Tuesday, June 19, 2012

باجس أبو عطوان: نجم في سماء فلسطين



وصفوهم بأنهم أشرف الناس، وقالوا عنهم بأنهم مصابيح الدجى ونباريس الكفاح، وقالوا فيهم الكثير والكثير غير ذلك، غير أنهم بالتأكيد لم يوفوهم حقهم من التبجيل والتكريم. نعم، هم الشهداء، أولئك الأشراف الذين ضحوا بأغلى ما لديهم وهي النفس*، فبذلوها رخيصة وهم يعلمون أنها لن تكون الأخيرة التي سوف تبذل في سبيل هدف مقدس هو تحرير الأرض التي نبتوا منها، وعليها درجوا وعاشوا، إن لم يكونوا هم، فآباؤهم وأجدادهم،،، قضوا ولسان حالهم يقول:
        تقضي الشهامة أن نمد جسومنا        جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا
    ولو تتبعنا مصدر الكلمة وتميزها، لوجدناها مشتقة من الفعل (شَهِدَ)، واسم فاعلها (شاهد) ، فلماذا لم يطلق على من ضحى في سبيل تحقيق هدف مقدس لديه اسم (شاهد)؟. يبدو أن لاسم الفاعل هذا وزناً آخر يجعله مطلقاً مؤكداً وهو وزن (فعيل)، حيث أن بعض صفات الله تعالى الحسنى تأتي على هذا الوزن (السميع – من السامع - ، القدير – من القادر، النصير – من الناصر، الحفيظ – من الحافظ، الحكيم – من الحاكم، وليس الحكمة)، وعلة ذلك إطلاق اسم الفاعل إلى أقصى معانيه. فالشهيد هنا هو من شاهد الحق بأجلى صوره ببصيرته، فبذل في سبيله أعز ما يملك وهي نفسه، فالرؤية هنا مطلقة، كما التضحية مطلقة، ولذا كان له عند ربه ثواب وأي ثواب (والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم - {الحديد – 19} )، وفي حالة الإفراد تتمايز كلمتا (الشاهد) و (الشهيد) عن بعضهما، ففي سورة يوسف ( وشهد شاهد من أهلها – 26 -)، غير أنهما تتطابقان في حالة الجمع، فيقال (شهداء) ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا – البقرة 282) هذا في الحياة الدنيا، أما يوم القيامة    (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا – النساء 69 -)، أما خارج النص المقدس فيطلق عليهم (شهود) كما في المحاكم وغيرها.
    ربما كانت هذه المقدمة ضرورية للوصول إلى صلب موضوع هذه المقالة وهو حلول الذكرى الثامنة والثلاثين لاستشهاد بطل من أبطال فلسطين، وريحانة من رياحينها، ونجم من نجوم  سمائها، وهو الشهيد (باجس أبو عطوان) الذي تصادف ذكرى استشهاده يوم 18 يونيو/ حزيران، وربما كان هذا الشهيد واحداً من ألمع الأسماء التي قدمتها مدينة الخليل المناضلة عبر تاريخها الجهادي العظيم الذي بدأ مع بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، ولم يتوقف حتى هذا اليوم، فالأمم العظيمة هي التي تكرم شهداءها، وتحيي ذكراهم، وتستذكر مآثرهم وتضحياتهم، متيقنة من أنهم الجسور التي امتدت أمامهم على طريق استعادة الأرض والكرامة، واليوم، في الذكرى الثامنة والثلاثين لاستشهاده، يزيح باجس أبو عطوان غيوم التخاذل والهوان التي غطت سماء الوطن، يزيحها لكي يرى الناس وجهه الذي مضى على غيابه عن دنيانا ثمانية وثلاثون عاماً عادت خلالها القضية الفلسطينية عقوداً إلى الوراء، يعود وجهه الآن لكي يذكِّر الناس بالآية الكريمة التي تقرر: ( ولا تقولوا لمن يقتلُ في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء ولكن لا تشعرون – البقرة 154-) وبما أنهم أحياء عند الله فهم أحياء عندنا. وسيرة باجس أبو عطوان واحدة من آلاف السير التي يجب علينا وعلى الأجيال القادمة تذكرها صباح مساء لاستلهام معاني البذل والفداء، فقد ولد الشهيد عام 1950، عامين بعد عام النكبة، واستقر مع أسرته في بلدة دورا بالقرب من الخليل، وتلقى تعليمه في ثانويتها، غير أنه لم يكمل دراسته فيها لاضطراره إلى العمل مع والده في مقهى البلدة، المقهى الذي أصبح ملتقى الشبان المتحمسين للعمل الفدائي ضد قوات الاحتلال بعد حرب 1967. وقد نشط باجس مع رفاقه في التصدي لدوريات الاحتلال، وسببوا لها إزعاجاً وإشكالات أمنية كبيرة، غير أن العدو لم يستطع الإيقاع بهم سوى عن طريق العملاء - أولئك الذين هم أحقر من دود الأرض، والذين تحفل بهم كافة شعوب الدنيا، فهم قاذوراتها، ومكبات نفاياتها - وقد نجى باجس من المحاولة الأولى للإيقاع به، فجرح واختبأ في تجويف صخري، ولكي يحجب نفسه عن عيون جنود الاحتلال التي بدأت بتفتيش المنطقة بحثاً عنه، غطى نفسه بصخرة كبيرة منعت الجنود من العثور عليه، وأحسب أنه بعد تلك الحادثة اتخذ من (أبو شنار) لقباً له، فأبو شنار هو طائر الحجل، ومن المعروف عن طائر الحجل هذا أنه، وعندما يفاجأ بالصيادين يحيطون به من كل جانب، يمسك بقائمتيه حجراً، ثم ينقلب على ظهره لكي يحجب جسمه عن أعين الصيادين، وهذا ما قام به باجس، إذ أن ما فعله بتغطية جسده بصخرة كبيرة، بعد أن حشر نفسه في شق من الأرض، هو الذي حال بينه وبين أن يعثر عليه جنود الاحتلال.
في المحاولة الثانية لاغتياله، وبعد أن عجزوا عن هزيمته في أرض المعركة، أرسل له الإسرائيليون، مع عميل حقير آخر، صندوق ذخيرة ملغّم، انفجر به أثناء فتحه داخل مخبئه يوم    18-6-1974 ، فنزف حتى الموت عن أربعة وعشرين سنة، لكن الملاحظ على المخبأ الذي اتخذه باجس مكمناً له مع رفاقه أنه كان يشبه إلى حد بعيد ما كان الفييتناميون يقومون به من حيث الاختباء في حفر عميقة، فبعد الانفجار، لم يجرؤ جنود الاحتلال على الوصول إليه لإخراج جسده الطاهر، حيث كان عليهم الزحف على بطونهم مسافة عشرين متراً داخل المغارة، ثم النزول عدة درجات، وبعدها الوصول إلى مغائر محفورة في الجبل، كانت قاعدة اختباءٍ لباجس ورفاقه، لذا أرسلوا بعضاً من أقاربه لإخراج جثمانه.

في الختام: لا ندعو للشهداء بالرحمة، فهم أحياء عند ربهم يرزقون، بل نرجوهم أن يدعوا هم لنا بالرحمة في زمن تخاذل فيه المتخاذلون، وطبَّع فيه المطبعون، واستسلم فيه المستسلمون، لكننا نحن، الشعب صاحب الحق الأزلي، سنبقى نحيي ذكرى أولئك الذين ضحوا بأنفسهم من أجل أن نحيا بكرامة بعد استعادة حقنا الضائع.          
*- درجنا على استخدام كلمة (الروح) كناية عن النفس، فالنفس هي التي تصعد إلى بارئها عند الموت، كما في سورة الزمر: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها – 42)، وفي سورة الفجر:(يا أيتها النفس المطمئنة -27- ارجعي إلى ربك راضية مرضية-28-)، وفي سورة آل عمران:(وماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً – 145 -).
أما الروح، فهي من أمر الله: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً – الإسراء 85)، وتشير الآيتان 193 و 194 من سورة الشعراء إلى أنها أيضاً جبريل عليه السلام:    ( نزل به الروح الأمين-193- على قلبك لتكون من المنذرين-194).
كما يطلق لفظ الروح في النص المقدس على النفحة الأولى التي تعطي الحياة لمخلوق من العدم، ففي قصة خلق آدم، يقول الله تعالى في الآيتين 28 و 29 من سورة الحجر:( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإٍ مسنون-28- فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين-29-) ونفس الآية 29 تكررت في سورة (ص) برقم 72.
وبما أن خلق عيسى عليه السلام كان كخلق آدم:( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون – آل عمران 59-)، فإن الآية 12 من سورة التحريم جاءت لتبين أن خلق عيسى عليه السلام كان أيضاً بنفحة من روح الله: ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين).  

No comments: