Tuesday, February 26, 2013

سرب البالونات الحمراء



    كانت صرخته مدوية إلى درجة صُعِق لها كل من كان حوله. دار حول نفسه عدة مرات وعيناه تنهشان وجوه المحيطين به، يفتش بينهم عن أعز ما يملكه في هذه الحياة. قرفص على ركبتيه ودار حول نفسه عدة مرات علَّه يرى ضالته بين أقدام العشرات من الناس الذين جمعتهم صرخته المجنونة. لم يرَ شيئاً. نهض متثاقلاً، ثم، وقبل أن يكتمل انتصابه على قدميه، انهار جسده على الأرض محدثاً ارتطاماً ظن معه الجميع أنه قد فارق الحياة .

    الآن يغوص في لجة ذاكرته،  فيمر أمام عينيه شريط سريع من الصور التي اختزنها عقله الباطن، منذ تعرف على زوجته، مروراً بأحلامه أن يرزق منها بولد يرث عنه أمواله الطائلة التي درّتها عليه تجارة ناجحة. تتقطع الذكريات برهة، ثم تعود ليرى نفسه وإياها خارجين من عيادة الطبيب الذي بارك لهما حملاً تأخر خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال. رُزِقَ  مولوداً ذكراً جاء أجمل من كل أبناء الأرض (أو هكذا كان يراه)، فتجمعت فيه كل آماله وأحلامه. تقترب ذاكرته شيئاً فشيئاً من أحداث هذا اليوم، فقبل قليل  كان يحمل ابنه على كتفيه ممسكاً ساقيه الصغيرتين  بيديه، بينما تشبثت يدا الصغير برأس أبيه وهما يتجولان داخل حديقة الملاهي .

    رشَّةٌ من الماء البارد وبضع صفعات على خديه أيقظته من غيبوبته،،، يحملق في الوجوه الغريبة التي تحلَّقت حوله بعيون متلهفة فاحصة. أحدهم يقول: الحمد لله، لقد صحا أخيراً. عاد للنظر عند أقدامهم ودموع ساخنة تقفز من  عينيه: أين ولدي؟ أين هو؟ أرجوكم أين هو؟،،، صوت امرأة  تنادي من بعيد: لمن هذا الطفل؟،،، تتجمع في ساقيه قوة مائة حصان، فيهبُّ واقفاً راكضاً باتجاه السيدة: إنه ابني يا سيدتي، نعم إنه ابني. المرأة تدفع الطفل إلى أبيه وهي تتمتم مؤنبة مُعاتبة: إذا لم تكونوا قادرين على رعايتهم، فلماذا تنجبونهم؟، ثم تمضي مسرعة.

    جلس على ركبتيه محتضناً وحيده الذي لا تعادله في القيمة  كل كنوز العالم. الأب يمسح دموعه، والصغير لا يعلم سبب بكاء أبيه، وهو رفض أن ُيؤنبه على انفلاته من يده واختفائه بين المئات من الناس. لا يهم . . الحمد لله فقد عاد بالسلامة. حمله ثانية على كتفيه، وبنفس الوضعية الأولى، محاولاً أن يُقنع نفسه بأن شيئاً لم يحدث،  فهو، بعد انفصاله عن زوجته وزواجها من غيره، أصبح بالنسبة لابنه الأب والأم  والصديق، ونزهة اليوم لا يجب أن يعكر صفوها ضياع الطفل بضع دقائق - وإن كان قد أحسها دهوراً طويلة - والحمد لله مرة ثانية فقد عاد بالسلامة.
  
    يستمران في جولتهما. يشتريان بعض المثلجات، فيسقط قسم منها على رأس الأب، وتسيل قطراتها الباردة على وجهه، فيمسحها بفرح غامر وهما يضحكان ويلهوان وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق. على سور الحديقة بائع للبالونات نفخ بعضها وعلقها بخيوط  وأطلقها في الهواء، فتهادت وكأنها سرب حمام ملون. الطفل يوجه رأس أبيه باتجاه بائع البالونات طالباً شراء البالونات الحمراء جميعها، والأب لا يمكن أن يرفض هكذا طلب، متأثراً بالموقف الذي مر به قبل دقائق. يطلب من بائع البالونات أن يفك له البالونات الحمراء فقط من المجموعة المحلقة في الهواء. البائع - لِقِصر قامته - يعتذر عن عدم تمكنه من تناول المشبك الذي عُلِّقَتْ به خيوط  البالونات، طالباً المساعدة من زبونه،،، يتناول الرجل ابنه من على كتفه ثم ينزله أرضاً، والطفل متشبث بثياب أبيه،،، الأب يحاول التطاول على رؤوس أصابعه لكي ينزل البالونات من المكان الذي عُلِّقت فيه،،، يقترب من مكان البالونات أكثر فأكثر، ودون أن يشعر الأب، يبتعد الصغير عنه أكثر فأكثر،،، يمسك الرجل بمشبك البالونات بعد جهد، ثم يناولها للبائع. يفك البائع كتلة الخيوط على مهلٍ ، ويجمع بين أصابعه خيوط البالونات الحمراء فقط، ثم يناولها للرجل الذي ينقده ثمنها ثم يلفها حول أصابعه.

    يلتفت الأب إلى الخلف، ثم يدور حول  نفسه مرات ومرات والبالونات تدور معه محلقة كسرب حمام ملون. الآن يقف الرجل في مكانه خائر القوى، عاجزاً عن الصراخ، متمتماً بيأس قاتل: ( أين أنت يا بني؟ هل ضعت مني ثانية يا ولدي لأنك أحببت البالونات الحمراء؟ أم ضيعتك لأنني كنت أطول قامة من بائعها؟). تدور به الدنيا بسرعة مذهلة، وتغشى عينيه غمامة تحجب عنهما الرؤية،،، يقرفص باحثاً عن ابنه بين أقدام العشرات،،، يقفز إلى الأعلى عله يرى ابنه محمولاً على كتف أحد رآه ويبحث عن ذويه،،، لا شيء ينبيء بوجود الصبي، والناس قد انشغلوا كل في شأنه، ولا يبدو على وجوههم أنهم يعلمون شيئاً عما هو فيه من تعاسة،،، انطلق مسرعاً لمسافة قصيرة في الاتجاهات الأربعة دون جدوى. الآن يدرك أنه قد خسر معركته الأخيرة، وأنه لا بد مغادرٌ المسرح،،، يحس بانضغاط في الحنجرة وبألم شديد في الجهة اليسرى من الصدر، يحاول أن يفك أزرار قميصه  فيفشل. تنهمر دموعه بغزارة ثم يسقط على الأرض جثة هامدة بلا حراك.

    بينما كانت روح الرجل تصعد إلى السماء، كانت خيوط البالونات الحمراء تنفلت من بين أصابعه وهي تصعد في نفس الاتجاه، محلقة في الفضاء كسرب حمام ملون، وصوت صبيٌّ يبكي منادياً على سرب البالونات الحمراء طالباً منها أن تعود إليه، وامرأة  تنادي من بعيد: لمن هذا الطفل؟.                                       

1 comment:

Unknown said...

OMG! As a mother of two toddlers this brought tears to my eyes... It's the feeling of paranoia that I get when we're out in a public place full of people....Sad!