Wednesday, March 5, 2008

ملعوبة يا...حودة
(قصة قصيرة)

كان الجلوس في تلك المقهى عصر كل يوم ومراقبة الشمس قبل أن تغطس في البحر ، واحداً من أهم أنشطة إجازتي التي صممت أن أقضيها بالكامل في ذلك المصيف الجميل ، الذي يتكيء بدلال وغنج على شاطيء البحر الأبيض المتوسط .لم تكن الواجهة الحديثة للمقهى متناسبة مع تصميمها الداخلي الشعبي،فقد لجأ صاحبها (المعلم) إلى تزيين جدرانها بأنواع رخيصة من السجاد،بينما علقت خلف مكتبه في صدر القاعة صورة جمال عبد الناصر إلى جانب صور أبي زيد الهلالي والزير سالم وجساس وجليلة وغيرهم من أبطال التغريبة الهلالية،أما الطاولات والكراسي وباقي الأثاث فيبدو أن(المعلم)صاحب القهوة قد اشتراها مستعملة(ولكن بحالة ممتازة!)،،وباقات الورد الاصطناعي الرخيصة قد انتشرت بألوان متنافرة وشكل مضحك على أرفف خشبية قديمة،حتى بدت وكأنها الحدائق المعلقة.كان منظر الشمس عند غروبها بقدرته على استفزاز مشاعر حتى غير الشعراء لنظم القصائد،ورشف فنجان من القهوة الطازجة خلال الاستمتاع بهذا المنظر الخلاب برائحتها التي تدغدغ أنفك وكأنك تجوب مزارع البن في الحبشة،وقرب هذه المقهى من الفندق الذي أنزل فيه دون الحاجة إلى استخدام وسيلة مواصلات،هذه كلها كانت مميزات جذبتني إلى تلك المقهى،لكن ما زاد في تعلقي بها،والمداومة على الجلوس فيها،كان شخصية ذلك النادل الوحيد الذي كان يعمل فيها، والذي كان يخدم الزبائن برشاقة ودماثة ندر أن رأيت مثيلا ً لهما من قبل.
منذ زيارتي الأولى للمقهى عرفت أن اسمه (حمادة)،بينما كان يحلو للزبائن أن يطلقوا عليه اسم الدلع (حودة)،وكان هذا الاسم البديل هو المفضل عنده.عندماً كان يلمحني قادماً من بعيد ،كان (حودة) يسارع إلى تحضير أفضل طاولة لديه،،يمسحها بعناية فائقة،ثم يسحب كرسياً ويدعوني بترحيب كبير إلى الجلوس عليه،وبمجرد أن يتلقى بعض الطلبات من الزبائن،كان (حودة) يصرخ بأعلى صوته طالباً من العامل الواقف في المطبخ تحضيرها،مستخدماً أسلوباً يجد فيه الرد المناسب على تحية الزبائن بأحسن منها،فمرة تسمعه يصرخ (أحسن كباية شاي لأحسن معلم حسنين)أو(واحد يانسون عال العال لأحلى أستاذ كمال) وقد ينادي بأعلى صوته(واحد شيشة مجهجهة لسيد المعلمين المنجهة)،أما أنا فلا أدري لماذا اختصني بلقب (سعادة الباشا)،هل كان لأدب شديد في تربيته،أم بسبب الإكرامية التي كنت أنفحه إياها كل مرة أغادر فيها المقهى؟،لا أدري،إنما الذي أعلمه جيداً أن الشاب كان مثال التهذيب والأدب.عندما كان (حودة) يضع الطلبات الجاهزة على صينية نحاسية يحملها فوق كفه،كان يطير بها بين الطاولات،يوزعها على الزبائن يمنة ويسرة،والجميع ينظر إلى براعته بإعجاب مشوب بالخوف من أن يسقط ما بيده على الأرض أو على رؤوسهم،غير أن تمرسه في عمله،والمهارة التي اكتسبها نتيجة خبرته الطويلة،قد ساعدته على القيام بحركاته تلك دون حوادث أو ارتطامات تذكر،وقد اعتاد الزبائن وجود نادلهم البهلوان حتى غدا وكأنه قطعة من قطع أثاث المقهى.

في آخر يوم من إجازتي،ذهبت إلى المقهى لآخر مرة كي أودع منظر الغروب،وأستمتع برشف آخر فنجان قهوة قبل السفر،والأهم من ذلك لكي أودع (حودة).لم يصدق المسكين أذنيه عندما أخبرته أنني مسافر من الغد،وأنني جئت خصيصاً لوداعه،واغرورقت عيناه بالدموع،فأشفقت عليه.أقسم بالله أن يقدم لي آخر فنجان قهوة على حسابه الخاص،وقبل أن أرفض،كان يكرر القسم ويهب صارخاً (أحلى فنجان قهوة لأحلى سعادة الباشا)،وغاب خلف الستارة لإحضار باقي الطلبات.طالت غيبته هذه المرة أكثر من المعتاد،لكنه ما لبث أن ظهر من خلف الستارة وهو يحمل على كفه صينيته النحاسية وعليها فقط -على غير عادته -: فنجان من القهوة وكأس من الماء،بينما كان يحمل في العادة أكثر عدد من الطلبات يمكن أن تتسع له الصينية،مما زاد في ثقتي بحجم الأثر الذي تركه نبأ سفري في نفسه،وخلت أنه أراد أن يشعرني بأنه يحرص على خدمتي منفرداً بصورة شخصية.تمايل (حودة) كعادته وهو يرفع الصينية بما عليها على كفه إلى أعلى من المعتاد،متحاشياً اصطدامها برؤوس الزبائن . وحلقت الصينية إلى الأعلى منحرفة تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار،مرة إلى الأعلى كثيراً،ومرة إلى الأسفل قليلاً،حتى خال كل من يراه بأن الصينية وما عليها سوف تهوي على رأس أحد لا محالة،لكن ذلك لم يحدث،وازدادت سرعة(حودة)،وارتفعت وتيرة تمايله بين الزبائن،وتصاعد خوف الجميع من سقوطه،إلى أن وصل على بعد خطوات مني وانزلقت قدمه.

سقط (حودة)وسقطت الصينية بما عليها على أرض المقهى،فتناثر الماء والقهوة في جميع الجهات، دون أن يصيبني من رذاذها شيء يذكر،،نهضت مسرعاً لكي أرفعه عن الأرض،فلم يوفر الصبي شيئاً من كلمات الاعتذار لكي يخفف ما وقع لي من انزعاج ورعشة،وشرع فوراً في التأكد من أن شيئاً لم يسقط على ملابسي،وبعد أن لملم نفسه،وجمع شظايا الزجاج المكسور، وحالما هدأت الضجة التي أعقبت سقوطه،اقترب مني هامساً :-(اسمعني يا سعادة الباشا ولا تنظر إلى الرجل الجالس خلفي مباشرة إلى جانب المعلم،ذلك الرجل صاحب الشنب الكث،، حاول أن تراه دون أن يشعر بك،،هل رأيته؟هذا الرجل يا سعادة الباشا طلب مني أن أسقط فنجان القهوة على بذلتك الجميلة مقابل أن يعطيني عشرة جنيهات،،عشرة جنيهات بحالها يا سعادة الباشا،،هو هكذا حسود لا يحب أن يرى أثر النعمة على أحد،وهو كما ترى بلطجي يمكن أن يؤذيني لو رفضت طلبه،لذا تظاهرت بالقبول ثم تعمدت السقوط،لأتفادى اندلاق القهوة على بذلتك الثمينة).كان المسكين يرتجف بينما يهمس بكلماته،متظاهراً بمسح ما سقط على الأرض.أضاف(استر عليَّ يا سعادة الباشا ولا تكلمه ربنا يخليك،وإلا فسوف يعاقبني على خيانتي له،،).ازداد إعجابي بابن البلد هذا،وأيقنت بأن الزمن الجميل الذي لوثه صاحب الشنب المؤذي وأمثاله،ما زال يضم في جوانحه مثل هذا العامل الفقير المخلص النزيه.مددت يدي إلى جيبي وأخرجت منها ورقتين من فئة الخمسة والعشرين جنيهاً ودسستها في يده،،أقسم الرجل أنه لن يأخذ مني شيئاً،فما فعله كان أقل من الواجب (خيرك سابق يا سعادة الباشا) . كان المبلغ الذي وعده به صاحب الشنب يعادل راتب يوم يتقاضاه (حودة) من صاحب المقهى،وكان ما عرضته عليه كمكافأة على إخلاصه أقل من واحد بالمئة من قيمة البذلة التي أرتديها،وبين إلحاح مني وتمنع منه،أفلحت في جعله يقبل المكافأة،لكنه مال عليَّ هامساً (لكن لو سمحت يا سعادة الباشا،من أجل خاطري،لا تخبر ذلك الشرير شيئاً عما دار بيننا،لأنه سوف يؤذيني،أما أنا فسوف أتدبر أمري معه،سوف أقول له:أرأيت كيف أن من يحفر حفرة لأخيه يقع فيها؟،،لا تشغل بالك يا سعادة الباشا،سوف أتدبر أمري بنفسي،تروح وترجع لنا السنة القادمة بالسلامة) .
ودعت صديقي النادل،وخرجت من المقهى،ملقياً على صاحب الشنب الكث نظرة تهكم واستهزاء،فها أنذا أخرج وبذلتي نظيفة رغم كيده وخبثه،بفضل رجولة (حودة) الشهم، وشجاعته التي أفسدت الخطة الشريرة،لكنني عندما ابتعدت خطوات عن المقهى،ونظرت خلفي لألقي عليها وعلى (حودة) تحية وداع،إذا بي أرى الرجلين:(حودة) وصاحب الشنب الكث،يقتسمان مبلغ الخمسين جنيهاً مناصفة.

No comments: