Thursday, February 7, 2013

بين سيف الإسكندر المقدوني، ومقص جدتي، شبه كبير



  
     في سنوات الكهولة، حيث في الوقت متسع، يحلو للمرء استرجاع ذكريات طفولته، خاصة تلك التي وجدت لها إسقاطات حالية مذهلة، بحيث تعود هذه الإسقاطات بالذاكرة إلى دقائق وتفاصيل كانت تظن أنها قد امحت منها تماماً. ومأزق الثورة السورية الحالي ربما كان حجر المسن الذي أوقد في الذاكرة ما كاد يمحي منها.
    جدتي، وقد جاوزت السبعين من العمر، ولمتانة في بنيتها وعزة في نفسها، أبت بعد وفاة جدي إلا أن تعتاش من عرق جبينها، ولا أحسب أنها كانت تعرف شيئاً عن سيرة الزعيم الهندي غاندي عندما اشترت بضع غنمات كانت ترعاها في الحقول المجاورة لكي تعتاش مما تنتجه تلك الأغنام من لبن وصوف. في أواخر الربيع وأوائل الصيف من كل عام، اعتادت جدتي جز صوف أغنامها بنفسها، وبعد غسل الصوف وتجفيفه تحت أشعة تموز، كانت تلجأ إلى مغزلها لكي تحول الأصواف إلى شلل من الخيطان بعد أن تكون قد صبغتها بألوان مختلفة. في هذه الأثناء يكون فصل الخريف قد حل، فتبدأ العجوز بتحويل شلل خيوط الصوف إلى كرات لكي تسهل عليها تحويلها بالسنارة إلى ملابس للأطفال تبيعها في البلدة المجاورة، ولكي تشجعني على مساعدتها، كانت جدتي تعدني بحكاية جديدة مع لف كل شلة جديدة، فكانت هي تجلس في جانب وأنا أقابلها ممسكاً شلة الخيوط على جانبي كفيِّ الصغيرتين، وكلما لفت الخيط، حركت يديَّ يمنة ويسرة لتسهيل عملية اللف، وعندما كنت أسرح أحياناً مع متابعة الحكاية - غائصاً بين جماعات الغول والجن التي تزخر بها، فأسهو عن عن حركة يدي - كانت الخيوط تتشابك معيقة سرعة اللف، وعندما كان التشابك بين الخيوط يزداد تعقيداً وصعوبة في تفكيكه، كانت جدتي تلجأ إلى تسهيل تفكيك الخيوط بمباعدتها عن بعضها بأصابعها الدقيقة، وعندما كانت تنجح أحياناً في مهمتها، تستأنف لف الصوف وسرد الحكاية، وأتابع أنا الإصغاء وتحريك اليدين، أما عندما تكون عقدة الخيط مركبة إلى الدرجة التي تعجز فيها جدتي عن حلها، فقد كانت تلجأ إلى المقص، تقطع منطقة العقدة، ثم تربط طرفي الخيطين، وتتابع اللف وكأن العقدة لم تكن.
    أخذ الأمر مني أكثر من نصف عمري لكي أدرك سر عبقرية جدتي في حل العقد، وهي التي كنت متأكداً من أنها لم تكن تعرف شيئاً عن التاريخ الإغريقي وأساطيره، أو عقدة الإسكندر المقدوني وذكائه، تلك العقدة التي تقول الأسطورة بأن الإسكندر عندما وصل أواسط آسيا الصغرى في طريقه لغزو بلاد فارس، مرعلى بلدة فوجد فيها حبلاً غليظاً وقد لف على شكل عقدة مركبة، وأخبره أهل القرية أن جميع من مروا بهذه المنطقة من القادة العظام قد عجزوا عن فك تلك العقدة، فما كان من الإسكندر إلا أن استل سيفه وضرب العقدة في منتصفها، فانقطع الحبل، وانفكت. تماماً كما أصبحت جدتي تفعل بالمقص.
    دارت هذه الأفكار في رأسي وأنا أتمعن في العقدة السورية الحالية، والتي مضى عليها عامان كما يعرف العامة من الناس، بينما العالمون ببواطن الأمور متأكدون من مضي نصف قرن عليها منذ انعقدت فتعقدت، أي منذ العام 1963. فمنذ بداية الثورة السورية على نظام بشار الأسد، كان كل طرف من طرفي الأزمة يراهن على إنهاء الطرف الآخر خلال أسابيع إن لم يكن أيام، طرف يقول خلال أسبوعين، فيرد عليه الطرف الآخر (خلصت)، غير أنني كنت من  القلة التي راهنت على استمرار الأزمة إلى أطول من ذلك بكثير، ولم يكن ذلك رجماً مني بالغيب، أو عبقرية بزَّت الآخرين، بل كان استنتاجاً مما عايشناه مع تجربة حزب البعث منذ ثورة 8 آذار 63 حتى اليوم. فالحزب كان واحداً من بين عدة أحزاب (القوميون السوريون – القوميون العرب – الشيوعيون – الإسلاميون) تقاسمت النفوذ داخل الجيش السوري منذ الاستقلال، مما أنتج مجموعة من الانقلابات العسكرية بدأت مع حسني الزعيم في آذار - مارس 1949، ولم تنته إلا بانقلاب تشرين الثاني - نوفمبر 1970 الذي قاده حافظ الأسد وأوصله إلى السلطة. وكنتيجة لتصارع القوى الكبرى على سوريا برأسي حربتيها حلف بغداد وإسرائيل، فقد لجأ الضباط السوريون، وعلى رأسهم البعثيون، إلى الطلب من جمال عبد الناصر الموافقة إقامة الوحدة بين القطرين المصري والسوري، فاشترط عليهم عبد الناصر  إلغاء الأحزاب، فوافق الجميع، وكانت نوايا جميع الأطراف طيبة تجاه الوحدة، باستثناء البعثيين، فقد كانوا يطمحون إلى الانفراد بحكم سوريا بعد تحقيق انفصالها عن مصر، والذي سعوا إليه  بأكثر من الحماس الذي طالبوا فيه بالوحدة، فقد ثبت بشكل قاطع تآمر حافظ الأسد على الوحدة منذ أيامها الأولى، حين كان نقيباً طياراً في مصر يتدرب على الطيران النفاث، ففي مصر شكل اللجنة الخماسية العسكرية السرية {(حافظ الأسد + محمد عمران + صلاح جديد (علويون) +عبد الكريم الجندي + أحمد المير (إسماعيليون)}، تلك التي – وبعد زيادة عدد أعضائها إلى خمسة عشر – سيكون لها اليد الطولى في حكم سوريا حتى انقلاب تشرين الثاني – نوفمبر/ 1970 والذي جاء بحافظ الأسد إلى السلطة.
    وللإنصاف، لم يكن نظام الحكم في سوريا بين عامي 1963 – 1970 طائفياً، بل كان نظاماً حزبياً شوفينياً متطرفاً، أغلقت فيه الأبواب في مجالات الوظائف، حتى الصغرى منها، وقيادات الجيش، أمام كل من هو غير بعثي، علاوة على استخدام العنف ضد معارضي الحزب، فعندما فشلت محاولة العقيد جاسم علوان، القومي الوحدوي، في 18 تموز – يوليو – 1963 لاستعادة المبادرة من البعثيين في سبيل إعادة الوحدة مع مصر، قام أمين الحافظ، وزير الداخلية آنذاك، شخصياً وبيده، بتصفية ما يزيد على العشرين ضابطاً من الذين اشتركوا في المحاولة، وكان من بينهم العقيد هشام شبيب، أحد أهم أدمغة سلاح الإشارة على مستوى العالم آنذاك، ثم جاءت أحداث حماة المعروفة عام 1964 (والتي ستتكرر بعد ذلك في فبراير عام 1982)، لذا فإن استخدام العنف ليس سلوكاً غريباً على قيادات البعث. وعندما أطبق البعث فكيه على مفاصل الدولة، بدأ الحزب باستقبال طلبات الانتساب إليه من كل من يرغب في ذلك، دون أن يعي مسؤولوه وقياديوه التمييز بين ترجيح فضيلة النوع على نقيصة الكم، فخلت مناصب الدولة وقيادات الجيش إلا من البعثيين، وكم نبه كاتب المقال بعض أصدقائه من القياديين البعثيين إلى خطورة ما يقومون به على مستقبل الحزب والدولة، إلا أن غرور القوة كان قد أخذ منهم كل مأخذ، فغدت مفاصل الدولة وقياداتها العسكرية حكراً على البعثيين، والبعثيين فقط، ولم تأت حرب حزيران عام67 حتى كان الجيش السوري يخلو من قياداته العسكرية المحترفة، والتي ملأ الحزب مناصبها بضباط جهلة ميزتهم الوحيدة أنهم بعثيون، وكان لا بد لهذا الأمر أن يقود إلى كارثة خسارة الحرب، والهزيمة قبل دخول المعركة . هذا الجو العام الذي وضع حزب البعث فيه نفسه وسوريا سمح لحافظ الأسد بإدخال جرثومة الطائفية إلى البلد، وربما يكون كتاب الدكتور الهولندي نيقولاوس فان دام: (الصراع على السلطة في سوريا – الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961-1995) والذي استقى مادته العلمية من منشورات حزب البعث وقيادة الجيش وغيرها من مصادر المعلومات  الرسمية السورية، ربما يكون من أفضل ما كتب علمياً عن تلك الفترة السوداء من تاريخ سوريا الحديث.
    اليوم، وبعد أن دمرت سوريا على يد سلاحها الجوي ومدفعيتها ودباباتها وصواريخها، وبعد أن يئس الناس من إمكانية ظهور حل في الأفق، ونظراً لاستمرار شلال الدم والدمار، فقد انقسموا – داخل سوريا وخارجها – إلى ثلاثة أصناف: يمين ويسار ووسط، (ولكل من هذه الأقسام الثلاثة بدوره يمين ويسار ووسط كذلك)، أما الأصناف الثلاثة الرئيسية فهي:
    قسم يؤيد النظام، وقسم يعاديه، وقسم يتمنى لو أن الذي حدث لم يحدث، والقسمان الأَوْلَيان قطع كل واحد منهما منتصف الجسر، ولا يجد بداً من متابعة المعركة، لأن النكوص عنها يعني ببساطة نهايته المحتومة، أما القسم الثالث فهو الذي لا يحير من أمره شيئاً. أما أنا – وكثيرون غيري – فقد كانوا يرون منذ بداية الأحداث أن الأسد لا يمكن أن يتنازل عن السلطة بحال من الأحوال، فرجل قد تربى في بيت ديكتاتور قل نظيره في التاريخ السياسي لجميع الأمم، لا يمكن بالمطلق أن يكون ديمقراطياً، فقد شهد بنفسه تعامل والده مع أعدائه السياسيين إن بالسجن حتى الموت، أو بالتصفية الجسدية (طبعاً بدون محاكمة، لأن المحاكمات في نظر الأسد الأب كانت مضيعة للوقت مع أعداء الوطن!)، لذا كان وما زال وسيبقى مطلب الثوار بتنازل بشار الأسد عن الحكم بحكم المستحيل.
    بقي أخيراً أن نعرج على مقولة أن تفجر الوضع الطائفي في سوريا ربما سيقود إلى تقسيمها بعد زوال النظام، والحقيقة أن الذي لا يعرف الواقع السوري من الداخل، يجوز له أن يكرر أية مقولة دون أن تكون له القدرة على تمحيصها وفهمها ومن ثم تبريرها، ففي المجتمع السوري توجد أقليات ولكن لا توجد طوائف، والفارق بين الأقلية والطائفة فرق كبير لمن أراد أن يتمعن فيه (في العدد والتموضع)، حيث لا يوجد في المجتمع السوري توزع شبه متساوٍ في العدد بين مجموعات طائفية إثنية أو دينية (كلبنان مثلاً)، إذ أن عدد الإخوة المسيحيين بكافة مذاهبهم لا يزيد على 5-7%، والدروز 2% أما الأقليات العرقية غير العربية من أرمن وشركس وتركمان وآراميين وآشوريين فلا تزيد نسبتهم على 5%، أما الأكراد فتصل نسبتهم حوالي 8%، وتبقى النسبة الغالبة هي السنة بحوالي 70% والباقي من الإخوة العلويين، وهذه النسب تختلف بطبيعة الحال حسب وجهة نظر الأقليات نفسها، والتي من الطبيعي أنها تحرص على تضخيم عددها حتى تحصل على قطعة أكبر من الكعكة السياسية، لكن اللافت في الأمر أن هذه الأقليات لا تتواجد في أماكن جغرافية محددة تعتبر حكراً عليها تصلح لإقامة دويلة فيها (كما هو الحال في لبنان أيضاً، والباسك في إسبانيا)، باستثناء تواجد الدروز الذين في منطقة السويداء، والعلويين في الجبال الساحلية، أما باقي الأقليات، فهي تتوزع على مساحة الوطن السوري، ففي سوريا، لم نكن كأصدقاء في أماكن الدراسة أو مواقع العمل، نتبين أصول بعضنا البعض إلا في مناسبات نادرة، مما يجعل إمكان قيام دول طائفية في سوريا بحكم المستحيل، علاوة على أن الحكم الطائفي الحالي في سوريا لم تقمه الطائفة العلوية الكريمة، بل أقامه حافظ الأسد لشخصه ولأسرته، بدليل بطشه بأصدقائه، حتى العلويين منهم، وهم الذين أوصلوه إلى السلطة، وعلى رأسهم محمد عمران، الذي دبر الأسد اغتياله في طرابلس لبنان، وصلاح جديد الذي رماه في سجن المزة حتى وفاته، ومؤخراً اعتقال السلطات السورية الناشط العلوي عبد العزيز الخيّر في مطار دمشق فور عودته من الصين.
    والآن: يبدو أن الوضع السوري – في عقدته الحالية - ليس بحاجة إلى سيف الإسكندر المقدوني فقط، بل وإلى مقص جدتي أيضاً، ولكن من ذا الذي يملكهما هذه الأيام؟.

No comments: