Tuesday, June 26, 2012

هل يصل صوتي إلى أذن السيد الرئيس؟/ وليد الحلبي

هل يصل صوتي إلى أذن السيد الرئيس؟/ وليد الحلبي: وليد الحلبي
لم يُجانِبْ الجغرافي العالمي المصري جمال حمدان الحقيقة عندما أطلق على موسوعته الجغرافية حول مصر، والتي تجاوزت الثلاثة ...

Thursday, June 21, 2012

نسورٌ أتراكٌ في ثرى دمشق( مغامرة الطيارين الأتراك في رحلتهم من استامبول إلى القاهرة)


    ربما كانتا من أكثر المغامرات تشويقاً، تلكما الرحلتان الجويتان اللتان قام بهما طيارون أتراك قبل بضعة أشهر من قيام الحرب العالمية الأولى.
    وبداية القصة تعود إلى طموحات الدولة العثمانية في امتلاك سلاح جوي تضاف قدراته إلى قدرات الجيشين البري والبحري، فبعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وعزله عام 1908 على يد أنصار حزب تركيا الفتاة، أسست الدولة العلية سلاح الجو عام 1909، وأرسلت عام 1910 بعثات لتدريب الطيارين في فرنسا، وكان في طليعة أولئك الطيارين كل من صادق بيك وفتحي بيك ( سيرد ذكرهما لاحقاً)، ثم أسست الأكاديمية الجوية في استامبول عام 1912، تبعتها أكاديمية طيران البحرية عام 1914، وتم شراء الطائرات من فرنسا وألمانيا، ووصل عددها إلى 15 طائرة، وعندما غزت إيطاليا ليبيا عام 1911، التي كانت ما زالت خاضعة للعثمانيين، استخدم الإيطاليون الطائرات في قصف مواقع الأتراك، والذين تمكنوا لأول مرة في تاريخ الطيران من إسقاط طائرة إيطالية وأسر قائدها.
   بعد الانقلاب الدستوري(1908)، وخسارة الدولة بعض ولاياتها وبالخصوص ليبيا عام 1912، رغبت قيادة الجيش في استعادة هيبة الدولة، وكانت الرحلتان اللتان قامت بهما طائرتان عثمانيتان (من صنع ألماني) من استامبول إلى القاهرة عبر بلاد الشام، مظهراً من مظاهر استعادة الدولة العثمانية هيبتها التي ظُنَّ أنها تضعضعت:
الطائرة الأولى: مع آخر اسبوع من شهر فبراير  شباط - عام 1914، أي قبل حوالي أربعة أشهر من قيام الحرب العالمية الأولى، انطلقت الطائرة الأولى من استامبول بوداع حاشد كان في مقدمة جموعه السلطان نفسه، وكانت تحمل اسم (معاونت مليَّة) أي (نصرة الدين)، وقد قاد الطائرة ضابطان هما: اليوزباشي (نقيب) فتحي بيك، وهو خريج فرنسا، كما تلقى دورة على الطيران في كلية بريستول البريطانية، أما الثاني فهو صادق بيك، راصد طيارة وملازم مدفعي ومرافق نظارة الحربية (كما ذكر على شاهدة قبره في دمشق). انطلقت الطائرة من استامبول باتجاه الجنوب الشرقي، ولا شك أنها قد هبطت في محطات متعددة داخل الأناضول قبل أن تصل إلى حلب مع نهاية شهر شباط- فبراير-، حيث أقيم للطيارَيْن احتفال كبير شارك فيه وجوه المدينة وكبار المسؤولين الحكوميين فيها، وفي أول شهر آذار - مارس  هبطت الطائرة، بعد انتظار وتشوق لرؤيتها، في المرج الأخضر  ما عرف فيما بعد باسم الملعب البلدي قرب ساحة الأمويين - بدمشق، حيث كان في استقبالها حسين ناظم باشا والي دمشق، ومشير الحربية، وكبار أعيان المدينة، وكان من بينهم المجاهد فخري البارودي، وعلي الجزائري ابن الأمير عبد القادر الجزائري وابنه عبد القادر، إلى جانب حشد قدره بعض معاصريه بمئة ألف (أرى في هذا الرقم مبالغة كبيرة، إذ أن عدد سكان دمشق في ذلك الزمن بالكاد كان يصل إلى هذا الرقم)، وقد أقام الطياران ثلاثة أيام في دمشق، حظيا خلالها باستقبال حاشد أينما حلوا في أحياء المدينة وأسواقها، كما نظمت فيهم القصائد، ومنها قصيدة "محمد كرد علي" التي قال فيها:
يا سماء الشام يا خير سماء              رحبي بالضيف مرفوع اللواء
ضـيفنا يـا شـام نسر ناطق                 سابـق النسر وعقبان السماء
ضيـفـنا طيــارة فـارســــها                 صيَّر الفولاذ طيراً في الفضاء
أمَـلاكٌ أنـت (يـا فتــحي) أجِبْ              أم ولـيٍّ مـن كبـار الأوليـاء
 وفي اليوم الثالث من الشهر نفسه، وُدعت الطائرة بطيارَيْها بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم قاصدة القاهرة عبر فلسطين، وبعد ساعات من إقلاعها باتجاه الجنوب المنحرف قليلاً إلى الغرب، وقبل وصولها إلى مدينة إربد، انحرفت الطائرة يميناً لكي تعبر بحيرة طبريا متجهة غرباً إلى الساحل الفلسطيني، غير أن سوء الطالع كان بانتظارها، فقد تحطمت بعنف قرب قرية السمرا، على بعد كيلومتر ونصف شرق بحيرة طبريا، وكان تحطمها هائلاً بحيث لم يتم تمييز جثتي الطيارين إلا عن طريق أوراقهما الثبوتية، ويبدو أن سبب السقوط كان هبوب رياح عنيفة مفاجئة من جهة الشرق، دفعت الطائرة من خلفها إلى الانحدار بعنف باتجاه منخفض بحيرة طبريا لكي تتحطم شرقها، أما العامة من الناس، فقد أرجعوا سبب سقوط الطائرة إلى الحسد الذي أصابها به بعض الحساد عندما رأوها تحلق بعنفوان مقلعة من أرض دمشق. بعد ثلاثة أيام وصل جثمانا الطيارين، صادق بيك وفتحي بيك، إلى دمشق بالقطار، حيث ووريا الثرى في باحة ضريح البطل صلاح الدين الأيوبي – حيث ما زالوا، مع رفيقهم الثالث، إلى اليوم -، وسط مأتم لم تشهد  دمشق له مثيلاً في تاريخها.
الطائرة الثانية: بعد أقل من أسبوع، وتأكيداً على إصرار وتصميم الطيران العثماني على إثبات وجوده، وصلت طائرة ثانية إلى دمشق بقيادة الملازم طيار نوري بيك، ومساعد له، غير أنها لم تستقبل بمثل الحفاوة التي استقبلت بها الطائرة الأولى بسبب موجة الحزن التي سيطرت على أهل دمشق، ثم غادرت الطائرة دمشق متجهة إلى القاهرة عبر فلسطين أيضاً، ويبدو أن طيارها قد غير وجهة سيره خلافاً للطائرة الأولى، فاتجه إلى الجنوب الغربي، لكي يعبر شمال الجليل وصولاً إلى الساحل الفلسطيني، لكن سوء الحظ نفسه الذي أسقط الطائرة الأولى كان للثانية بالمرصاد بالقرب من يافا، فسقطت يوم 8 مارس 1914 في البحر، فقتل قائدها نوري بيك على الفور، ونقل جثمانه إلى دمشق ليوارى الثرى إلى جانب رفيقيه، وسط جو رهيب من الحزن الذي لم يكد يخبو أواره في نفوس الدمشقيين على الشهيدين الأولين، بينما نجا مساعده بأعجوبة، ويقال أنه قد ساد في ذلك الوقت – بعد استيعاب الصدمة الأولى - شعور بالطمأنينة والراحة النفسية عند أهالي الطيارين الثلاثة، لأنهم تشرفوا بدفنهم إلى جانب البطل صلاح الدين الأيوبي، وفي ثرى (شام شريف).    
    كرمت تركيا أبطالها الطيارين، فأطلقت اسم (فتحية) على مدينة تركية ناشئة آنذاك تخليداً لاسم الطيار النقيب فتحي بيك، وأصدرت مجموعة من الطوابع البريدية تحمل صور الطيارين الشهداء وصور الطائرتين، كما أقيم - تخليداً لذكراهم وتمجيداً لبطولتهم - نصب تذكاري لهم في قرية السمرا شرق بحيرة طبريا، كذلك يقوم المسؤولون الأتراك بوضع أكاليل الزهور على أضرحتهم في 18 مارس من كل عام، والذي يصادف عيد الشهداء.
    في الختام، لكل منا الحق في اعتبار تلك الأيام جزءاً لا يتجزأ من تاريخ جمعنا بالإخوة الأتراك لأربعة قرون بالتمام والكمال (1516-1916)، أو يمكن اعتبارها جزءاً من التاريخ البشري، حاول الإنسان فيه أن يثبت جدارته وأهليته للاستحواذ على أحدث مبتكرات عصره، وتصميمه على إنجاز ما كان يعتبر في ذلك الزمان مهمة مستحيلة.

Tuesday, June 19, 2012

باجس أبو عطوان: نجم في سماء فلسطين



وصفوهم بأنهم أشرف الناس، وقالوا عنهم بأنهم مصابيح الدجى ونباريس الكفاح، وقالوا فيهم الكثير والكثير غير ذلك، غير أنهم بالتأكيد لم يوفوهم حقهم من التبجيل والتكريم. نعم، هم الشهداء، أولئك الأشراف الذين ضحوا بأغلى ما لديهم وهي النفس*، فبذلوها رخيصة وهم يعلمون أنها لن تكون الأخيرة التي سوف تبذل في سبيل هدف مقدس هو تحرير الأرض التي نبتوا منها، وعليها درجوا وعاشوا، إن لم يكونوا هم، فآباؤهم وأجدادهم،،، قضوا ولسان حالهم يقول:
        تقضي الشهامة أن نمد جسومنا        جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا
    ولو تتبعنا مصدر الكلمة وتميزها، لوجدناها مشتقة من الفعل (شَهِدَ)، واسم فاعلها (شاهد) ، فلماذا لم يطلق على من ضحى في سبيل تحقيق هدف مقدس لديه اسم (شاهد)؟. يبدو أن لاسم الفاعل هذا وزناً آخر يجعله مطلقاً مؤكداً وهو وزن (فعيل)، حيث أن بعض صفات الله تعالى الحسنى تأتي على هذا الوزن (السميع – من السامع - ، القدير – من القادر، النصير – من الناصر، الحفيظ – من الحافظ، الحكيم – من الحاكم، وليس الحكمة)، وعلة ذلك إطلاق اسم الفاعل إلى أقصى معانيه. فالشهيد هنا هو من شاهد الحق بأجلى صوره ببصيرته، فبذل في سبيله أعز ما يملك وهي نفسه، فالرؤية هنا مطلقة، كما التضحية مطلقة، ولذا كان له عند ربه ثواب وأي ثواب (والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم - {الحديد – 19} )، وفي حالة الإفراد تتمايز كلمتا (الشاهد) و (الشهيد) عن بعضهما، ففي سورة يوسف ( وشهد شاهد من أهلها – 26 -)، غير أنهما تتطابقان في حالة الجمع، فيقال (شهداء) ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا – البقرة 282) هذا في الحياة الدنيا، أما يوم القيامة    (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا – النساء 69 -)، أما خارج النص المقدس فيطلق عليهم (شهود) كما في المحاكم وغيرها.
    ربما كانت هذه المقدمة ضرورية للوصول إلى صلب موضوع هذه المقالة وهو حلول الذكرى الثامنة والثلاثين لاستشهاد بطل من أبطال فلسطين، وريحانة من رياحينها، ونجم من نجوم  سمائها، وهو الشهيد (باجس أبو عطوان) الذي تصادف ذكرى استشهاده يوم 18 يونيو/ حزيران، وربما كان هذا الشهيد واحداً من ألمع الأسماء التي قدمتها مدينة الخليل المناضلة عبر تاريخها الجهادي العظيم الذي بدأ مع بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، ولم يتوقف حتى هذا اليوم، فالأمم العظيمة هي التي تكرم شهداءها، وتحيي ذكراهم، وتستذكر مآثرهم وتضحياتهم، متيقنة من أنهم الجسور التي امتدت أمامهم على طريق استعادة الأرض والكرامة، واليوم، في الذكرى الثامنة والثلاثين لاستشهاده، يزيح باجس أبو عطوان غيوم التخاذل والهوان التي غطت سماء الوطن، يزيحها لكي يرى الناس وجهه الذي مضى على غيابه عن دنيانا ثمانية وثلاثون عاماً عادت خلالها القضية الفلسطينية عقوداً إلى الوراء، يعود وجهه الآن لكي يذكِّر الناس بالآية الكريمة التي تقرر: ( ولا تقولوا لمن يقتلُ في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء ولكن لا تشعرون – البقرة 154-) وبما أنهم أحياء عند الله فهم أحياء عندنا. وسيرة باجس أبو عطوان واحدة من آلاف السير التي يجب علينا وعلى الأجيال القادمة تذكرها صباح مساء لاستلهام معاني البذل والفداء، فقد ولد الشهيد عام 1950، عامين بعد عام النكبة، واستقر مع أسرته في بلدة دورا بالقرب من الخليل، وتلقى تعليمه في ثانويتها، غير أنه لم يكمل دراسته فيها لاضطراره إلى العمل مع والده في مقهى البلدة، المقهى الذي أصبح ملتقى الشبان المتحمسين للعمل الفدائي ضد قوات الاحتلال بعد حرب 1967. وقد نشط باجس مع رفاقه في التصدي لدوريات الاحتلال، وسببوا لها إزعاجاً وإشكالات أمنية كبيرة، غير أن العدو لم يستطع الإيقاع بهم سوى عن طريق العملاء - أولئك الذين هم أحقر من دود الأرض، والذين تحفل بهم كافة شعوب الدنيا، فهم قاذوراتها، ومكبات نفاياتها - وقد نجى باجس من المحاولة الأولى للإيقاع به، فجرح واختبأ في تجويف صخري، ولكي يحجب نفسه عن عيون جنود الاحتلال التي بدأت بتفتيش المنطقة بحثاً عنه، غطى نفسه بصخرة كبيرة منعت الجنود من العثور عليه، وأحسب أنه بعد تلك الحادثة اتخذ من (أبو شنار) لقباً له، فأبو شنار هو طائر الحجل، ومن المعروف عن طائر الحجل هذا أنه، وعندما يفاجأ بالصيادين يحيطون به من كل جانب، يمسك بقائمتيه حجراً، ثم ينقلب على ظهره لكي يحجب جسمه عن أعين الصيادين، وهذا ما قام به باجس، إذ أن ما فعله بتغطية جسده بصخرة كبيرة، بعد أن حشر نفسه في شق من الأرض، هو الذي حال بينه وبين أن يعثر عليه جنود الاحتلال.
في المحاولة الثانية لاغتياله، وبعد أن عجزوا عن هزيمته في أرض المعركة، أرسل له الإسرائيليون، مع عميل حقير آخر، صندوق ذخيرة ملغّم، انفجر به أثناء فتحه داخل مخبئه يوم    18-6-1974 ، فنزف حتى الموت عن أربعة وعشرين سنة، لكن الملاحظ على المخبأ الذي اتخذه باجس مكمناً له مع رفاقه أنه كان يشبه إلى حد بعيد ما كان الفييتناميون يقومون به من حيث الاختباء في حفر عميقة، فبعد الانفجار، لم يجرؤ جنود الاحتلال على الوصول إليه لإخراج جسده الطاهر، حيث كان عليهم الزحف على بطونهم مسافة عشرين متراً داخل المغارة، ثم النزول عدة درجات، وبعدها الوصول إلى مغائر محفورة في الجبل، كانت قاعدة اختباءٍ لباجس ورفاقه، لذا أرسلوا بعضاً من أقاربه لإخراج جثمانه.

في الختام: لا ندعو للشهداء بالرحمة، فهم أحياء عند ربهم يرزقون، بل نرجوهم أن يدعوا هم لنا بالرحمة في زمن تخاذل فيه المتخاذلون، وطبَّع فيه المطبعون، واستسلم فيه المستسلمون، لكننا نحن، الشعب صاحب الحق الأزلي، سنبقى نحيي ذكرى أولئك الذين ضحوا بأنفسهم من أجل أن نحيا بكرامة بعد استعادة حقنا الضائع.          
*- درجنا على استخدام كلمة (الروح) كناية عن النفس، فالنفس هي التي تصعد إلى بارئها عند الموت، كما في سورة الزمر: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها – 42)، وفي سورة الفجر:(يا أيتها النفس المطمئنة -27- ارجعي إلى ربك راضية مرضية-28-)، وفي سورة آل عمران:(وماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً – 145 -).
أما الروح، فهي من أمر الله: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً – الإسراء 85)، وتشير الآيتان 193 و 194 من سورة الشعراء إلى أنها أيضاً جبريل عليه السلام:    ( نزل به الروح الأمين-193- على قلبك لتكون من المنذرين-194).
كما يطلق لفظ الروح في النص المقدس على النفحة الأولى التي تعطي الحياة لمخلوق من العدم، ففي قصة خلق آدم، يقول الله تعالى في الآيتين 28 و 29 من سورة الحجر:( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإٍ مسنون-28- فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين-29-) ونفس الآية 29 تكررت في سورة (ص) برقم 72.
وبما أن خلق عيسى عليه السلام كان كخلق آدم:( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون – آل عمران 59-)، فإن الآية 12 من سورة التحريم جاءت لتبين أن خلق عيسى عليه السلام كان أيضاً بنفحة من روح الله: ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين).  

Thursday, June 14, 2012

مصر وصنمها: التوأم السيامي



    منذ عهد آمون قبل أربعة آلاف سنة، لم يعرف المصريون إلهاً وضعياً يُعبدُ سوى توأم سيامي واحد ذو رأسين: القوات المسلحة، والقضاء، ويبدو أن هذه العقيدة التي وقرت في ضمائر المصريين مردها إلى وضع مصر المعزول  – خاصة قبل ظهور وسائل المواصلات الحديثة – عن محيطها الجغرافي، ونظام الحكم المستبد، فقدسية القوات المسلحة تأتي من حاجة الشعب إليها للدفاع عنه ضد الغزاة الخارجيين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن قدسية القضاء قد نبعت عن حاجة دفينة للحصول على العدل، أياً كان حجمه، في ظل حكم الفرعون الذي كان يملك ويحكم ويتحكم.
    وربما كشف قيام ثورة 25 يناير 2011 شدة تعلق المصريين بهاتين الأيقونتين: القوات المسلحة والقضاء، متجاهلين أن طول مدة الحكم الديكتاتوري أو ما يشبهه، والتي عرفتها مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952، قد حولت تلكما القوتين إلى قوى مسيسة، مخالفة بذلك طبيعتها التي تفترض فيها الحياد، وتكريس الجهد من أجل القيام بواجباتها الطبيعية: الدفاع عن الوطن، والسهر على سيادة العدالة.
     والمتفحص لمكانة القوات المسلحة في الضمير المصري، يدرك أن انعدام الطائفية في هذا المجتمع - الذي لا ينقسم ظاهرياً إلا إلى أقباط ومسلمين - قد أدت إلى اصطباغ الجيش المصري بصبغة وطنية واحدة، لا ألوان فيها ولا عصبيات، فاكتسب سمعته الراقية على مدى عقود طويلة من السنين، إذ لم يعرف عن الجيش المصري أن تلوثت أيدي جنوده بدماء أبناء شعبه، وحتى الثورة المعاصرة لهذا الجيش في 23 يوليو 1952 كانت بيضاء ناصعة، لم تسفك فيها الدماء، ولم تتعصب فرق منها للملكية كي تصطدم مع القوى المؤيدة للجمهورية، وأقيم وداع رسمي للملك فاروق في الاسكندرية بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة وداع، ولف العلم المصري وقدم للملك، الذي سافر على ظهر يخته (المحروسة) إلى إيطاليا بعد أن سمح له باصطحاب أمتعته وعائلته. وفيما بعد، بعد أن استقرت ثورة 23 يوليو، شهدت شوارع المدن المصرية بضعة مظاهرات معادية للنظام الجديد، لكن لم يعرف عن الجيش المصري أنه تدخل ولو لمرة واحدة لقمع المتظاهرين. هذا السلوك الحضاري للجيش المصري، والناتج أصلاً عن عدم تلون وحداته بأي لون طائفي، عزز من مكانته في قلوب المصريين، لكن يبدو أن فترة حكم السادات ومبارك، والتي امتدت إلى أكثر من أربعين عاماً، قد ساهمت، بعيداً عن أعين الشعب، في إضعاف وطنية قيادة الجيش المصري، فالسلم الذي فُرِض على مصر في اتفاقية كامب ديفيد، وربط تسلحها بالولايات المتحدة الأمريكية، قد ساهم في نشوء برجوازية عسكرية داخل القوات المسلحة، تمثلت في تداخل العسكري بالاقتصادي، وفي مجتمع يسود الفقر أكثر من نصف سكانه، فقد وجد أصحاب المصلحة في ضرب بنية الجيش المصري - عماد قوة مصر - نفوساً مريضة ضعيفة بين صفوف كبار الضباط، فتم اكتساب ولائهم بحجم المنح التي حصلوا عليها من رواتب وحوافز وعقارات وامتيازات جعلت منهم طبقة منتفعة لا تختلف عن باقي الطفيليات التي نمت على حواف النظام السياسي المصري المتكلس، وما الابتعاثات العسكرية لكبار الضباط إلى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، سوى واحدة من الوسائل الخبيثة التي هدفت إلى خلخلة كيان الجيش، واستلاب إرادته الحرة التي عرفت عنه عبر عقود طويلة من السنين (كان الفريق سامي عنان رئيس الأركان الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قامت ثورة 25 يناير وإلى ما بعد تنازل مبارك عن الحكم، حيث حضر يوم 27 يناير الجلسة السنوية للجنة التعاون العسكري مع الولايات المتحدة التي يرأسها عنان عن الجانب المصري، وساندي فرشبو مساعد وزير الدفاع عن الجانب الأمريكي). والمتابع لتصرفات المجلس العسكري المصري منذ قيام ثورة 25 يناير يدرك حجم سيطرة هذا المجلس على الحياة السياسية المصرية، وإصراره على بقاء مصر في موقع وسط بين الثورة والنظام السابق، فكان أن دعم العسكريون ترشيح (أحمد شفيق)، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك إلى رئاسة الجمهورية، مع ما يحمله هذا الدعم من شبهة تشبث العسكر بلون النظام السابق، وبعد التذرع بحجة أن شفيق هو واحد من ضباط حرب العبور. ولكن في حينه، كان على القوى الثورية الصاعدة أن تنبه الشعب إلى أن (بطل العبور) كان قد سلم مصر للأمريكان والإسرائيليين، وأن (صاحب الضربة الجوية الأولى ) أصبح كنزاً استراتيجياً لإسرائيل، وأنه من غير المنطق أن يحق لأي ضابط قاتل في حرب أكتوبر أن يكون رئيساً للجمهورية. والمتتبع لسياسات المجلس العسكري يدرك تماماً أنه قام بانقلاب ناعم على مراحل، ساهم في تواليها سذاجة معظم القوى السياسية التي شاركت في الثورة ضد نظام مبارك، تلك القوى التي كان عليها الانسحاب من السباق الرئاسي بمجرد السماح لأحمد شفيق بالترشح لانتخابات الرئاسة، ذلك الانسحاب الذي كان – لو تم – سيسحب الشرعية عن شفيق حتى قبل أن تبدأ الانتخابات، وبعدم انسحابها هذا فقد ساهمت القوى السياسية المؤيدة للثورة في نجاح المجلس العسكري بإيصال مرشحه أحمد شفيق إلى الجولة النهائية، وباحتمال فوزه على مرشح الإخوان محمد مرسي.
    أما القضاء المصري، فيتهيب المصريون، كل المصريين، من المساس بسمعته، ربما خوفاً على أنفسهم من أن يفقدوا ملاذهم الأخير، بعد أن فقدوا ملاذهم الأول: القوات المسلحة، لكن هذا القضاء، والذي يعود تعيين قضاته – بامتيازاتهم - إلى زمني السادات ومبارك، لا يمكن الجزم بنزاهته وتوخيه العدالة، ذلك أن معظم الأحكام القضائية التي صدرت عنه منذ قيام الثورة توحي بالشك في نزاهته، ومن ذلك تبرئة كبار الضباط الأمنيين المسؤولين عن قتل متظاهري الثورة، والأحكام المخففة على بعض مسؤولي النظام السابق، بل وتبرئة جمال مبارك، الذي ساهم مع والده بإفساد الحياة السياسية المصرية، وعلاء مبارك الذي لا شك أنه استخدم اسم والده في الإثراء على حساب الشعب الفقير، أما أحكام القضاء ببطلان قانون العزل السياسي وبشرعية ترشح أحمد شفيق للانتخابات الرئاسية، فهي أمور تقلب الشكوك إلى حقائق حول نزاهة القضاء المصري، وهل من دليل أكبر على ذلك من تعيين المجلس العسكري للقاضي (البحيري) رئيساً للمحكمة الدستورية العليا اعتباراً من حزيران/ يونيو الجاري، كما أن الحكم القضائي المفاجيء ببطلان شرعية ثلث مجلس الشعب، مهزلة تضاف إلى مجموعة المهازل التي اقترفها القضاء المصري، وبالتالي فإن أداء القسم من الرئيس المنتخب المقبل (مرسي أم شفيق) أمام المجلس العسكري، وليس البرلمان، هي كوميديا سوداء بائسة تتصدر المشهد المصري هذه الأيام. إنها لمهزلة وأية مهزلة أن يحاكم مجرمون من عهد كنسته الثورة بدماء أبنائها، بقضاة وقوانين تعود إلى نفس عهد أولئك المجرمين.
    ما لم  يقطع المصريون رأس صنمهم، التوأم السيامي ذي الرأسين العسكري والقضائي، فلا يمكن لا لثورة 25 يناير، ولا لغيرها من الثورات، أن تنجح في مصر، أرض الكنانة.

  

Wednesday, June 13, 2012

الأسبوع ستة أيام


الأسبوع ستة أيام
    لم تكن جلسة موفقة على شرفة المقهى المطلة على جدول رقراق، فبعد محاولات يائسة لكتابة شيء ذي قيمة، أغلقت دفتري، وأعدت غطاء قلمي إلى مكانه اعترافاً مني بفشلي في إنجاز موضوع جدير بالقراءة،،، في هذه اللحظات، وكما في مرات سابقة، اندفع إلي بجسده المترهل هاشاً باشاً كعادته حين يقبض على فكرة يريد إطلاعي عليها.
    ضخم الجسم، لطيف المعشر، تلقائي التصرف، لا تفارق الضحكة وجهه إلا أثناء النوم، جمعتني به صداقة قديمة تعود إلى أيام الدراسة الإعدادية، ورغم أن السبل تفرقت بنا، فانهمك هو في إدارة محل البقالة الذي يملكه والده، والذي - بسبب خشيته من غياب ابنه عن العمل في البقالة - كان يدفع له أجرته على أساس يومي، أما أنا فقد انصرفت وباقي الأصدقاء إلى استكمال الدراسة الجامعية، ورغم ذلك فقد استمرت الصداقة تربطنا بحكم إقامتنا في نفس الحي. لم يزد تحصيله الدراسي على مستوى الثاني الثانوي، غير أنه، ولصداقته مع مجموعتنا المثقفة التي أنهت دراستها الجامعية، فقد كان يحاول سد الثغرة الثقافية والنفسية التي تفصل بينه وبيننا، وذلك عن طريق قراءة كل ما تصل إليه يداه من كتب ومقالات، وبصورة عشوائية لا يحكمها ضابط ولا يضبطها رابط، وكانت من بين اهتماماته، إلى جانب قراءاته العامة، مطالعة كتب الفلسفة والمنطق، بحيث دفعه ذلك مع الأيام إلى ادعاء التوصل إلى نظريات لم يتوصل إليها عتاولة الفكر والفلسفة من سقراط إلى جان بول سارتر، وكان كلما توصل إلى فكرة يعتقد أنها عبقرية نادرة، يفاجئني - سواء في البيت أو المقهى أو الطريق - بجسده المترهل، يلقيه عليَّ بعنف، ويعانقني بحرارة، ثم يبدأ في شرح ما توصل إليه بطريقة متدفقة لا تسمح لسامعه بالتعليق أو بالتصحيح. أحياناً كان يثير الإعجاب ببعض تعليقاته وأفكاره الطريفة، من ذلك قوله أن البشرية لم تشهد في تاريخها تصرفاً أغبى من أن تصب مياه شط العرب العذبة القادمة من العراق في مياه الخليج، ثم يقوم الناس في الجنوب بدفع مليارات الدولارات لتحويل المياه المالحة إلى عذبة، ومن ذلك أيضاً أن سكان العالم الثالث يعيشون أعماراً أطول بكثير من أعمار سكان العالمين الأول والثاني، ولما سئل: كيف؟، شرح ذلك بقوله بأن يوم الجائع أطول بكثير من يوم الشبعان، وأسبوع العليل أطول بكثير من أسبوع السليم، وسنة السجين أطول بكثير من سنة الحر، وبما أن معظم سكان العالم الثالث جوعى ومرضى ومساجين، فإن إحساسهم بأعمارهم أطول بكثير من إحساس أهل العالمين الآخرين. كان الإعجاب الذي تثيره مثل تلك الأفكار الطريفة تدفعه إلى اختراع المزيد منها، لكن من البديهي أنه لم يكن موفقاً في جميع تجلياته الفكرية تلك
    الآن، وأنا جالس في المقهى يائساً من كتابة موضوع مفيد، ولإحساسي بإرهاق خفيف، لم يكن لدي الاستعداد الكافي لمماحكته والرد عليه، فقررت التحول إلى كتلة من الآذان الصاغية، فلما أحس باستسلامي اعتقاداً منه بتصديقي لما سوف يقوله من قبل أن ينطق به، تدفق قائلاً: {"هل تعلم أن في الأسبوع ستة أيام فقط، وليست سبعة؟"}، هنا شعرت بالاستفزاز فتجهمت، وقبل أن أنطق بحرف واحد، وضع كفيه على صدري مهدئاً، دافعاً بي إلى الخلف، قائلاً بتوسل: {" أرجوك، لا تنفجر بي كالعادة، واسمعني إلى الآخر"}. هنا قررت أن أتظاهر بأنني أسمعه، بينما يجب عليَّ في الواقع أن أتجاهله تماماً، لكي أحلق في التفكير بموضوع جديد يجب أن أبدأ بكتابته في أسرع وقت ممكن، لكن الخبيث ما لبث أن استعاد اهتمامي وانتباهي عندما قال:{" اليوم الذي نحن فيه الآن يا صديقي هو مِلكنا وليس له رقم، عَلِمنا فيه ما لنا وما علينا، إنما الأرقام تُعطى إلى ما سيأتي بعده من أيام ستة قادمة مجهولة المحتوى، فيومنا هذا قد قبضنا عليه وعشناه، وربما نحن في آخر ساعاته، أما أسبوعنا الذي لم نحياه بعد فهو ستة أيام وليست سبعة كما يتخيل العامة"}، وعندما نطق كلمة (العامة) شدد عليها كأنما يُخرج نفسه من فئتها، لكي يصنف شخصه على أنه واحدٌ من (الخاصة). يتابع:{" ألم تسمع قول الله تعالى في سورة السجدة (اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ)؟، نفس هذه الآية تكررت في سور: هود والفرقان و"ق" والحديد ويونس والأعراف،،، هل تعلم موضعاً في القرآن الكريم ذكر الله فيه كلمتي (سبعة أيام)؟ أبداً، لا يوجد، إذ لم يذكر عدد سبعة في القرآن الكريم سوى في سبع بقرات وسبع سنبلات وسبع سنين وسبع سنابل وسبع سماوات، وفي غيرها من المواضيع، أما الأيام فلم يرد عدد سبعة مرافقاً لها على الإطلاق. إذن الأيام الستة التي خلق فيها الله تعالى السماوات والأرض هي أيام الأسبوع الستة، أما الاستواء على العرش، فهو شأن إلهي لا يحتاج إلى زمن كي نعتبره يوماً سابعاً، أليس كذلك"}، هنا استدرك كأنما تذكر دليلاً قوياً يدعم فكرته:{"وفي سورة البقرة، عندما فرض الله تعالى على المتمتع بالحج والعمرة أن يقدم أضحية، قال:" فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ"،،، أرأيت كيف أن التعريف الإلهي للأسبوع على أنه سبعة أيام لم يرد هنا، حيث كان يمكن للآية أن تقرأ " ثلاثة أيام في الحج وأسبوعاً إذا رجعتم"، لكنه قال" سبعة "، هل اقتنعت الآن؟}.
     أثناء انهماكه في شرح فكرته هذه، كنت أفكر في هذا الرجل: ماذا كان سوف ينجز في حياته الفكرية لو أن والده لم يكن يملك محل بقالة؟، وهل كان استكماله الدراسة العليا سوف يسمح له بإنجازات فكرية عبقرية؟، وهل يجب عليَّ في المستقبل أن أُحسن الإصغاء إليه أكثر مما اعتدت فعله في الماضي؟. في الواقع شدت انتباهي هذه الفكرة، غير أنني لم أجدها جديرة بأن تكون محور قصة قصيرة لافتقارها إلى خاتمة منطقية مقنعة، لولا أن جاءني صاحبي في اليوم التالي شاكياً لي والده، قائلاً:{" هل تعلم ماذا كلفتني نظريتي المتعلقة بأيام الأسبوع الستة؟"}، قلت:" وكيف لي أن أعلم إن لم تخبرني"، قال: {" والدي، وبعد أن أقنعته بصعوبةٍ أن في الأسبوع ستة أيام فقط، دفع لي عن الأربعة الأسابيع الماضية التي اشتغلتها عنده أجرة أربعة وعشرين يوماً بدلاً عن ثمانية وعشرين"}. عندها لم أتمالك نفسي من القهقهة بصوت عالٍ، وأمسكت القلم، وبدأت كتابة قصته الطريفة، تلك التي أنهيها الآن.     

Friday, June 8, 2012

فخري البارودي: صاحب "بلاد العرب أوطاني"


فخري البارودي: صاحب "بلاد العرب أوطاني"
    مما لا شك فيه أن معظم المثقفين العرب قد قرأوا الأبيات الشعرية التي عُدَّت من أفضل ما قيل في التعبير عن الحس القومي العربي:
بلاد العرب أوطاني      من  الشام  لبغدان
ومن  نجد إلى  يمن      إلى مصر فتطوان
    كما مما لا شك فيه أيضاً أن قلة من هؤلاء المثقفين يعرفون قائلها، وهو المناضل السوري الكبير، والرجل الذي يقترن اسمه بالحركة الوطنية السورية على مدار القرن العشرين ( فخري البارودي 1887-1966)، وبما أن الوصول إلى المعلومة، أية معلومة، هذه الأيام لا يكلف صاحبها سوى الضغط على زر البحث في أي محرك بحث على الشبكة العنكبوتية، فإن هذا المقال لا يهدف إلى سرد سيرة حياة هذا الرجل العظيم، بل إلى إلقاء الضوء على بعض ما تميزت به شخصيته من سعة علم، واتساع أفق، ووطنية وعروبة متدفقة، وقبل ذلك وبعده، التواضع الذي لا مثيل له في هذا المستوى من الرجال، وذلك عن قرب بحكم صداقتي معه، ولو لفترة قصيرة.
    ولد البارودي في حي القنوات بدمشق لأسرة ترجع أصولها إلى الشيخ ضاهر العمر، حاكم الجليل شمال فلسطين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر زمن الدولة العثمانية، وقد أنهى فخري تعليمه في مكتب عنبر بدمشق، وانخرط في الحركة الوطنية التي تألبت على الدولة العثمانية كنتيجة لسياسة التتريك التي اتبعها حكام تركيا الجدد بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وكان معظم هؤلاء الحكام من يهود سالونيك، الذين عزلوا السلطان عبد الحميد بسبب رفضه منح فلسطين لليهود في مقابلته الشهيرة مع هيرتزل.
    بعد طرد الأتراك من سوريا كنتيجة مباشرة للحرب العالمية الأولى، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، بدأ نضال الحركة الوطنية السورية ضد سلطات الانتداب الفرنسي، وقد كان البارودي في طليعة رجالات هذه الحركة، فنفي وسجن عدة مرات، لكنه لم يساوم على قضية وطنه وشعبه، وبعد الاستقلال استمر وجوده في المجتمع الدمشقي كأبرز وجوهه، وتفرغ في هذه الأثناء للمطالعة والتأليف، فكتب في التاريخ والأدب والشعر والموسيقى، وغيرها من فنون الكتابة، وكم كانت سعادته غامرة بقيام الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير عام 1958، حيث،-  وكما أخبرني فيما بعد – بأن أحلامه في الوحدة العربية قد بدأت تتحقق.  
    بعد العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، وقفت سوريا إلى جانب مصر، وأذكر أنه تشكلت في تلك الأيام كتائب المقاومة الشعبية في كافة المدن السورية، ووزعت عليها الأسلحة، وبدأت التدريب في ملاعب كرة القدم وغيرها من المرافق         ( أذكر أننا كنا أولاداً نتفرج على الشباب وهم يتدربون على إطلاق النار في ملعب الميسات بدمشق )، وربما كان إرسال عبد الناصر قوات مصرية  لكي ترابط على الحدود السورية التركية بعد أن حشدت أنقرة قواتها العسكرية على الحدود السورية الشمالية عام 1957 رداً للجميل على الموقف السوري أثناء العدوان الثلاثي،( كما ستفعل سوريا فيما بعد عام 1963 عندما أرسلت كتيبة اليرموك بقيادة العقيد فهد الشاعر للقتال إلى جانب حكومة بغداد ضد الأكراد المدعومين من شاه إيران      وإسرائيل )، وبعد قيام الوحدة السورية المصرية، منح فخري البارودي رتبة عقيد فخري، وأصبح قائداً لكتائب المقاومة الشعبية.
    وربما أسمح لنفسي بالتميز في هذه المقالة لكي أقول بأنني سعدت بلقاء الرجل وصداقته – رغم الفارق في السن بيني وبينه -، ذلك أنني، وفي بداية حياتي العملية عام 1964، استأجرت داراً في حي ركن الدين بدمشق، صادف أن كان منزل البارودي ملاصقاً لمنزلي، وذات مساء طرق باب منزلي شاب وسيم قدم نفسه لي على أنه مساعد فخري بك (كما كان يطلق عليه )، وقال بأن البيك قد علم بقدومي إلى هذا الحي، وهو يدعوني لشرب فنجان قهوة معه. عجبت لهذه المبادرة، فأين أنا من هذا الرجل العظيم الذي كان اسمه وشخصه في تلك الأيام ملء السمع والبصر، لذا لم يكن بإمكاني سوى تلبية الدعوة، وبالفعل لم يكد مساعده يفتح لي الباب حتى رأيت (البيك )، على كبر سنه، يتقدم مني بصعوبة مصافحاً باشاً مرحباً بي بحرارة كما لو كان يعرفني منذ زمن طويل. منذ تلك المقابلة الأولى بدأت علاقتي الدائمة بالرجل، تلك العلاقة التي استمرت لمدة سنتين حتى وفاته، رحمه الله، في مايو 1966.
    خلال جلساتي المطولة معه، لمست بحق مدى شفافية روح هذا الإنسان العظيم، فإلى جانب علمه الغزير، ووطنيته الدافقة، تواضع جم ينم عن تربية وسمو خلق لم أجد لهما مثيلاً في حياتي، وفي داره المؤلفة من خمس غرف، أفرد البيك غرفتين ملأهما بالأرفف الخشبية من الأرض إلى السقف على مدار الجدران الأربعة، وعليها كدس كمية هائلة من الكتب، وضعت على كل كتاب أختام توضح أنها مقدمة هدية إلى المكتبة الظاهرية بدمشق بعد وفاة صاحبها، ولم تكن هذه الأعداد الهائلة من الكتب فقط هي التي اقتناها البارودي، ولكن لمكتبته الأصلية قصة محزنة. كان للبارودي – قبل هذا المنزل المجاور لمنزلي – فيلا من طابقين تقع في بستان يطل على ساحة الأمويين (حيث حديقة تشرين الآن )، وقد كانت عامرة بالكتب من كل فن ولون، وفي يوم 18 تموز من عام 1963 قام العقيد جاسم علوان (ذو التوجه الناصري) بتمرد عسكري هدف إلى الاستيلاء على مقر الإذاعة والتلفزيون والأركان العامة للجيش الواقعة في ساحة الأمويين، ونتيجة للمعارك الشرسة بين المهاجمين والمدافعين، سقطت قذيفة مدفعية على منزل فخري بك فأحرقته بما فيه، وذهبت مكتبته هباء خلال دقائق، وفي هذا الوقت كان صاحب الفيلا يقضي إجازة الصيف في مصيف الزبداني ( وقيل بلودان، ولا بأس في ذلك فهما متجاوران)، وكان كلما تذكر الحادثة، تفر الدموع من عينيه حزناً لا على شيء سوى على المكتبة. كان رحمه الله سخي الدمعة، تسيل من عينيه بسهولة، سهولة ضحكته التي كان يطلقها عند سماع أو قول نكتة، وأذكر أنه – لشغفه بالموسيقى –  كان يطلب من مساعده "فهد المرشد" أن يضع له شريط التسجيل لموسيقى الكلارينيت التركية، وعندما كان يستبد به الطرب، يطلب من فهد أن يناوله الرق، فيبدأ بالضرب عليه والدموع تسيل من عينيه وهو يهز رأسه حبوراً وطرباً، وعندما تتوقف الموسيقى، كان يمسح دموعه ويدعوني، مع صديقين آخرين، إلى شرفة منزله المطلة على غوطة دمشق (يوم أن كانت هناك غوطة)، ثم يطلب من "فهد" إحضار أوراق اللعب لتزجية الوقت والتسلية. كان البارودي شاعراً مجيداً، مرهف الحس إلى درجة كبيرة، ذواق للموسيقى والشعر بشكل يدعو إلى العجب والإعجاب، وربما كانت قلة من الناس تعرف بأن المطرب السوري صاحب القدود الحلبية هو من اكتشاف وتشجيع البارودي، وهو الذي قدمه إلى الإذاعة السورية، وكان اسمه (صبحي أبو قوس) لكنه اتخذ اسماً فنياً هو صباح (تحريف صبحي) وفخري نسبة لفخري البارودي، كما يعود الفضل إلى البارودي في تشجيع وتطوير رقصة السماح، والتي تعود أصولها إلى بلدة "منبج" القريبة من حلب، والتي تؤدى من قبل العنصر النسائي على وقع غناء الموشحات.  
    لم أرَ البارودي يوماً يجلس في بيته وحيداً دون أن يكون عنده زوار من أصدقاء قدامى أو جدد، فقد كان – رحمه الله – يجد نفسه في الناس، وكان يقول لي هامساً: (الناس بالنسبة لي مثل الماء بالنسبة للسمك، بدونهم أموت)، فقلما كان يتناول الغداء أو العشاء وحيداً، بل كانت موائده عامرة بالضيوف في جميع الأوقات، ونظراً للمودة التي جمعتنا، فقد أهداني ديوانين من شعره وبتوقيعه، قلب يحترق، وتاريخ يتكلم، ربما كانا أغلى ما أملك من كتب.
     في أواخر سني حياته، كان يبدو قصير القامة بشكل لافت، بينما كانت صوره في شبابه، والتي كان يعتز بها عندما كان يعرضها علي في ألبوماته الكثيرة، كان يبدو طويل القامة بشكل لافت أيضاً، ولسوء حظي، فقد غادر البارودي هذه الدنيا في أوائل أيار – مايو – 1966، بينما كنت خارج دمشق، فلم أتشرف بمواكبة جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة الباب الصغير، الواقعة على أول الطريق إلى حي الميدان بعد حي الشاغور، وقيل بأن دمشق بكافة رجالاتها من أدباء ومفكرين وقدماء المجاهدين وما تبقى من السياسيين - بعد أن شتت نظام ثورة آذار شملهم، فلجأوا إلى دول مجاورة – جميعهم شاركوا في التشييع.
 وحتى هذا اليوم، وكلما ابتعدت ذكراه زمنياً عن ذهني، كلما شعرت بحنين جارف إلى حضوره.
رحم الله فخري بك البارودي فقد كان من نوع الرجال الذين لا يجود بهم الزمان إلا نادراً.    
  

Friday, June 1, 2012

)يــوم فــي حيـــاة إليـــاهــو شعر)



 المشهد الأول:

إلياهو ينهض صبحاً ، ، ، يتمطّــى ، ، ،  يتثاءبُ ، ، ، 
يطبع فوق جبين حبيبته قبلة عشقٍ
يخرجُ ، يفتحُ غرفة نومِ الأطفالِ
يبعثر قبلاتٍ دافئةً فوق الوجنات الحمراءِ
المشبعة برائحة النوم الهانيءِ
يغسل وجهاً أتعبه عبثٌ ليلي 
في غرفة نوم ورديةْ
يحلق ، يأخذ حماماً ، ، يصفُرُ أغنيّةْ
يغلى ماء القهوة ، ويجهز إفطارَ الأولادِ . . .
       ===============
في المطبخِ ، إلياهو في عجلٍ 
يتصفح أوراق الصحف العبريةْ
يصحو باقي أفرادِ الأسرةِ
بعد الإفطار وقبلات وداعِ للأحبابْ
يلبس زياً خاكياً ، يتناول خوذته ، يتأبط رشاشاً
وتودعه الأسرة حتى البابْ
==============
المشهد الثاني:

يتسلق برجَ الدبابةِ ، يتمَوْضَعُ خلف الرشاشِ
أطفالٌ في الجهة الأخرى في الحارةْ
يرمون حجارة سجيل بغزارةْ
يأتي الأمر بإطلاق النيران 
على كل الأشياءِ
بلا استثناءْ
يرمي أول طلقةْ  
تتبعه باقي الفرقةْ
كل منهم يقتل طفلاً
وبكل برود: باليسرى يأخذ إلياهو قطعة بيتزا،، رشفة بيبسي 
 باليمنى يضغطُ
يسقط طفل آخرُ
يهرب باقي الأطفالِ
يجرون بعيداً بين الأطلالِ
إلاّ طفلاً ما زال يسد طريق الدبابةِ
تمتم بالعبرية في حقد بريٍّ،،، يخلو من حس إنساني 
"هذا الطفل الأرعن يستهزيء بي ، يتحداني" 
خذها،،، باليمنى يضغط إلياهو، 
يضغط ، يضغط ، وبلا جدوى ،،،
عطلٌ ما يمنع تفجير الطلقةِ
والطفل يراقب ما يجري ،،، 
ما زال يلوِّحُ بالقبضةِ
فيحاول إلياهو ثانيةً 
ما زال العطل يعاند تفجير العبوةِ
والطفلُ يراقبُ، يرفض أن يرمي هذا المتوترَ بالحجرِ
يأبى الطفل الرائع إلّا أن يتصرف برجولةْ
يضطرب الجنديُّ وينزل جوف الدبابةِ
ويعيد محاولة الإطلاقْ 
يفشلُ ،،، والطفل يمَلُّ الوقفةَ ، ، 
يعتبر نزول الجندي استسلاماً
وهروباً من حجر يحمل أحلاماً
ونهاية كابوس يقطر آلاماً
يفرح ، يضحك في الأعماقْ
ويعود وباقي الأطفالِ 
في نشوة نصرٍ 
تحمله فوق الأعناقْ
==============
المشهد الثالث:

ما زال الجندي يحاولُ إصلاح العطبِ ، 
ويحاولُ ،،، يفشلُ ،،، يفشلْ ،،، 
ويحاولُ ،،، يفشل يفشل،،، يتصبب عرقاً ،،، 
وأخيراً،،، إلياهو ينجحُ ،،، 
يفرحُ
يتطاول فوق البرجِ ، 
فيرى الطفلَ يعود إلى اللعبِ
وبكل برودٍ: باليسرى يأخذ إلياهو قطعة بيتزا 
رشفة بيبسي ، ، ، 
ومن القهرِ
باليمنى يضغط ، ، ، فيصيب الطفلَ الرجلَ 
بعشر رصاصات في الظهرِ
وبلا أدنى خجلٍ
وبكل برودٍ إلياهو باليسرى يأخذ بيتزا  
باليمنى يضغط، يسقط طفلٌ آخرُ
باليسرى يأخذ رشفة بيبسي  
باليمنى يضغط ، يضغط ، يسقط طفلٌ آخرُ، 
يضغط، يضغط، يسقط أطفالٌ أمثالهْ
باليسرى يأخذ إلياهو قطعة بيتزا،،، رشفة بيبسي  
الآن،،، وعند غروب الشمس
إلياهو ينظر في الساعةِ
ها قد أنهى يوماً آخر 
جذِلاً ،،، مملوءاً بالمتعةِ  
وبلا أدنى إحساسِ،،، 
يعمل كالآلةْ 
يقتل أولاد الناسِ 
يأكل بيتزا، يشرب بيبسي 
ويعود إلى البيت مساءً ، إلياهو إنسانٌ آخرُ ، ، ، 
فرِحاً كي يحضن أطفالهْ