Sunday, January 2, 2011

قليل من التدبُّر

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

غريب وطريف حقاً أن ينجر إعلاميون ووسائل إعلام محترمة إلى أفخاخ لفظية مضحكة، فتراهم يجترونها إلى حد لا يمكنهم الفكاك منها أو التفكير في سذاجتها، بل - وبلا مؤاخذة - بلاهتها، من ذلك:
1-
استئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية: جملة متداولة بشكل شبه يومي في كافة وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد، من دون أن يفكر مرددوها ولو لمرة واحدة بأن التفاوض في العادة يكون بين الأنداد، لا بين طرفين تفصل بينهما هوة سحيقة، إن في مجال القوة أو المشروعية، إذ مقابل أكثر من ألف طائرة مقاتلة، وثلاثة آلاف دبابة، ونصف مليون جندي، ورئيس وزراء منتخب ديمقراطياً، هناك ما يسمى برئيس فاقد للولاية والشرعية، ووضع (لاحظ لم أقل، نظام) سياسي مهترئ، وقوى أمنية همُّها حماية الرؤساء وكبت أنفاس المرؤوسين، ثم يقولون لك (مفاوضات)! إنها مهزلة، ولكنها جادة.
2-
اجتمع الرئيسان على انفراد: افهم أن يتم ذلك بين رئيسي دولتين عظميين، بينهما حجم كبير من المشاكل التي تحتاج إلى حل، بحيث يكون التفاهم بين أكبر رأسين مدخلاً جيداً لتفاهم باقي الرؤوس، أما أن يجلس رئيس لا يتمتع بأية شرعية أو مصداقية أو حس وطني، مع آخر لا يعترف له بأية حقوق، فتلك الممارسة، من الطرف الضعيف، زلة مهنية يجب على الإعلام القومي ـ بدل ترديدها - التشهير بمن يقوم بها، واتهامه بأنه يعمل من وراء ظهر الناس، ولكم في أوسلو السري عبرة يا أولي الألباب.
3-
الانشقاق أو الانقسام بين فتح وحماس: اصطلاح عجيب، كأن نقول (انشقاق الحزب الديمقراطي عن الحزب الجمهوري، أو انقسام حزب العمال عن حزب المحافظين). يا ناس هذا فرز وليس انشقاقا، فالانشقاق يتم ضمن الحركة الواحدة كانشقاق فتح الانتفاضة عن فتح عرفات، وانشقاق الجبهة الشعبية إلى ثلاثة فصائل، أما بين فتح وحماس، فالحاصل هو فرز وتمايز وتباين عميق في الرؤى والتوجهات، فهل من عاقل يصحح ما اعوج من مصطلحات.
4-
الموقف العربي من ... عبارة عبثية مضحكة، يبدو أن مردديها يعيشون في مجاهل الأمازون، أو ربما في كوكب آخر، ولا يعرفون شيئاً عن النظام العربي، فالأولى من ذلك أن يقال (الموقف العربي المتصدع من...).
بعد كل هذا التخبط اللفظي ـ وهو غيض من فيض، هل هناك من يجرؤ على المراجعة، بدل العناد والممانعة؟

ابشر بطولِ سلامةٍ يا مِرْبَعُ

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

مع أنني أعيش بعيداً آلاف الأميال عن أرض الرباط، ومع أن الزمن لم يمن عليَّ بإلقاء ولو حجر واحد على قوات الاحتلال، غير أنني لم أشعر بالأمن والاطمئنان على دماء الشعب الفلسطيني، إلا بعد أن أطل علينا السيد نمر حماد - مستشار الرئيس الفلسطيني المنتهية صلاحيته - على شاشة فضائية عربية، وهو يرتدي ملابس أنيقة، كنت أتمنى اقتناءها منذ زمن وعجزت، وأتمناها لكل حبيب وعزيز. أطل علينا المستشار الهمام لكي يطمأنني ويطمئن الشعب الفلسطيني- والأهم من ذلك، لكي يطمئن الشعب الإسرائيلي والمستوطنين خاصة - بأنه (لا انتفاضة بعد اليوم، بسبب الضرر الذي ألحقته الانتفاضتان السابقتان بالشعب الفلسطيني!)، فلا خوف ينبغي أن يتسرب إلى نفوس المستوطنين من تحرك جديد يقوده السيد نمر، حتى ولو فشلت المفاوضات المباشرة الحالية! ويرى سعادته (استمرار النضال بوسائل أخرى)، وليته أخبرنا ما هي تلك الوسائل التي يقصدها، طالما أنه ينفي كونها مقاومة مسلحة أو انتفاضة سلمية. حجم تطمينات سلطة رام الله للاحتلال يتزايد يومياً إلى أن وصل إلى حد تحريم العودة للانتفاضة السلمية، وكم كان بودي لو سألته محاورته عن الأذى الذي ألحقته الانتفاضتان السابقتان به أو بأحد من عائلته أو أصدقائه، أو عن وسائل النضال التي ابتكرها، بل أود أن يزيح أحد ما الستار عن الخلفية النضالية لهذا الهمام، الذي يستكثر على الفلسطينيين القيام بانتفاضة ثالثة، (وبدافع الفضول، أدخلت اسمه على محرك غوغل للبحث، فأعطاني معلومات عن الرجل، أربأ أن أذكرها على صفحات جريدة محترمة). وإذا كان المستشار يستمد صفته في العادة من صفة الرئيس الذي يستشيره، فمن المنطقي أن نصف السيد حماد بالمستشار المنتهية صلاحيته، والباطل مفعوله، وإذا كان رجل مثل هذا يعمل مستشاراً عند عباس، فلنا أن نتوقع ما هو أعظم وأخطر مما رأيناه على أيدي قطعان أوسلو الضالة. ترى لو انقطعت رواتب السيد حماد المصروفة له باليورو والدولار من الأموال التي تستجديها السلطة من الدول المانحة لصالح الشعب الفلسطيني، وقبل ذلك ثمناً لتنازلات سلطة رام الله السياسية، فهل كان السيد حماد سيستمر في تقديم استشاراته (القيّمة!) لرئيسه البائس؟
ولكن، ما نراه نحن الفلسطينيين، أنه إذا ما استمر هذا النوع من التفكير عند مرتزقة دايتون، وإذا ما استمر هذا النهج مسلكاً للذين يعيثون في القضية فساداً، وحيث أن فرزدق الفلسطينيين قد أعلن بأنه سيحارب مِرْبَعَ المستوطنين، بوسائل لم يكشف لنا عن سريتها وخصوصيتها، فليس لنا إلا أن نردد مع الشاعر جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مِرْبَعاً ابشر بطولِ سلامةٍ يا مِربَعُ

أمٌ أم زوجةُ أبٍ

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

قرن الله تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين (وبالوالدين إحسانا)، وأحسب أن باقي الأديان ـ حتى الوضعية منها ـ قد أوصت بالوالدين، وأمرت بالإحسان إليهما، ما لم يأمرا بمعصية.
ذات ليلة ليلاء من أواخر العقد الخامس من القرن الماضي، تسللت إلى منزل الأسرة عصابة غاشمة، ضربت الأب على رأسه، فدخل في غيبوبة شكك الأطباء في إمكان استفاقته منها، واغتصبت تلك العصابة أملاك الأسرة وطردتها منها، فلجأت العائلة إلى أبناء عمومة لها في القرى المجاورة. ولأن الأم كانت صغيرة السن، ضحلة التجربة، فقد تولى أبناء العم شؤون أبناء ابن عمهم القُصَّر، فما رعوها حق رعايتها، بل أمعنوا في ظلمهم والتحكم بتصرفاتهم، ولكن ما أن نضجت تجربة الأم واستوت قدرتها على رعاية أبنائها، حتى طلبت من أبناء العم رفع أيديهم عن شؤون أبنائها، فرحب هؤلاء بهذا الطلب لأنه أزاح عن كواهلهم مسؤولية لم يكونوا سعيدين بتحملها منذ البداية.
نجح الأبناء ـ وقد اشتد عودهم ـ أيما نجاح في إثبات وجودهم، وبقي قلبهم معلقاً بأبيهم الذي استمرت غيبوبته سنواتٍ طوالاً، دون ظهور أية بوادر على إمكانية استرداده وعيه. وبمساعدة أمهم التي نضجت بمرور الأيام، بدأت العائلة بالسعي الحثيث للبحث عن طرق تؤدي إلى استرداد رب العائلة وعيه وممتلكاته، وكادوا أن ينجحوا في ذلك، لولا إشاعات بدأت تدور على ألسنة بعض أهل الحي عن سلوك والدتهم، هذه الإشاعات التي وصلت إلى حد أن بعضهم أقسم أنه قد رآها في (مدريد) تجلس مع بعض أبناء العصابة التي تسببت في كارثتهم التي طال أمدها، الأمر الذي صدع الأسرة، مما دفع بعض الأبناء إلى الخروج من بيت العائلة احتجاجاً، والاستقرار بعيداً عنها، بينما استمر الباقون في الوثوق بوالدتهم، متأكدين أنها لن يهدأ لها بال قبل استعادة أبيهم وعيه واسترداده ممتلكاته، متذرعين بحقيقة أن بعض نساء الحي المحترمات كنَّ معها في نفس اجتماع (مدريد).
غير أن الأوضاع اتخذت مساراً آخر فجَّر العلاقة بين الأم وأبنائها، وذلك عندما جاءهم عدة شهود أغلظوا الأَيمانَ بأنهم قد رأوها ذات مساء من عام 93 في أحد مواخير (أوسلو)، تضاجع بعض أبناء وحفدة من سرقوهم وحاولوا قتل أبيهم.
هنا بات تفكك الأسرة أمراً لا مفر منه، حتى أن أحد الأبناء أعلن أن هذه السيدة لا يمكن أن تكون أمهم الحقيقية، بل ربما كانت خالتهم زوجة أبيهم، فتفرقت العائلة، ولم يبق مع الأم إلا ابن معتوه معوق مشوه عاجز منذ ولادته: أصمّ ٌأبكمٌ، عديمُ اليدين والرجلين.
فإذا كانت منظمة التحرير!!! الفلسطينية تعتقد أنها أم الفلسطينيين، والمسؤولة الوحيدة عن حاضرهم ومستقبلهم وربما ماضيهم، ولها وحدها الحق في تمثيلهم، وكتابة سيناريو نضالهم، فنقول لها: مكانك، منذ مدريد وحتى أوسلو كنا نقول لك سمعاً وطاعة يا أماه، أما الآن، ومنذ (أوسلو)، ولأنك سرت في طريق المعصية، فلا سمع ولا طاعة، تأسيساً على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأما أبونا (الحق الفلسطيني)، فإن لم نكن نحن، فسيكون أبناؤنا أو أحفادهم، حتى الحفيد العاشر، هم الذين سيعيدون له الوعي والأملاك، ولو بعد ألف سنة.

عندما تمنيت أن يأكلني الدب القطبي

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

سمعت من أساطير قبائل الأسكيمو، التي تعيش في الدائرة القطبية الشمالية، أنهم كانوا إذا شاخ الرجل أو المرأة عندهم، فإنهم كانوا يضعونه في قارب عائم على سطح المياه التي ذاب جليدها بفعل ارتفاع درجة حرارة الصيف، ثم يدفعونه باتجاه المنطقة التي يعيش فيها الدب القطبي لكي يأكله. أتذكر هذه الأسطورة كلما قرأت إعلاناً عن مسابقة ثقافية في القصة القصيرة، فأول مرة صادفت هذا الإعلان، استبشرت خيراً وقلت في نفسي: (ها قد جاء الفرج بعد طول انتظار، ولا بد أن تكون قصتي هي القصة الفائزة)، وبدأت بمطالعة شروط المسابقة:
1
ـ أن تكون مطبوعة على الآلة الكاتبة: فمع أنني أجيد الطباعة بسرعة 5 كلمات في الدقيقة بسبابة يدي اليمنى، إلا أنني أستطيع مضاعفة هذا العدد فيما لو استخدمت سبابة يدي اليسرى، وهكذا حققت الشرط الأول بجدارة .
2
ـ ألا يتجاوز عدد كلمات القصة القصيرة الألف كلمة: هنا صُدِمْتُ..فماذا تراني فاعلاً بقصصي التي لا يقل عدد كلمات أقصرها عن الألفي كلمة. ولكن لا بد أن أحقق هذا الشرط الثاني، فعمدت إلى قصة قابلة للتشذيب والتهذيب، وهي التي كنت أعتقد أنني قد أطنبت في كثير من جملها وأسهبت، فعمدت إليها حاذفاً جملة من هنا وكلمة من هناك، فقرة من هنا وملاحظة من هناك، حتى أتيت على ألف كلمة وأكثر، وتبينت عدد ما بقي منها بالعداد المساعد في الكمبيوتر، فوجدت أنها قد تقلصت إلى 999 كلمة، ولكي أبقى في الجانب السليم وأدخل المسابقة، حذفت جملة طويلة لم أجد لبقائها مبرراً، فنزل عدد الكلمات إلى 985 كلمة، فهدأت نفسي المضطربة، فقد اجتزت الشرط الثاني.
3
ـ هنا كانت ـ لا أراكم الله ـ الفاجعة، فقد اشترط منظمو المسابقة ألا تزيد أعمار المشاركين فيها على الثلاثين عاماً، فأُسقِطَ في يدي، فقد ولدت بعد عام الفيل بقليل، وبلغت الثلاثين منذ أكثر من ثلاثين، فما السبيل إلى تجاوز هذه العقبة ؟ فكرت أن أتجاهل الأرقام، وأن أقرن يوم مولدي بحدث تاريخي عربي جلل، واستعرضت تاريخنا منذ مئة سنة، فلم أجد غير باقة من الهزائم، تزينها مجموعة من المجازر التي تصلح كل منها تاريخاً فاصلاً بين عهدين. فكرت أن أقول انني من مواليد مذبحة دير ياسين، فوجدت ذلك كثيراً على شبابي الذهني المتوقد، فعزمت على القول بأنني من جيل كارثة كامب ديفيد عام 78، لكنني عندما طرحت هذا الرقم ( 1978) من 2010 تبين لي أنني سأكون أكبر من المطلوب، أما تأريخ ميلادي بذكرى مصيبة أوسلو فسوف يكون مضحكاً، إذ ليس مسموحاً في عرف العبقرية العربية أن تُشَجَّعَ مواهب من هم في هذه السن الصغيرة، هؤلاء عليهم أن ينتظروا. وأخيراً رسا قراري على إخبارهم بأنني قد ولدت في اليوم التالي لاستشهاد والدي في مجازر صبرا وشاتيلا، (ولهم أن يخمنوا متى حدثت)، وقبل يوم واحد من استشهاد أمي بنفس تلك المناسبة، علهم يشفقون على يتيم قضى والداه شهيدين خلال 48 ساعة من أجل القضية، لكنني، وبعد التمعن في الأمر، رفضت هذه الأفكار جميعها، فماذا لو اشترطوا لتسليمي الجائزة - التي سأفوز بها حتماً - أن أُعرَضَ على خبير مُسَنِّنٍ ليقدر سني من عدد أسناني، هذا إن وجد منها شيء، عندها ستكون الفضيحة، فألغيت فكرة الاشتراك في المسابقة من أساسها، وعمدت إلى القصة التي شوهتها، فأعدتها إلى حالتها الأصلية، ومزقت الإعلان.
فكرت في أمر هذه الأمة، فوجدتها ـ ويا للمهزلة - تقصر الإبداع الأدبي على من هم بين سن العشرين والثلاثين، وتقصر الإبداع السياسي على من هم بين سن الثمانين والتسعين، فأدركت سر مكانتنا في العالمين، ومنذ ذلك اليوم، وفي كل مرة أقرأ فيها إعلاناً عن مسابقة ثقافية، أتمنى لو أنني كنت قد شِخْتُ في بلاد الأسكيمو.


على من تقرأ مزاميرك يا داوود

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

ذكر الله تعالى اختلاف ألسنة البشر وألوانهم، ووصفه بأنه من آياته: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين-الروم22) ، ومن يصغي بتمعن إلى اختلاف اللغات بين بني البشر، يوقن بأن ذلك من آيات الله بحق، وكون اللغة هي الوسيلة اللفظية لتفاهم الناس مع بعضهم البعض، وتبادل الأفكار بينهم، فإن رقي اللغة يتناسب مع رقي أصحابها الذين يستعملونها، بل لنقل بأن قدرة الناس على التقدم والتحضر تنعكس تقدماً وتحضراً على لغتهم، وهذا واضح في تطور اللغات من البدائية إلى ما هي عليه اليوم، خاصة لدى الشعوب التي أحرزت تقدماً أدبياً وعلمياً كما هو الحال مع اللغات الأوروبية.
ويبدو أن اللغة العربية - كونها واحدة من أسرة اللغات السامية - قد أحرزت تقدماً رائعاً منذ آلاف السنين عبر تداولها ضمن بيئات اجتماعية مختلفة بين عرب الجزيرة العربية، كالمجتمعات الحضرية كما في ممالك اليمن، والزراعية المتمثلة في الواحات، وبين قبائل البدو الرحل، مع الأخذ بعين الاعتبار تباين اللهجات، الذي لم يكن يمنع التفاهم التام بين الناطقين بها على اختلاف بيئاتهم، وربما كان الكمال الذي وصلت إليه اللغة العربية هو السبب الرئيس في أن الله تعالى قد اختارها على باقي اللغات لتكون لغة آخر الكتب السماوية (القرآن الكريم)، ويحضرني في هذا السياق الصحابي عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) عندما كان يستشهد بآية قرآنية، بحيث كان يستهل حديثه بقوله: (سمعت الله يقول) ثم يذكر الآية الكريمة، وهذا في دلالته يوضح نظرة المسلمين الأوائل إلى لغتهم العربية، بحيث أخذت قداستها من أنها اللغة التي خاطب الله بها الناس جميعاً (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)، وقد أدركت الشعوب غير العربية التي أسلمت، قداسة هذه اللغة، فأتقنتها تحدثاً وقراءةً وكتابةً، فقد دَوَّنَ علماء وفقهاء وأدباء الفرس أعمالهم باللغة العربية، ومخطوطات ابن سينا والفارابي وغيرهما ما زالت محفوظة في الجامعات الغربية باللغة التي دونت بها: العربية. وفيما بعد، ومع أن عصور الانحطاط قد شملت معظم مناحي الدولة الإسلامية، بما في ذلك الأدب، غير أن الانحطاط لم يتناول ألفاظ اللغة بمقدار ما تناول مواضيع الأدب ذاتها.
ولو سمحنا لأنفسنا بقفزة زمنية إلى منتصف القرن الماضي، لوجدنا بسرور وفخر تمسك المثقفين باللغة العربية سليمة من أي خلط أو تشويه، ففي ستينيات القرن الماضي كان مدرسونا في جامعة دمشق يعتبرون الخطأ النحوي خطأً علمياً، إذ لو كنت في امتحان في كلية العلوم وكتبت: (نضيف عشر غرامات من كلور الصوديوم) مثلاً، لاعتبر المصحح هذه الغلطة النحوية (عشر، حيث يجب أن تقول: عشرة) غلطة علمية، وخسرت علامة السؤال، كما عرفت صديقاً كان يعمل مصححاً لغوياً لمذيعي نشرات الأخبار في إذاعة دمشق، بحيث يكون جزء من عمله متابعة المذيع أثناء قراءة النشرة، فإذا أخطأ المذيع، ترتبت عليه غرامة مالية تحسم من راتبه مع نهاية الشهر. ذلك العهد بدأ يذوي، وتحللت ذمم المثقفين من تعهدهم صيانة لغة القرآن الكريم، وبدأ اللحن يغزو اللغة رويداً رويداً إلى أن حلت اللهجات العامية مكان الفصحى، فأصبحتَ ترى جوائز المليون تخصص لشعراء بالكاد يفهم جمهورهم الجالس في نفس القاعة ما يقولون، وبدأ مقدمو البرامج الإذاعية والتلفزيونية يستخدمون العامية بزعم أنهم يسايرون الجمهور، غير واعين إلى أنهم هم الذين يفسدون لغة الجمهور، تلك اللغة التي كان يقدمها المثقف المصري فاروق شوشة في برنامج إذاعي جميل حمل اسم (لغتنا الجميلة)، كما بدأت مجلات - خليجية بالخصوص- تصدر باللهجات المحلية، وانتشرت بين الصحف العربية - خاصة الإلكترونية منها - عادة قبول رسائل القراء بلغة عامية أقل ما يقال فيها بأنها تافهة مضحكة.
في منتصف السبعينيات قابلت لأول مرة المرحوم الدكتور أحمد صدقي الدجاني في القاهرة، فوجدته يتحدث باللغة الفصحى، تعجبت لأول وهلة وابتسمت، لكنني أكبرت فيه هذه المبادرة وقوة الشخصية، وتابعت معه الحديث بالفصحى بمتعة لم أتذوقها منذ ذلك اليوم، وقد ذكّرني المرحوم الدجاني بذلك الصهيوني المدعو (أحد هاعام - واحد من الشعب-) الذي قطع على نفسه عهداً ألا يتكلم إلا باللغة العبرية، وألزم بذلك أفراد أسرته، ثم سرت العدوى إلى المجتمع كله، مما أدى بالتالي إلى إحياء اللغة العبرية التي كادت أن تكون في حكم الميتة، وفي ثمانينيات القرن الماضي جمعتني صداقة ببعض كبار تجار الخليج، الذين كانوا يرسلون طلبات شراء بملايين الدولارات إلى اليابان وهونغ كونغ وتايوان، فاقترحت عليهم إرسال طلبات الشراء تلك باللغة العربية، مع بقاء رقم مبلغ الشراء بالأرقام العربية الأصلية، بحيث عندما يرى البائع هذه الأرقام، فإنه سيسارع إلى إحداث قسم للترجمة من اللغة العربية إلى لغته، وبذلك نعمل على الإعلاء من شأن لغتنا، ولكن (على من تقرأ مزاميرك يا داوود). الحفاظ على لغات الأمم هي مسؤولية الناطقين بها، وما لم تتحرك مجامع اللغة العربية لتدارك هذا الهدر في مكانة اللغة العربية، فسوف نجدها خلال فترة وجيزة محنطة فقط بين دفتي القرآن الكريم، هذا إذا لم تكن قد أصبحت كذلك منذ زمن.

الرئيس الخبير في علم التخدير

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

مثلي مثل غيري من الكهول، قضيت في المستشفيات أوقاتاً أطول من تلك التي قضيتها منذ بداية دراستي ما قبل الابتدائية إلى أن انتهيت من دراستي ما بعد الجامعية، وابتلعت من الدواء أكثر مما تناولت من الطعام، ورقدت على الأسرة البيضاء أكثر مما غفيت في غرفة نومي، لكن أجمل تجربة لي في هذا المشوار الطويل مع المرض، كانت تجربة الخضوع لعملية التخدير، تلك التي تسبق أخذ خزعات من أنسجة الجسم بغية معرفة ما إذا كنت أنحدر من سلالة الاسكندر المقدوني أم من عشيرة جنكيز خان، أو لاستئصال عضو تعطل نتيجة مرض تسلل إلى جسدي بينما كنت مشغولاً بالكتابة عن المآسي والهموم التي تسللت إلى جسد الأمة. أجمل ما في عملية التخدير أنها توقف زمن المريض، وتخرجه من عالمه، وتكبت ألمه، حتى لو كانت المشارط والسكاكين تغوص في أعماق قلبه وأحشائه.
عندما تواردت هذه الخواطر إلى ذهني، تأكدت من أن الرئيس الأمريكي 'أبوعمامة' - على حد ترجمة رئيس عربي، موغل في الديمقراطية، لاسم أوباما، تأكدت من أنه قبل أن يدرس الحقوق تمهيداً للوصول إلى رئاسة بلاده، كان يعمل طبيب تخدير في احد مستشفيات شيكاغو، مستشهداً على سوء ظني هذا بأن جرعته المخدرة التي ما فتئ يحقن بها جسد سدنة القضية الفلسطينية هي قوله: (ضرورة قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل)، عند ذلك، وخلال ثوانٍ، يغيب حراس القضية عن الوعي، وتبدأ مشارط الاستيطان وسكاكين التهويد العمل في الجسد بسرعة ومهارة، وإذا ما حدث أن بدأ مفعول جرعة التخدير بالتلاشي فتحرك الجسد تحت وقع تلك المشارط والسكاكين، زاد طبيب التخدير جرعة المخدر بالقول: (نأمل في الدورة القادمة للأمم المتحدة أن يكون معنا - هنا في هذه القاعة - مندوب دولة فلسطين)، الآن - ولقوة مفعول هذه الجرعة - يستكين الجسد الفلسطيني ويهدأ، غير شاعر بأي ألم أو أذية، ثم إذا ما استشعر طبيب التخدير للمرة الثانية اقتراب انتهاء مفعول المخدرعلى المريض الراقد بين يديه قبل انتهاء عملية الاستيطان والتهويد، فإنه يعمد إلى حقن أوردته بمئات الملايين من الدولارات، تطيِّبُ خاطره، وتهدئ روعه، وتطيل مدة غيبوبته، وعندها لا يكون أمام ذلك المريض الفلسطيني سوى أمرين عليه أن يفاضل بينهما: إما أن يعاني من نوبات الألم، وربما الموت، لو توقف الطبيب عن إعطائه جرعات المخدر، أو أن يبقى تحت تأثير المخدر إلى ما شاء الله.
لكن، وللإنصاف، لا بد أن أضيف بأن أوباما ليس خبير التخدير الوحيد الذي تعامل مع مريضه (القضية الفلسطينية) عبر نصف القرن الماضي بجرعات قوية من المخدر، بل يبدو أن جميع الرؤساء الأمريكيين، بدءاً من جونسون وانتهاءا ب 'أبوعمامة'، بل ووزراء خارجيتهم أيضاً، كانوا جميعاً أخصائيين مهرة في علم التخدير.

إعدام صدام حسين

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

لا أعلم بالضبط أنه قد تم نقل مشهد إعدام رئيس دولة داخل عاصمته كما حصل للرئيس الراحل صدام حسين، ولكن ما أعلمه يقيناً أن أعداء الرجل قد قدموا له أعظم خدمة وذلك قبل أن تنتهي حياته بثوان قليلة، وذلك بالنقل المباشر لعملية الإعدام، ولو توقع هؤلاء الحاقدون أن يقف الزعيم الراحل رابط الجأش صلب العزيمة طليق اللسان أمام حبل المشنقة، لما حرصوا على نقل عملية الإعدام على الهواء مباشرة، مقدمين له بذلك خدمة العمر.
كان صباحاً بائساً ذاك الذي عرضت فيه مباشرة على التلفازمشاهد للرئيس الراحل صدام حسين وهو يتقدم إلى منصة الإعدام بمعطفه الأسود ولحيته التي شابتها بعض الشعيرات البيضاء. أتباعه وأعداؤه على السواء عضوا قلوبهم بأسنانهم. أعداؤه: خوفاً من أن يخذلهم صدام فلا ينهار أمام حبل المشنقة ويطلب الغفران، وأتباعه: خوفاً من خوف قد يشوب قلب القائد، فينهار، فيُفرِحُ بذلك قلوب أعدائه، لكن، وبمرور الدقائق، يتعزز خوف الأعداء، ويزول خوف الأتباع، فها هو صدام يرقى السلم المؤدي إلى حبل المشنقة بثبات يوحي وكأنه يرقى درجات شرفة تطل على بغداد الرشيد، وتتتابع خطواته صعوداً دون أي علامة تدل على وهن أو تردد، فتزداد أسنان جلاديه ضغطاً على قلوبهم، بينما تنفرج أسارير مريديه، ويتأكدون من صدق قائدهم. عرض جلادوه عليه تغطية رأسه فأبى،، تحرك إلى الأمام بجرأة وإقدام كنا نسمع عنهما في حكايات الجدات عن أبطال فعلوا نفس الشيء، لكننا لم نرهم رأي العين كما نفعل الآن. يتلو صدام الشهادتين بلسان قويم طليق كأنما يؤدي يمين الولاء لوطنه وشعبه، يحيي أمته ويؤكد على عروبة فلسطين وكأنه يتلو وصية استشهادي قبل انطلاقه في عملية لن يعود منها، وبمجرد أن بدأ بتلاوة الشهادتين للمرة الثانية، ضاق صدر جلاديه الذين خيب ظنهم، ولطم بثباته وجرأته وجوههم وأدبارهم، فأزاحوا الخشبة التي وقف عليها، فهوى جسده، واستقام الحبل، لكي يلاقي الرئيس وجه ربه راضياً مرضياً.هكذا بقي صدام وفياً لشخصه ومبادئه وأتباعه حتى آخر لحظة في حياته.
المدعي العام العراقي منقذ الفرعون يقول بأن الإعدام قد تم في الصباح الباكر قبل أن يبدأ العيد، غير دارٍ لغبائه بأن اليوم الإسلامي يبدأ عند مغيب الشمس، أي أن يوم العيد كان قد بدأ بالفعل قبل إعدام صدام حسين بحوالي اثنتي عشر ساعة. هنيئاً لصدام على حياته ونهايته المشرفة، وتعساً لجلاديه على جهلهم وخيبتهم المقرفة.