Wednesday, August 29, 2012

هل تمت أخونة مصر؟، وإلى متى؟


المتابع لمسيرة التطور في تاريخ الشرق الأوسط منذ بداية القرن العشرين، يستطيع أن يتبين جملة من المؤشرات والأسس التي أوصلت هذه المنطقة إلى ما هي عليه هذه الأيام، مع وجود فوارق جوهرية ميزت أقطار العالم العربي، إن في مواقعها الجغرافية:في الجناح الآسيوي “العراق وبلاد الشام”، والجناح الأفريقي “مصر”، أو في تطورها السياسي: من حيث التوجه القومي في الأول، والتوجه الديني في الثاني. ففي نفس الوقت الذي تبلورت فيه القومية التركية بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني 1908، على يد تنظيم الاتحاد والترقي، والذي كان عماده يهود سالونيك – المعروفين باسم يهود الدونمة -، تبلورت كذلك القومية العربية على يد حزب العربية الفتاة الذي نشأ في باريس أوائل القرن العشرين، والذي كان يهدف إلى سلخ البلاد العربية عن سلطة الدولة العثمانية، ومن الغريب أيضاً أن تنشأ الحركة الصهيونية في نفس تلك الفترة، وربما نفس المكان، في فرنسا، حيث أثارت قضية الضابط الفرنسي اليهودي (دريفوس) – والذي اتهم بالتجسس لصالح ألمانيا – أثارت النزعة الصهيونية لدى اليهود، ومن ثم تبلورت في قومية طالبت بإيجاد وطن قومي لها، أي في نفس الوقت الذي طالب فيه القوميون العرب بفصل بلادهم عن الدولة العثمانية، طالب اليهود الصهاينة بفصل فلسطين عن بلاد الشام، وهكذا ساد النفس القومي في بلاد الشام والعراق.

أما على الجناح الأفريقي للوطن العربي، فقد كان لسقوط الخلافة العثمانية على يد أتاتورك، الذي ألغاها نهائياً عام 1924 – بعد أن استمرت شكلية منذ عام 1908، عام عزل السلطان عبد الحميد الثاني – كان لهذا السقوط أثر كبير في نفوس المصريين، الذين ومنذ عصر محمد علي باشا وأولاده، لم يعرفوا ظلم واضطهاد الأتراك لهم، على غرار ما كان واقعاً في بلاد المشرق العربي، وبما أن الوعي القومي في مصر كان هشاً وعلى صدام خجول بالنزعة الفرعونية، لذلك فقد أدت هزة إلغاء الخلافة في استامبول إلى نشوء حركة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية على يد مؤسسها حسن البنا عام 1927، ومنذ ذلك الوقت والحركة تسعى للوصول إلى الحكم بدعوى إقامة المجتمع الإسلامي والدولة المسلمة، وقد سلكت في سبيل ذلك شتى الوسائل المتوفرة وحتى الاغتيال، فتعاونت مع النظام الملكي، ومع سلطة الحماية البريطانية، كما حاولت كذلك الوصول إلى السلطة من خلال تنظيم الضباط الأحرار الذين فجروا ثورة تموز 52، غير أن وعي الضباط وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، قد نبههم مبكراً إلى خطورة دخول الدين على خط السياسة، ورغم أن الدائرة الثالثة من دوائر الاهتمام السياسي عند عبد الناصر، وكما ضمنها في كتابه “فلسفة الثورة”، هي الدائرة الإسلامية بعد الدائرتين العربية والأفريقية، إلا أن اهتمامه بها كان سياسياً، ينصب على تجميع قواها السياسية والاجتماعية والاقتصادية متوجة بالطابع الإسلامي. غير أن ابتعاد عبد الناصر عن خط الإخوان، وعدم ممالأتهم في ما رموا إليه في السيطرة على الحكم والمجتمع، دفعهم إلى معاداته والكيد له، رغم جميع الإنجازات التي حققها لمصر وباقي الأقطار العربية، من حيث العدالة الاجتماعية والتحرر الاقتصادي والحفاظ على الكرامة الوطنية في الداخل، ومساعدة حركات التحرير في البلاد العربية، التي كان معظمها خاضعاً إما للاحتلال الأجنبي، كما في الجزائر وتونس وعدن، أو لسلطات ملكية رجعية متخلفة، كما في اليمن والسعودية وعُمان والعراق، فقد توج الإخوان عداءهم المبكر لعبد الناصر بمحاولة اغتياله في حادث المنشية في الاسكندرية في أكتوبر54، والتي كانت المقص الذي قطع شعرة معاوية بين الجانبين، فأقصي الإخوان عن جميع المناصب العامة، بل واعتقل بعض قادتهم، وحكم على بعضهم الآخر بالإعدام في مراحل لاحقة، مثل سيد قطب.

بوصول السادات إلى الحكم عام 1970، حاول اللعب على حبال جميع القوى السياسية المصرية، فحارب خط ثورة يوليو في محاولة لاسترضاء الإخوان المسلمين، ثم قرب بعض اليساريين في محاولة لإغاظة الإخوان، ونتيجة لتخبط سياسات السادات، فقد خرجت من عباءة الإخوان المسلمين تيارات متشددة كالتكفير والهجرة، والجماعة الإسلامية، ولئن فشل الإخوان في اغتيال عبد الناصر في حادث المنشية بالاسكندرية عام 54، فقد نجح فصيل منهم في قتل السادات في حادث المنصة الشهير في 6 أكتوبر 1981. ومنذ ذلك الحين استعر الصراع بينهم وبين الدولة التي ترأسها حسني مبارك، إلى أن تنازل عن منصبه يوم 11 فبراير 2011. خلال تلك السنوات الثلاثين كثف الإخوان المسلمون نشاطهم الاجتماعي بحيث تساوى بل وطغى على السياسي، فنشطوا في مجال الأعمال التجارية، وشكلوا الجمعيات الخيرية، وفتحوا العيادات والصيدليات لعلاج المرضى من الفقراء، فنجحوا في تكوين قاعدة شعبية من العامة، والتي لاعلاقة لها بالسياسة وأهداف الإخوان فيها، ولا سلطة فكرية لها سوى الإدلاء بصوتها دعماً للإخوان المسلمين في أية انتخابات تجرى في مصر، وقد كان ذلك دليل وعي وبصيرة من الإخوان لما سيكون الحال عليه بعد سقوط نظام مبارك، كما كان لعداء نظام مبارك للإخوان المسلمين وزج الكثير من قياداتهم في السجون والمعتقلات أثر في اصطفاف الكثير من المصريين إلى جانبهم كردة فعل لكره الجماهير لنظام الحكم، ورغم ذلك، فقد حرص النظام البائد على إبقاء نوع من الروابط مع الإخوان بدليل السماح لهم بالترشح للبرلمان ودخوله، حتى وإن يكن تحت مسميات غير “الإخوان المسلمون”، ولذا، فبمجرد انهيار نظام الحكم، كان الإخوان في طليعة القوى السياسية التي تقدمت لوراثته، فحصدت الحركة في الانتخابات البرلمانية، وبعدها الرئاسية، أصوات أولئك الذين كانوا يتلقون مساعداتها المادية وخدماتها الاجتماعية وتعاطفهم معها ضد الدكتاتور المخلوع، دون أن يكون لديهم وعي بمخططاتها السياسية ومطامحها العقائدية، بينما وقفت طلائع المثقفين وأصحاب التنظير السياسي، وجل أفرادها من الذين عانوا من اضطهاد مبارك، وقفوا يراقبون الإخوان وقد أمسكوا بتلابيب الدولة، وانقضوا على جميع مفاصلها مدعومين بالتأييد الأمريكي والغربي المطلق، ذلك أن وصول الإخوان إلى الحكم هو وحده الكفيل بشق الساحة السياسية المصرية إلى أجل لا يعرف سوى الله تعالى متى ينتهي، حيث أن هذا هدف استراتيجي للسياسة الغربية في الشرق الأوسط. وقد أدرك الإخوان على ما يبدو أصول اللعبة، فمنحوا الأوربيين والأمريكان جميع الضمانات التي طلبوها للحصول على رضاهم، والذي هو شرط أساسي للسماح لهم باستلام السلطة. هل هو دهاء ومكر وذكاء من الحركة لاستلام السلطة، وبعدها لكل حادث حديث؟، أم هو خضوع وعمالة للغرب، فتيء الناس يتهمون الإخوان المسلمين بهما؟.

فإذا كان وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر قد استغرقهم خمسة وثمانين عاماً من العمل الشاق، فهل سيحتاج المصريون إلى نفس هذه المدة من العمل الشاق كي يخرجوهم منها؟. الزمن وحده كفيل بالإجابة على جميع الأسئلة.


Saturday, August 25, 2012

إذا أبحرتَ، فلا تنسَ البوصلة


لا شك أن من نِعمِ العلم المعاصر على البشرية ذلك الكم الهائل من المعلومات في شتى ميادين المعرفة، والذي يحفل به العالم الافتراضي على الشبكة العنكبوتية، تلك المعلومات التي تغطي معظم ميادين المعرفة إن لم يكن جميعها. والوقت الطويل، والجهد المضني، الذي كان على من يبتغي المعرفة أن يبذله للوصول إلى المعلومة، قد اختُصِرَ الآن إلى ثوانٍ معدودة لا تكلف المرء سوى الضغط على زر لكي يحصل على ما يريد، أما حجم هذه المعلومات المتوفرة، فقد بلغ حداً خرافياً يتجاوز حدود العقل، فعلى سبيل المثال، وقبل سنة من الآن، كان على موقع “اليوتيوب” ما يعادل 25 مليون ساعة استماع ومشاهدة لمقاطع فيديو بالصوت والصورة، وهو أمر مذهل بكل المعايير، وقس على ذلك باقي المجالات، وفي جميع اللغات.

ولو رغب المرء في تبسيط الأمر، لوجد أن معلومات الشبكة العنكبوتية تنقسم إلى أنواع كثيرة، أهمها ثلاثة رئيسية:

1- النوع العلمي، وهو ذلك النوع الذي لا يجادل في صحته أو خطئه سوى أصحاب التخصص، ولا شك أنهم قلة من زوار مملكة الإنترنت، ونظراً لتوفر إمكانية التعليق عليها، يمكن لمن يناقضها أو يؤيدها أن يأتي بما لديه من الحجة والبرهان العلمي للدحض أو التأييد.

2- النوع الفكري: ولهذا النوع من المعلومات مجال أوسع للمماحكة والرأي والرأي الآخر، يمتاز بهدوء الطرح، واحترام عقول القراء،،، يكتب ويقرأ هذا النوع من المعلومات معظم الناس، ولا يساهم في إثرائه بالنقد والتعليق سوى النخبة من المثقفين ذوي القدرة على ذلك، أما عامة القراء فيأخذون ما يقرأون على علاته، حتى ولو ناقض ما يقرأونه اليوم ما كانوا قد قرأوه بالأمس، إذ هم بإمكانياتهم الذهنية والمعرفية، غير قادرين على نقده أو تعديله.

3- النوع التحريضي: وأتجرأ على توصيف هذا النوع بهذه الصفة لأن ما يرد فيه يمتاز بالتعصب والتشنج وإنكار الآخر،،، هذا النوع يلجأ إلى التشكيك والتتفيه والازدراء لكل ما عداه. لا يرغب في متابعة هذا النوع من الكتابة سوى المنحازين بطبيعتهم إلى رأي أو مذهب أو فكرة بتشنج والتزام فارغين، دون أدنى اعتبار للآراء والمذاهب الأخرى، وهؤلاء، سواء من الذين يكتبون أو الذين يعلقون – وفي سبيل إثبات صحة وجهات نظرهم – لا يتورعون عن الدس والتدليس واختراع أحداث لا يمكن أن تكون قد وقعت سوى في مخيلاتهم، وهم غير مستعدين للنقاش الهاديء والحوار البناء. والكارثة أن هؤلاء ليسوا من أصحاب التخصص، ولا هم قادرين على تمحيص الأمور لاستكشاف الغث منها وتمييزه عن السمين بحيادية توصلهم إلى الحقيقة، وللأسف فإن هذا النوع من المعلومات هو أغزر ما تحتويه الشبكة العنكبوتية، بل هو أخطر أنواع المعرفة المستقاة منها، فهو بتشنجه ولا منطقيته، غالباً ما يؤدي إلى إصابة المجتمعات بالتشقق والتشظي، ويحرض بعضها على البعض الآخر أفقياً وعمودياً، مستخدماً شتى الوسائل بما فيها الوضيعة والمعيبة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بدين أو مذهب أو طائفة، فأصحابها لا يرون أبعد من أنوفهم، ولا يقرون بالصحة إلا لآرائهم ومعتقداتهم، وبالتالي فهم غير مستعدين لاستيعاب الآخر، ولا الاعتراف به، ولا التسامح معه، وما تمحك هؤلاء باحترام الديمقراطية وحرية الرأي سوى وسيلة للتلطٍّي خلف كلمات تنطقها الشفاه دون أن تؤمن بها العقول.

على المنخرطين في هذا النوع الأخير من المعلومات العنكبوتية ينصب اهتمام هذا المقال. وبداية، فالبحار الذي ينوي الخوض في بحر لجيِّ بدون أن يتسلح بخريطة واضحة المعالم وبوصلة صحيحة الاتجاه، لا شك أنه سيضل الطريق إلى الميناء الآمن، وسوف تحمله سفينته التائهة إلى دواماتٍ وعواصفَ تكون فيها التهلكة أمراً محتوماً لا فرار منه، والمقصود بالبوصلة هنا هي مجموعة القيم والمباديء والثوابت التي على المرء أن يتحلى بها، وأن يتمسك بنسقها، وذلك عندما يكتب مضيفاً إلى مخزون العالم الافتراضي معلوماتٍ أو آراءً أو تعليقات، أو حين يتلقى أو يبعث برسالة إلكترونية جادة غير ترفيهية، فبدون هذه البوصلة ذات الثوابت، لن يصمد المرء أمام عواصف الأفكار وأمواج الآراء، بل سيجد نفسه مقذوفاً ذات اليمين وذات اليسار، مصعوقاً بالدوار الذهني، فلا يستقر على قرار، ويصدق كل ما يقرأ، ويدافع عن كل ما يسمع، وينسى ويتنكر اليوم لما قاله وآمن به بالأمس. ذلك أنك تعجب من صديق يرسل إليك اليوم رسالة إلكترونية تجد أن محتواها يتناقض مع ما كان قد أرسله إليك هو نفسه بالأمس، دون أن يكلف نفسه عناء التحقق من صحة ما يرسل، فكأنما هو ساعي بريد ينقل إليك ما يصل إليه، حتى أنه ليصرح بذلك علانية عندما يذيل الرسالة بعبارة (As received )، وكأنه بذلك يبريء نفسه من أي سوء يعتريها أو خلل يتلبسها، وهو بهذا يصدر عن فراغ في الفكر قِيَميّ ومنطقي، لو مُلِيءَ عنده لاستطاع ببساطة أن يهتدي إلى ما يجوز إرساله، وما لا يجوز. ولو اقتصر الأمر على معلومات تتضمن أفكاراً هامشية غير ذات قيمة، لهان الأمر وسهل، أما أن تحمل الرسائل آراءً ومواقفَ متضاربةً تمس بشكل وثيق مصائرَ الناسِ ومستقبلَهم وعقائدهم، وأحياناً كرامتهم، فهذا ما لا يمكن فهمه ولا تبريره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، وصلتني ذات يوم رسالة إلكترونية تضم مجموعة صور رُبعُ محتشمة، وقد حملت العنوان: (صور ابنة الأمير الوليد بن طلال)، لكن ببحث لم يستغرق سوى ثوان على الشبكة العتيدة، تبين أن تلك الصور هي للممثلة الشهيرة كرداشيان. هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة يحار المرء في تفسير السبب الكامن وراء تزوير الأمور وتحريفها عن وضعها الصحيح: هل هو جهل وخلط للأمور؟، أم هو تشكيك وطعن في كرامة الآخرين؟، أم هو ليٌّ لعنق الحقيقة بهدف الوصول إلى غاية في نفس يعقوب، (مع أنه عليه السلام كان حسن النية)، أم هو تكريس لمذهب معين، واستهزاء بمذاهب الآخرين؟، هذه وغيرها الكثير من التساؤلات التي لا يمكن إيجاد الجواب الشافي لها. وعلى شاكلة المثال السابق تعثر على ما يشبهه في السياسة والاجتماع والأخلاق، بل وحتى الدين. لكن يقابل ذلك أن هناك من يرسل إليك موضوعاً معيناً، مشفوعاً بتعليقه عليه، سواء بالتثبيت أو التشكيك أو الحيادية، ولكن بأدب جم، لا يمكنك سوى أن تنحني له احتراماً وتقديراً، كما يمكن أن يكلف هذا المرء نفسه أحياناً مشقة أن يرسل إليك بروابط تتعلق بالموضوع نفسه، بعد أن يكون قد جهد في البحث عنها والتثبت منها، تمكنك بدون عناء زيادة التثبت مما جاء في الرسالة، سلباً كان أم إيجاباً.

هذا النوع الأخير من الناس هو الذي ترتاح لتلقي رسائله وتعليقاته بصدر رحب، ذلك أنهم عندما أبحروا في محيطات العالم الافتراضي، لم ينسوا أن يأخذوا معهم البوصلة.


Wednesday, August 22, 2012

إتفاقية، أم متاهة؟


    من الغريب أن زيارة بعض الأماكن قد تثير في النفس أحياناً مشاعر الدهشة عند زائرها وكأنه يعرفها من قبل، بل حتى وكأنه عاش فيها في زمن ما، لا يدري متى كان، رغم أنه يزورها للمرة الأولى، مما يدفع المرء إلى التسليم بنظرية التقمص المعروفة، وهذا بالضبط ما وقع لي عندما زرت مع حفيدي مزرعة للتفاح في إحدى ولايات شمال الوسط الأمريكي، والزائر لهذه المزرعة يدرك أن زراعة التفاح ربما هي نشاط واحد من بين أنشطة عديدة تزخر بها المزرعة، فإلى جانب الحقول الشاسعة المليئة بأشجار التفاح من كل نوع – وإمكان زائرها أن يجر وراءه عربة صغيرة يستطيع ملأها بالأنواع التي يختارها من التفاح، يقطفها بيده كما يشاء، ثم يدفع ثمنها عند المغادرة -، هناك مطاعم للوجبات السريعة، وميادين لركوب الخيل، وقيادة العربات التي تجرها الخيول، وملاعب للأطفال، غير أن المرفق الذي له شعبية وإقبال شديد من الزوار، هو تلك المتاهة الكبيرة المشكَّلة داخل حقل من أعواد الذرة، والتي يقترب ارتفاعها من ضعف قامة الرجل العادي، وتحت إلحاح حفيدي – حين تتحول طلبات الأحفاد في مرحلة ما إلى أوامر -، تورطت في الدخول معه إلى تلك المتاهة، ونحن الاثنان – كما الباقين – نعتقد أن لدينا المهارة الكافية والقدرة التامة على الخروج من هذه المتاهة بأسرع من الآخرين.

    في البداية سارت الأمور بشكل سلس، لكن عندما اعتقدنا أننا وصلنا إلى منتصف المتاهة وفي سبيلنا إلى الخروج منها، بدأت المشاكل بالظهور، فكلما دخلنا في ممر نحسبه نافذاً، وجدنا نهايته مقفلة، فنرتد خائبين لكي نجرب غيره، ولا فائدة. مضى علينا على هذه الحالة أكثر من ساعة ونحن نراوح في مكاننا وقد حمي شعاع الشمس، فسال العرق على الوجوه، وتعبت الأقدام، وتوترت الأعصاب، ولكن لات ساعة ندم، فأدركنا أننا في ورطة، وعندما أخذ منا التعب مأخذه بحيث جلس حفيدي على الأرض والدموع تكاد تنفر من عينيه، وقد تورد خداه وفقد الأمل في النجاة من هذه المتاهة التي ورطنا هو نفسه بدخولها، وازداد تلفتي يمنة ويسرة ابتغاء الخروج من هذا المأزق الحرج، في هذه اللحظة سمعنا صوت صافرة يدوي قريباً منا،،، نظرنا إلى الأعلى، فرأينا منصة مرتفعة وسط أعواد الذرة، عليها مظلة تحمي الجالس تحتها من أشعة الشمس، إذ باحتياط منها، نصبت إدارة المزرعة مراقباً على تلك المنصة العالية، مهمته إرشاد العاجزين مثلنا عن الخروج من هذه المتاهة . كان الرجل يضحك ملء شدقيه، إذ بعد أن مارس سادية بغيضة اعتادها تجاه زوار المتاهة، أشار لنا بيده كي نأخذ أحد المسارات، وعند كل منعطف كان يطلق صافرته ويشير بيده إلى الوجهة التالية، ونحن نتبع تعليماته بامتنان عميق، إلى أن وصلنا مخرج المتاهة، فانتهت المغامرة. وجدنا عربة لبيع المرطبات وقد صفت أمامها مجموعة من الكراسي، ولم يكن في هذه اللحظة أقرب إلى القلب من تناول بعض المثلجات، فجلسنا نلتهمها بلهفة.

    في هذه اللحظة قفزت إلى ذهني حالة التقمص تلك، فهذه ليست المرة الأولى التي أدخل فيها هذه المتاهة، ولكن متى كان ذلك يا ترى؟، نقبت في الذاكرة ونقبت، وبعد جهد يسير وجدتها: تذكرت أنني كنت قد تصفحت بنود اتفاقية أوسلو، التي وقعتها زمرة مثلت الشعب الفلسطيني رغماً عن أنفه، ففرطت بجميع حقوقه – علاوة على قتل الانتفاضة الأولى -، مقابل البساط الأحمر وعزف النشيد الوطني، وعندما تداعت بنود تلك الاتفاقية المشؤومة من ثنايا الذاكرة، استعدت الشعور بالتيه الذي كنت فيه قبل دقائق داخل متاهة الذرة، فكل بند في اتفاقية أوسلو يوصلك إلى طريق مسدود، وعندما تنفرج الأمور في بند، ترى آخره قد سد بعبارة (عن طريق لجنة مشتركة من الطرفين)، ولو حاولنا استعراض بعض من بذاءاتها، سنبدأ ببيان أن الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي صدع السادات رؤوسنا بقوله أنها تمتلك 99% من أوراق الحل، هذه الولايات المتحدة لم توقع على الاتفاقية، بل كانت شاهدة زور عليها، إذ اكتفى صديق مونيكا لوينسكي السيد كلينتون، بدعوة ياسر عرفات واسحق رابين إلى حديقة البيت الأبيض يوم 13(وهو رقم مشؤوم طبعاً)سبتمبر 1993 للمصافحة والتوقيع على اتفاقية أوسلو، وشد على أيديهما مباركاً لرابين هذا النجاح الإسرائيلي في اقتناص حقوق الشعب الفلسطيني، ومحيياً ياسر عرفات على هذه الروح الرياضية في التنازل عن حقوق شعبه من أجل هدف أسمى هو صنع السلام في الشرق الأوسط الأمريكي، غير أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تعمل فيها أمريكا فقط كشاهدة، بل حدث ذلك عند توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1978 عندما شهد القس كارتر – دون أن يوقع – على نحر القضية العربية عند أقدام السادات – بيغن.

    في متاهة الذرة، وبين كل ممر ونهايته المقفلة، كنت أحوم حول أفكار ترتبط بالموضوع، قلت في نفسي: هل كان المتآمرون القدماء أكثر جرأة من المتآمرين المحدثين في الكشف عن شخصياتهم (يعني أكثر بجاحة) عندما كانوا يوقعون اتفاقيات ومعاهدات ومراسلات بذيئة، بحيث لم يستخدموا أسماء الأماكن التي وقعوا فيها تلك الالتزامات، بل استخدموا أسماءهم الصريحة كعناوين لها، حيث قالوا (مراسلات الحسين – مكماهون) ولم يقولوا مثلاً مراسلات القاهرة – مكة (حيث كان مكماهون والحسين)، وقالوا عنها (سايكس – بيكو) وليس اتفاق باريس، واتفاق (فيصل – وايزمن) وليس اتفاق لندن، وهكذا،،، بينما لجأ أحفادهم – ربما لكي يحموا أسماءهم من لعنات التاريخ – لجأوا إلى تسمية بذاءاتهم بأسماء الأماكن التي تمت فيها تلك الجرائم، فقالوا (اتفاق أوسلو) وليس اتفاق عرفات – رابين، وقالوا عن التي قبلها (معاهدة كامب ديفيد) وليس معاهدة السادات – بيغن، وهذا ما ينطبق على اتفاقيات شرم الشيخ ووادي عربة وغيرها الكثير.

كنت كلما اصطدمت بممر مغلق في متاهة الذرة، أتذكر بنداً مغلقاً في الاتفاقية:

- فالبند الأول فيها ينص على: أن المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و 338، ولا أدري هل كان الفرسان الفلسطينيون أغبياء إلى درجة أنهم لا يعرفون بأن إشكاليات قرار 242 كانت في الأساس حول الانسحاب من الأراضي المحتلة، أو الانسحاب من أراضٍ محتلة، أي أن احتمال قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 قد نسف في البند الأول.

- وتتوالى الممرات المغلقة، فأجد أن مفاوضات الوضع النهائي ستكون بعد 3 سنوات، فإذا بنت إسرائيل 50 مستوطنة كل سنة، فسوف يجد كهنة أوسلو بعد 3 سنوات أن أمامهم 150 مستوطنة مضافة إلى تلك التي كانت قبل أوسلو.

- أما البند الخامس فيقرر بأن الفترة الانتقالية قبل قيام الدولة الفلسطينية هي 5 سنوات بعد اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من غزة، والذي يفترض أن يتم خلال 9 أشهر، لكن الانسحاب تأخر 11 سنة فقط! من الموعد المقرر له حيث تم عام 2005، ومن المؤكد أن الإسرائيليين قد افترضوا أن الفلسطينيين خلال هذه الفترة ربما سيكونون قد نسوا ذلك البند من الاتفاقية. أما العبارات العبقرية، والتي يمكن وصفها بجدارة بأنها ألغام نسف الاتفاقية، فقد تكررت في أكثر من موضع:

- ففي البند السادس:( يتم نقل الصلاحيات للسلطة حسبما يتم الاتفاق عليه!!!).

- أما البند الثامن فيمتاز بأنه ألطف البنود وأخفها دماً، حيث يقرر ببجاحة متناهية بأن ( يقوم الإسرائيليون بمهام الدفاع الخارجي وأمن المستوطنين والمستوطنات)، وربما جائزة المليون ستكون لمن يجيب على هذا السؤال المعجز: الدفاع الخارجي ضد من؟: الأردن، أم مصر، أم سوريا، أم لبنان، أم أمريكا؟؟؟؟؟.

- وفي البند التاسع (تتم المراجعة المشتركة! للقوانين والأوامر العسكرية!!!).

- وفي البند العاشر (تقوم لجنة ارتباط فلسطينية – إسرائيلية مشتركة! لمعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك {هنا تم إهمال متعمد لشرح ماهية تلك القضايا، والتي هي بالتأكيد أمن المستوطنين، ومكافحة الإرهاب الفلسطيني!، والتعاون الأمني المشترك}).

-  البند الحادي عشر يا صديقي يذكرك باتفاق فيصل – وايزمن عندما كان يتحدث عن التعاون الفلسطيني – الإسرائيلي المشترك، ذلك أن الأستاذ الأمير فيصل بن الحسين – طيب الله ثراه إن كان يستحق ذلك – قد وعد الحركة الصهيونية ليس بقبول، بل وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتوطين اليهود في مزارع وتشجيعهم على الاستقرار، بل والدعوة إلى استحضار لجنة من الخبراء لتقييم القدرات والإمكانيات في فلسطين والدولة العربية الموعودة، وكذلك أيضاً في أوسلو {كما في فيصل – وايزمن}: ترى الوعود بتأسيس البنوك المشتركة والمزارع الخضراء والمصانع التي ستحول غزة والضفة إلى هونغ كونغ الشرق الأوسط { وقد ثبت أن كل ذلك كان كذب وزيف وضحك على اللحى}.

- أما البند الثاني عشر فيتحدث عن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وكأنهما جانب واحد يعملان مع بعضهما يداً بيد، حيث ينص هذا البند على (أن يقوم الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي بدعوة كل من الأردن ومصر إلى ……).

- واستكمالاً للمهازل، ينص البند الخامس في ملحق الاتفاقية على تعاون فلسطين وإسرائيل (هنا نربط الأحزمة خوف الانفجار من الضحك) في برنامج التنمية الاقتصادية للمنطقة، والتعاون الإقليمي للوقاية من التصحر،،، نعم هكذا، لماذا نستغرب؟ (التصحر)، فقد انتهت جميع مشاكل الفلسطينيين، وتفرغوا للعمل يداً بيد مع الإسرائيليين في مجال الوقاية من التصحر (ومن لا يصدق، عليه أن يراجع ملاحق نصوص الاتفاقية).

بين الفينة والفينة كنت أرقب الصبي من طَرْفٍ خفي، فأجده منهمكاً في التهام المثلجات، فأنصرف أنا إلى اجترار الاتفاقية.

-البند الثالث عشر (رقم مشؤوم أيضاً) يتحدث عن إعادة الانتشار، وهو الذي وقع عليه أشباه الرجال على أنه انسحاب، وقد انتقد المرحوم إدوارد سعيد – على ما أظن – المفاوضين الفلسطينيين على عدم درايتهم باللغة الإنكليزية، وعدم اصطحابهم من يترجم لهم بدقة، فقد أقنعهم الإسرائيليون أنه لا فرق بين                          كلمة                     re-deployment (إعادة الانتشار)، وكلمة withdrawal (الانسحاب)، وإذا استبعدنا جهل المفاوض الفلسطيني بهذا الأمر، فيكون إذن غباؤه، والأرجح أنه كلاهما معاً.

- البند الخامس عشر يبدع عندما يقول بأن حل النزاعات يتم من خلال لجنة الارتباط المشتركة (يعني حاميها حراميها)، أما الراعي  (الكاوبوي) الأمريكي، فلا تجد له ذكراً على الإطلاق في جميع البنود، مع أنه الطرف الذي به رفعوا ضغط دمنا عبر الحديث عن أنه راعي الاتفاقية والضامن لتطبيقها، غير أن هؤلاء لم ينتبهوا، أو انتبهوا ولكنهم طنشوا، بأن صاحب مونيكا لم يوقع عليها، بل شد على أيدي الموقعين فقط، وفي هذه النقطة بالذات يظهر تفوق اتفاق فيصل – وايزمن على اتفاق أوسلو، بحيث نص في الأولى على أنه في حالة نشوب خلاف بين الطرفين العربي واليهودي، تكون بريطانيا هي الحكم بينهما (مع معرفة البديهية المتعلقة بتأييد بريطانيا لليهود)،أما القضايا غير ذات القيمة والأهمية!!! كالحدود والمياه واللاجئين والقدس والمستوطنات، فسيتم بحثها – بحسب أوسلو – في مرحلة لاحقة جداً!. هنا يا سادة يا كرام أدركت أن الفارق الوحيد بين متاهة الذرة ومتاهة أوسلو، هو ذلك المرشد الذي يعتلي المنصة.

    لم أنتبه من شرودي إلا على صوت حفيدي وهو يسألني عن سبب صمتي الذي طال، وحتى لا أخدش براءته بالحديث عن الاتفاقية – وأنّى له أن يفهم الألغاز – ، قلت له بأنني أفكر في عاصمة النرويج التي زرتها العام الماضي،،، سألني عن اسمها، فقلت له: أوسلو، عندها صرخ الصبي فرحاً: جدو، هذا اسم جميل، لماذا لا نقترح على صاحب المزرعة أن يطلق على المتاهة اسم (متاهة أوسلو) عوضاً عن اسمها الحالي (متاهة الذرة).


Tuesday, August 14, 2012

الجنرال المهندس الشيخ: محمد مرسي


    لا شك أن من محاذير الكتابة – في شأن سياسي معاصر – ارتكابَ الأخطاء في التحليل والتقييم، ذلك أن غياب الوثيقة، وشهادة العيان على الحدث، واللذان هما ركنان أساسيان في صحة الاستنتاج والتحقيق والتعليق، يقودان بالبديهة إلى خطأ لا يمكن التمسك به، بل يستدعي الاعتذار عنه، لذا يبقى هذا المقال متأرجحاً بين التمسك والاعتذار .

    فالخطوات التي أقدم عليها الرئيس المصري محمد مرسي، والتي تعتبر بحق انقلاباً مدنياً فريد عصره على السلطة العسكرية، هذه الخطوات تشي بالكثير من الشك حول العلاقة المشبوهة بين حركة الإخوان المسلمين والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بالنظر إلى تغلغل النفوذ الامريكي داخل الجيش المصري عبر٤٠ عاما من الانحياز المصري الكامل إلى السياسة الإمريكية الشرق أوسطية، ذلك التغلغل المتمثل بشخصيات عسكرية يأتي في مقدمتها المشير حسين طنطاوي وزير الدفاع، والفريق سامي عنان رئيس الأركان، وغيرهما الكثير من ضباط الجيش المصري.

    وربما ينفع الشك هنا القول بأن أحداث سيناء الأمنية، والتي جرت خلال الأيام القليلة الماضية، تبدو مفتعلة ومتفقاً عليها مسبقاً بين الإدارة الامريكية والإدارة المصرية، حتى وإن ذهب ضحيتها عشرون شهيداً من القوات المسلحة المصرية، هذه الأحداث التي استدعت زيارة رئيس الجمهورية مرتين لسيناء، وإشرافه شخصياً! على عمليات تعقب المسلحين، وربما كانت حركة موفقة من مصر أن تقفل حدودها مع قطاع غزة فور وقوع الأحداث، وذلك لكي تظهر للعالم، ولإسرائيل على وجه الخصوص، بأن المسلحين لم يأتوا من قطاع غزة، بل هم من عرب سيناء، خاصة وأن حوادث اعتداء وقعت على القوات المصرية حتى بعد وأثناء إقفال معبر رفح، ولا يمكن تبرير سهولة اتخاذ مرسي مثل هذا الإجراء ضد قمة الهرم العسكري المصري سوى بأن زيارة وزيرة الخارجية كلينتون الأخيرة قد رتبت الأوراق داخل البيت المصري، بحيث أقنعت الوزيرة الأمريكية أصدقاءها من ضباط الجيش بضرورة التنحي عن العمل السياسي وإفساح المجال أمام الرئيس مرسي لكي يتولى قيادة البلاد، ولا يمكن لهذا الموقف الأمريكي أن يتبلور بهذا الشكل لولا مواثيق وعهود حصلت عليها أمريكا من الرئيس المصري فيما يتعلق باحترام الدور الأمريكي في الشرق الاوسط، وبالخصوص احترام معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية، وعدم محاولة تنويع مصادر تسليح الجيش المصري، وربما سنرى قريباً جداً انسحاب دبابات الجيش المصري من المنطقة ج، تلك التي، وبموجب معاهدة كامب ديفيد، لا يسمح لمصر فيها سوى بمرابطة قوات شرطة فقط، ومما يدعم هذا الرأي أن القوات المتعددة الجنسية المرابطة في وسط سيناء، وجل أفرادها من الأمريكان، لم يصدر عنها أي موقف حيال دخول الدبابات المصرية حتى بدون استئذان، الاستئذان الذي ربما حصل عليه مرسي سراً بالتنسيق مع الأمريكان والإسرائيليين الذين لم يعارضوا دخول القوات المصرية المدرعة أيضاً، أما المغزى من وراء هذه العملية فيبدو أنه إظهار الرئيس الشيخ، أستاذ الهندسة في جامعات كاليفورنيا، بمظهر العسكري المحنك، الذي يقود شخصياً عملية عسكرية ضد عرب سيناء، مصحوباً بدموع ودعوات أهالي عشرين شهيداً مصرياً بريئاً قتلوا من أجل تمرير صفقة سياسية هي أكبر منهم بالتأكيد، وبالتالي منح مرسي المهابة التي يتطلبها عزل طنطاوي وعنان، وتكسير رتبهم العسكرية من مشير وفريق إلى رتبة مستشار لدى رئاسة الجمهورية، وهذا ما ظهر عليه محمد مرسي في خطابه بمناسبة ليلة القدر، حيث أصبح قوي النبرة، جدي الملامح، معلناً بالفم الملآن إسلامية سياسة الدولة المصرية بلا مواربة أو تلميح، دون إشارة واضحة إلى حقوق غير المسلمين، والذي حرص على المتاجرة به أثناء حملته الانتخابية. (هنا لا بد أن أدعو الله مخلصاً ألا يكون بشير السودان مثلاً أعلى يحتذيه مرسي مصر، فرعونة الأول بتطبيقه الشريعة الإسلامية على أقوام جنوب السودان من وثنيين ومسيحيين قد أدى لاقتطاع مساحة تعادل مساحة فرنسا لتكوّن دولة جنوب السودان، فحمى الله الصعيد من أن يتحول على يد مرسي إلى دولة جنوب مصر).

    هنا لا بد من التذكير بموقف الإخوان المسلمين المعادي لجمال عبد الناصر منذ قيام ثورة تموز- يوليو ١٩٥٢، واتهامه زوراً وبهتاناً بالعمالة لأمريكا (كما هم اليوم)، والذي بلغ الذروة في تدبير محاولة اغتيال عبد الناصر في حادثة المنشية في الاسكندرية يوم ٢٦ أكتوبر ١٩٥٤بعد أسبوع واحد من توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا (19 أكتوبر 1954)، وقد ذهبت محاولات الإخوان المسلمين التنصل من تلك الجريمة أدراج الرياح، فموقفهم المعادي لشخص عبد الناصر، والمستمر إلى هذا اليوم، والحقد الأسود الذي يضمرونه لقادة ثورة يوليو، لم يكن إلا بسبب إقصائهم عن التحكم بالسياسة والدولة المصرية، ودمج السياسة بالدين، الأمر الذي لو تم، كان سيجعل من مصر واحدة من أكثر الدول تخلفاً، ولم يكن ليشبهها في الوقت الحاضر سوى أفغانستان، ولكن إذا كانت قوة شخصية عبد الناصر في حينه قد تمكنت من كبح جماح الإخوان وتكبيت شهوتهم في الوصول الى السلطة، فإن القوى الليبرالية واليسارية والناصرية قد انطلت عليها لعبة الإخوان، سواء في الانتخابات النيابية أو الرئاسية الأخيرة، فدعموهم وأوصلوهم الى التحكم بمفاصل الدولة، وربما كان هذا نتيجة عبقرية التخطيط الخفي بين الإمريكان والمجلس العسكري، وذلك حين وُضِعَ الجميع أمام خيارين أحلاهما مر: إما أحمد شفيق ممثل النظام السابق بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإما القبول بمحمد مرسي الإخوان، فكان للإدارة الأمريكية وللإخوان ما أرادوا، وذلك بطريقة ديمقراطية ” شهد العالم بنزاهتها!!!”.

    ولكن السؤال المشروع الذي يطرح نفسه بقوة: ما هي ضمانة انصياع الإخوان للمطالب الأمريكية وعدم تمردهم عليها؟ والجواب ببساطة ينحصر في حل ديمقراطي أيضاً يستطيع الأمريكي إخراجه من جرابه في اللحظة المناسبة، فالغضب الشعبي الذي أفرزته وسوف تفرزه تصرفات الإخوان في السيطرة على السلطات جميعها، بما فيها الإعلام، والمراسيم التي سوف تصدرها رئاسة مرسي لبلورة أسلمة الدولة – وكأن مصر دولة وثنية يريدون أسلمتها-، سوف تحرك ملايين المصريين، وتدفعهم الى الوقوف أمام حائط مبكاهم: ميدان التحرير، وعندها لن تعدم الإدارة الامريكية ضباطاً كباراً في الجيش يقودون ” حركة مباركة للتخلص من طغيان الإخوان!!!” ومن ثم اقتياد محمد مرسي وطاقمه الرئاسي إلى سجن طرة، ربما إلى الزنزانة المجاورة لتلك التي يقبع فيها حسني مبارك، لكن من المؤكد أن الإخوان، الذين استماتوا للوصول إلى حكم مصر منذ عام ١٩٢٨، لن يغضبوا الإدارة الأمريكية، تلك التي بيدها أن تخرجهم من السلطة بنفس السهولة والديمقراطية! التي أدخلتهم بها إليها.


Wednesday, August 8, 2012

هل قتلته ونسيت؟


في ليالي الشتاء الطويلة المملة، اعتاد سكان (شيكاغو) قضاء أمسياتهم – خاصة أمسيات عطلة نهاية الأسبوع – في أماكن الترفيه المغلقة، كدور السينما والمسارح والحانات. ولعشقي موسيقى الجاز والبلوز، فقد حرصت – كلما زرت هذه المدينة – على ارتياد إحدى تلك الحانات التي تقدم ذلك النوع من الموسيقى.

عنوان الحانة 2519 شارع كلارك، من بعيد وقبل أن تصلها، تلمح أضواء لافتة كبيرة كتب عليها بأحرف عمودية وأفقية كلمة ( BLUES). في تلك الأمسية كان الثلج يندف في الشارع كأنه فراشات تُحوِّمُ بهدوء حول أزهار الربيع، أو شذرات صوف تتطاير من حول وتر قوس مُنَجِّد، وعلى جانبي الشارع اصطفت بضع حانات ومطاعم، تقف أمامها سيارات أجرة ينزل منها أصحابٌ تتصاعد ضحكاتهم، فتمزق الصمت الذي يلف المكان، وهم يُحكِمون لف أجسادهم بملابسهم الثقيلة، ويدفنون رؤوسهم بين أكتافهم اتقاء البرد الشديد، ونظراً لقرب مكان إقامتي من تلك الحانة، فقد آثرت الذهاب إليها مشياً رغم شدة البرد.

من بعيد لمحت اللوحة المثبتة على واجهتها بأضوائها التي تطفيء وتضيء بتتابع رتيب بين إضاءة اللافتة العمودية ذات اللون الأزرق، وإضاءة اللافتة الأفقية ذات اللون الأبيض، والضوء من كلتيهما ينعكس على الرصيف المبلل فيعطي مدخل الحانة مزيداً من الأبهة والإغراء. هي مبنى يقع على الشارع الرئيسي بواجهة لا تزيد على الخمسة أمتار، أما عمقها فيزيد على الخمسة عشر متراً، يدلف مُرتادها إليها من باب يفتح إلى الداخل، يفضي إلى باب آخر، وبينهما مساحة تعزل داخل الحانة عن خارجها لحفظ حرارتها صيفاً وشتاء. على يمين الداخل هناك نافذتان تطلان على الشارع، وإلى يسار القاعة ارتفعت مصطبة خشبية وضعت عليها بضع طاولاتٍ ومقاعد، وإلى اليمين انتصب حاجز خشبي وضعت أمامه مجموعة كراسٍ مرتفعة، ووراء الحاجز وقفت سيدة تلبي طلبات الزبائن، وعلى الأرفف اصطفت زجاجات الخمر والمياه الغازية والعصائر، أما في الزاوية اليمنى من صدر القاعة فقد نُصِبَت دكة خشبية هي بمثابة المسرح الذي يقف عليه المغني والعازفون لكي يراهم جميع من في الحانة، وعلى جدرانها علقت كمية كبيرة من الصور القديمة لمغني وعازفي موسيقى الجاز والبلوز الذين تعاقبوا على الحانة، ومن السقف تدلت أضواء تضيء وتطفيء بتسارع يتعب العين أحياناً، وتنتهي قاعة الحانة بدهليز مظلم يفضي إلى باب خارجي للطواريء.

دلفت الحانة مسرعاً هرباً من برودة الجو، وشوقاً إلى سماع الموسيقى التي أهوى. دفعت رسم الدخول إلى الرجل المكلف بذلك، والذي سارع إلى إقفال باب الدخول خلفي بحجة اكتظاظ الحانة: ” أنت محظوظ يا سيدي ، لن يدخل هذه الحانة بعدك أحد”، همس الرجل في أذني وهو يحكم إغلاق الباب بالمزلاج.

في الداخل كانت الموسيقى صاخبة، وبالكاد تمكنت من رؤية المغني وفرقته من فوق ومن بين رؤوس رواد الحانة، الذين جلس بعضهم على الكراسي، بينما اكتظ الممر الضيق بالعشرات منهم. كان المغني وباقي أعضاء فرقته يعتلون المسرح في زاوية المكان، كانوا جميعاً من الأمريكان السود: عازف جيتار، وضارب إيقاع، والمغني الذي كان يعلق على رقبته جيتاره، ويرتدي بدلة بنية اللون وقبعة كتلك التي يعتمرها رعاة البقر، وفي أذنيه عُلقت حلقات طويلة، وعلى عينيه نظارة سوداء، بينما وقف على أرض القاعة عازف الأورج، أما عازف الساكسوفون فقد وقف في بداية الممر المعتم في نهاية القاعة. حاولت الاقتراب من المسرح أكثر للتمكن من الحصول على مشاهدة أفضل، ولدهشتي كان كل من يشعر بأنني أقف خلفه، يفسح لي المجال لكي أتقدم أكثر فأكثر، إلى أن أصبحت واقفاً في مقدمة الجمع، مباشرة على حافة المنطقة المخصصة للراقصين، والتي كان فيها بعض الشبان والفتيات، يهتزون ويتمايلون على وقع الموسيقى الصاخبة، فتبدو وجوههم تحت الأضواء الخاطفة كأنها وجوه أشباح ترقص في عرس واحد منها، بينما تقدم من خلفي رجل أربعيني بدين، مربوع القمة، ووقف بجواري وهو يحمل بيده زجاجة خمر يلوح بها متمايلاً طرباً.

إلى جانب استمتاعي بموسيقى وإيقاعات والجاز البلوز، أستمتع أكثر بمتابعة وجوه العازفين وحركات أجسادهم التي تجسد حجم الظلم الذي عانوا منه على يد الرجل الأبيض لمئات السنين، وبينما كنت أتمعن في وجوه أعضاء الفرقة الموسيقية، وعندما بلغتُ قمة استمتاعي بما أسمع وأرى، فوجئت بالرجل البدين الذي كان إلى جواري يسقط فجأة على الأرض، والدم يسيل من خاصرته التي غرست فيها نصل سكين حتى نهايتها، وقد غُطِّيت قبضتها بقفاز من البلاستيك، وبركة من الدم بدأت تتسع حول الرجل لتحيط بجسده كله، والزجاجة التي كان يحملها سقطت وتشظت إلى عشرات القطع. أخذتني الدهشة فتسمرت في مكاني، بينما قفز جميع الحضور بهلع إلى جنبات القاعة: النساء يولولن ويدفن رؤوسهن في صدور الرجال هرباً من هول المنظر، والرجال يصرخون عالياً بفزع: “يا إلهي، مستحيل، النجدة النجدة، اقبضوا عليه”، المغني والعازفون تركوا آلاتهم الموسيقية وقفزوا من على المسرح ودخلوا في الدهليز المظلم، لاحقين بعازف الساكسفون الذي كان قد سبقهم، وأنا بين هؤلاء وهؤلاء أقف في مكاني مفزوعاً لا أدري ماذا أفعل. ما هي إلا ثوانٍ حتى دوت صفارات سيارات الشرطة، وكأنها كانت تنتظر وقوع الجريمة في هذا المكان. كانت ثلاث أو أربع سيارات على ما خمنت ومعها سيارة إسعاف، وفي الحال اقتحم الحانة خمسة رجال شرطة: واحد هرع إلى الدهليز المظلم في آخر القاعة، وواحد وقف على الباب الرئيسي بينما وقف الآخران كلٌّ على نافذة. الخامس منهم، والذي بدا لي أنه رئيسهم، طويل القامة، متين البنية، علق على صدره شارة (شريف)، تقدم إلي شاهراً مسدسه، طالباً مني رفع يدي إلى الأعلى وعدم المقاومة لعدم جدواها، ثم ، وبينما هو ما يزال شاهراً مسدسه، قام بتفتيشي من الرقبة حتى القدمين بحثاً عن سلاح، ولما اطمأن إلى عدم وجوده، أعاد مسدسه إلى جرابه، ثم طلب مني رخصة القيادة (وهي هنا – في بلاد العم سام – تقوم مقام بطاقة الهوية في بلاد العم قحطان). نظر فيها ثم حدَّق في وجهي، وراوح نظره بين البطاقة ووجهي عدة مرات، وبدت على ملامحه استغرابه الاسم واستثقاله قراءته: إذن تضاعفت الورطة، حيث لن تشفع لي عيناي الملونتان وبشرتي البيضاء عند الرجل، أمام ملامحي الشرق أوسطية، ثم طلب مني النطق باسمي، وكرره بعدي عدة مرات بصعوبة بالغة وهو يغالب ابتسامة وجدها لا تليق بالموقف، ثم أعطاني بالوناً لكي أنفخ فيه حتى يعرف نسبة الكحول في دمي إن كانت موجودة، لكنه لم يعثر على أي أثر لها، ثم بدأ يقرأ عليَّ حقوقي التي مللت سماعها في الأفلام الأمريكية: لك الحق في ألا تتكلم إلا أمام محامٍ، كل ما تقوله محسوب عليك، إلى آخر تلك السيمفونية المملة. . . تراجع قليلاً ثم انحنى على الرجل البدين ليجس نبضه، في تلك الأثناء وصل رجلا إسعاف يحملان محفة لنقل المصاب، لكن الرئيس أشار إليهم بيده أن لا فائدة، فقد مات الرجل.

دارت القاعة بي مرات ومرات، ولم أصح إلا على صوت الرئيس وهو يقول: “سوف ننتظر وصول مصور البحث الجنائي لكي يلتقط صوراً للقتيل، وكذلك حضور الطبيب الشرعي”، ثم تابع كلامه بلهجة الحريص على مصلحتي:” أرجو أن تتعاون مع المحققين وذلك بأن تدلي باعترافاتك كاملة حول دوافعك لارتكاب هذه الجريمة، وشركائك فيها، ولا تتردد في الاعتذار عنها، مما سوف يساعد القاضي والمحلفين في تخفيف الحكم عليك”، ثم تابع: “يبدو عليك يا صديقي أنك لا تعلم بأن أحكام الإعدام موقوفة مؤقتاً في ولاية إلينوي، ولكنها قد تُفَعَّلُ في أي وقت، لذا لا تحاول مراوغة المحققين”، ثم نظر إلى السكين المغروسة في خاصرة الرجل الممدد وتساءل: ” وهل بلغ التذاكي بك حداً ظننت معه أن معامل التحقيق الجنائي عندنا، إن لم تجد بصماتك على مقبض السكين، سوف تعجز عن إيجاد بعضٍ من خلايا كفك في باطن القفاز البلاستيكي؟”.

هل يمكن أن أكون قد فعلتها وقتلت الرجل؟. منذ سنوات طويلة عولجت وشفيت تماماً من ظاهرة المشي أثناء النوم، لكنني بدأت فيما بعد أشعر بكثرة النسيان، فعلاوة على أنني بدأت أنسى ماذا تغديت بالأمس، بدأت أنسى فيما إذا كنت قد تناولت طعام الإفطار هذا اليوم أم لا، كما أصبحت أنسى هل تناولت دوائي قبل النوم أم لا، وكثيراً ما كنت أتناوله مرة ثانية دون أن أدري. إذن: هل يمكن أن أكون قد قتلت الرجل ونسيت؟، أم، هل كان قاتله يتربص به، فانتهز فرصة وجودي إلى جواره فطعنه ثم هرب؟. صحوت على صوت الرئيس يسأل الرجال والنساء الذين مازالوا ملتصقين بجدران الحانة وهم مرعوبين: “هل رأى أحدكم هذا السيد – مشيراً إليَّ – يطعن هذا الرجل القتيل؟”، فصاح الجميع بصوت واحد مشيرين بأصابعهم إلي: ” نعم إنه هو”. إذن بدل الشاهِدَين هنالك العشرات، وإمكانية الخلاص من هذا المأزق تبدو مستحيلة. شرد ذهني باتجاه الدعاء إلى الله أن يُحكم عليَّ بالسجن – لا تهم المدة -، لأنني سأتعاون مع المحققين، استجابة لنصيحة رئيس الشرطة، ثم بدأت أفكر بحال السجن الذي سأقضي فيه مدة الحكم ،،، يقال بأن السجون في هذه البلاد محترمة من حيث المأكل والمشرب والملبس والنوم، بحيث يتمنى جميع مجرمي العالم أن يسجنوا فيها، لكن المشكلة تكمن في نزلائها، فغالبيتهم من رجال عصابات تهريب المخدرات والمافيات والجريمة المنظمة والقتلة واللصوص المحترفين، والقتل حتى بين بعضهم البعض داخل السجن لا رادع يردعه، فمما سيخاف من حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد؟، وهل سيكون حظي تعيساً إلى الدرجة التي فيها سأصادف هناك سجيناً محكوماً بالمؤبد، كان قد فقد عزيزاً عليه في حادث تدمير البرجين؟ إذن فإن مصيري معروف منذ الآن.

شعرت بالدوار من هاجس التفكير بمصيري الأسود، ذاك الذي قادني إليه عشقي لموسيقى الجاز والبلوز، وأيقنت أن حياتي قد وصلت نهايتها الغير المشرفة، فانتابت جسدي رعشة عنيفة، وبلل العرق وجهي حتى سال على رقبتي، وكدت أسقط ارضاً بجانب الرجل القتيل، عندها شعر الرئيس بشدة حرج موقفي، وخشي علي من عاقبة سكتة قلبية أو دماغية، وفجأة، وبحركة سريعة من يده، أضاءت أنوار كاشفة قوية المكان بأسره، ودوى تصفيق حاد من الرجال والنساء، وخرج العازفون والمغني من الدهليز الذي أضيء الآن، كما خرج منه رجل يضع على أذنيه سماعات كبيرة وهو يصفق بحرارة، وتقدم إلي مصافحاً وهو يقول:” آسفون على إزعاجك، ونشكر وجودك معنا هذا اليوم في حلقة جديدة ناجحة من برنامج الكاميرا الخفية”. نهض الرجل الذي مثل دور القتيل مصافحاً ومعانقاً، وانهمكت مجموعة من العمال في تنظيف الأرضية من بقعة الدم الصناعي وبقايا الزجاج البلاستيكي المتناثر، وعادت الموسيقى تصدح، ولعلع صوت المغني ثانية، وانطلق الحشد الصاخب إلى الرقص من جديد، وكأن شيئاً لم يكن.