Thursday, June 14, 2012

مصر وصنمها: التوأم السيامي



    منذ عهد آمون قبل أربعة آلاف سنة، لم يعرف المصريون إلهاً وضعياً يُعبدُ سوى توأم سيامي واحد ذو رأسين: القوات المسلحة، والقضاء، ويبدو أن هذه العقيدة التي وقرت في ضمائر المصريين مردها إلى وضع مصر المعزول  – خاصة قبل ظهور وسائل المواصلات الحديثة – عن محيطها الجغرافي، ونظام الحكم المستبد، فقدسية القوات المسلحة تأتي من حاجة الشعب إليها للدفاع عنه ضد الغزاة الخارجيين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن قدسية القضاء قد نبعت عن حاجة دفينة للحصول على العدل، أياً كان حجمه، في ظل حكم الفرعون الذي كان يملك ويحكم ويتحكم.
    وربما كشف قيام ثورة 25 يناير 2011 شدة تعلق المصريين بهاتين الأيقونتين: القوات المسلحة والقضاء، متجاهلين أن طول مدة الحكم الديكتاتوري أو ما يشبهه، والتي عرفتها مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952، قد حولت تلكما القوتين إلى قوى مسيسة، مخالفة بذلك طبيعتها التي تفترض فيها الحياد، وتكريس الجهد من أجل القيام بواجباتها الطبيعية: الدفاع عن الوطن، والسهر على سيادة العدالة.
     والمتفحص لمكانة القوات المسلحة في الضمير المصري، يدرك أن انعدام الطائفية في هذا المجتمع - الذي لا ينقسم ظاهرياً إلا إلى أقباط ومسلمين - قد أدت إلى اصطباغ الجيش المصري بصبغة وطنية واحدة، لا ألوان فيها ولا عصبيات، فاكتسب سمعته الراقية على مدى عقود طويلة من السنين، إذ لم يعرف عن الجيش المصري أن تلوثت أيدي جنوده بدماء أبناء شعبه، وحتى الثورة المعاصرة لهذا الجيش في 23 يوليو 1952 كانت بيضاء ناصعة، لم تسفك فيها الدماء، ولم تتعصب فرق منها للملكية كي تصطدم مع القوى المؤيدة للجمهورية، وأقيم وداع رسمي للملك فاروق في الاسكندرية بعد أربعة أيام من قيام الثورة، وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة وداع، ولف العلم المصري وقدم للملك، الذي سافر على ظهر يخته (المحروسة) إلى إيطاليا بعد أن سمح له باصطحاب أمتعته وعائلته. وفيما بعد، بعد أن استقرت ثورة 23 يوليو، شهدت شوارع المدن المصرية بضعة مظاهرات معادية للنظام الجديد، لكن لم يعرف عن الجيش المصري أنه تدخل ولو لمرة واحدة لقمع المتظاهرين. هذا السلوك الحضاري للجيش المصري، والناتج أصلاً عن عدم تلون وحداته بأي لون طائفي، عزز من مكانته في قلوب المصريين، لكن يبدو أن فترة حكم السادات ومبارك، والتي امتدت إلى أكثر من أربعين عاماً، قد ساهمت، بعيداً عن أعين الشعب، في إضعاف وطنية قيادة الجيش المصري، فالسلم الذي فُرِض على مصر في اتفاقية كامب ديفيد، وربط تسلحها بالولايات المتحدة الأمريكية، قد ساهم في نشوء برجوازية عسكرية داخل القوات المسلحة، تمثلت في تداخل العسكري بالاقتصادي، وفي مجتمع يسود الفقر أكثر من نصف سكانه، فقد وجد أصحاب المصلحة في ضرب بنية الجيش المصري - عماد قوة مصر - نفوساً مريضة ضعيفة بين صفوف كبار الضباط، فتم اكتساب ولائهم بحجم المنح التي حصلوا عليها من رواتب وحوافز وعقارات وامتيازات جعلت منهم طبقة منتفعة لا تختلف عن باقي الطفيليات التي نمت على حواف النظام السياسي المصري المتكلس، وما الابتعاثات العسكرية لكبار الضباط إلى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، سوى واحدة من الوسائل الخبيثة التي هدفت إلى خلخلة كيان الجيش، واستلاب إرادته الحرة التي عرفت عنه عبر عقود طويلة من السنين (كان الفريق سامي عنان رئيس الأركان الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قامت ثورة 25 يناير وإلى ما بعد تنازل مبارك عن الحكم، حيث حضر يوم 27 يناير الجلسة السنوية للجنة التعاون العسكري مع الولايات المتحدة التي يرأسها عنان عن الجانب المصري، وساندي فرشبو مساعد وزير الدفاع عن الجانب الأمريكي). والمتابع لتصرفات المجلس العسكري المصري منذ قيام ثورة 25 يناير يدرك حجم سيطرة هذا المجلس على الحياة السياسية المصرية، وإصراره على بقاء مصر في موقع وسط بين الثورة والنظام السابق، فكان أن دعم العسكريون ترشيح (أحمد شفيق)، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك إلى رئاسة الجمهورية، مع ما يحمله هذا الدعم من شبهة تشبث العسكر بلون النظام السابق، وبعد التذرع بحجة أن شفيق هو واحد من ضباط حرب العبور. ولكن في حينه، كان على القوى الثورية الصاعدة أن تنبه الشعب إلى أن (بطل العبور) كان قد سلم مصر للأمريكان والإسرائيليين، وأن (صاحب الضربة الجوية الأولى ) أصبح كنزاً استراتيجياً لإسرائيل، وأنه من غير المنطق أن يحق لأي ضابط قاتل في حرب أكتوبر أن يكون رئيساً للجمهورية. والمتتبع لسياسات المجلس العسكري يدرك تماماً أنه قام بانقلاب ناعم على مراحل، ساهم في تواليها سذاجة معظم القوى السياسية التي شاركت في الثورة ضد نظام مبارك، تلك القوى التي كان عليها الانسحاب من السباق الرئاسي بمجرد السماح لأحمد شفيق بالترشح لانتخابات الرئاسة، ذلك الانسحاب الذي كان – لو تم – سيسحب الشرعية عن شفيق حتى قبل أن تبدأ الانتخابات، وبعدم انسحابها هذا فقد ساهمت القوى السياسية المؤيدة للثورة في نجاح المجلس العسكري بإيصال مرشحه أحمد شفيق إلى الجولة النهائية، وباحتمال فوزه على مرشح الإخوان محمد مرسي.
    أما القضاء المصري، فيتهيب المصريون، كل المصريين، من المساس بسمعته، ربما خوفاً على أنفسهم من أن يفقدوا ملاذهم الأخير، بعد أن فقدوا ملاذهم الأول: القوات المسلحة، لكن هذا القضاء، والذي يعود تعيين قضاته – بامتيازاتهم - إلى زمني السادات ومبارك، لا يمكن الجزم بنزاهته وتوخيه العدالة، ذلك أن معظم الأحكام القضائية التي صدرت عنه منذ قيام الثورة توحي بالشك في نزاهته، ومن ذلك تبرئة كبار الضباط الأمنيين المسؤولين عن قتل متظاهري الثورة، والأحكام المخففة على بعض مسؤولي النظام السابق، بل وتبرئة جمال مبارك، الذي ساهم مع والده بإفساد الحياة السياسية المصرية، وعلاء مبارك الذي لا شك أنه استخدم اسم والده في الإثراء على حساب الشعب الفقير، أما أحكام القضاء ببطلان قانون العزل السياسي وبشرعية ترشح أحمد شفيق للانتخابات الرئاسية، فهي أمور تقلب الشكوك إلى حقائق حول نزاهة القضاء المصري، وهل من دليل أكبر على ذلك من تعيين المجلس العسكري للقاضي (البحيري) رئيساً للمحكمة الدستورية العليا اعتباراً من حزيران/ يونيو الجاري، كما أن الحكم القضائي المفاجيء ببطلان شرعية ثلث مجلس الشعب، مهزلة تضاف إلى مجموعة المهازل التي اقترفها القضاء المصري، وبالتالي فإن أداء القسم من الرئيس المنتخب المقبل (مرسي أم شفيق) أمام المجلس العسكري، وليس البرلمان، هي كوميديا سوداء بائسة تتصدر المشهد المصري هذه الأيام. إنها لمهزلة وأية مهزلة أن يحاكم مجرمون من عهد كنسته الثورة بدماء أبنائها، بقضاة وقوانين تعود إلى نفس عهد أولئك المجرمين.
    ما لم  يقطع المصريون رأس صنمهم، التوأم السيامي ذي الرأسين العسكري والقضائي، فلا يمكن لا لثورة 25 يناير، ولا لغيرها من الثورات، أن تنجح في مصر، أرض الكنانة.

  

No comments: