Sunday, September 23, 2007

لِنَنْسَ الحزن ... فالزعيم لم يمت
صباح الخير ياريّس . . . ما زلت أقولها كلما استيقظت من النوم صبيحة كل 28 سبتمبر منذ سبعة وثلاثين عاماً ، نعم أقولها صباح الخير ياريّس بملء الفم والوجدان ، ففي مثل هذا الوقت – السابعة صباحاً – الريس الآن يستحم في منزله البسيط بمنشية البكري ، وبعد قليل ، في حوالي الساعة الثامنة ، سوف يتناول طعام الإفطار مع عائلته ، سوف تساعده ( تحية ) في اختيار ربطة العنق ، وستساعده في ارتداء الجاكيتة ، وستوصيه أن يأخذ باله من نفسه ، يمسح على رأسها وكتفها ، يحضنها بحنو الزوج والأخ والأب ، ، سوف يقبل الأولاد واحداً واحداً بينما هو متجه إلى السيارة التي ستقله إلى الجلسة الطارئة للرؤساء العرب لإتمام الصلح بين الإخوة الأعداء ، ، ، ينجح نجاحاً باهراً في هذه المهمة الشاقة ، ولا عجب ، فمَن غيره ادخرت الأمة للشدائد والأزمات ، ، ، يربت على أيدي جميع زواره ، وبكرم العربي الصعيدي الأصيل ، يصر على توديع جميع ضيوفه من الرؤساء في المطار ، متجشماً العناء والتعب ، لكنه لا يمكن أن يتخلى عن واجباته ومسؤولياته ، فهو الكبير حقاً : بعقله وقلبه ووجدانه . الساعة الآن الرابعة عصراً وأراه في مطار القاهرة يودع أمير الكويت وفجأة تظهر علامات الألم والإرهاق بادية على وجهه الرائع ، يكاد قلبي أن يسقط من صدري : ( سلامتك ياريس ألف سلامة ، تعب ويزول إنشاء الله عندما تعود بعد قليل إلى منزلك ، بعد أن أديت واجبك في حقن الدماء وتوحيد الصفوف – ولو إلى حين - ) ، الريس الآن في طريقه إلى منشية البكري ، وكلنا أمل بزوال التعب المفاجيء الذي أحس به في المطار ، ومازال عبد الناصر حياً ، ، ، بعد دقائق ستكفهر سماء القاهرة ، وستتلبد الغيوم السوداء فوق الوطن العربي من محيطه إلى خليجه ، ، ، تقترب الساعة الآن من الخامسة عصراً والأطباء يحاولون تأمين سلامة الزعيم ، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة ، فيختار إلى جانبه أغلى الرجال وأعز الأحبة ، وتنطلق أيدي المصريين تلوح للروح الطاهرة مودعة وهي تغادر سماء القاهرة إلى السماء السابعة ، إلى جوار الرحمن الرحيم ، ، ، الآن وبعد الساعة الخامسة بدقائق ينقبض قلبي بشدة ، أشعر بأن عبد الناصر قد مات ، ، ، لكن هذا الشعور لا يستمر سوى دقائق معدودة ، أدفن فيها رأسي بين يدي ، أبكي بحرقة ولوعة ، تمر في مخيلتي صورة وجهه المشرق عندما رأيته لأول مرة عام 58 – أوائل أيام الوحدة مع سوريا - أمام قصر الضيافة في دمشق ، بينما كانت أعين الملايين المحتشدة تلتهم وجهه وقامته المديدة علها تبقى في خيالها ووجدانها إلى الأبد ، ، واليوم أسأل نفسي هذا السؤال المحير: هل يُعقل أن يتكرر هذا الموقف معي منذ سبعة وثلاثين عاماً ؟ ، هل يصدق أحد أن الدموع لم تنفك تذرف على هذا الرجل منذ سبع وثلاثين سنة ؟ أنا نفسي لا أصدق ما يحدث ، لكنها والله هي الحقيقة .
صبيحة اليوم التالي ، التاسع والعشرون من سبتمبر ، أشعر بجمال الزعيم وقد بُعِث بيننا من جديد ، يوزع الخبز على الفقراء ، يمسح دموع المظلومين والمحرومين ، يزور المرضى في المستشفيات والطلاب في المدارس والجامعات ، يجوب الحقول ليطمئن على قوت الفلاحين ، ثم يعود مساء ليأوي بسلام في ضريحه ، لكي يعاود الكرة صبيحة اليوم التالي . ما زال كما كان ، قلبه علينا ، وهمه عزتنا وكرامتنا ، ولكن ماذا نحن فاعلون اليوم : الثامن والعشرون من سبتمبر. سوف نتذكر الزعيم بكل جوانحنا ، ونسأل اللله له الرحمة في صلواتنا ، ومع أن صورته محفورة في الروح والعقل ، فسوف نرفع صورته على قمصاننا وعلى شرفاتنا وعلى سياراتنا ، في الميادين وفي الشوارع ، سيكون هذا اليوم يوم استفتاء على حب الزعيم الذي عاش ومات من أجل مصر والعرب . سوف نتذكر مبادئه في الحرية والعزة والكرامة ، ونستعرض إنجازاته التي أهداها لشعبه وللعرب : تحقيق الجلاء وكسر احتكار السلاح وتأميم القناة وتوزيع الأراضي على ملاكها الحقيقيين – الفلاحين - وبناء السد العالي وتحقيق الوحدة ودعم ثورات الأحرار والمظلومين في كل مكان ، والأهم من كل ذلك : غرس قيم العزة والكرامة والتحرر في النفوس ، سوف نتحدث عنه إلى الجيل من الشباب الذي لم يرَ عبد الناصر ولم يعش عصره . في هذا اليوم أتمنى من كل قلبي أن أكون عند قبره لأضع عليه وردة حب ووفاء.
في هذا اليوم لن أعزي أحداً في عبد الناصر ، ولننس الحزن ، فالزعيم خالد في نفوسنا ، أبداً لم ولن يموت .

Wednesday, September 19, 2007

شهر سبتمبر ..... لماذا كل هذا ؟


سطح ما مضى من التاريخ يتلون بأحداثه وأحواله كتلون سطح الأرض : مناطق خضراء يانعة ، توشيها ألوان زاهية تبعث في النفس الفرح والنشوة ، وبقاع جدباء قفراء ، تقطعها وديان وصحارٍ ، تشحن الروح بكل مشاعر الكآبة والقلق . وكما تتوزع البقاع بجمالها أو وحشتها على سطح اليابسة ، كذلك تتوزع الأحداث بحلوها ومرها على سطح السنوات والشهور والأيام ، وربما اختص القدر شهراً ما بسعادة غامرة ، وربما اختص شهراً آخر بكآبة قاتلة ، وفي كل عام ، وعندما يحل شهر أيلول / سبتمبر ، لا تستطيع أن تمنع زمام ذاكرتك من الارتداد صوب أحداث ربما نسيها – في زحمة الحياة – الكثيرون ، غير أن عمق تأثيرها في حياتنا العامة يجعلها عصيّة على النسيان ، ففي هذا الشهر – حسب ما تعيه ذاكرتنا - من عام 1961 وقعت جريمة نحر أول تجربة وحدوية في التاريخ العربي الحديث ، وحدة سوريا مع مصر ، تلك الوحدة التي قامت في شهر شباط / فبراير من العام 1958 ، والتي رأى فيها القوميون من أبناء الأمة مشعلاً لا بد سيضيء الدرب بعد ظلمات الاستعمار والتخلف ، لكن أصابع التآمر ، التي اتخذت من السفارات العربية والأجنبية دهاليز تحيك فيها المؤامرات والدسائس ، نجحت في صبيحة الثامن والعشرين من سبتمبر من ذلك العام – 1961- في الإطاحة بالوحدة ، وبكل الأحلام والطموحات التي وعدت بتحقيقها لجماهيرها الواسعة ، متعللة تلك القوى المتآمرة بالأخطاء التي حدثت خلال ثلاث سنوات وسبعة أشهر وسبعة أيام من عمر الوحدة ، واعدة الجماهير بالعمل على تصحيح المسار والأسلوب من أجل بناء الوحدة من جديد ، على أسس صحيحة ، وها قد مضى على هذا الوعد ما يقرب من نصف القرن ، والجماهير التعيسة تجلس على قارعة الأمل ، واضعة يداً على خد ، وقاضمة بأسنانها أظافر اليد الأخرى ، منتظرة تحقيق وعد لن يأتي ، وأمل لن يتحقق سوى بالدم والعرق والدموع .
لم يكتف سبتمبر بهذه الكارثة ، فقد جاءنا في عام 1970 بكارثتين أشأم من بعضهما ، ففي ذلك الشهر من ذلك العام ، انقضت قوى الرجعية والعمالة - معززة بأخطاء قادة هم أنفسهم أخطاء تاريخية – على قوات المقاومة الفلسطينية في الأردن ، فسالت دماء من يفترض أنهم إخوة ، وارتدت الأعراب إلى عصبيتها المقيتة ، فكانت مذابح عمان والأحراش في عجلون والسلط ، ورغم ذلك لم يكتف سبتمبر بما جاء به في ذلك العام ، ورأى أن يفرغ حقده وسمه في شرايين هذه الأمة ، فاختطف من حضنها بقسوة لا مثيل لها زعيمها وحامل مفتاح نهضتها الحديثة جمال عبد الناصر ( وللمفارقة في نفس يوم الذكرى التاسعة لانفصال مصر عن سوريا ) . يومها قلنا بأن الله قد خفف بموت عبد الناصر جميع الأحزان التي ملأت كل بيت وحارة في شرق النهر وغربه ، فقد غطى الحزن عليه على جميع الأحزان . دفنا الزعيم وقلنا لسبتمبر : لو سمحت كفى. ولكن أنّى لذاك الشهر الحاقد أن يكتفي :
ففي سبتمبر من عام 1978 وقع حاكم مصر – ومن خلف ظهر شعبه – على اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة ، وتمكن الصهاينة من إخراج السمكة الكبيرة من الماء – كما كان يطالب موشي دايان – كي تموت بعيدة عن وسطها العربي ، الذي لا يمكنها ادعاء الزعامة التاريخية عليه بدونه ، وحتى مع توسلاتنا إليه ، لم يتوقف سبتمبر العجيب عن قهرنا ، ففي منتصفه من العام 1982 ذُبِحَ الفلسطينيون ذبح النعاج في مخيمي صبرا وشاتيلا بعد أن تخلت عنهم قيادتهم – الخطأ التاريخي الأكبر في حياتهم – وهربت تاركة إياهم طعاماً سهلاً لبنادق وسكاكين شارون وحلفائه . الخد العربي تعود على اللطم في سبتمبر ، ففي الثالث عشر منه من عام 1993 ، تبع القائد التاريخي الملهم !!! خطى صديقه الرئيس ابن القرية !!! ، فوقع اتفاقيات أوسلو التي رفعت عن كاهل المحتل عبء الإنفاق على الأراضي التي يحتلها ، وحولت الصفة القانونية لهذه الأراضي من ( أراضٍِ محتلة ) إلى ( أراضٍ متنازع عليها ) ، المهم أن يدوم لقب ( السيد الرئيس ) و ( البساط الأحمر ) و ( السلام الوطني ) أما الباقي فليذهب إلى الجحيم . هل من طريقة نحذف بها شهر سبتمبر من التقويم السنوي ، فنقفز بها من أغسطس إلى أكتوبر مباشرة ، أو أن نحذف اسم سبتمبر ونطلق بديلاً عنه اسم ( أكتوبر الأول ) يليه ( أكتوبر الثاني ) ؟ لا أعلم ، ولكن الذي أعلمه جيداً أنني بدأت ، ومنذ زمن بعيد ، أحرص على أن أضع يدي على قلبي ، وأضع نظارة سوداء على عينيّ– كنظارة طه حسين – كلما بدأ شهر سبتمبر وحتى نهايته .

Tuesday, September 18, 2007

مشغول عليك ...والله مشغول عليك
والله العظيم ، والله العظيم ثلاثة ، ومن كل قلبي ، أتمنى أن أعرف أين يتواجد الآن ، وكيف يستطيع التخفي والاختباء بمثل هذه المهارة وذلك الإتقان ، في وقت يحتاجه الناس لكي يكون له موقف مما يجري ، فيظهر للعالم الظلم الذي يلحق بشعبه ليل نهار من قتل واغتيال ، وتشريد واعتقال ، كيف لا وهو الرئيس الذي يحرص على أن يناديه الجميع بلقب ( السيد الرئيس ) ، - تماماً كسلفه - والزعيم الذي يزهو بالتمشي على البساط الأحمر – تماماً كسلفه - ، وتطلق لدى وصوله إحدى وعشرون طلقة – تماماً كسلفه - ، ويعزف له النشيد الوطني ( بلادي ، بلادي ) – تماماً كسلفه - ، أعجب : أين يختفي هذا الرجل عندما تمعن أداة القتل والاحتلال في التنكيل بأبناء شعبه قتلاً وأسراً وتشريداً ؟ ، فلا نكاد نعرف له مكاناً أو وكراً ، ولا نسمع صوته همساً أو جهراً ، ، ، بقدرة قادر يختفي اسمه من وكالات الأنباء حتى لتظنه قد تبخر ، وتفتقد شاشاتُ التلفاز طلعته البهية َ كما لو أنه عن موعد بثها قد تأخر . رب فيلسوف يسأل ثم يجيب : هل يمكن أن يكون لدى الزعيم الملهم خطة عمل سرية لمحاربة الاحتلال وجرائمه ، وذلك بعدم تناولها حتى ولو بالاستنكار ؟ وبالتعتيم عليها ليل نهار ؟ وبتجاهلها تماماً ليغيظ اليهود والكفار ؟ ربما ، نعم ربما ، لا بل من المؤكد ، فالزعامة لا يصل إليها من الناس سوى العباقرة ، والقيادة لا يتسنمها من الرجال سوى أصحاب العقول الشاطرة ، أما نحن الجهلة ، عامة الشعب من المتخلفين ، فنبقى في غياهب جهلنا وتخلفنا غارقين ، ولا هم لنا سوى أن نطرح هذا السؤال الخبيث الأبله : أين يدفن السيد الرئيس في الأوقات الحرجة رأسه ؟ . يبدو أنه لاحيلة لنا من أجل معرفة الحقيقة المخزية ، سوى أن نرصد مكافأة مجزية ، لمن يأتي بالرئيس المختفي حياً ، وفي أسوأ الحالات ، ، ، ، حياً أيضاً ! ! ! .

Monday, September 17, 2007

زمن العجب
(شعر)

أتسكّعُ فوق الأرصفةِ المسكونةِ بالوَهَنِ

أعرض عقلي وكتاباتي للبيعِ

بأبخس ثمنِ

أخجل أن أتذكّر عمّن ولمن كنت أسطّرُ

( أكوامَ الأدبِ ( العفِنِ

أتأبَّطُ ممحاتي ، أمسح من ذاكرتي كلمات الوهمِ

وعهرَ الزمنِ

( أخشى أن تضبطني في حالة ( وعيٍ وطنيٍّ

( أزلامُ ( السِّلمِ

وأفرادُ الأمنِ

( أتمرّغ في حلّ ( سلميٍّ

أحلم بالطّلقةِ والكفنِ

=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=

انقلبتْ كلُّ الأشياءْ

كلٌّ منّا يفعل ما شاءْ

و لهذا يا هذا ، ، ، افعل ما شئتَ

ولا تخشَ حُكمَ الأيامْ

اعملْ سمساراً بعمولةْ ، اسرق قوتَ الأطفالِ

وأموالَ الأيتامْ

شرّق ، غرّب ، عِشْ في الأحلامِ

وقطّع في الأرحامْ

اعمل قوّاداً في ماخورٍ ، كُنْ زيرَ نساء مُتَصَعْلِكْ

هرّبْ ما شئت من الأموالٍ المسلوبةْ

كُنْ ألعوبةْ

اسرقْ وانهبْ ، حشّشْ واكذبْ

اقتلْ وافتكْ ، افعلْ واتركْ

لكن . . . لا تُشهرْ قلماً مجنوناً يفضحُ خوّاناً متهتّكْ

واقطع عهداً : ألاّ تكتبَ للوطنِ قصيدةَ شِعرْ

واركعْ يا هذا . . . اركعْ واحنِ الرأسَ

ومرّغْ أنفكَ . . . وارهِنْ نفسكَ
عند طواغيت العصرْ

+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+

كلُّ الأشياء انقلبتْ

قِيَمٌ ظهرتْ ، أخرى انقرضتْ

أضحى إرهابياً من يتحدّثُ عن زمن الثورةْ

صارت صُوَرُ الشهداء بقايا ذكرى

وُئِدَتْ أحلامُ الأسرى

و زهورُ الفرحةِ . . . لم تزهرْ

وتوارى قمرٌ . . . لم يُقْمِرْ

فتحسّ بكابوسٍ وحشيّ يغزو عقلكَ

ينهش قلبكْ

وحشٌ أحمقْ

و الطوقُ على عنقكَ

يصبحُ أضيقْ ، أضيقَ أضيقْ

فاسأل نفسكْ

ماذا تملكْ ؟

وانظر حولكْ

ماذا تبصرُ إلاّ الظلمةْْْ ْ ؟

ْ فاقرأ فاتحة الرحمةْ

و احزمْ أمركْ ، واخترْ قَدَرَكْ

أو بيديكَ . . . تحفرُ قبركْ

=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=

Tuesday, September 11, 2007

الرحلة الكابوس
(قصة قصيرة)

بينما كنت ساهماً أنظر إلى صفوف الركاب المتقاطرين على بوابة الصعود إلى الطائرة ، مرت في خاطري سحاباتُ أمثالٍ وحِكَمٌ حاولتُ من خلالها التخفيف من قلقي الذي بدا مرتسماً على وجهي كما على وجوه باقي الركاب : ( لا تضرب الصاعقة أبداً في مكان واحد مرتين ) ، ( لا تسقط قذيفتا مدفع في حفرة واحدة على أرض معركة ) ، ( إذا أردت الهروب من بطش أسد فاختبئ في عرينه ) . هل كان استحضار هذه الأمثال وأمثالها محاولة مني لاستبعاد حدوث أمر جلل ، أم كان لتركيب قلب ثانٍ في صدري لا يعرف الخوف طريقه إلى حناياه مما هو قادم ؟ ، أم هل كانت هذه العبارات حججاً أتذرع بها لتبرير غلطتي في اختيار هذا اليوم الموعود لسفرة قد تمتد ساعات طويلة بين دول عدة ، ومطارات متعددة ؟ ، هذا اليوم الذي أصبح يحمل بجدارة - ومنذ سنة واحدة فقط - لقب اليوم العالمي للإرهاب ، اليوم الذي انهار فيه برجان من أعلى أبراج الدنيا في دقائق معدودة ، واستغرقت إزالة أنقاضهما أشهراً عديدة . هل أتهم نفسي بالغباء لاختياري هذا اليوم اللعين موعداً لعودتي من إجازتي السنوية ، أم أعتب على صديقي وكيل سفري الذي رتب لي بعناية فائقة هذه الورطة ؟ . عند إجراء الحجز لم ننتبه ، أنا وهو ، إلى أن تاريخ العودة الذي اخترناه هو نفس هذا اليوم الأغبر ، أما محاولة تغييره بعد التنبه إلى خطئنا ، فقد بدت شبه مستحيلة نظراً لعدم وجود مقاعد شاغرة قبل أو بعد هذا التاريخ ، وهو أمر منطقي ومبرر في هذا الوقت من السنة . الكتاب الذي أهدته إليَّ ابنتي ونصحتني بقراءته لقطع وقت الرحلة الممل ، لم يعمل عمله ، بل مازلت أرواح بين صفحاته الخمس الأولى ، رغم أنني بدأت تصفحه منذ ساعة .

عندما تتصادم مشاعر الخوف من مجهول تحس به قادماً بعنف لا يرحم ، مع رواسخ الإيمان في نفس تربت على التسليم بقضاء الله وقدره ، تقدح شرارة من الإقدام واللامبالاة بما سيحدث ، إلى درجة تجعلك تضحك من ذاك المتوتر الجالس في مواجهتك ، أو من تلك السيدة التي تحضن طفلتها وعيناها ساهمتان كأنهما تستشفان حدثاً يوشك على الوقوع ، أما موظفو الأمن الذين يذرعون بأعينهم وجوه الركاب ، ويجوبون بأصابعهم - التي تغطيها القفازات البلاستيكية- في حقائب المسافرين ، فهم يستعيرون توترهم من الرعب الكامن في أرواح الركاب المغادرين ، جاهدين للعثور على شيء يشي بالشك في مسافر يحمل قلاّمة أظافر ، أو مقصاً صغيراً لتشذيب الشوارب ، أو حتى مشرطاً صغيراً لقطع الورق ( هذا الذي دخل في قاموس الإرهاب الدولي كأفضل سلاح لخطف الطائرات ) ، بل حتى حاضنات حمل الأطفال لم تسلم من التفتيش الدقيق ، كيف لا ونحن - وكل عام وأنتم بخير - نحتفل هذا اليوم بالعيد العالمي الأول للإرهاب .

استقريت على مقعدي ، وربطت حزام الأمان بثقة مطلقة ، وفتحت الكتاب الذي مازلت أراوح بين صفحاته الخمس الأولى ، دون أن أفهم منها شيئاً ، أما الراكب المجاور لي فقد رمى نفسه في مقعده دون أن يطرح عليَّ السلام - ربما بسبب توتره - ولم يزد على أن ربط حزام مقعده ، وأسند جسمه على جانبه الأيمن ودخل - أو هو حاول أن يتظاهر - في سبات عميق ، فتخيلت أنه ربما كان قد تناول بعض الجرعات المهدئة - وله كل الحق في ذلك - ، وبينما توارد الركاب كلٌّ إلى مقعده ، ساد صمت ثقيل لم تقطعه سوى بعض الضحكات المكتومة التي حاول أصحابها ، على ما يبدو ، إظهار لا مبالاتهم من هذه الرحلة التي تخيلها البعض - ومن دون سبب واضح - مشؤومة .

كان الوقت ليلاً ، والإقلاع سهلاً ، وكلما ارتفعت الطائرة ، انخفضت مخاوف ركابها ، واندمجوا في رحلة يتمنون أن تكون سعيدة ، ، بعضهم حاول النوم مباشرة بعد الإقلاع ، ربما لكي ينسى ما هو فيه من قلق ، بينما فضل البعض الآخر التلذذ بتناول كأس عصير الضيافة الذي قدمته مضيفات باسمات ، حاولن بأقصى طاقتهن إضفاء جو من المتعة والمرح على الركاب ، للتخفيف مما يعانونه من ضيق وخوف .

قبل عرض فيلم السهرة ، وُزعت أطباق العشاء الساخن ، وكؤوس العصير المتنوعة ، وقد لاحظ الجميع كيف أن السكاكين التي قدمت كانت من النوع البلاستيكي الخفيف الذي لا يقطع الماء ، والشُوَك المطاطية التي لا تنفذ حتى في الحساء ، كل ذلك من قبيل الإجراءات ( الأمنية ) التي بدأت شركات الطيران باتخاذها عقب الأحداث المعروفة . بعض الركاب ازدرد طعامه بسرعة لكي يعجل في النوم ، والبعض الآخر وجدها فرصة لكي يشغل نفسه عما يشغل ذهنه ، ، ليست مزحة أن تسافر من نيويورك إلى أمستردام في مثل هذا اليوم الرهيب ، وليست بطولة أن تتنطح للطيران في هكذا يوم عصيب . غير أن الضرورة اقتضت سفر جميع من على متن هذه الرحلة ، وليس فيهم بالضرورة ولو سائح واحد .

مضى على الرحلة ما يقرب من ساعات ثلاث ، وها قد بدأت النفوس بالهدوء ، وبدا أن التوتر الذي سيطر على المسافرين في بداية الرحلة لم يكن له ما يبرره ، كما كان لسلاسة حركة الطائرة في اختراقها الأجواء أثر كبير في سيطرة النعاس على ركابها الذين دخل معظمهم في سبات عميق ، بينما رَكَزَ البعض على رؤوسهم وفي آذانهم سماعات القنوات الموسيقية التي تبثها قمرة القيادة ، علّ الموسيقى تخفف من هذا التوتر الخانق : سيد الزمان والمكان .

لم يستطع أحد منا ، نحن ركاب المقصورة الرئيسية ، أن يعرف لماذا وكيف تزامن هبوط مفاجيء للطائرة في مطب جوي ، مع صرخة حادة من مضيفة كانت قد دخلت للتو خلف ستارة مغلقة تفصل بين مقصورتي الركاب ، وقبل أن يصحوا النائمون من نومهم ، وقبل أن يرتد طرف الصاحين منهم إليهم ، كان أربعة مسلحين قد انتصبوا في أركان المقصورة الأربعة ، شاهرين مسدساتهم برشاقة المحترفين ، قابضين عليها بِكِلتَي اليدين ، ناظرين بشذر في وجوه الركاب ، طالبين منهم البقاء في أماكنهم ، وإطاعة أي أمر يصدر إليهم . غمغمت قائلاً في نفسي : ها قد ضربت الصاعقة في مكان واحد مرتين ، وها قد سقطت عدة قذائف في مكان واحد في أرض المعركة ، وها قد أطبق الأسد فكيه على من تخيل أن النجاة تكمن في عرينه ، ومن ثم فهاهو العيد العالمي للإرهاب يعود علينا ثانية بنفس البضاعة.

بينما استمر صراخ المضيفة من خلف الستارة ، طلب المسلحون الأربعة من الركاب الثبات في أماكنهم ، مهددين ومتوعدين كل من يتحرك بالقتل الفوري ، في حين استمرت أصوات وهمهمات قادمة من خلف الستارة مختلطة بأنين المضيفة ، وبضربات مطرقة ربما يحاول صاحبها كسر باب كبينة الطيار . إذن فعلها الخاطفون مرة ثانية ، ولا بد أنهم بعد أن أخذوا المضيفة رهينة يقومون الآن باقتحام غرفة القيادة للسيطرة على الطائرة ، ، صوت الكابتن يأتي ضعيفاً مشوشاً عبر مكبرات الصوت ، محاولاً التخفيف من روع الركاب ، طالباً منهم الركون إلى الهدوء حرصاً على سلامتهم ، دون أن يكلف أحد من الركاب الفزعين نفسه عناء الاستماع إلى كلمات قائد الطائرة . أحد المسلحين يقول بصوت عالٍ مناشداً الركاب الخلود إلى السكينة : ( من فضلكم لا تخافوا فنحن ضباط أمن الطائرة ) ، يرد عليه أحد الركاب وقد انفلت لسانه من عقال خوفه : ( وهل لديك ما يثبت ذلك ؟ ) ، راكب مرعوب آخر يرد على الراكب الأول باستهزاء : ( ألا تظن أن هذه يمكن أن تكون مزورة يا ذكي ؟ ) . عندها يتراجع المسلح عن إبراز بطاقته للركاب وقد كاد أن يفعل ، إذ لن يكون لذلك أي أثر في تهدئة روعهم ، ولم يجد بداً من أن يصرخ فيهم : ( إذن ادفنوا رؤوسكم بين أيديكم ، ولا يفتحنَّ أحد منكم فمه بأي حرف ) . فعل الجميع ما أُمروا به ، بينما مازالت الجلبة قادمة من خلف الستارة وأنين المضيفة يضفي على الجو مسحة من خوف بارد ، والمطرقة مازالت تعزف بجنون قاتل أنشودة الموت .

أردت أن أفتح ستارة النافذة علني أشاهد أضواء طائرات نفاثة ، تلاحقنا قبل أن تسقطنا ، لكنني لم أجرؤ على ذلك ، حيث شعرت بأن المسلحين متوترين بشكل كاف لارتكاب أية حماقة ، وخشيت أن يكون أي تحرك مني دافعاً لهم لإطلاق النار عليّ . المطبات الجوية تزداد حدة ، فترتجُّ الطائرة بمن فيها ، وترسخ في أذهان الركاب قناعة بأنهم يسافرون على متن طائرة مختطفة ، والمسلحون يوقنون - هكذا خمّنتُ - بأن زملاءهم من الخاطفين ما يزالون في صراع عنيف مع طاقم القيادة ، ولما يفلحوا بعد في إنهاء مهمتهم بنجاح . بكاء النسوة وصراخ الأطفال أضفى على المكان جواً من البؤس الخانق ، وشعر الجميع بأن النهاية قد أزفت .

بينما تمر لحظات القلق اللزجة ، يمر في مخيلتك شريط حياتك كاملاً في لحظات تتشابك فيها المشاهد ، وتتزاحم العواطف ، ولا يستقر ذهنك على مشهد ما حتى تتدافع مشاهد أخرى مشوشة لتحل مكانه ، يريد ذهنك أن يعرض في مخيلتك كلَّ ما مر بك في حياتك : أهلك ، أحباؤك ، أصدقاؤك ، فيزداد تشابك الصور ، وتختلط عليك البديهيات ، وفي صراع عنيف بين تصور شكل الموت القادم ، والتسليم بالأمر الواقع ، تتخدر عواطفك ، وتتساوى لديك قيم الأشياء جميعها ، لسبب بسيط واحد فقط : لأنها جميعها خارج نطاق سيطرتك . تريد أن تستمر هذه اللحظات وتطول ، مع أنها رهيبة ، قبل أن تحل النهاية التي من المؤكد أنها ستكون مريعة ، تريد ذلك فقط حتى تستطيع استحضار صور جميع من تحبهم ، تريد ذاكرتك أن تودع ملامحهم ، وتود روحك أن تعانق ذكراهم ، ، تتخيل حجم الصدمة التي ستضرب قلوبهم عندما سيسمعون خبر موتك المريع ، فيهوي قلبك ، ، تتمنى مخلصاً أن تمر هذه الأزمة على خير ، فقط حتى لا تتسبب في إيلامهم حزناً عليك ، فموتك ليس مشكلتك أنت ، بل هو مصيبتهم هم .

خَفَتَ أنين المضيفة حتى تلاشى ، فأيقن الركاب بأن شعلة روحها قد انطفأت ، وساد حزن عميق كتم أنفاس الجميع ، وتحفزت نفوسهم للقادم الأسوأ . هل تمكن الخاطفون من السيطرة على الطائرة ؟ وأين سيذهبون بها إن تم لهم ذلك ؟ وهل ما زال هناك مجال لهبوط الطائرة سالمة على الأرض ، ومن ثم تفاوض خاطفيها مع السلطات الأمنية حول شروط مسبقة ؟ أم أن الأمر لا يخرج عن احتمالين اثنين : قيام طائرات نفاثة بإسقاط طائرتنا ، أو استخدامها من قبل الخاطفين في هجوم انتحاري على مبنى عالٍ أو منشأة هامة ؟ وفي الاحتمالين كليهما فإن النهاية المرعبة قادمة حتماً ، رغم اختلاف شكلها .

في تلك اللحظات الحرجة فُتِحَت الستارة ، وبرز وجه الكابتن ، فأيقن الجميع أن الخاطفين قد سيطروا على الطائرة واقتادوه إلى هذه المقصورة لربطه فيها ، وأصبح مصير الركاب الآن كما تنبأوا : إما أن تسقطهم طائرة مقاتلة ، أو يقودهم الخاطفون للاصطدام بهدف سبق لهم اختياره . ابتسامة بلا لون تعلو وجه الكابتن وهو يرفع يده اليمنى وقد أمسك بها يد المضيفة - التي مازالت مختفية خلف الستارة - وإصبعان منها ملفوفتان برباط طبي ، ولإزالة هذه المحنة عن قلوب الجميع ، ما كان ربان الرحلة بحاجة إلى أن يقول للركاب - بعد أن تنحنح - سوى بضع كلمات ترفع عن أرواحهم ثقل هذا الكابوس اللعين : ( لم يكن الأمر سوى مجرد انغلاق باب مستودع الأطعمة - بفعل المطب الجوي العنيف - على أصابع المضيفة ، مما أرغمنا على استخدام المطرقة في كسر الباب لتخليص يدها منه ) .
علت صيحات الركاب غبطة لدرجة أن بعضهم بكى من شدة الفرح ، ، حاولت المضيفة أن تعتذر لكنها لم تعثر على الكلمات المناسبة ، فتوارت خلف الستارة مكفكفة دموعها ، ، المسلحون الأربعة أعادوا مسدساتهم إلى مكامنها ببرود ، وجلسوا في مقاعدهم بهدوء وكأن شيئاً لم يكن ، ، الكابتن أمر بتوزيع العصائر والهدايا على الركاب احتفالاً بانفراج الأزمة ، ، الركاب صفقوا طويلاً ، وعانقوا بعضهم بحرارة ، ، انشغل الجميع بالاحتفال بهذه النهاية السعيدة ، إلاّ الراكب الجالس إلى جواري ، فلم يزد على أن حول نقطة ارتكاز جسمه من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى ، ، متلمّظاً ، بالعاً ريقه ، شابكاً ذراعيه حول صدره ، مستمراً في سباته العميق ، غير عالم بما جرى على متن الطائرة ، إلا إذا قرأ الأخبار في صحف اليوم التالي ، هذا إن كان يصدق كل ما تنشره تلك الصحف .

Sunday, September 9, 2007

قطرات الزمن المهتريء
(قصة قصيرة)

أصبح صوت قطرات الماء الرا شح من سقف زنزانته الانفرادية رفيقه الوحيد في عزلته ، يقضي ساعات طويلة يتسلى بسماعها تعزف لحناً متسقاً عندما تسقط في حفرة صغيرة أحدثتها في أرض الزنزانة ثم ملأتها . هذه القطرات المُنشِدَةُ أصبحت وسيلته الوحيدة لإدراك حركة الزمن ، فلقد تعلم مع مرور الأيام كيف يستخدمها عداداً للوقت بديلاً عن الساعة .

في كل يوم ، وبعد تسلل أول شعاع للشمس من كوة صغيرة في سقف الزنزانة ، يبدأ بعدّ القطرات ، يتأملها بشغف طفولي ، ويستمتع بأصواتها المختلفة التي تتنوع حسب أحجامها ، مما ينسيه مؤقتاً ما هو فيه ، وما أن يصل إلى العدد 1800 حتى يقذف له الحارس قطعة الخبز الصباحية من فتحة أسفل باب الزنزانة ، فيبللها في ماء الحفرة ويزدردها بنهم شديد . بعد حوالي 18000 قطرة كان الحارس يقذف له قطعة خبز يابسة مع صحن صغير فيه مرق اختلط طعمه برائحة البترول كوجبة غداء ، وما أن تسقط 900 قطرة أخرى حتى تُفتح أبواب الزنزانات مؤذنة بخروج السجناء إلى ( الفورة *) ، وحتى عندما كان ( كامل ) يتمشى مع زملائه في ساحة السجن ، لم يكن ينسى صديقاته القطرات ، بل كان يستمر في عدها ، وما أن يصل إلى القطرة رقم 1500 حتى تنطلق الصافرة معلنة انتهاء فترة الراحة ، فيسرع السجناء إلى زنزاناتهم قبل أن يبدأ الحراس ضربهم بأعقاب البنادق مطلقين عليهم كلاباً المتوحشة .

لم يعد ( كامل ) يخشى جلاديه بعد أن أكلت سياطهم من لحم ظهره ، وكسرت قبضاتهم معظم أسنانه . لم يعد ( كامل ) يخشى الموت بعد أن مات معظم زملائه إن إعداماً أو تحت التعذيب . لم تعد هناك أية قيمة لأي خطر في نظر ( كامل ) بعد أن تشرد عن أسرته منذ النكبة الثانية . والده مازال يُقيم في إحدى قرى ( القدس ) يعيل عشرة من الأبناء والبنات . بعض إخوته عمل مع حكومات أو حركات وطنية أخرى مخالفة لخط الحركة التي ينتمي إليها ، فوصل الخلاف بين الإخوة حد القطيعة .

لم يعد ( كامل ) يخشى أي شيء سوى توقف صديقاته القطرات عن السقوط من سقف زنزانته ، والتي أصبحت الآن رفيقته الوحيدة ، يدعو الله دائماً أن يديمها له طيلة وجوده في السجن حتى لا يضيع زمنه من يديه بعد أن ضاع كل شيء ولم يبق إلاّ الحلم ، وهو إن قُدِّرَ له أن يخرج حياً من هذا القبر ، فلسوف يوصي الزائر الذي سيحل محله أن يصادق هذه القطرات ، وأن يستمر في عدها وأن يدعو لها بطول العمر ، ببساطة ، لأن استمرار سقوطها يعني استمرار الحياة .

إنه الآن يعد القطرات انتظاراً لخبز الإفطار ، بينما تتحسس أصابعه جروحه العميقة التي تنز دماً وقيحاً بعد أن شبعت منها سياط المحققين بأمر من مدير السجن .

السجن قلعة أثرية نائية في صحراء عربية ، تبعد مئات الكيلومترات عن أقرب مدينة مأهولة ، تصلها بالعمران طريق ضيقة تسلكها سيارات الأمن ناقلة إلى السجن المعتقلين الجدد ودوريات الحراسة الأمنية ، وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد من أسوار السجن خُصِّصَت قطعة من الأرض لتكون مقبرة لدفن جثث الذين يموتون تحت التعذيب ، حيث كان هؤلاء يُنقلون إليها تحت جنح الظلام في توابيت خشبية ، تُدفن على عمق بسيط تحت سطح الأرض ، وعشية دفن أحدهم ، كان السجناء يسمعون في جوف الليل أصوات ذئاب وضباع جائعة تنبش الأرض وهي تعوي عند المقبرة .

في التحقيق الذي فقد فيه بعضاً من أسنانه ونُتَفاً من لحم ظهره ، كان المطلوب من ( كامل ) الاعتراف بمسؤوليته عن عمل ( تخريبي ) لم يقم به ، ومع أنه كان يعرف اسم منفذه ، إلاّ أن القِيَم التي تربى عليها كانت تأبى عليه أن يَشِيَ بغيره .

مدير السجن اشترك شخصياً في التحقيق معه ، وأوصى الجلادين بانتزاع الاعتراف منه مهما كلف الأمر . مدير السجن هذا طويل القامة ، أسمر البشرة ، ذو شارب كث وسحنة تقطر لؤماً ، يبدو وجهه وكأنه قد نسي الضحك منذ عقود من السنين ، عيناه مختبئان خلف نظارة سوداء خشية اكتشاف الحقد الذي يقطر منهما مع كل نظرة ، وقبضتان أكلتا من وجوه السجناء ، وأكلت وجوه السجناء منهما ، فبدتا متورمتين محمرتين كيدَيْ خباز ، رضي بأن يعمل كلباً برتبة عقيد لدى سلطة غاشمة .

لن ينسى ( كامل ) كيف استقبله مدير السجن هذا في اليوم الأول لوصوله . مع اللكمة الأولى صرخ اللئيم في وجهه : ومازلت تصرّ على عبور النهر إذن ؟ . . . شرد بذهنه بعيداً وكأن السؤال لا يعنيه : ( عبر النهر ، وإلى الغرب ، تقبع أحلام الأحياء والشهداء ، أما الأصدقاء الأعداء شرق النهر فإنهم يحاولون مصادرة الحلم ، وأما حراس الحلم فيعضون عليه بالنواجذ ، ويعيشون من أجله ويموتون في سبيله ). مع اللكمة الثانية صرخ الأسمر ذو الشارب الكث في وجهه : لن تخرج حياً من هنا إن لم تعترف . قال في نفسه : ( وماذا في ذلك ، سوف أنتقل من حالة الحلم إلى حالة الشهادة ، عندها سأكسب الشهادة ، أما الحلم فإنه ، وإن خسر واحداً في سبيله ، فسيبقى له كثيرون يعيشون من أجله ) . مع اللكمة الثالثة غاب عن الوعي ونقل إلى زنزانته .

يده مازالت تتحسس جروحه ، والألم الممض يعتصر جسده حتى النخاع ، بينما قطرات الماء ما زالت تتابع سيمفونيتها الرائعة ، وهو مازال يَعدُّها بفرح غامر ، وعندما وصل في عده إلى الرقم المناسب ، تدحرجت أمامه قطعة الخبز اليابسة ، فغمسها في ماء الحفرة وازدردها ، بينما تراقصت على ظاهر كفه بضع قطرات مدغدغة جلده الرقيق ، فأحس بنشوة عارمة ، وحمد الله أنه مازال يقبض على زمنه .

تعددت جلسات التحقيق ، وتكررت اللكمات من صاحب الشنب الكث . لعلعت سياط الجلادين ، وتناثر لحم الكتفين والظهر والصدر ، والموقف مازال على حاله ، ونتائج التحقيق تراوح في مكانها . موقف مدير السجن أصبح حَرِجاً للغاية أمام إلحاح رؤسائه بأن يقفل التحقيق مع ( كامل ) بنتيجة إيجابية : توقيع ( كامل ) على اعتراف صريح بارتكاب فعل نضالي يحرمه القانون ، و ( كامل ) لم يعد همه سوى عد القطرات الساقطة من سقف زنزانته ، والعض على حلمه بالنواجذ .

استمر في عد القطرات ، وهاهي ذي قطعة الخبز مع صحن المرق تحضر لنجدة معدته الضامرة ، ويستمر في عد القطرات ، وهاهي ذي الأبواب تفتح للخروج إلى ( الفورة ) ، وبدل أن يمضي مع زملائه إلى ساحة السجن ، اقتاده حارسان إلى مكتب المدير .

وراء مكتبه كان يجلس كتلة من حقد والشرر يتطاير من عينيه ، ورذاذ لعابه يتناثر وهو يتهدد ويتوعد ، وتنفذ كلماته البذيئة من بين أصابع يديه اللتين تلوحان في جميع الاتجاهات ، وبين الجملة والأخرى ضربة بالقبضة على المنضدة الخشبية ، فتتطاير الأشياء المبعثرة على سطحها بفوضى لا تقل عن فوضى تفكير هذا المغرور . أقفل (كامل ) أذنيه ولم يعد يسمع شيئاً مما يتفوه به هذا الكلب العقيد صاحب الشنب الكث ، فقد حفظه عن ظهر قلب . ما يهمه الآن أنه مازال يعد القطرات ، فبعد 1100 قطرة سيدخل السجناء زنزاناتهم ، وبعد 6500 قطرة ستغيب الشمس ، وتظلم زنزانته تماماً ويدخل في سبات عميق ، والرذاذ مازال يتساقط على وجهه ، وكلمات السوء تهطل على أذنيه ، ثم لكمة قوية تلقيه أرضاً فيغيب عن الوعي .

الآن يرى والده العجوز يبحث في حقله عن نعجة أضاعها ، وهو يلهث من شدة الجري في جميع الاتجاهات . أخيراً ، وبعد طول لهاث ، يعثر على عصفور ميت له قرنان وذيل نعجة ، أما النعجة فها هو يراها معلقة على كلاّب لحام القرية الذي يبدأ بتقطيع لحمها وإطعامه لكلاب متوحشة مسعورة . جردل من الماء البارد يُسفَح على وجهه فيصحو من غيبوبته :
" غداً سيحضر والدك لزيارتك ، عليك أن تتظاهر بأنك في أحسن حال ، وإلا كانت نهايتك مع انتهاء الزيارة ، أقسم لك على ذلك ، يكفي أنك ما زلت حياً حتى الآن رغم عدم تعاونك معنا " .

تجاهل ( كامل ) صوت محدثه ، واستمر في عد القطرات حتى وصل إلى 900 فأمره مدير السجن بالعودة إلى الزنزانة ، فهرع من فوره للاطمئنان على حبيباته القطرات ، وحمد الله على أن زمنه مازال يتراقص بين يديه .

أسعده أنه سيرى والده غداً ، وخمن أنه لن ينام هذه الليلة من الفرح ، بل سيقضيها في عد القطرات طيلة الليل ولأول مرة منذ صادقها ، غير أنه ، ولشدة تعبه ، وبسبب الآلام التي كانت تأكل جسده ، دخل في سبات عميق بعد سقوط القطرة الألف .

في الصباح ، وبعد أن ازدرد قطعة الخبز اليابسة ، فتح الحارس باب الزنزانة واقتاده إلى مكتب مدير السجن . نعم ، لقد حضر والده ، وسوف يراه بعد غياب سنين ، ولكن ما هي الطريقة التي تمكن بها والده من الحصول على إذن بزيارته ؟ وكيف استطاع والده الوصول إلى هذه البقعة النائية في هذه الصحراء الموحشة ؟ . . . لاتهم كل هذه الأسئلة ولا إجاباتها طالما أنه سوف يرى والده بعد لحظات ، ومادام والده سيعثر أخيراً على نعجته الضالة . ولكن ماذا سيحل بالكلاب المتوحشة ؟ لتذهب هذه الكلاب مع صاحب الشارب الكث إلى الجحيم ، ولن تأكل بعد اليوم سوى من لحمها هي ، فبعد مقابلته والده ، سوف يعود إلى زنزانته ويعد قطرات زمنه الفضية ، ثم سيدخل في حلم يرى فيه الكلاب المتوحشة تنهش لحم أحد أفرادها ، أما لحام القرية فيجب أن يراه في الحلم وهو نفسه يبقر بطنه بسكينه ويولي هارباً ، وأما العصفور ذو الأرجل الأربع والذيل ، فسوف يستيقظ من الحلم على صوت تغريده .

فتح الحارس باب غرفة المدير ودلف مستأذناً بإدخال السجين . بقي الباب نصف مفتوح ، وهاهو يرى والده واقفاً وسط الغرفة معتمراً عقاله ، هذا العقال الذي سوف يسقط عن رأس العجوز لشدة العناق وتعلق الابن برقبة أبيه ، فهو لن يتركها ولن يكف عن عناقه لمدة يوم بحاله ، ولماذا يوم واحد فقط بعد كل هذا الفراق الطويل ، ، ليكن أسبوعاً على الأقل . الآن الدنيا تدور ب ( كامل ) وهو يرى مدير السجن يعانق الرجل العجوز مندهشاً وهو يقول له : مرحباً بك يا والدي ، ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا ؟

جحظت عينا ( كامل ) ، وفغر فاه ، اكتسحت جسده النحيل قطرات عرق باردة ، أبرد من قطرات زمنه ، أحس وكأن الدم قد تجمد في عروقه ، وأيقن أن قطرات زمنه المهتريء قد توقفت عن التساقط الآن . . . وإلى الأبد .

*( الفورة : خروج السجناء إلى ساحة السجن لاستنشاق الهواء )

ترنيمة الى السواسن
( إلى روح سوسن شخشير شهيدة نابلس ، وإلى أرواح
جميع السواسن في أرض البطولات )

(شعر)

تصرعنا نشراتُ الأخبارِ ، تقطّعُ فينا أنياطَ القلبِ

وتتركنا أشلاءْ

في زمنٍ يُقْتَلُ فيه الأحرارُ ويحيا الجبناءْ

=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=

مات الأحرارْ ، عاش الجبناءْ

ماتت سوسنُ ، دخلت دائرة الخُلدِ

أخذت رقماً في قائمة الشهداءْ

خرجتْ ، هتفتْ ، صرختْ ، سقطتْ

فتداعَتْ كلُّ الأشياءْ

عسلٌ خمريٌّ يتدفّق من فمها

قمّةُ ( عيبالٍ ) جبهتُها

قامتها امتدتْ وانتصبتْ كجبال النارْ

ضحكتها ما زالت تحفظها جدرانُ الدارْ

تلبس علماً كفناً

تكسوها أزهارُ النوّارْ

ورداً يحضن ورداً ، نبعاً يتدفّق بالأشعارْ

سقط الجبناءْ . . . عاش الأحرارْ

=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=+=

صارت أسمى من كلِّ الأسماءْ

من يقدِرُ أن يقطفَ من دربِ التبّانةِ نجما ؟

أضحت رمزاً للأموات وللأحياءْ

من يجرؤ أن ينزع من رأسِ الشهداءِ الحُلُما ؟

سوسنُ لن تلعب بعد الآن مع الرفقاءْ

سوسنُ لن تكتبَ شعراً أو تعزفَ لحناً

سوسنُ - يا جسر العودة - صارت وطناً

سوسنُ - قد صارت يا كبدي -

كلّ الأشياءْ
غباء عبسي
تتعاقد إحدى الدول العبسية المجهرية مع المستر " سد بوراي" لقاء راتب ضخم ومميزات أضخم ، ولدى وصوله
يُستقبل المستر " سد " في المطار بالأهازيج والزغاريد والألحان ، وتفرش أمامه البسط بكافة الألوان ، ويُنقل إلى القصر المخصص له بحفاوة لا مثيل لها على متن سيارة ليموزين ، وكأنه قد حرر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين . في اليوم التالي ، وعندما يدخل " سد بوراي " إلى مكتبه ، يرفض بإباء - وربما بغباء - وشمم تعيين مترجم له ، ويقدم نفسه بفخر إلى أصحاب الشركة على أنه " سيد برعي " ، عندها تنقلب الأمور على رأسه رأساً على عقب ، فيخير بين وضع راتبه وباقي مميزاته تحت الجذر التكعيبي ، أو يغادر البلاد إلى غير رجعة على أول وسيلة نقل متوفرة . بشكل مفاجيء يتضامن أبناء عم " سد بوراي " الجدد ( من الكفار الأجانب ! ! ) مع ابن عمهم ضد أبناء عم " سيد برعي " الأصليين !! ، ويهددون بالاستقالة والعودة من حيث أتوا ما لم تعد إلى " سد " ، جميع امتيازاته المتفق عليها في العقد . يرضخ " العبسيون " المجهريون على مضض ، لكنهم يبدأون بحبك المؤامرات لابن عمهم السابق ، تمهيداً للتخلص منه بتهمة مخلة بالشرف . ابتكار " عبسيٌّ " لاستعادة العقول المهاجرة يحسد العبسيّون عليه .

Thursday, September 6, 2007

قرنٌ . . . . ولاكُلِّ القرون

شكراً للقرن الحادي والعشرين الذي أعفانا من مشقة الإحراج والخجل و احمرار الوجنتين، ومنحنا في الوقت نفسه أسباباً جديدة للشعور بنفس هذه المشاعر جميعها ، ولكن بطريقة " معاصرة " :
آ- أمور لا يجب أن نخجل منها :
- لا يجب أن نخجل من رمي مخلفاتنا في الشوارع ، إذ أنها مليئة بها ، بنا وبدوننا .
-
لا تخجل إذا ما ضبطوا ابنك متلبساً بتعاطي المخدرات وترويجها ، لأنه - كان الله في عونه - قد تعاطاها لأنه واقع تحت تأثير " ضغوط نفسية " لا يعلمها إلاّ الله ، وإذا لم يقم هو بترويجها ، فسيقوم آلاف غيره بذلك ! .
-
لو أمسك بزوجته متلبسة مع " صديقها! " ، فعليه ألاّ يشعر بأي إحراج أو خجل . عليه بدلاً من ذلك أن يكون متحضراً بما فيه الكفاية ! ، وإلى الدرجة التي يسأل فيها نفسه عن عيوبه التي لا تُطاق ! ، والتي اضطرت " المسكينة " إلى فِعل ما فعلت ! كما أن عليه أن يتودد إلى عشيق زوجته ، لأن العشيق الودود خير وأحبُّ إلى القلب من العشيق اللدود .‍‍‍‍‍‍‍‍‍
-
لن اشعر بأي حرج أو خجل لو أُحِلتُ إلى المحاكمة بتهمة " الاختلاس " لأن الكثيرين من علية القوم قد اختلسوا وحوكِموا قبلي بنفس التهمة ، وبُرِّئوا منها باعتذار شفهي أو مكتوب ، لأن الأمور أصبحت تسير بالمقلوب ، وخرجوا منها معززين مكرمين ، مثل خروج الشعرة من العجين .
-
احتلال المقدسات وانتهاك الأعراض وإذلال العرب على أيدي برابرة القرنين العشرين والحادي والعشرين ، لا ينبغي أن يُوَرِّدَ لنا خدّاً ، أو يهز لنا شعرة في جفن ، فهي مرحلة تاريخية لا بد منها ! ، تماماً كاحتلال الصليبيين لبلادنا طيلة قرنين من الزمان ، وبعد ذلك رحلوا عنها إلى غير رجعة ! .
ب- أمور يجب أن نطأطىء لها الرؤوس ، وينفر بسببها الدم من الخدود ، إحساساً بالعار والشنار:
-
طأطىء رأسك وامسح عرقك إذا ما سألك أحدهم عن رقم هاتفك النقال ، فقلت له أنك لم تمتلكه بعد ، إذ أن هذا يعني أنك تهمل استخدام تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين ، وبالتالي لا تنتمي إليه ، ‍ويعني أيضاً أنك لست رجل أعمال مهماً ، وأن الذي يريدك لا يستطيع أن يجدك فوراً ! ، وبهذا فأنت ما زلت متخلفاً عن الركب رغم أن الكثيرين من الصم والبكم قد بدأوا باستخدام هذا النوع من الهواتف ، فماذا تنتظر؟ ‍.
-
مع أنه لا يستخدمه إلاّ للتسلية بألعابه فقط ، فالويل كل الويل لك إن قلت له بأنك لا تملك جهاز كمبيوتر، ومع أنه لا يعرف كيف يدخل على الشبكات العنكبوتية المختلفة ، بل يعرف فقط كيف يحصل منها على آخر النكات السخيفة ، - مع أنه حياته اليومية مليئة بالنكات التي تكفيه لكي يضحك على نفسه وعلى قومه حتى آخر العمر - ، أو يعرف كيف يتحادث CHAT مع " أصدقاء " له في أستراليا أو نيوزيلندا ، مع أنه لا يعرف حتى أسماء جيرانه في نفس العمارة ، فالعار كل العار سوف يتلبسك إن أنت أخبرته أنك غير مشترك مع شبكة الإنترنيت . لكن الذي هو أكبر من ذلك بكثير يا محترم ، والذي ينبغي أن يجعلك تقف خجولاً أمام نفسك وأمام الناس : هل يُعقل أنك لا تمتلك بريداً إلكترونياً (e.mail ) ؟ ، يا للهول ! ! .
-
أنت ظلامي ، ومن دعاة التخلف والردة إن لم يكن لديك صديقة غير زوجتك (GIRLFRIEND) ، ( اللفظ المهذب لكلمة " عشيقة " ) وعليك - إن نفيت ذلك - أن تكون مستعداً بكمية كبيرة من المناديل الورقية لكي تجفف بها عرقك يا . . متخلف .
-
عليك أن تخجل من النظر إلى وجهك في المرآة ، وأن تراجع كل قواميس الدنيا منقباً عن جميع كلمات الاعتذار والندم والحسرة ، وبجميع اللغات ، وذلك إذا ما زلَّ لسانك وتحدثت عن ضرورة الوحدة العربية ، وتحرير " القدس الشرقية ‍" . . الشرقية فقط ) ‍ ، والتصدي للمخططات الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية للهيمنة على المنطقة العربية . اعتذر يا أخي بكل شجاعة ، نعم . . اركع واعتذر . . . فليس في ذلك عيب ، لأن الثبات على الحق رذيلة ! والإصرار على الباطل فضيلة ! أليست هذه هي قِيَمُ زمننا الذي نحيا ؟ اعتذر ياسيدي وإلاّ ‍‍‍‍. . . أليس كذلك ؟ .
شكراً لك عزيزنا القرن الحادي والعشرين ، أنت الذي غيرت لدينا مفاهيم العيب والخجل واحمرار الوجنتين ، وجعلتنا نسير على اليدين عِوَضاً عن القدمين .

Wednesday, September 5, 2007

الحمار الغبي ... ومؤتمر الخريف القادم

في تدوين الأدب العربي وتدبيجه ، درج أدباء العرب وحكماؤهم على عادة رواية الحِكَمِِ والأمثال على ألسنة الحيوانات - كما فعل ابن المقفع في كتابه ( كليلة ودمنة ) ، أو الجاحظ في بعض كتاباته - ربما لأنهم كانوا يخشون سطوة الحاكم ، ويخافون سوء العاقبة إن اشتُمَّ مما يكتبون أنهم يقصدون النيل من شخصية سياسية هامة ، أو ربما لأنهم كانوا يعتقدون برجاحة عقول الحيوانات على من عداها من بني البشر ، أو لكلي السببين . فمن الأمثلة التي ترمز إلى التعلق بأذيال وعد ظاهره صدق وباطنه كذب وخداع ، ظهَرَ مثَلُ الحمار والجزرة والعصا ، وهو مثل يُضرب في الذي يتعلق بوعد يستحيل تحقيقه ، فطالما أن الرجل الذي يمسك بالعصا التي ربطت في نهايتها جزرة ، يمتطي الحمار، فإن الحمار سوف يستمر راكضاً لاهثاً لقضمها ، وأنّى له ذلك . عند هذا الحد تقف الرواية دون أن توضح نهاية قصة الحمار والعصا والجزرة ، لكن بعض شهود العيان الموثوق بصدقهم من الحمير ، يقولون بأن أخاهم الحمار – وبعد أن سار عدة أمتار – فهم اللعبة التي يمارسها عليه راكبه ، وأبت عليه نفسه أن يضحك أحد عليه ، فاستند على قائمتيه الأماميتين ، ورفع قائمتيه الخلفيتين في الهواء ( في العامية عنفص ) وألقى براكبه أرضاً ، ثم هجم على العصا وقضم الجزرة المعلقة في نهايتها ، ومن ثم هرب لا يلوي على شيء ، وبذلك أثبت هذا الحمار بأنه ليس حماراً جداً ، بل هو حمار فقط . من يقرأ التاريخ السياسي للمنطقة العربية منذ نصف قرن ، يدرك بأن ( الحمار جداً ) العربي مازال يركض لاهثاً خلف وعود علقها أمامه أمريكي وصهيوني يمتطيانه منذ هذا النصف القرن ، وعود مثل : ( عقد مؤتمر دولي لبحث القضية – الاعتراف المتبادل – كل شيء قابل للتفاوض – التفاوض دون شروط مسبقة – مكافحة الإرهاب – نبذ العنف – السلام خيار استراتيجي – رخاء شعوب المنطقة ) وقائمة طويلة جداً من أسماء المؤتمرات ( مؤتمر جنيف – مؤتمر شرم الشيخ – مؤتمر عمان – مؤتمر الرباط – مؤتمر واشنطن- وآخرها : مؤتمر الخريف القادم ) وقائمة أطول من المعاهدات والاتفاقيات ( معاهدة كامب ديفيد – معاهدة وادي عربة – اتفاقية فك الارتباط –اتفاقية أوسلو - اتفاقية واي ريفر – اتفاقية شرم الشيخ ) وهلم جراً ، و( الحمار جداً ) العربي يكِدُّ لاهثاًً ليمسك بواحد من هذه الشعارات والمؤتمرات ، لكن دون جدوى ، إلى درجة أن عَتِب عليه الحمير الأسوياء - أمثال الحمار صاحب العصا والجزرة - ، وهددوه بالتبريء منه أمام الله والتاريخ لأنه فضحهم ، وجعل ألسنة جميع الحيوانات ( الذكية منها والغبية ) تلوك سمعتهم ، وتعيُّرُهم بهذا الحمار العربي الغبي الذي يصدق كل ما يُقال له . بعد اجتماع طاريء لحمير العالم ، أوصى المؤتمر كبير سحرة الحمير بتحويل ( الحمار جداً ) العربي إلى ثور ، ثم ربطه في ساقية لكي يدور طوال حياته في دائرة مفرغة لا يعرف لها نهاية . وهكذا أنقذ الحمير سمعتهم ، وعادت الحيوانات جميعها تحترمهم وتتذكر كيف أن الحمار الغبي العربي لم يستطع أن يفعل – كما فعل حمار الجزرة – فيلقي براكبيه أرضاً وتنتهي المهزلة ، فانتهى الأمر به إلى أن أصبح ثوراً .