Tuesday, February 26, 2013

سرب البالونات الحمراء



    كانت صرخته مدوية إلى درجة صُعِق لها كل من كان حوله. دار حول نفسه عدة مرات وعيناه تنهشان وجوه المحيطين به، يفتش بينهم عن أعز ما يملكه في هذه الحياة. قرفص على ركبتيه ودار حول نفسه عدة مرات علَّه يرى ضالته بين أقدام العشرات من الناس الذين جمعتهم صرخته المجنونة. لم يرَ شيئاً. نهض متثاقلاً، ثم، وقبل أن يكتمل انتصابه على قدميه، انهار جسده على الأرض محدثاً ارتطاماً ظن معه الجميع أنه قد فارق الحياة .

    الآن يغوص في لجة ذاكرته،  فيمر أمام عينيه شريط سريع من الصور التي اختزنها عقله الباطن، منذ تعرف على زوجته، مروراً بأحلامه أن يرزق منها بولد يرث عنه أمواله الطائلة التي درّتها عليه تجارة ناجحة. تتقطع الذكريات برهة، ثم تعود ليرى نفسه وإياها خارجين من عيادة الطبيب الذي بارك لهما حملاً تأخر خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال. رُزِقَ  مولوداً ذكراً جاء أجمل من كل أبناء الأرض (أو هكذا كان يراه)، فتجمعت فيه كل آماله وأحلامه. تقترب ذاكرته شيئاً فشيئاً من أحداث هذا اليوم، فقبل قليل  كان يحمل ابنه على كتفيه ممسكاً ساقيه الصغيرتين  بيديه، بينما تشبثت يدا الصغير برأس أبيه وهما يتجولان داخل حديقة الملاهي .

    رشَّةٌ من الماء البارد وبضع صفعات على خديه أيقظته من غيبوبته،،، يحملق في الوجوه الغريبة التي تحلَّقت حوله بعيون متلهفة فاحصة. أحدهم يقول: الحمد لله، لقد صحا أخيراً. عاد للنظر عند أقدامهم ودموع ساخنة تقفز من  عينيه: أين ولدي؟ أين هو؟ أرجوكم أين هو؟،،، صوت امرأة  تنادي من بعيد: لمن هذا الطفل؟،،، تتجمع في ساقيه قوة مائة حصان، فيهبُّ واقفاً راكضاً باتجاه السيدة: إنه ابني يا سيدتي، نعم إنه ابني. المرأة تدفع الطفل إلى أبيه وهي تتمتم مؤنبة مُعاتبة: إذا لم تكونوا قادرين على رعايتهم، فلماذا تنجبونهم؟، ثم تمضي مسرعة.

    جلس على ركبتيه محتضناً وحيده الذي لا تعادله في القيمة  كل كنوز العالم. الأب يمسح دموعه، والصغير لا يعلم سبب بكاء أبيه، وهو رفض أن ُيؤنبه على انفلاته من يده واختفائه بين المئات من الناس. لا يهم . . الحمد لله فقد عاد بالسلامة. حمله ثانية على كتفيه، وبنفس الوضعية الأولى، محاولاً أن يُقنع نفسه بأن شيئاً لم يحدث،  فهو، بعد انفصاله عن زوجته وزواجها من غيره، أصبح بالنسبة لابنه الأب والأم  والصديق، ونزهة اليوم لا يجب أن يعكر صفوها ضياع الطفل بضع دقائق - وإن كان قد أحسها دهوراً طويلة - والحمد لله مرة ثانية فقد عاد بالسلامة.
  
    يستمران في جولتهما. يشتريان بعض المثلجات، فيسقط قسم منها على رأس الأب، وتسيل قطراتها الباردة على وجهه، فيمسحها بفرح غامر وهما يضحكان ويلهوان وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق. على سور الحديقة بائع للبالونات نفخ بعضها وعلقها بخيوط  وأطلقها في الهواء، فتهادت وكأنها سرب حمام ملون. الطفل يوجه رأس أبيه باتجاه بائع البالونات طالباً شراء البالونات الحمراء جميعها، والأب لا يمكن أن يرفض هكذا طلب، متأثراً بالموقف الذي مر به قبل دقائق. يطلب من بائع البالونات أن يفك له البالونات الحمراء فقط من المجموعة المحلقة في الهواء. البائع - لِقِصر قامته - يعتذر عن عدم تمكنه من تناول المشبك الذي عُلِّقَتْ به خيوط  البالونات، طالباً المساعدة من زبونه،،، يتناول الرجل ابنه من على كتفه ثم ينزله أرضاً، والطفل متشبث بثياب أبيه،،، الأب يحاول التطاول على رؤوس أصابعه لكي ينزل البالونات من المكان الذي عُلِّقت فيه،،، يقترب من مكان البالونات أكثر فأكثر، ودون أن يشعر الأب، يبتعد الصغير عنه أكثر فأكثر،،، يمسك الرجل بمشبك البالونات بعد جهد، ثم يناولها للبائع. يفك البائع كتلة الخيوط على مهلٍ ، ويجمع بين أصابعه خيوط البالونات الحمراء فقط، ثم يناولها للرجل الذي ينقده ثمنها ثم يلفها حول أصابعه.

    يلتفت الأب إلى الخلف، ثم يدور حول  نفسه مرات ومرات والبالونات تدور معه محلقة كسرب حمام ملون. الآن يقف الرجل في مكانه خائر القوى، عاجزاً عن الصراخ، متمتماً بيأس قاتل: ( أين أنت يا بني؟ هل ضعت مني ثانية يا ولدي لأنك أحببت البالونات الحمراء؟ أم ضيعتك لأنني كنت أطول قامة من بائعها؟). تدور به الدنيا بسرعة مذهلة، وتغشى عينيه غمامة تحجب عنهما الرؤية،،، يقرفص باحثاً عن ابنه بين أقدام العشرات،،، يقفز إلى الأعلى عله يرى ابنه محمولاً على كتف أحد رآه ويبحث عن ذويه،،، لا شيء ينبيء بوجود الصبي، والناس قد انشغلوا كل في شأنه، ولا يبدو على وجوههم أنهم يعلمون شيئاً عما هو فيه من تعاسة،،، انطلق مسرعاً لمسافة قصيرة في الاتجاهات الأربعة دون جدوى. الآن يدرك أنه قد خسر معركته الأخيرة، وأنه لا بد مغادرٌ المسرح،،، يحس بانضغاط في الحنجرة وبألم شديد في الجهة اليسرى من الصدر، يحاول أن يفك أزرار قميصه  فيفشل. تنهمر دموعه بغزارة ثم يسقط على الأرض جثة هامدة بلا حراك.

    بينما كانت روح الرجل تصعد إلى السماء، كانت خيوط البالونات الحمراء تنفلت من بين أصابعه وهي تصعد في نفس الاتجاه، محلقة في الفضاء كسرب حمام ملون، وصوت صبيٌّ يبكي منادياً على سرب البالونات الحمراء طالباً منها أن تعود إليه، وامرأة  تنادي من بعيد: لمن هذا الطفل؟.                                       

مناظر من مدينة طنجة المغربية

 صور من المدينة القديمة



مناظر من المدينة






ضواحي طنجة



قلعة أثرية والمضيق والبر الإسباني في خلفية الصورة
مناظر من مدينة طنجة المغربية

Saturday, February 23, 2013

منــاجــاة، عبر الحدود




علــــى  رئــتـي  حملـت  اليك  أشـــواقــي

وأســراري  ...  وأشعــاري

ويمّـمـت  الشّـــراع  إلــى  عينيـك

يحملنـي  اشتيـاق  الـرّاجـف  المنســيّ

للـتـذكــارِ  والـنّــــارِ

وسخّـــرت  العـواصـف  وانفجــارات  الصّــواعق  والـرّعـود

عـمّــدت  طـعـــم  الـطّـيــــن  والعـرق

وحجــارة  الـدّرب  التـي  لم تنسني أبداً

ونوافذ الدار التي بالياسمين تزينت،

والبيدر الفوار بالرزق الوفيرْ

بغرائس الزيتونْ التي شاخ الزمان ولم تمتْ

عمدتها حتّــى  تكـون  شهــود  مشــواري  الـطّــويــل

دفعـت  مهــرك مــن  تجــاريحـي

ومـن  رجف  الأنامل  فــي  تسابيحـي

حـمّـلـت  ذاكــرتـي  صـدى  الأعــوام

والحــلم  المقـعّــر  فــي  حنـايـاهـا

ووخـز  الـذّلّ  والقهــر

لأصحو  فــي  صـبـاح  غــدٍ

عـلـــى  أعتـاب  صـدرك  يـامــؤرّقتــي

ويــا حـلــوَ  الحـدائــق

واذِ  التـقـيـنـا ...

فجراً  يصيــر  الليــل  فـي  عينيـكِ

والأشــواكُ  ...  حـــــوضـــاً  مــن  زنـــابــــــــــــق

=====================

Thursday, February 21, 2013

فلسفة الأعداد والأرقام



   لعل من الطرافة في تفكيرنا البشري أننا نمر بالمهم فلا نلقي إليه بالاً، بينما تجذب اهتمامنا أمور قد تكون أقل أهمية منه بكثير، ولعل الأرقام، وبالتالي الأعداد، هي واحدة من مرتكزات التطور البشري، والتي تملأ حياتنا بشكل مذهل، والتي لا نستطيع التفكير بشيء إلا وتكون حاضرة فيه، ورغم ذلك لا نعيرها اهتمامنا، ربما لأنها أصبحت أمراً عادياً وجزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إذ أن قياس أي شيء في هذا الكون لا يستغني عن استخدام الأرقام والأعداد.
    وبداية، لعله من الأهمية بمكان التمييز بين لفظي العدد والرقم، إذ كثيراً ما تختلط المفردتان في أذهاننا فنحسبهما شيئاً واحداً، وهما ليستا كذلك، وأول ما يميزهما أن العدد ناتج عن عملية حسابية، ويغلب أن يعقبه تمييز له خاصة في الرياضيات التطبيقية، بينما الرقم مفرد مجرد بذاته، فالأعداد التي نطلق عليها مجازاً (الأرقام)، هي ليست كذلك، فكل رقم مثل الواحد والاثنين والثلاثة حتى التسعة، هي مجرد أسماء تدل على كينونة واحدة وموقع واحد في التعدد، وناتج مجموع هذه الأرقام بالعمليات الأربع وغيرها من العمليات الرياضية، هو ما نطلق عليه (عدد)، وأقرب توضيح لذلك هو المثال التالي:المتسابق الذي يكون خامساً في ترتيب وصوله إلى نهاية السباق يكون رقمه حاصل جمع المتسابقين ذوي الأرقام الأول والثاني والثالث والرابع زائداً رقمه وهو الخامس، (هنا يطلق على العدد 5 لفظ رقم 5 لأنه يدل على وحدة واحدة هي ترتيب اللاعب في السباق كما سيرد مع أمثلة أخرى لاحقاً)، فالمتسابقون مستقلون كل برقمه، أما العدد فهو حاصل مجموع عدة أرقام، وهذا ينطبق على الناجحين في امتحان ما، فكل واحد من هؤلاء يحمل رقمَ - وليس عددَ - ترتيبه بين زملائه، لذا نطلق على إنجاز الرياضيين المتميزين مصطلح (أرقام قياسية) وليس (أعداد قياسية)، لأن إنجازهم كان يقتصر على رقم واحد هو الذي تمكن الرياضي من تسجيله متفوقاً على أرقام غيره، وليس مجموعاً لها. ومن ذلك أننا نقول (عدد السكان) والذي يعني مقدار مجموع الأفراد، ولا نقول (رقم السكان) في بلد ما. ولذلك قال الله تعالى (لتعلموا عدد السنين والحساب – يونس – الآية 5 ، الإسراء – آية 12)، والذي يعني مجموع السنين ونتائج الحساب. أما إطلاق مصطلح رقم على مجموعة أرقام، فهو اصطلاح مجازي عندما يدل ذلك العدد (عدة أرقام) على وحدة محددة بعينها، كرقم لوحة السيارة، ورقم الهاتف، ورقم جلوس الطلاب في الامتحانات، والأرقام المدونة على أوراق العملات.
    ومعرفة كيفية توصل العقل البشري إلى إدراك مفهوم الرقم والعدد مجال واسع رحب للتخيل والتخمين، فهل بدأ الإنسان بإدراك مفهوم العدد في جسمه أولاً وقبل أي شيء آخر، كأن وجد له عدداً من الأصابع والأيدي والأرجل والعيون والآذان؟، وهل أدرك أن له أنفاً واحداً وفماً واحداً؟، وهل أدرك أن أسنانه متعددة بينما لسانه واحد؟، أم أنه أدرك العدد مما يشاهد في الطبيعة كتعدد الحيوانات والأشجار، ثم عندما تزوج وأنجبت زوجته، لا شك أنه لاحظ تعدد الأولاد، وزيادتهم مع كل مولود جديد، ونقصانهم مع موت أي منهم، وعندما بدأ بتدجين الحيوانات كان عليه أن يدرك عددها واختلاف عدد قطيعه عن قطيع جاره مثلاً،،، وهكذا يمكن أن نطلق العنان للخيال لكي يجيب على السؤال الكبير: متى أدرك الإنسان معنى الرقم؟، ومتى توصل إلى مفهوم العدد؟. من نافلة القول التأكيد على أن الإنسان في هذه المرحلة المبكرة لم يكن ليستطيع التعامل مع الأرقام بالعمليات الحسابية الأربعة المعروفة: الجمع والطرح والقسمة والضرب، لكنه مع مرور السنين، بل والقرون، وبتطور قدراته العقلية، وجد نفسه بحاجة إلى تلك العمليات لتصريف شؤون حياته اليومية، فتوصل إليها واستخدمها، أما الحالات التي احتاج فيها إلى تلك العمليات فهي كذلك مجال واسع للتخيل والتخمين. وبتقدم الزمن ونمو الحضارة أصبح استخدام الأرقام والأعداد في العلوم والاختراعات أمراً لازباً لا بد منه ولا غنى عنه، فحيثما ذهبت وأنى تفحصت، تجد نفسك محاطاً بالأعداد التي تحصي كل شيء، من عدد ضربات قلوبنا والأنفاس التي نستنشقها، إلى عدد المجرات والنجوم والكواكب في الكون وأبعادها وبعدها عن بعضها وعن كوكبنا الأرضي، وبين الأمرين، قياس المسافات ودرجات الحرارة والأطوال والأوزان والأحجام، وحتى عدد الخلايا في الكائنات الحية، إلخ.... الأرقام والأعداد تغطي كل شيء في هذا الكون، بحيث لايمكن التفكير بأي شيء دون أن تكون حاضرة فيه.
    لكن الطريف في الأمر أن الإنسان – رغم مخالطته الأرقام والأعداد وتعامله بها ومعها قروناً طوالاً – لم يتمكن من التوصل إلى فكرة العدد اللانهائي وهو الصفر (هل هو نهائي حازم بتقريره عدم وجود أي شيء؟، أم هو لا نهائي حائر في الجزم أنه لا يمكن إثبات وجود أي لا شيء؟)، إلا بشكل غائم ومنذ الحضارة البابلية والهندية والإغريقية، إلى أن جاء (الخوارزمي) لكي يستخدمه كمميز للخانات العشرية والمئوية إلخ. ولكن هل وجود الصفر هو وجود مادي ملموس، أم فلسفي متخيل؟، وهل هنالك شيء في الكون اسمه (صفر)؟، أم هو فكرة مكملة لوجود الأعداد والأرقام؟، ثم: هل تقتصر قيمة الصفر على مضاعفة الرقم عشر مرات إن هو جاء على يمينه، كما ابتكر الخوارزمي؟، أم أن قيمته المجردة تكمن في الدلالة على وجود لاشيء فحسب؟، وهل يمكن – نظرياً على الأقل – عدم وجود أي شيء بالمطلق؟، وإذا كانت الأرقام من 1 إلى 9 تعتبر أرقاماً، فماذا نعتبر هذا الدال على لا شيء، هل نعتبره رقماً أيضاً؟، بحيث أن الإغريق تساءلوا: كيف للا شيء أن يكون شيئاً؟، إلى درجة حتى أنهم تساءلوا كذلك فيما إذا كان 1 يعني رقماً. ومن صفات الرقم صفر الفريدة، زئبقيته التي تميزه عن أقرانه من الأرقام، فهو إما إيجابي عندما يجلس على يمين العدد، أو سلبي عندما ينفرد وحده لكي يعبر عن اللاشيء،،، نعم إنه الصفر الذي نمر به دون أن نلتفت إليه مع أنه يحير العقول لمن يتمعن فيه، (من ذكريات أيام الدراسة أنني فكرت في أحد الأيام أن أقترح على مدرس الرياضيات فكرة مؤداها أنه طالما أن وضع الصفر على يمين العدد يضاعفه عشر مرات، فهل بوضعه على يسار العدد يمكن أن يعني قسمته على 10، لكنني خشيت أن يطبق فكرتي على علامتي في امتحان الرياضيات، فأرسب، فتراجعت عن الاقتراح). وفي الواقع فإن اكتشاف فكرة – ولا أقول رقم – الصفر إنما هو إبداع ذهني خدم علم الرياضيات بشكل لا يعرف قيمته سوى الذين يشتغلون في مجال هذا العلم الراقي.
    ومما يعطي الأرقام والأعداد أهميتها، أن معظم الفلاسفة ( أمثال: ابن باجة السرقسطي – ابن الهيثم – ابن سينا – ابن رشد) - إن لم يكونوا جميعهم - قد كانوا علماء في الرياضيات، فهل كان ذلك بسبب تحكم الأعداد والأرقام حتى في الفكر الفلسفي؟، أم لأن الأرقام في نظر الفلاسفة هي أساس كل تفكير منطقي سليم؟، أما اقتران الرياضيات بعلم الفلك، فهذا أمر مؤكد لا مراء فيه، إذ أن جميع المتخصصين في الرياضيات كانوا علماء في بحوث الفلك، غير أن أسوأ استخدام للأرقام والأعداد على حد سواء هو استخدامها في السحر والشعوذة – والعياذ بالله -، أما استخدام الصفر في العلم الحديث، فقد تجلى في علم الديجيتال حيث تتوالى الأرقام 010101010 بشكل متغاير يعطي شخصية رقمية مميزة للمادة موضع التصنيف، وقبل ذلك استخدم تغيير توالي الأرقام كشيفرة تحرر بها المراسلات أثناء الحروب بحيث لا يستطيع العدو معرفة محتواها إن هي وقعت بيده.
    ختاماً: شخصياً لا أملك الإجابة على كثير من التساؤلات التي وردت في المقال، بل أكتفي بطرحها استنهاضاً لهمم جميع المتبحرين في هذا الموضوع علهم يفيدون القراء، إن هم رغبوا بذلك، وبالتالي فمن البديهي أن هذا المقال لا يدعي أنه قد أجاب على شيء بمقدار ما أنه قد وجه الأنظارإلى شيء، وإن هو إلا سؤال ذهني ألقيته في بركة تفكيرنا البشري، عله يولد دوائر من الاهتمامات والاستجابات لأمر بالغ الطرافة والأهمية في حياتنا اليومية: الأعداد والأرقام.


Sunday, February 17, 2013

لحراس الأقصى وسدنته كل الاحترام



    القدس، هي أرض أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى، وهو من حض الرسول ص في حديثه الشريف على زيارته، وقرنه بالحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة،،، القدس هي واحدة من أهم بقاع العالم الإسلامي لاحتضانها المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وواحدة من أهم بقاع العالم المسيحي لاحتضانها المواقع المقدسة عند إخواننا المسيحيين ككنيسة المهد وكنيسة القيامة وغيرها من المواقع.
    وزيارة المسجد الأقصى المبارك واحدة من النعم التي يمن بها الله تعالى على عباده المسلمين، وقد كنت لحسن حظي منهم، فقد من الله تعالى عليَّ بزيارتها ثلاث مرات ، في كل مرة كنت أرى الموقع بعيون جديدة، وبقلب جديد واجف خاشع،،، تبهرك ساحة الحرم القدسي باتساعها ورحابتها، فبعد عبورك الباب الرئيسي بعد أن تكون قد حشرت بين جانبي السوق القديم، ينفرج صدرك، وتتفتح رئتاك لاستنشاق الهواء  العليل للساحة الفسيحة، وتتكحل عيناك برؤية القبة الذهبية الرائعة، والمبنى المضلع بجدرانه الزرقاء اللون، المحلاة بزخارف هي عبارة عن آيات قرآنية كريمة،،، تدهشك نظافة المكان، فتدرك عظمة جهد الرجال الذين يقومون على خدمة المكان، ذلك الجهد الذي تلمسه منذ دخولك البوابة الرئيسية حيث يتأكد الحراس من ديانتك وسلامة ما تحمله من أمتعة، ومن توفر الملابس اللائقة بالمكان بالنسبة للنساء،،، يموج المكان بالزوار، بعضهم يدخل من بوابات خاصة بالأجانب، جاؤوا من كل حدب وصوب لزيارة المكان. داخل المسجد الأقصى ترى خدامه وحراسه في جميع زواياه، يواظبون على حراسته ويجهدون في جعل زيارة الأقصى تجربة مريحة ممتعة.
    مما لا شك فيه - كما أسلفت – أن طاقم القائمين على خدمة الحرم القدسي يؤدي عملاً رائعاً يشكر عليه، لكن بما أن الكمال لله تعالى، وبما أن النصيحة واجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم، لا أرى بداً من إبداء بعض الملاحظات، تلك التي أرى أنها تحسن في خدمة الحرم القدسي الشريف، وذلك بناء على المثل الذهبي القائل (صديقك من صَدَقَكَ لا من صَدَّقَك)، وهي بدايةً اجتهادٌ شخصي ربما يخطيء وربما يصيب، لكن عذره أنه قصد النصيحة:

1-  للأماكن الأثرية نكهة تأتي من أعماق التاريخ حاملة معها صوره وأجواءه، وعندما تدخل مظاهر التكنولوجيا الحديثة إليه بعشوائية بغيضة، تفسد تلك النكهة، وتتشوه تلك الصور، فعلى جدران الحرم وأقواسه التاريخية تتمدد أسلاك الكهرباء ومكبرات الصوت (الصورة المرفقة) التي تشوه ولا شك الطابع التاريخي الذي يجب أن يُحافظ عليه تأكيداً لقيمته المعمارية، ووفاء لمن بناه، وبإمكان مهندسي الحرم المحترمين تمديد هذه الأسلاك ومكبرات الصوت بشكل مخفي لا يظهر للعيان، وهم بالتأكيد لا يعدمون الوسيلة للقيام بذلك، إذ يمكن تمديد الأسلاك من فوق الأقواس وليس بينها، كما يمكن وضع مكبرات الصوت في تيجان مصنوعة من الفخار أو الجص. هذا المقترح لا يلغي الجهد العظيم الذي يقوم به المهندسون في خدمة الأقصى.
2-  لم يدخر مسؤولو المسجد جهداً في وضع اللافتات التنبيهية والإرشادية المتعلقة بالنظافة ومنع التسول، لكن إذا تمت الاستجابة للمطلب الأول، فإن الثاني – التسول – لا تتم مراعاته، فيلاحظ وجود متسولين ومتسولات داخل الحرم، ومع تعاطفنا مع الفقراء، وتقديرنا للعوز والحاجة التي دفعتهم إلى التسول، إلا أنه من الضروري متابعة تنفيذ ما حملته الإعلانات الموجودة، ونجد أنفسنا بين أمرين: إما الحزم في منع التسول، أو إزالة تلك اليافطات لأنه لا تتم متابعة تنفيذها من جهة، ولأن المتسولين لا يتقيدون بها من جهة ثانية. هو اتساق مع الذات لا أكثر.

3-  لا يسيء لحرمة المقدسات سوى عبث الأطفال، ومع أنه يحدث ببراءة وعن غير قصد، إلا أنه يجب وقفه وعدم جواز السماح باستمراره، فهل يعقل أن يلعب الأطفال الطميمة، فيختبئون في زوايا المكان، أو يلعبون كرة القدم،،، يجرون خلفها مثيرين ضوضاء وشغباً لا يليق بالحرم الشريف؟، فالحزم في مثل هذه الأمور واجب للحفاظ على قداسة المكان.
الملاحظات السابقة لا تنتقص من جهد حراس الأقصى والقائمين على خدمته، فهم أفضل منا بآلاف المرات لأنهم ينوبون عن ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها  في خدمة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.      

Thursday, February 7, 2013






مشاهد من دبي










مشاهد من دبي

بين سيف الإسكندر المقدوني، ومقص جدتي، شبه كبير



  
     في سنوات الكهولة، حيث في الوقت متسع، يحلو للمرء استرجاع ذكريات طفولته، خاصة تلك التي وجدت لها إسقاطات حالية مذهلة، بحيث تعود هذه الإسقاطات بالذاكرة إلى دقائق وتفاصيل كانت تظن أنها قد امحت منها تماماً. ومأزق الثورة السورية الحالي ربما كان حجر المسن الذي أوقد في الذاكرة ما كاد يمحي منها.
    جدتي، وقد جاوزت السبعين من العمر، ولمتانة في بنيتها وعزة في نفسها، أبت بعد وفاة جدي إلا أن تعتاش من عرق جبينها، ولا أحسب أنها كانت تعرف شيئاً عن سيرة الزعيم الهندي غاندي عندما اشترت بضع غنمات كانت ترعاها في الحقول المجاورة لكي تعتاش مما تنتجه تلك الأغنام من لبن وصوف. في أواخر الربيع وأوائل الصيف من كل عام، اعتادت جدتي جز صوف أغنامها بنفسها، وبعد غسل الصوف وتجفيفه تحت أشعة تموز، كانت تلجأ إلى مغزلها لكي تحول الأصواف إلى شلل من الخيطان بعد أن تكون قد صبغتها بألوان مختلفة. في هذه الأثناء يكون فصل الخريف قد حل، فتبدأ العجوز بتحويل شلل خيوط الصوف إلى كرات لكي تسهل عليها تحويلها بالسنارة إلى ملابس للأطفال تبيعها في البلدة المجاورة، ولكي تشجعني على مساعدتها، كانت جدتي تعدني بحكاية جديدة مع لف كل شلة جديدة، فكانت هي تجلس في جانب وأنا أقابلها ممسكاً شلة الخيوط على جانبي كفيِّ الصغيرتين، وكلما لفت الخيط، حركت يديَّ يمنة ويسرة لتسهيل عملية اللف، وعندما كنت أسرح أحياناً مع متابعة الحكاية - غائصاً بين جماعات الغول والجن التي تزخر بها، فأسهو عن عن حركة يدي - كانت الخيوط تتشابك معيقة سرعة اللف، وعندما كان التشابك بين الخيوط يزداد تعقيداً وصعوبة في تفكيكه، كانت جدتي تلجأ إلى تسهيل تفكيك الخيوط بمباعدتها عن بعضها بأصابعها الدقيقة، وعندما كانت تنجح أحياناً في مهمتها، تستأنف لف الصوف وسرد الحكاية، وأتابع أنا الإصغاء وتحريك اليدين، أما عندما تكون عقدة الخيط مركبة إلى الدرجة التي تعجز فيها جدتي عن حلها، فقد كانت تلجأ إلى المقص، تقطع منطقة العقدة، ثم تربط طرفي الخيطين، وتتابع اللف وكأن العقدة لم تكن.
    أخذ الأمر مني أكثر من نصف عمري لكي أدرك سر عبقرية جدتي في حل العقد، وهي التي كنت متأكداً من أنها لم تكن تعرف شيئاً عن التاريخ الإغريقي وأساطيره، أو عقدة الإسكندر المقدوني وذكائه، تلك العقدة التي تقول الأسطورة بأن الإسكندر عندما وصل أواسط آسيا الصغرى في طريقه لغزو بلاد فارس، مرعلى بلدة فوجد فيها حبلاً غليظاً وقد لف على شكل عقدة مركبة، وأخبره أهل القرية أن جميع من مروا بهذه المنطقة من القادة العظام قد عجزوا عن فك تلك العقدة، فما كان من الإسكندر إلا أن استل سيفه وضرب العقدة في منتصفها، فانقطع الحبل، وانفكت. تماماً كما أصبحت جدتي تفعل بالمقص.
    دارت هذه الأفكار في رأسي وأنا أتمعن في العقدة السورية الحالية، والتي مضى عليها عامان كما يعرف العامة من الناس، بينما العالمون ببواطن الأمور متأكدون من مضي نصف قرن عليها منذ انعقدت فتعقدت، أي منذ العام 1963. فمنذ بداية الثورة السورية على نظام بشار الأسد، كان كل طرف من طرفي الأزمة يراهن على إنهاء الطرف الآخر خلال أسابيع إن لم يكن أيام، طرف يقول خلال أسبوعين، فيرد عليه الطرف الآخر (خلصت)، غير أنني كنت من  القلة التي راهنت على استمرار الأزمة إلى أطول من ذلك بكثير، ولم يكن ذلك رجماً مني بالغيب، أو عبقرية بزَّت الآخرين، بل كان استنتاجاً مما عايشناه مع تجربة حزب البعث منذ ثورة 8 آذار 63 حتى اليوم. فالحزب كان واحداً من بين عدة أحزاب (القوميون السوريون – القوميون العرب – الشيوعيون – الإسلاميون) تقاسمت النفوذ داخل الجيش السوري منذ الاستقلال، مما أنتج مجموعة من الانقلابات العسكرية بدأت مع حسني الزعيم في آذار - مارس 1949، ولم تنته إلا بانقلاب تشرين الثاني - نوفمبر 1970 الذي قاده حافظ الأسد وأوصله إلى السلطة. وكنتيجة لتصارع القوى الكبرى على سوريا برأسي حربتيها حلف بغداد وإسرائيل، فقد لجأ الضباط السوريون، وعلى رأسهم البعثيون، إلى الطلب من جمال عبد الناصر الموافقة إقامة الوحدة بين القطرين المصري والسوري، فاشترط عليهم عبد الناصر  إلغاء الأحزاب، فوافق الجميع، وكانت نوايا جميع الأطراف طيبة تجاه الوحدة، باستثناء البعثيين، فقد كانوا يطمحون إلى الانفراد بحكم سوريا بعد تحقيق انفصالها عن مصر، والذي سعوا إليه  بأكثر من الحماس الذي طالبوا فيه بالوحدة، فقد ثبت بشكل قاطع تآمر حافظ الأسد على الوحدة منذ أيامها الأولى، حين كان نقيباً طياراً في مصر يتدرب على الطيران النفاث، ففي مصر شكل اللجنة الخماسية العسكرية السرية {(حافظ الأسد + محمد عمران + صلاح جديد (علويون) +عبد الكريم الجندي + أحمد المير (إسماعيليون)}، تلك التي – وبعد زيادة عدد أعضائها إلى خمسة عشر – سيكون لها اليد الطولى في حكم سوريا حتى انقلاب تشرين الثاني – نوفمبر/ 1970 والذي جاء بحافظ الأسد إلى السلطة.
    وللإنصاف، لم يكن نظام الحكم في سوريا بين عامي 1963 – 1970 طائفياً، بل كان نظاماً حزبياً شوفينياً متطرفاً، أغلقت فيه الأبواب في مجالات الوظائف، حتى الصغرى منها، وقيادات الجيش، أمام كل من هو غير بعثي، علاوة على استخدام العنف ضد معارضي الحزب، فعندما فشلت محاولة العقيد جاسم علوان، القومي الوحدوي، في 18 تموز – يوليو – 1963 لاستعادة المبادرة من البعثيين في سبيل إعادة الوحدة مع مصر، قام أمين الحافظ، وزير الداخلية آنذاك، شخصياً وبيده، بتصفية ما يزيد على العشرين ضابطاً من الذين اشتركوا في المحاولة، وكان من بينهم العقيد هشام شبيب، أحد أهم أدمغة سلاح الإشارة على مستوى العالم آنذاك، ثم جاءت أحداث حماة المعروفة عام 1964 (والتي ستتكرر بعد ذلك في فبراير عام 1982)، لذا فإن استخدام العنف ليس سلوكاً غريباً على قيادات البعث. وعندما أطبق البعث فكيه على مفاصل الدولة، بدأ الحزب باستقبال طلبات الانتساب إليه من كل من يرغب في ذلك، دون أن يعي مسؤولوه وقياديوه التمييز بين ترجيح فضيلة النوع على نقيصة الكم، فخلت مناصب الدولة وقيادات الجيش إلا من البعثيين، وكم نبه كاتب المقال بعض أصدقائه من القياديين البعثيين إلى خطورة ما يقومون به على مستقبل الحزب والدولة، إلا أن غرور القوة كان قد أخذ منهم كل مأخذ، فغدت مفاصل الدولة وقياداتها العسكرية حكراً على البعثيين، والبعثيين فقط، ولم تأت حرب حزيران عام67 حتى كان الجيش السوري يخلو من قياداته العسكرية المحترفة، والتي ملأ الحزب مناصبها بضباط جهلة ميزتهم الوحيدة أنهم بعثيون، وكان لا بد لهذا الأمر أن يقود إلى كارثة خسارة الحرب، والهزيمة قبل دخول المعركة . هذا الجو العام الذي وضع حزب البعث فيه نفسه وسوريا سمح لحافظ الأسد بإدخال جرثومة الطائفية إلى البلد، وربما يكون كتاب الدكتور الهولندي نيقولاوس فان دام: (الصراع على السلطة في سوريا – الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961-1995) والذي استقى مادته العلمية من منشورات حزب البعث وقيادة الجيش وغيرها من مصادر المعلومات  الرسمية السورية، ربما يكون من أفضل ما كتب علمياً عن تلك الفترة السوداء من تاريخ سوريا الحديث.
    اليوم، وبعد أن دمرت سوريا على يد سلاحها الجوي ومدفعيتها ودباباتها وصواريخها، وبعد أن يئس الناس من إمكانية ظهور حل في الأفق، ونظراً لاستمرار شلال الدم والدمار، فقد انقسموا – داخل سوريا وخارجها – إلى ثلاثة أصناف: يمين ويسار ووسط، (ولكل من هذه الأقسام الثلاثة بدوره يمين ويسار ووسط كذلك)، أما الأصناف الثلاثة الرئيسية فهي:
    قسم يؤيد النظام، وقسم يعاديه، وقسم يتمنى لو أن الذي حدث لم يحدث، والقسمان الأَوْلَيان قطع كل واحد منهما منتصف الجسر، ولا يجد بداً من متابعة المعركة، لأن النكوص عنها يعني ببساطة نهايته المحتومة، أما القسم الثالث فهو الذي لا يحير من أمره شيئاً. أما أنا – وكثيرون غيري – فقد كانوا يرون منذ بداية الأحداث أن الأسد لا يمكن أن يتنازل عن السلطة بحال من الأحوال، فرجل قد تربى في بيت ديكتاتور قل نظيره في التاريخ السياسي لجميع الأمم، لا يمكن بالمطلق أن يكون ديمقراطياً، فقد شهد بنفسه تعامل والده مع أعدائه السياسيين إن بالسجن حتى الموت، أو بالتصفية الجسدية (طبعاً بدون محاكمة، لأن المحاكمات في نظر الأسد الأب كانت مضيعة للوقت مع أعداء الوطن!)، لذا كان وما زال وسيبقى مطلب الثوار بتنازل بشار الأسد عن الحكم بحكم المستحيل.
    بقي أخيراً أن نعرج على مقولة أن تفجر الوضع الطائفي في سوريا ربما سيقود إلى تقسيمها بعد زوال النظام، والحقيقة أن الذي لا يعرف الواقع السوري من الداخل، يجوز له أن يكرر أية مقولة دون أن تكون له القدرة على تمحيصها وفهمها ومن ثم تبريرها، ففي المجتمع السوري توجد أقليات ولكن لا توجد طوائف، والفارق بين الأقلية والطائفة فرق كبير لمن أراد أن يتمعن فيه (في العدد والتموضع)، حيث لا يوجد في المجتمع السوري توزع شبه متساوٍ في العدد بين مجموعات طائفية إثنية أو دينية (كلبنان مثلاً)، إذ أن عدد الإخوة المسيحيين بكافة مذاهبهم لا يزيد على 5-7%، والدروز 2% أما الأقليات العرقية غير العربية من أرمن وشركس وتركمان وآراميين وآشوريين فلا تزيد نسبتهم على 5%، أما الأكراد فتصل نسبتهم حوالي 8%، وتبقى النسبة الغالبة هي السنة بحوالي 70% والباقي من الإخوة العلويين، وهذه النسب تختلف بطبيعة الحال حسب وجهة نظر الأقليات نفسها، والتي من الطبيعي أنها تحرص على تضخيم عددها حتى تحصل على قطعة أكبر من الكعكة السياسية، لكن اللافت في الأمر أن هذه الأقليات لا تتواجد في أماكن جغرافية محددة تعتبر حكراً عليها تصلح لإقامة دويلة فيها (كما هو الحال في لبنان أيضاً، والباسك في إسبانيا)، باستثناء تواجد الدروز الذين في منطقة السويداء، والعلويين في الجبال الساحلية، أما باقي الأقليات، فهي تتوزع على مساحة الوطن السوري، ففي سوريا، لم نكن كأصدقاء في أماكن الدراسة أو مواقع العمل، نتبين أصول بعضنا البعض إلا في مناسبات نادرة، مما يجعل إمكان قيام دول طائفية في سوريا بحكم المستحيل، علاوة على أن الحكم الطائفي الحالي في سوريا لم تقمه الطائفة العلوية الكريمة، بل أقامه حافظ الأسد لشخصه ولأسرته، بدليل بطشه بأصدقائه، حتى العلويين منهم، وهم الذين أوصلوه إلى السلطة، وعلى رأسهم محمد عمران، الذي دبر الأسد اغتياله في طرابلس لبنان، وصلاح جديد الذي رماه في سجن المزة حتى وفاته، ومؤخراً اعتقال السلطات السورية الناشط العلوي عبد العزيز الخيّر في مطار دمشق فور عودته من الصين.
    والآن: يبدو أن الوضع السوري – في عقدته الحالية - ليس بحاجة إلى سيف الإسكندر المقدوني فقط، بل وإلى مقص جدتي أيضاً، ولكن من ذا الذي يملكهما هذه الأيام؟.

عرس الطبيعة




    شرفتي ذات نافذة عريضة تطل على منظر يغوص بعيداً حتى يلتقي سيف الأفق بحضن السماء،،، في الخارج حفلة صاخبة أصغي إليها وأراقبها بفرح طفولي. من خلال زجاج النافذة يطل عليَّ وجه "إيليا أبو ماضي" شاعر المهجر العتيد، وقد كانت آخر مرة رأيته فيها على صفحات كتاب الأدب عندما كنت يافعاً في مرحلة الدراسة الإعدادية. يومها أطنب أستاذ الأدب وبالغ في كيل المديح لبيت أبي ماضي الذي عاتب فيه من اكفهر وجهه حتى بدا كالطبيعة عندما تتجهم:
                       قال السماء كئيبة وتجهما                قلت ابتسم يكفي التجهم في السما
    لم أشارك مدرسي إعجابه بذلك البيت، ولكن منذا الذي كان يجرؤ في ذاك الزمان على مخالفة رأي أستاذه ... جميع التلاميذ جاروا مدرسنا في رأيه، وبالغوا في إبراز عبقرية الشاعر عندما حذر المكتئب من محاكاة سماء الشتاء في اكتئابها. أشفقت على فصل الشتاء من كراهية الشاعر له، ذلك أنني كنت – وما زلت – معجباً بهذا الفصل الذي تنطق فيه الطبيعة بمئة لسان ولسان، وهاأنذا أزيح صورة أبي ماضي عن زجاج نافذتي كي أستمتع بهذا المهرجان الذي يجري على مد النظر:
     رب الطبيعة وزع الأدوار بإبداع على أبطال مسرحها، فقام كل منها بدوره على أكمل وجه: الرياح تنفخ أبواقها، فيتردد صداها في أرجاء المسرح،،، قطرات المطر الغزير تصرخ بجلاء مبشرة بأن موسم الخير قادم لا محالة، ورشقاتها تنقر الأسطح والنوافذ بإيقاع رتيب لذيذ، أو تسقط في حفرة امتلأت بسابقاتها، فأضفت على اللحن لحناً أعذب منه،،، الرعد – ضابط الإيقاع - يناوب بعنف طرقاته في أرجاء السماء، فيهتز المكان بمن فيه، والبرق – مدير الإضاءة - يضيء أرجاء مسرح الطبيعة بومضاته الباهرة، فيبدوا الراقصون، من أشجار وأعشاب طويلة، يتمايلون طربين فرحين بما يسمعون، كأنهم أشباح تتقافز،،، حفيف أوراق الأشجار يعلن طربه وحبوره هو الآخر، فيهمس في آذان الأشجار: أنْ هذا هو يوم الفرح المجيد، فارقصي يا غصون،،، بضعة نوافذ وأبواب غير محكمة الإغلاق تصفق طربة بما ترى وتسمع ،،، فجأة تحاول الشمس إزاحة ستائر الغيم الكثيفة متسللة منها كي تتفرج على المشهد، لكن الرياح تسارع إلى إغلاق ستائر السحاب في وجهها، فترتد فاشلة خائبة، ، تزغرد الرياح وتصفر فرحة بدحر الشمس،، ويستمر العرض.
     هي حضرة مديح صوفية، تُقرع فيها الدفوف، وتتمايل أجساد الزهاد، وتعلو الأوراد من حناجرهم تمجد الخالق وتراه في كل ما خلق،،، إنه عرس الطبيعة، يوم تنطق عناصرها وتبوح مكوناتها بمكنونات أنفسها، علَّ ابن آدم يرى فيها قدرة الخالق وضعف المخلوق. هو فصل الشتاء الرائع ذي المئة لسان ولسان، فكيف ألام على عشقي له دون كل الفصول؟.

? هل الحدود الدولية قدر لا مناص منه

نظراً لثباتها وامتداد عمرها سنوات طوالاً، يحسب الناس أن لحدود الدول قدسية وأبدية، وهي عصية على الزوال، راسخة رسوخ الجبال، لكن واقع الحياة يقول عكس ذلك، فلئن تمتعت الحدود بنوع من القداسة - خاصة بعد ظهور القوانين الدولية وما تبعها من تثبيت للحيز الجغرافي للدول - إلا أن سنة الحياة التي تتصف بالحركة والتحول، تعتري الحدود كذلك، تماماً كما باقي مظاهر الحياة، إذ نستطيع القول بثقة أن:(الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير). ونظرة سريعة على أوضاع الحدود في أوربا خلال القرن التاسع عشر، وما أضحت عليه خلال القرن العشرين، يوضح بطلان إطلاق صفة الديمومة والقداسة عليها، إذ أنه لا يمكن إغفال ما استجد من حدود رسمت على يد البريطانيين والفرنسيين، ترتب عليها ظهوردول عربية بعد الحرب العالمية الأولى، خاصة في بلاد الشام، كما أن نظرة على خريطة يوغوسلافيا السابقة في بداية تسعينيات القرن الماضي والتغير الذي طرأ عليها، مثال يفيد في هذا المجال.
   والظاهر بوضوح للعيان أن الحروب هي القابلة القانونية الوحيدة التي تستولد الحدود، والسبب الرئيسي في التغيير الذي يطرأ عليها، فما من حرب إلا وانتهت بتأثير لا يمكن تجاهله على حدود الدول المتحاربة، وأقرب مثال على ذلك الحدود السورية - الإسرائيلية بعد حرب عام 1967، - بالرغم من عدم اعتراف أحد الجانبين بها، ولا حتى القانون الدولي - كما أنه مما لا شك فيه أن لأي حدث سياسي نتائج تتناسب مع حجمه، فالأحداث الكبرى تتبعها نتائج كبرى، خاصة مع استخدام القوة المسلحة، كما ويزداد الأمر تعقيداً عندما تضلع في الحرب قوى متعددة، متنافرة المصالح، متضادة الرغبات، فبحجم هذا التناقض وذاك التضاد، تكون غرابة النتائج، وربما سيكون للثورة السورية الحالية - سواء نجحت أم فشلت - نتائج من المفيد استعراضها، لأنها توضح جوهر الموضوع، وقد يكون من المفيد البدء بالسؤال التالي، ثم محاولة الإجابة عليه:
 ماذا لو ربح نظام دمشق الحرب الداخلية الحالية، فاستمر في الحكم؟، وماذا لو خسرها، فخرج منه ؟:

أولاً، عمودياً: لو ربح النظام المعركة، ستواجه تركيا أحداثاً عاصفة تتمثل في تقوية شوكة الأكراد في جنوبها الشرقي، أولئك الذين سوف يحصلون على دعم سوري عراقي إيراني، وهو إن لم يؤد إلى قيام دولة كردية - وهي بالطبع ليست في صالح الدول الداعمة للأكراد - فسوف يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة التركية، وربما سيؤدي هذا الأمر، كنتيجة مباشرة، إلى عودة سيطرة الجنرالات على الحكم بدعم غربي كامل – عن طريق انقلاب مدعوم من الغرب، وإعلان حالة الطواريء -، خاصة بعد أن تم إقصاء الجيش عن التحكم بسياسة الدولة على يد حزب الحرية والعدالة الإسلامي، مما سيؤدي بالتالي إلى قيام ربيع شعبي تركي ضد العسكر، يُدخِلُ تركيا في دوامة عنف مرعب، ناهيك عن مطامع اليونانيين في جزر متنازع عليها مع تركيا، وحقد الأرمن والروس من الشرق، كما أن بقاء نظام دمشق سوف يؤدي إلى مطالبة العلويين في لواء الاسكندرون - (يصل عدد العلويين في تركيا إلى حوالي العشرة ملايين) - بالانفصال عن تركيا والعودة إلى الوطن الأم: سوريا. هذا سيستتبع بالضرورة كبح جماح ثورتهم بالقوة العسكرية، وفي ذلك زعزعة للدولة التركية تحسب لها ألف حساب، كما يبدو واضحاً الآن أن تصدي تركيا لإسرائيل منذ محاولات فك الحصار عن غزة، ومشكلة أسطول الحرية، قد سببا لتركيا المشاكل التي تعيشها هذه الأيام، وكأن رد إسرائيل على تركيا قد جاء عن طريق دمشق. أما الناتو، فتجري أحداث هذه الأيام على حدود تركيا الجنوبية بتجاهل تام منه، باستثناء التأييد اللفظي لتركيا، الأمر الذي سوف يؤدي حتماً إلى تصدع ضلعه الجنوبي - المتمثل بتركيا -، مؤقتاً (إلى ما بعد عودة الأتراك العسكر)، فكما رفض الأوربيون قبول تركيا في السوق الأوربية المشتركة، سيجمدون مكانتها في الناتو – أو هم قد فعلوا - حتى تتم إزاحة النظام الديمقراطي الإسلامي لحزب العدالة التركي. يبدو أن أردوغان وغول وأوغلو قد بالغوا في حساباتهم على أن تركيا جزء هام في الناتو، ونسوا عدم رضى أوربا وأمريكا عن قيام نظام تركي يجاهر بالإسلام، ويكون قدوة لدول الشرق الأوسط، خاصة تلك المحاذية لفلسطين (وانتقاد اردوغان في خطابه الأخير لتركيبة الخمس الكبار في مجلس الأمن، مؤشر على تصاعد الصدام التركي مع الغرب). في جميع هذه الأحداث، لنا أن نتخيل الشكل الذي ستكون عليه الحدود التركية الجنوبية والسورية الشمالية.
     أما لو خسر نظام دمشق المعركة، فسيكون لذلك أثر حاسم في تشكيل تحالف عامودي، حيث سينفتح المجال واسعاً أمام تقارب سوري – تركي – مصري، سوف يمتد أثره جنوباً لكي يشمل الأردن – الذي تعزز فيه الحركة الإسلامية مواقعها بإنجازات ملموسة على الأرض -، وربما جذب هذا الحلف إليه دولاً خارج إقليمه مثل ليبيا وتونس، وسيكون لهذا الحلف العمودي أثر ماحق على الحلف الأفقي المتمثل في محور إيران الممتد من حدود باكستان إلى جنوب لبنان مروراً بالعراق وسوريا، فحدث بهذا الحجم سيكون له بلا شك تأثير مباشر على شكل الحدود في الشرق الأوسط. مثلاً: ألم تكن الموصل في تقسيم سايكس بيكو تدخل ضمن منطقة النفوذ الفرنسي، أي داخل الأراضي السورية، ثم فصلت عنها لكي تضم إلى العراق البريطاني؟،فما الذي سيمنع سوريا من المطالبة بها بدعم من باقي دول المحور العمودي؟. كما أن طيف الوحدة المصرية السورية ما يزال ماثلاً في الأذهان (وقد ألمح إليه محمد مرسي في خطاب حملته الانتخابية)، فما الذي سوف يمنع عودتها ثانية؟. الطرف الذي سيكون في موقف لا يحسد عليه هو الطرف الإسرائيلي، الذي لن يرى مندوحة عن فتح باب التفاوض للوصول إلى نتيجة مشرفة تحفظ له وجوده، حتى ولو بالتخفيف من تعنته، وبقبول عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والجنوح إلى قبول قيام دولة ديمقراطية تضم العنصرين العربي واليهودي على أرض فلسطين، هذا مع عدم إقفال ملف الصراع، بل إبقائه مفتوحاً على جميع الخيارات، والتي منها زوال الكيان الإسرائيلي تماماً.
من البديهي أن حدوث هذه الأمور على الأرض لن يكون بسهولة كتابته على الورق، بل هي عملية صراعٍ وتحدٍ معقدة، تحتاج إلى عوامل قوة ليست بالبسيطة والميسرة لجميع أطرافها بالتساوي.
ثانياً، أفقياً: إذا خرج نظام دمشق منتصراً من معركته الحالية، فسوف تقوى شوكة إيران إلى الحد الذي سيدفعها إلى التمدد في الساحل الغربي للخليج العربي، منطلقة من العراق الشيعي، ومن سوريا العلوية، طبعاً بضمانات قاطعة للغرب فيما يتعلق بوجود قواعده ومصالحه النفطية، وسوف يكون للتمدد الإيراني غرباً – باتجاه سوريا ولبنان، – وجنوباً – باتجاه دول مجلس التعاون الخليجي –، نتائج مذهلة على الخارطة السياسية للشرق الأوسط (من ذلك مثلاً إعادة الكويت إلى العراق الشيعي)، غير أن أهم ميزة لهذه المرحلة ستكون بالتأكيد التعاون الإسرائيلي الإيراني الوثيق، والذي سوف يكون من سمات المرحلة المقبلة دون تحفظ أو حرج ( فتزويد إسرائيل لإيران بالأسلحة خلال حرب الثماني سنوات مع العراق ليس عنا ببعيد – إيران - كونترا)، واشتراك الطرفين في العداء للعرب، قاسم مشترك يجعلهما حليفين وثيقي الصلة، وما التهديد الإسرائيلي والغربي الحالي لإيران سوى ذر للرماد في عيون العرب، فدعم إسرائيل المطلق للنظام السوري خلال الأزمة الحالية - والمتمثل بتثبيت الهدوء على جبهة الجولان، وباستخدام الآيباك لكبح جماح أية محاولة من الإدارة الأمريكية للعمل ضد النظام السوري – يثبت هذا الدعم، إذ لو كان لدى إسرائيل أية رغبة في إزالة النظام، فلن تجد أفضل من الظروف الحالية التي يخوض فيها حرباً شاملة شرسة ضد معارضيه، مما سيستتبع في حالة استمراره في الحكم، رد الجميل بتوقيع صلح وسلام شاملين مع إسرائيل، يتم فيه نزع السلاح من الجولان - كسيناء مع كامب ديفيد - واستئجاره من قبل إسرائيل لمدة 99 سنة، وقيام علاقات ديبلوماسية كاملة، وبالتالي تجاهل إسرائيلي تام للقضية الفلسطينية، وطمس شعلتها المتوقدة منذ عام 48، ألا وهي قضية اللاجئين، وذلك عن طريق منحهم الجنسية وتوطينهم حيث هم، في سوريا ولبنان، وسيكون التمدد الإسرائيلي بين النيل والفرات نتيجة طبيعية لبقاء نظام دمشق مع حلفائه الإيرانيين.

     أما هزيمة النظام السوري، فستنعكس نتائجها على إيران بكارثة تصيب مشروعها القومي – وليس الديني – في مقتل، ربما يستتبعها زوال النظام الديني لآيات الله، وانتفاض المجموعات القومية والدينية للمطالبة باستقلالها عن المركز: طهران. وفي التنوع العرقي الهائل لإيران، (حوالي عشر أقليات عرقية ودينية)، واتساع رقعة الدولة (أكثر من مليون وستمئة ألف كم مربع)، تربة خصبة لمثل هذا الانقسام والتشظي، خاصة مع تدخل دول الجوار، وما عدم نسيان انتزاع عربستان من الأرض العراقية في أوائل عشرينيات القرن الماضي، سوى دليل على الخطر الذي يحيق بالدولة الإيرانية، وينبيء بشكل حدود الدول التي ستقوم على أنقاضها إن هي انهارت كنتيجة لسقوط النظام السوري. أما إسرائيل فسوف تكون خاسراً مؤكداً، وسوف يفتح بينها وبين دول المحور العمودي صراع يتحدى مشروعية وجودها.
    ختاماً: لا بد من التأكيد على أن هذا المقال لا يرمي إلى تبني وجهة نظر بعينها، ولا يتمنى فوز طرف على حساب طرف آخر، بل يهدف إلى الإجابة عن التساؤل الذي ورد في عنوان المقال، أي يرمي إلى نزع فكرة قدرية وقداسة الحدود بين الدول، تلك الفكرة التي رسخت في عقول الذين لم يقرأوا التاريخ السياسي، ولا يقبلون من أحد المساس بما يتمنونه وبما يؤمنون به.


Wednesday, February 6, 2013

Add caption
المسجد الأقصى المبارك من الخارج والداخل







Add caption
مشاهد من ساحة المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة