Tuesday, September 11, 2007

الرحلة الكابوس
(قصة قصيرة)

بينما كنت ساهماً أنظر إلى صفوف الركاب المتقاطرين على بوابة الصعود إلى الطائرة ، مرت في خاطري سحاباتُ أمثالٍ وحِكَمٌ حاولتُ من خلالها التخفيف من قلقي الذي بدا مرتسماً على وجهي كما على وجوه باقي الركاب : ( لا تضرب الصاعقة أبداً في مكان واحد مرتين ) ، ( لا تسقط قذيفتا مدفع في حفرة واحدة على أرض معركة ) ، ( إذا أردت الهروب من بطش أسد فاختبئ في عرينه ) . هل كان استحضار هذه الأمثال وأمثالها محاولة مني لاستبعاد حدوث أمر جلل ، أم كان لتركيب قلب ثانٍ في صدري لا يعرف الخوف طريقه إلى حناياه مما هو قادم ؟ ، أم هل كانت هذه العبارات حججاً أتذرع بها لتبرير غلطتي في اختيار هذا اليوم الموعود لسفرة قد تمتد ساعات طويلة بين دول عدة ، ومطارات متعددة ؟ ، هذا اليوم الذي أصبح يحمل بجدارة - ومنذ سنة واحدة فقط - لقب اليوم العالمي للإرهاب ، اليوم الذي انهار فيه برجان من أعلى أبراج الدنيا في دقائق معدودة ، واستغرقت إزالة أنقاضهما أشهراً عديدة . هل أتهم نفسي بالغباء لاختياري هذا اليوم اللعين موعداً لعودتي من إجازتي السنوية ، أم أعتب على صديقي وكيل سفري الذي رتب لي بعناية فائقة هذه الورطة ؟ . عند إجراء الحجز لم ننتبه ، أنا وهو ، إلى أن تاريخ العودة الذي اخترناه هو نفس هذا اليوم الأغبر ، أما محاولة تغييره بعد التنبه إلى خطئنا ، فقد بدت شبه مستحيلة نظراً لعدم وجود مقاعد شاغرة قبل أو بعد هذا التاريخ ، وهو أمر منطقي ومبرر في هذا الوقت من السنة . الكتاب الذي أهدته إليَّ ابنتي ونصحتني بقراءته لقطع وقت الرحلة الممل ، لم يعمل عمله ، بل مازلت أرواح بين صفحاته الخمس الأولى ، رغم أنني بدأت تصفحه منذ ساعة .

عندما تتصادم مشاعر الخوف من مجهول تحس به قادماً بعنف لا يرحم ، مع رواسخ الإيمان في نفس تربت على التسليم بقضاء الله وقدره ، تقدح شرارة من الإقدام واللامبالاة بما سيحدث ، إلى درجة تجعلك تضحك من ذاك المتوتر الجالس في مواجهتك ، أو من تلك السيدة التي تحضن طفلتها وعيناها ساهمتان كأنهما تستشفان حدثاً يوشك على الوقوع ، أما موظفو الأمن الذين يذرعون بأعينهم وجوه الركاب ، ويجوبون بأصابعهم - التي تغطيها القفازات البلاستيكية- في حقائب المسافرين ، فهم يستعيرون توترهم من الرعب الكامن في أرواح الركاب المغادرين ، جاهدين للعثور على شيء يشي بالشك في مسافر يحمل قلاّمة أظافر ، أو مقصاً صغيراً لتشذيب الشوارب ، أو حتى مشرطاً صغيراً لقطع الورق ( هذا الذي دخل في قاموس الإرهاب الدولي كأفضل سلاح لخطف الطائرات ) ، بل حتى حاضنات حمل الأطفال لم تسلم من التفتيش الدقيق ، كيف لا ونحن - وكل عام وأنتم بخير - نحتفل هذا اليوم بالعيد العالمي الأول للإرهاب .

استقريت على مقعدي ، وربطت حزام الأمان بثقة مطلقة ، وفتحت الكتاب الذي مازلت أراوح بين صفحاته الخمس الأولى ، دون أن أفهم منها شيئاً ، أما الراكب المجاور لي فقد رمى نفسه في مقعده دون أن يطرح عليَّ السلام - ربما بسبب توتره - ولم يزد على أن ربط حزام مقعده ، وأسند جسمه على جانبه الأيمن ودخل - أو هو حاول أن يتظاهر - في سبات عميق ، فتخيلت أنه ربما كان قد تناول بعض الجرعات المهدئة - وله كل الحق في ذلك - ، وبينما توارد الركاب كلٌّ إلى مقعده ، ساد صمت ثقيل لم تقطعه سوى بعض الضحكات المكتومة التي حاول أصحابها ، على ما يبدو ، إظهار لا مبالاتهم من هذه الرحلة التي تخيلها البعض - ومن دون سبب واضح - مشؤومة .

كان الوقت ليلاً ، والإقلاع سهلاً ، وكلما ارتفعت الطائرة ، انخفضت مخاوف ركابها ، واندمجوا في رحلة يتمنون أن تكون سعيدة ، ، بعضهم حاول النوم مباشرة بعد الإقلاع ، ربما لكي ينسى ما هو فيه من قلق ، بينما فضل البعض الآخر التلذذ بتناول كأس عصير الضيافة الذي قدمته مضيفات باسمات ، حاولن بأقصى طاقتهن إضفاء جو من المتعة والمرح على الركاب ، للتخفيف مما يعانونه من ضيق وخوف .

قبل عرض فيلم السهرة ، وُزعت أطباق العشاء الساخن ، وكؤوس العصير المتنوعة ، وقد لاحظ الجميع كيف أن السكاكين التي قدمت كانت من النوع البلاستيكي الخفيف الذي لا يقطع الماء ، والشُوَك المطاطية التي لا تنفذ حتى في الحساء ، كل ذلك من قبيل الإجراءات ( الأمنية ) التي بدأت شركات الطيران باتخاذها عقب الأحداث المعروفة . بعض الركاب ازدرد طعامه بسرعة لكي يعجل في النوم ، والبعض الآخر وجدها فرصة لكي يشغل نفسه عما يشغل ذهنه ، ، ليست مزحة أن تسافر من نيويورك إلى أمستردام في مثل هذا اليوم الرهيب ، وليست بطولة أن تتنطح للطيران في هكذا يوم عصيب . غير أن الضرورة اقتضت سفر جميع من على متن هذه الرحلة ، وليس فيهم بالضرورة ولو سائح واحد .

مضى على الرحلة ما يقرب من ساعات ثلاث ، وها قد بدأت النفوس بالهدوء ، وبدا أن التوتر الذي سيطر على المسافرين في بداية الرحلة لم يكن له ما يبرره ، كما كان لسلاسة حركة الطائرة في اختراقها الأجواء أثر كبير في سيطرة النعاس على ركابها الذين دخل معظمهم في سبات عميق ، بينما رَكَزَ البعض على رؤوسهم وفي آذانهم سماعات القنوات الموسيقية التي تبثها قمرة القيادة ، علّ الموسيقى تخفف من هذا التوتر الخانق : سيد الزمان والمكان .

لم يستطع أحد منا ، نحن ركاب المقصورة الرئيسية ، أن يعرف لماذا وكيف تزامن هبوط مفاجيء للطائرة في مطب جوي ، مع صرخة حادة من مضيفة كانت قد دخلت للتو خلف ستارة مغلقة تفصل بين مقصورتي الركاب ، وقبل أن يصحوا النائمون من نومهم ، وقبل أن يرتد طرف الصاحين منهم إليهم ، كان أربعة مسلحين قد انتصبوا في أركان المقصورة الأربعة ، شاهرين مسدساتهم برشاقة المحترفين ، قابضين عليها بِكِلتَي اليدين ، ناظرين بشذر في وجوه الركاب ، طالبين منهم البقاء في أماكنهم ، وإطاعة أي أمر يصدر إليهم . غمغمت قائلاً في نفسي : ها قد ضربت الصاعقة في مكان واحد مرتين ، وها قد سقطت عدة قذائف في مكان واحد في أرض المعركة ، وها قد أطبق الأسد فكيه على من تخيل أن النجاة تكمن في عرينه ، ومن ثم فهاهو العيد العالمي للإرهاب يعود علينا ثانية بنفس البضاعة.

بينما استمر صراخ المضيفة من خلف الستارة ، طلب المسلحون الأربعة من الركاب الثبات في أماكنهم ، مهددين ومتوعدين كل من يتحرك بالقتل الفوري ، في حين استمرت أصوات وهمهمات قادمة من خلف الستارة مختلطة بأنين المضيفة ، وبضربات مطرقة ربما يحاول صاحبها كسر باب كبينة الطيار . إذن فعلها الخاطفون مرة ثانية ، ولا بد أنهم بعد أن أخذوا المضيفة رهينة يقومون الآن باقتحام غرفة القيادة للسيطرة على الطائرة ، ، صوت الكابتن يأتي ضعيفاً مشوشاً عبر مكبرات الصوت ، محاولاً التخفيف من روع الركاب ، طالباً منهم الركون إلى الهدوء حرصاً على سلامتهم ، دون أن يكلف أحد من الركاب الفزعين نفسه عناء الاستماع إلى كلمات قائد الطائرة . أحد المسلحين يقول بصوت عالٍ مناشداً الركاب الخلود إلى السكينة : ( من فضلكم لا تخافوا فنحن ضباط أمن الطائرة ) ، يرد عليه أحد الركاب وقد انفلت لسانه من عقال خوفه : ( وهل لديك ما يثبت ذلك ؟ ) ، راكب مرعوب آخر يرد على الراكب الأول باستهزاء : ( ألا تظن أن هذه يمكن أن تكون مزورة يا ذكي ؟ ) . عندها يتراجع المسلح عن إبراز بطاقته للركاب وقد كاد أن يفعل ، إذ لن يكون لذلك أي أثر في تهدئة روعهم ، ولم يجد بداً من أن يصرخ فيهم : ( إذن ادفنوا رؤوسكم بين أيديكم ، ولا يفتحنَّ أحد منكم فمه بأي حرف ) . فعل الجميع ما أُمروا به ، بينما مازالت الجلبة قادمة من خلف الستارة وأنين المضيفة يضفي على الجو مسحة من خوف بارد ، والمطرقة مازالت تعزف بجنون قاتل أنشودة الموت .

أردت أن أفتح ستارة النافذة علني أشاهد أضواء طائرات نفاثة ، تلاحقنا قبل أن تسقطنا ، لكنني لم أجرؤ على ذلك ، حيث شعرت بأن المسلحين متوترين بشكل كاف لارتكاب أية حماقة ، وخشيت أن يكون أي تحرك مني دافعاً لهم لإطلاق النار عليّ . المطبات الجوية تزداد حدة ، فترتجُّ الطائرة بمن فيها ، وترسخ في أذهان الركاب قناعة بأنهم يسافرون على متن طائرة مختطفة ، والمسلحون يوقنون - هكذا خمّنتُ - بأن زملاءهم من الخاطفين ما يزالون في صراع عنيف مع طاقم القيادة ، ولما يفلحوا بعد في إنهاء مهمتهم بنجاح . بكاء النسوة وصراخ الأطفال أضفى على المكان جواً من البؤس الخانق ، وشعر الجميع بأن النهاية قد أزفت .

بينما تمر لحظات القلق اللزجة ، يمر في مخيلتك شريط حياتك كاملاً في لحظات تتشابك فيها المشاهد ، وتتزاحم العواطف ، ولا يستقر ذهنك على مشهد ما حتى تتدافع مشاهد أخرى مشوشة لتحل مكانه ، يريد ذهنك أن يعرض في مخيلتك كلَّ ما مر بك في حياتك : أهلك ، أحباؤك ، أصدقاؤك ، فيزداد تشابك الصور ، وتختلط عليك البديهيات ، وفي صراع عنيف بين تصور شكل الموت القادم ، والتسليم بالأمر الواقع ، تتخدر عواطفك ، وتتساوى لديك قيم الأشياء جميعها ، لسبب بسيط واحد فقط : لأنها جميعها خارج نطاق سيطرتك . تريد أن تستمر هذه اللحظات وتطول ، مع أنها رهيبة ، قبل أن تحل النهاية التي من المؤكد أنها ستكون مريعة ، تريد ذلك فقط حتى تستطيع استحضار صور جميع من تحبهم ، تريد ذاكرتك أن تودع ملامحهم ، وتود روحك أن تعانق ذكراهم ، ، تتخيل حجم الصدمة التي ستضرب قلوبهم عندما سيسمعون خبر موتك المريع ، فيهوي قلبك ، ، تتمنى مخلصاً أن تمر هذه الأزمة على خير ، فقط حتى لا تتسبب في إيلامهم حزناً عليك ، فموتك ليس مشكلتك أنت ، بل هو مصيبتهم هم .

خَفَتَ أنين المضيفة حتى تلاشى ، فأيقن الركاب بأن شعلة روحها قد انطفأت ، وساد حزن عميق كتم أنفاس الجميع ، وتحفزت نفوسهم للقادم الأسوأ . هل تمكن الخاطفون من السيطرة على الطائرة ؟ وأين سيذهبون بها إن تم لهم ذلك ؟ وهل ما زال هناك مجال لهبوط الطائرة سالمة على الأرض ، ومن ثم تفاوض خاطفيها مع السلطات الأمنية حول شروط مسبقة ؟ أم أن الأمر لا يخرج عن احتمالين اثنين : قيام طائرات نفاثة بإسقاط طائرتنا ، أو استخدامها من قبل الخاطفين في هجوم انتحاري على مبنى عالٍ أو منشأة هامة ؟ وفي الاحتمالين كليهما فإن النهاية المرعبة قادمة حتماً ، رغم اختلاف شكلها .

في تلك اللحظات الحرجة فُتِحَت الستارة ، وبرز وجه الكابتن ، فأيقن الجميع أن الخاطفين قد سيطروا على الطائرة واقتادوه إلى هذه المقصورة لربطه فيها ، وأصبح مصير الركاب الآن كما تنبأوا : إما أن تسقطهم طائرة مقاتلة ، أو يقودهم الخاطفون للاصطدام بهدف سبق لهم اختياره . ابتسامة بلا لون تعلو وجه الكابتن وهو يرفع يده اليمنى وقد أمسك بها يد المضيفة - التي مازالت مختفية خلف الستارة - وإصبعان منها ملفوفتان برباط طبي ، ولإزالة هذه المحنة عن قلوب الجميع ، ما كان ربان الرحلة بحاجة إلى أن يقول للركاب - بعد أن تنحنح - سوى بضع كلمات ترفع عن أرواحهم ثقل هذا الكابوس اللعين : ( لم يكن الأمر سوى مجرد انغلاق باب مستودع الأطعمة - بفعل المطب الجوي العنيف - على أصابع المضيفة ، مما أرغمنا على استخدام المطرقة في كسر الباب لتخليص يدها منه ) .
علت صيحات الركاب غبطة لدرجة أن بعضهم بكى من شدة الفرح ، ، حاولت المضيفة أن تعتذر لكنها لم تعثر على الكلمات المناسبة ، فتوارت خلف الستارة مكفكفة دموعها ، ، المسلحون الأربعة أعادوا مسدساتهم إلى مكامنها ببرود ، وجلسوا في مقاعدهم بهدوء وكأن شيئاً لم يكن ، ، الكابتن أمر بتوزيع العصائر والهدايا على الركاب احتفالاً بانفراج الأزمة ، ، الركاب صفقوا طويلاً ، وعانقوا بعضهم بحرارة ، ، انشغل الجميع بالاحتفال بهذه النهاية السعيدة ، إلاّ الراكب الجالس إلى جواري ، فلم يزد على أن حول نقطة ارتكاز جسمه من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى ، ، متلمّظاً ، بالعاً ريقه ، شابكاً ذراعيه حول صدره ، مستمراً في سباته العميق ، غير عالم بما جرى على متن الطائرة ، إلا إذا قرأ الأخبار في صحف اليوم التالي ، هذا إن كان يصدق كل ما تنشره تلك الصحف .

No comments: