأنه يعرف معظمهم معرفة شخصية – إلا أن شعوراً بالزهو يغمره لأنه الوحيد في البلدة القادر على القيام بهذا العمل منذ سنوات ،منذ بدء الانتفاضة الأولى،ثم اغتيالها بيد أهلها،إلى قيام الانتفاضة الحالية ومحاولات تصفيتها بيد أصدقائها. ببطء ينقل بصره في أرجاء القاعة الواسعة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ، ثم يبدأ في عَدِّ الأدراج:عموداً واحداً من الأعلى إلى الأسفل،ثم صفاً واحداً من اليمين إلى الشمال،حاصل الضرب سيكون العدد الكلي للأدراج،أحياناً كان يتصور أنه ربما أخطأ في عملية العد، فيعود ليكررها مرة ثانية،وعندما يحصل على ناتج ضرب مرضٍ كان يردد ( ما شاء الله ) مع أنه يدرك يقيناً أن هذه ( المشألة ) تصلح في أي مكان إلا هنا،في هذا المكان،ولئلا يضطر إلى تكرار عملية العد والضرب في كل مرة تزوده فيها إدارة المستشفى بأدراج جديدة تلبية لحفظ العدد المتزايد من الموتى،فقد قرر ترقيم الأدراج باستخدام قلمٍ خطاطٍ عريض الشفة .

يد بدايات الشتاء تدق أبواب البلدة برفق،،هبة ريح ناعمة تهز باب القاعة فيتجه على مهل لإغلاقه،لكن حنان الدفء القادم من الداخل،ونعومة البرودة الزاحفة من الخارج، يغريانه بوضع كرسي صغير قرب الباب ليستريح عليه.انتبه إلى عتبة الباب،،لاحظ أنها تشكل الخط الفاصل بين عالمين متناقضين:عالم الأموات داخل القاعة،وعالم الأحياء خارجه ، ولكي يكون عادلاً بين هذين العالمين،كان عليه أن يضع كرسيه الصغير فوق خط العتبة تماماً:قائمتان خارج الباب والقائمتان الأخريان داخل القاعة.جلس مستشعراً غبطة كبيرة، وأحس بأن رأسه بدأت تنضح فلسفة وحكمة:نظر إلى قدميه فرأى اليمنى خارج القاعة واليسرى داخلها،فاطمأن إلى إنه يقبع الآن بين عالمين يشعر بينهما بالحياد،فمن أين له بالدموع لو بكى على كل شهيد أتى ليستريح في أحد أدراج ثلاجة الموتى قبل بدء رحلته الأخيرة،ومن أين تأتيه البسمات إن كانت رائحة الموت والحزن تعبث في كل البيوت والأزقة والساحات،لذا فقد قرر منذ زمن ألا يبكي وألا يبتسم،أن يكون محايداً-أو متظاهراً بالحياد- في مشاعره،وجلوسُه فوق كرسي تجثم قوائمه الأربعة مناصفة بين عالمي الحياة والموت هو خير تجسيد لما وقر في نفسه.سيجارة ثانية وكأس أخرى من الشاي لن تضرا في هذه الأمسية المتأخرة،،،وترتفع نفثات الدخان،،تتوالى رشفات الشاي على صوت أغنيات قادمة همساً من مذياع قديم،وعندما كانت تدهمه لحظات طرب وفرح،كان ينظر إلى الداخل فيصطدم نظره بأدراج ثلاجة الموتى،وعندما يستشعر يأساً وكمداً،كان يدير وجهه إلى الخارج فيرى الأمل مرتسماً على وجوه فتية تضج بالحياة وجناتهم،يمرون مسرعين أمام الباب خوفاً من رؤية ما لا يرغبون رؤيته،هنا كان يرتدُّ إلى حياده الذي صمم على التزامه، تماماً كموقع الكرسي الذي يجلس عليه الآن .

أسلوب تعاملِ الناس معه كان يقوده إلى تكريس مبدأ الحياد:عندما كانوا يأتونه بجثة شهيد،كان يتولى أمره منذ دخولهم من الباب:يتوقف برهة ليستذكر أي الأدراج هو الفارغ،ثم يحمل الجثة بمساعدة الآخرين موسداً إياها برفق،مغطياً الوجه بجزء من الكفن، معيداً إغلاق الدرج بإحكام حفاظاً على درجة حرارته المنخفضة،وبصوت جهوري كان يطلب من الجميع سرعة المغادرة بعد أن يعطيهم رقم الدرج الذي أودع شهيدهم فيه،ففي هذه القاعة يتحول الشهداء إلى أرقام...مجرد أرقام.كان يستجلي في عيون الناس ووجوههم توقيراً واحتراماً لما يقوم به من عمل يعجز معظمهم عن القيام به،حتى أنهم لقبوه ومنذ زمن ( أبو السبع ) والذي حل بسرعة مكان اسمه الحقيقي ( عبد الرحمن )،إِذ مَن غير أبو السبع يستطيع التعامل مع جثث الموتى،،يأكل بقربهم،،ينام معهم،،،بل ويقلبهم أمام ذويهم ذات اليمين وذات الشمال،،كان في نظر الناس يقوم بما لا يمكن أن يقوم به سوى الجبابرة،،أمام أدراج الموتى كان الناس يعتبرونه أفضل منهم،يشعرون أنه أقدر على القيام بما يعجزون عنه،يأتمنونه على شهدائهم،وتوصيه الأمهات الثكالى والزوجات الأرامل أن يترفق بأحبائهم،،أن يفتح الأدراج ويغلقها بهدوء حتى لا يعكر على الأموات صفو صمتهم،وأن يحرص على استمرار التيار الكهربائي حفاظاً على الجثث من التعفن–رغم قناعتهم أن أجساد الشهداء لا تتعفن-،أما خارج الثلاجة فقد كانوا يرهبونه–خاصة الصغار منهم-،بل ويترددون في مصافحته إن هم رأوه في السوق عند خباز أو بقال،،كانوا يتحاشونه كما لو أنهم تبرأوا منه،وهذا ما عزز في نفسه الفلسفة الحيادية،وهاهو الآن محايدٌ،يجلس مرتاحاً فوق كرسيه بين العالَمين:قدم في الدنيا وقدم في الآخرة.
استشعر في نفسه عظمة ورفعة لم تخطر له على بال من قبل،فرغم أن والده كان قد توفي دون أن يتمكن من تحقيق حلمه بالعمل ولو حارساً ليلياً في هذا المستشفى،فقد استطاع هو أن يترقى من مجرد موظف صغير في قسم الاستقبال،إلى مساعدٍ في قسم التشريح،إلى مديرٍ لثلاجة الموتى،أليست هذه قفزات عجز عن إنجازها حتى أكثر موظفي المستشفى علماً وكفاءة مع أنه لم يحصل إلا على مستوى التعليم الابتدائي؟.أيقظه من تأملاته صوت أنين قادم من الداخل،تشكك في ما سمعه،غير أن الأنين عاود الانسياب ثانية بشكل أوضح.نفس الشيء حدث منذ شهرين،يومها سارع إلى الدرج الذي صدر منه الأنين،فتحه على عجل،أزاح طرف الكفن عن الوجه،فوجد عينين ترمشان،وشفتين تحاولان الحراك تشبثاً بالحياة،،يومها أسرع في أخذ المسكين إلى غرفة الإنعاش،وما لبث أهل العائد من الموت أن علموا بالأمر فأسرعوا إلى المستشفى،غير أن فرحتم بابنهم لم تكتمل حيث فارق الحياة بعد دقائق من حضورهم،فكان الفراق فراقين والحزن حزنين والمأتم مأتمين،فكيف له أن يكرر مثل تلك المأساة الآن،،بقسوة تامة يتجاهل ( أبو السبع ) الأنين القادم من أحد الأدراج–دون أن يكلف نفسه مشقة معرفة رقم الدرج مصدر الصوت- مكتفياً بنصح صاحب الأنين أن يمعن في الموت،ببساطة،(لأن هذا أحسن للجميع)،وبدأ الأنين بالتلاشي رويداً رويداً .

كل هذا كوم،وأن تبلغه إدارة المستشفى قرار نقله إلى قسم المشتريات كوم آخر، ،بعد كل هذا التوازن الذي توصل إليه بين عالمي الحياة والموت،وبعد كل هذه الجرأة التي أبداها في التعامل مع جثث لا حصر لها مرت بين يديه،وهذا اللقب الذي منحه إياه أبناء بلدته (أبو السبع)،بعد كل هذا يأتي قرار الإدارة بنقله إلى قسم المشتريات،هل هي مزحة من الإدارة أم هو الأمر الواقع يصفعونه به بحجة المصلحة العامة؟،(وأين هي المصلحة العامة في حرمان الأموات من رعايتي وحرماني من هدوئهم،ومن ذا الذي سيقدر على التأقلم مع هذا الوضع والجلوس محايداً،تماماً على الخط الفاصل بين الحياة والموت،كما أفعل الآن؟).

الآن خمد الأنين القادم من الدرج تماماً،،فهدأت نفس أبي السبع،وقام ليملأ كأس الشاي للمرة العاشرة،وليشعل سيجارة للمرة العشرين،،الفجر يشارف على البزوغ وأبو السبع مازال يفكر في كيفية مواجهة إدارة المستشفى فيما يتعلق بقرار نقله من الثلاجة:لن ينام هذه الليلة بل سينتظر بداية الدوام،،عندما يصل المدير سوف يطرق باب مكتبه فوراً،ثم سوف يشرح له موقفه من قرار النقل(يسحب نفساً من السيجارة)،،إذا تراجع المدير عن قراره فسوف يشكره بل وسيقبل جبينه،أما إذا أصم أذنيه وصمم على القرار(يأخذ رشفة من الشاي)،فسوف يضرب بقبضته على سطح مكتبه حتى ترتفع كل الأشياء التي عليه في الهواء،ربما فزع المدير فتراجع عن قراره،وربما أصر عليه،عندها سيتخلى عن حياده الذي أنفق جُلَّ عمره في بنائه،وسيقذف في وجه المدير كتاب استقالته من العمل،وسيغادر المكتب عائداً إلى عالم الأحياء،،ربما كان الخيار الأخير هذا قاسياً على القلب،غير أنه أمر لابد منه ، فهو أفضل من العمل في قسم المشتريات،حيث سيستمر في رؤية غرفة الموتى من بعيد دون أن يتمكن من دخولها،وهذا ما لن يرضيه أو يرضى به الأموات،،هنا راق له أن يتخيل مظاهرة يخرج فيها عشرات الشهداء من أدراجهم ملتحفين أكفانهم،حاملينه على أكتافهم، متوجهين به إلى مكتب المدير مطالبين ببقاء حبيبهم أبي السبع في موقعه،وإلا فسوف يأخذونه معهم،،ترتاح نفسُه لرؤية نفسِه على أكتاف الشهداء ،ويشعر أن حياده قد وصل إلى طريق مسدود،فيتمنى أن يرفض المدير طلبه لكي يذهب مع أصدقائه-أشرفِ الناس-بدل الذهاب إلى قسم المشتريات الشهير بالسرقات والمال الحرام.فجأة يتوقف ذهنه عن التخيل،ويحس بضيق في صدره،فيغبُّ نفساً عميقاً من السيجارة،ويأخذ رشفة أخيرة من كأس الشاي.

في الصباح الباكر جاؤوا ونزعوا من يد أبي السبع بقايا السيجارة التي أحرقت جلد إصبعي السبابة والوسطى،،أخذوا كأس الشاي الفارغة من اليد الأخرى،،قذفوا الكرسي المحايد داخل القاعة،وبينما ضج المكان بأصوات همهمات تتعالى من جميع الأدراج المغلقة،وضعوا جثة أبي السبع في الدرج المجاور لذاك الذي كان ينساب منه الأنين الخافت في الليلة الماضية.





Wednesday, March 5, 2008

ملعوبة يا...حودة
(قصة قصيرة)

كان الجلوس في تلك المقهى عصر كل يوم ومراقبة الشمس قبل أن تغطس في البحر ، واحداً من أهم أنشطة إجازتي التي صممت أن أقضيها بالكامل في ذلك المصيف الجميل ، الذي يتكيء بدلال وغنج على شاطيء البحر الأبيض المتوسط .لم تكن الواجهة الحديثة للمقهى متناسبة مع تصميمها الداخلي الشعبي،فقد لجأ صاحبها (المعلم) إلى تزيين جدرانها بأنواع رخيصة من السجاد،بينما علقت خلف مكتبه في صدر القاعة صورة جمال عبد الناصر إلى جانب صور أبي زيد الهلالي والزير سالم وجساس وجليلة وغيرهم من أبطال التغريبة الهلالية،أما الطاولات والكراسي وباقي الأثاث فيبدو أن(المعلم)صاحب القهوة قد اشتراها مستعملة(ولكن بحالة ممتازة!)،،وباقات الورد الاصطناعي الرخيصة قد انتشرت بألوان متنافرة وشكل مضحك على أرفف خشبية قديمة،حتى بدت وكأنها الحدائق المعلقة.كان منظر الشمس عند غروبها بقدرته على استفزاز مشاعر حتى غير الشعراء لنظم القصائد،ورشف فنجان من القهوة الطازجة خلال الاستمتاع بهذا المنظر الخلاب برائحتها التي تدغدغ أنفك وكأنك تجوب مزارع البن في الحبشة،وقرب هذه المقهى من الفندق الذي أنزل فيه دون الحاجة إلى استخدام وسيلة مواصلات،هذه كلها كانت مميزات جذبتني إلى تلك المقهى،لكن ما زاد في تعلقي بها،والمداومة على الجلوس فيها،كان شخصية ذلك النادل الوحيد الذي كان يعمل فيها، والذي كان يخدم الزبائن برشاقة ودماثة ندر أن رأيت مثيلا ً لهما من قبل.
منذ زيارتي الأولى للمقهى عرفت أن اسمه (حمادة)،بينما كان يحلو للزبائن أن يطلقوا عليه اسم الدلع (حودة)،وكان هذا الاسم البديل هو المفضل عنده.عندماً كان يلمحني قادماً من بعيد ،كان (حودة) يسارع إلى تحضير أفضل طاولة لديه،،يمسحها بعناية فائقة،ثم يسحب كرسياً ويدعوني بترحيب كبير إلى الجلوس عليه،وبمجرد أن يتلقى بعض الطلبات من الزبائن،كان (حودة) يصرخ بأعلى صوته طالباً من العامل الواقف في المطبخ تحضيرها،مستخدماً أسلوباً يجد فيه الرد المناسب على تحية الزبائن بأحسن منها،فمرة تسمعه يصرخ (أحسن كباية شاي لأحسن معلم حسنين)أو(واحد يانسون عال العال لأحلى أستاذ كمال) وقد ينادي بأعلى صوته(واحد شيشة مجهجهة لسيد المعلمين المنجهة)،أما أنا فلا أدري لماذا اختصني بلقب (سعادة الباشا)،هل كان لأدب شديد في تربيته،أم بسبب الإكرامية التي كنت أنفحه إياها كل مرة أغادر فيها المقهى؟،لا أدري،إنما الذي أعلمه جيداً أن الشاب كان مثال التهذيب والأدب.عندما كان (حودة) يضع الطلبات الجاهزة على صينية نحاسية يحملها فوق كفه،كان يطير بها بين الطاولات،يوزعها على الزبائن يمنة ويسرة،والجميع ينظر إلى براعته بإعجاب مشوب بالخوف من أن يسقط ما بيده على الأرض أو على رؤوسهم،غير أن تمرسه في عمله،والمهارة التي اكتسبها نتيجة خبرته الطويلة،قد ساعدته على القيام بحركاته تلك دون حوادث أو ارتطامات تذكر،وقد اعتاد الزبائن وجود نادلهم البهلوان حتى غدا وكأنه قطعة من قطع أثاث المقهى.

في آخر يوم من إجازتي،ذهبت إلى المقهى لآخر مرة كي أودع منظر الغروب،وأستمتع برشف آخر فنجان قهوة قبل السفر،والأهم من ذلك لكي أودع (حودة).لم يصدق المسكين أذنيه عندما أخبرته أنني مسافر من الغد،وأنني جئت خصيصاً لوداعه،واغرورقت عيناه بالدموع،فأشفقت عليه.أقسم بالله أن يقدم لي آخر فنجان قهوة على حسابه الخاص،وقبل أن أرفض،كان يكرر القسم ويهب صارخاً (أحلى فنجان قهوة لأحلى سعادة الباشا)،وغاب خلف الستارة لإحضار باقي الطلبات.طالت غيبته هذه المرة أكثر من المعتاد،لكنه ما لبث أن ظهر من خلف الستارة وهو يحمل على كفه صينيته النحاسية وعليها فقط -على غير عادته -: فنجان من القهوة وكأس من الماء،بينما كان يحمل في العادة أكثر عدد من الطلبات يمكن أن تتسع له الصينية،مما زاد في ثقتي بحجم الأثر الذي تركه نبأ سفري في نفسه،وخلت أنه أراد أن يشعرني بأنه يحرص على خدمتي منفرداً بصورة شخصية.تمايل (حودة) كعادته وهو يرفع الصينية بما عليها على كفه إلى أعلى من المعتاد،متحاشياً اصطدامها برؤوس الزبائن . وحلقت الصينية إلى الأعلى منحرفة تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار،مرة إلى الأعلى كثيراً،ومرة إلى الأسفل قليلاً،حتى خال كل من يراه بأن الصينية وما عليها سوف تهوي على رأس أحد لا محالة،لكن ذلك لم يحدث،وازدادت سرعة(حودة)،وارتفعت وتيرة تمايله بين الزبائن،وتصاعد خوف الجميع من سقوطه،إلى أن وصل على بعد خطوات مني وانزلقت قدمه.

سقط (حودة)وسقطت الصينية بما عليها على أرض المقهى،فتناثر الماء والقهوة في جميع الجهات، دون أن يصيبني من رذاذها شيء يذكر،،نهضت مسرعاً لكي أرفعه عن الأرض،فلم يوفر الصبي شيئاً من كلمات الاعتذار لكي يخفف ما وقع لي من انزعاج ورعشة،وشرع فوراً في التأكد من أن شيئاً لم يسقط على ملابسي،وبعد أن لملم نفسه،وجمع شظايا الزجاج المكسور، وحالما هدأت الضجة التي أعقبت سقوطه،اقترب مني هامساً :-(اسمعني يا سعادة الباشا ولا تنظر إلى الرجل الجالس خلفي مباشرة إلى جانب المعلم،ذلك الرجل صاحب الشنب الكث،، حاول أن تراه دون أن يشعر بك،،هل رأيته؟هذا الرجل يا سعادة الباشا طلب مني أن أسقط فنجان القهوة على بذلتك الجميلة مقابل أن يعطيني عشرة جنيهات،،عشرة جنيهات بحالها يا سعادة الباشا،،هو هكذا حسود لا يحب أن يرى أثر النعمة على أحد،وهو كما ترى بلطجي يمكن أن يؤذيني لو رفضت طلبه،لذا تظاهرت بالقبول ثم تعمدت السقوط،لأتفادى اندلاق القهوة على بذلتك الثمينة).كان المسكين يرتجف بينما يهمس بكلماته،متظاهراً بمسح ما سقط على الأرض.أضاف(استر عليَّ يا سعادة الباشا ولا تكلمه ربنا يخليك،وإلا فسوف يعاقبني على خيانتي له،،).ازداد إعجابي بابن البلد هذا،وأيقنت بأن الزمن الجميل الذي لوثه صاحب الشنب المؤذي وأمثاله،ما زال يضم في جوانحه مثل هذا العامل الفقير المخلص النزيه.مددت يدي إلى جيبي وأخرجت منها ورقتين من فئة الخمسة والعشرين جنيهاً ودسستها في يده،،أقسم الرجل أنه لن يأخذ مني شيئاً،فما فعله كان أقل من الواجب (خيرك سابق يا سعادة الباشا) . كان المبلغ الذي وعده به صاحب الشنب يعادل راتب يوم يتقاضاه (حودة) من صاحب المقهى،وكان ما عرضته عليه كمكافأة على إخلاصه أقل من واحد بالمئة من قيمة البذلة التي أرتديها،وبين إلحاح مني وتمنع منه،أفلحت في جعله يقبل المكافأة،لكنه مال عليَّ هامساً (لكن لو سمحت يا سعادة الباشا،من أجل خاطري،لا تخبر ذلك الشرير شيئاً عما دار بيننا،لأنه سوف يؤذيني،أما أنا فسوف أتدبر أمري معه،سوف أقول له:أرأيت كيف أن من يحفر حفرة لأخيه يقع فيها؟،،لا تشغل بالك يا سعادة الباشا،سوف أتدبر أمري بنفسي،تروح وترجع لنا السنة القادمة بالسلامة) .
ودعت صديقي النادل،وخرجت من المقهى،ملقياً على صاحب الشنب الكث نظرة تهكم واستهزاء،فها أنذا أخرج وبذلتي نظيفة رغم كيده وخبثه،بفضل رجولة (حودة) الشهم، وشجاعته التي أفسدت الخطة الشريرة،لكنني عندما ابتعدت خطوات عن المقهى،ونظرت خلفي لألقي عليها وعلى (حودة) تحية وداع،إذا بي أرى الرجلين:(حودة) وصاحب الشنب الكث،يقتسمان مبلغ الخمسين جنيهاً مناصفة.

Sunday, March 2, 2008

أبــــطـال الـصمت
(شعر)

مـا عادت أعـمدة الشّعــر تـقـيّد قافـيتي

أو تلغي خارطتي

لن تقوى كل بيانات الشجب المتملق

أن تخرسني ، ، ، أن تدني آخرتي

أو تخنـق فــي صدري

صـوت الكـلمات المجنـونـةِ

لـن أعـرف بعـد اليـوم حـدوداً للشكــوى

ها أنذا أصرخ ، أنفخ في قرب مثقوبة
في نخوة من كل مناصبهم
صارت في أيدي الخسة ...ألعوبة
في سحنة من كل مواقفهم
أضحت مهزلة...أكذوبة
أبطال الصمت

أصحاب الرتب الهدامة

ملك وأمير وفخامة

قد ولى زمن تسلطكم

وانكشفت عورة موقفكم

ولذا لـن أجثو حـيـن أخـاطبكــم

أو أرجف حين أناشدكم

لن أتأدب في حضرتكم

أو أستجدي عونا ً منكم

بل أفضحكم وأعريكم

وسأهتكها كلّ الحجبِ

وسـأكـشـف عـورات العهـرِ

المتقمّـص ثـوب الـطّهـرِ

فقـد وصلت أنيـاب السّـكّـيــنِ

حـدود الـرّقبـةْ
=====================
إخـوة يـوسـف

يـا رمـز الـغدر المتواطـيءِ

لـن أستر أبــداً فعـلتـكـمْ

أو أشــرب نخـب جـرائمكــمْ
وسأسدي للذئـب نصـيـحـةَْ

أن يـأتي قدام أبـيـكـمْ

يعلـن أنّ جــذور الحقـد السّــاكـن فـي دمكـمْ

والغـيـرة والخـوف المتـأصّــلَ

فــي أعمـاق خـلايـاكــمْ

كادت أن تجعلـه متّهـمـاً بجريمـة قتـل

لكـنّ الـوحـي يبـرّئـهُ

فالذئب بريء ...

أمّـا أنتـم ...

فاللّعنة دوماً تتبعـكـمْ

والخوف سيـغـدو هاجسكــمْ

والـخزي طـعـام ٌ يُتخمكم

وعلى أنقـاض ضـمائـركـمْ ،،، وأمام نذالة موقفكم

يقـف العجز الصّـامت محنـيّ الجـبـهـة
======================

يعقـوب ،،، أبا الصدّيق تـجمّلْ

لا تحمـل أوزار بنيـك ،،، ولا تخجـلْ

فالغـدر سجـلّ معـروفٌ

سـطّـره قـابيـل الأولْ

وارحـم عينيــك وكحّلـهـا

بالسّــوسـن ... بالحلــم الأجمل

يــوسـفُ سيعــودُ وفـي فمـهِ

أنشــودة نصـر لا تذبلْ

وعلى أعتـاب نبـوّتـهِ

ينتحـر الشّــرف المتناثر

في جوف الصّمـت المتآمر

ومن الأعضاء المبتورة ْ،،، ومن الأشلاء المطمورة

من عمق جراحك يا غزة
من فوق قبابك يا أقصى
من نوح نخيلك يا بصرة
:تعـلو صرخات نارية

إخوة يـوسف ، جبناء العصر ، حكام القهر

سحقـاً للصّمـت المتـواطيءِ

سحقـاً للجبهة المحنيّـةْ