Wednesday, June 13, 2012

الأسبوع ستة أيام


الأسبوع ستة أيام
    لم تكن جلسة موفقة على شرفة المقهى المطلة على جدول رقراق، فبعد محاولات يائسة لكتابة شيء ذي قيمة، أغلقت دفتري، وأعدت غطاء قلمي إلى مكانه اعترافاً مني بفشلي في إنجاز موضوع جدير بالقراءة،،، في هذه اللحظات، وكما في مرات سابقة، اندفع إلي بجسده المترهل هاشاً باشاً كعادته حين يقبض على فكرة يريد إطلاعي عليها.
    ضخم الجسم، لطيف المعشر، تلقائي التصرف، لا تفارق الضحكة وجهه إلا أثناء النوم، جمعتني به صداقة قديمة تعود إلى أيام الدراسة الإعدادية، ورغم أن السبل تفرقت بنا، فانهمك هو في إدارة محل البقالة الذي يملكه والده، والذي - بسبب خشيته من غياب ابنه عن العمل في البقالة - كان يدفع له أجرته على أساس يومي، أما أنا فقد انصرفت وباقي الأصدقاء إلى استكمال الدراسة الجامعية، ورغم ذلك فقد استمرت الصداقة تربطنا بحكم إقامتنا في نفس الحي. لم يزد تحصيله الدراسي على مستوى الثاني الثانوي، غير أنه، ولصداقته مع مجموعتنا المثقفة التي أنهت دراستها الجامعية، فقد كان يحاول سد الثغرة الثقافية والنفسية التي تفصل بينه وبيننا، وذلك عن طريق قراءة كل ما تصل إليه يداه من كتب ومقالات، وبصورة عشوائية لا يحكمها ضابط ولا يضبطها رابط، وكانت من بين اهتماماته، إلى جانب قراءاته العامة، مطالعة كتب الفلسفة والمنطق، بحيث دفعه ذلك مع الأيام إلى ادعاء التوصل إلى نظريات لم يتوصل إليها عتاولة الفكر والفلسفة من سقراط إلى جان بول سارتر، وكان كلما توصل إلى فكرة يعتقد أنها عبقرية نادرة، يفاجئني - سواء في البيت أو المقهى أو الطريق - بجسده المترهل، يلقيه عليَّ بعنف، ويعانقني بحرارة، ثم يبدأ في شرح ما توصل إليه بطريقة متدفقة لا تسمح لسامعه بالتعليق أو بالتصحيح. أحياناً كان يثير الإعجاب ببعض تعليقاته وأفكاره الطريفة، من ذلك قوله أن البشرية لم تشهد في تاريخها تصرفاً أغبى من أن تصب مياه شط العرب العذبة القادمة من العراق في مياه الخليج، ثم يقوم الناس في الجنوب بدفع مليارات الدولارات لتحويل المياه المالحة إلى عذبة، ومن ذلك أيضاً أن سكان العالم الثالث يعيشون أعماراً أطول بكثير من أعمار سكان العالمين الأول والثاني، ولما سئل: كيف؟، شرح ذلك بقوله بأن يوم الجائع أطول بكثير من يوم الشبعان، وأسبوع العليل أطول بكثير من أسبوع السليم، وسنة السجين أطول بكثير من سنة الحر، وبما أن معظم سكان العالم الثالث جوعى ومرضى ومساجين، فإن إحساسهم بأعمارهم أطول بكثير من إحساس أهل العالمين الآخرين. كان الإعجاب الذي تثيره مثل تلك الأفكار الطريفة تدفعه إلى اختراع المزيد منها، لكن من البديهي أنه لم يكن موفقاً في جميع تجلياته الفكرية تلك
    الآن، وأنا جالس في المقهى يائساً من كتابة موضوع مفيد، ولإحساسي بإرهاق خفيف، لم يكن لدي الاستعداد الكافي لمماحكته والرد عليه، فقررت التحول إلى كتلة من الآذان الصاغية، فلما أحس باستسلامي اعتقاداً منه بتصديقي لما سوف يقوله من قبل أن ينطق به، تدفق قائلاً: {"هل تعلم أن في الأسبوع ستة أيام فقط، وليست سبعة؟"}، هنا شعرت بالاستفزاز فتجهمت، وقبل أن أنطق بحرف واحد، وضع كفيه على صدري مهدئاً، دافعاً بي إلى الخلف، قائلاً بتوسل: {" أرجوك، لا تنفجر بي كالعادة، واسمعني إلى الآخر"}. هنا قررت أن أتظاهر بأنني أسمعه، بينما يجب عليَّ في الواقع أن أتجاهله تماماً، لكي أحلق في التفكير بموضوع جديد يجب أن أبدأ بكتابته في أسرع وقت ممكن، لكن الخبيث ما لبث أن استعاد اهتمامي وانتباهي عندما قال:{" اليوم الذي نحن فيه الآن يا صديقي هو مِلكنا وليس له رقم، عَلِمنا فيه ما لنا وما علينا، إنما الأرقام تُعطى إلى ما سيأتي بعده من أيام ستة قادمة مجهولة المحتوى، فيومنا هذا قد قبضنا عليه وعشناه، وربما نحن في آخر ساعاته، أما أسبوعنا الذي لم نحياه بعد فهو ستة أيام وليست سبعة كما يتخيل العامة"}، وعندما نطق كلمة (العامة) شدد عليها كأنما يُخرج نفسه من فئتها، لكي يصنف شخصه على أنه واحدٌ من (الخاصة). يتابع:{" ألم تسمع قول الله تعالى في سورة السجدة (اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ)؟، نفس هذه الآية تكررت في سور: هود والفرقان و"ق" والحديد ويونس والأعراف،،، هل تعلم موضعاً في القرآن الكريم ذكر الله فيه كلمتي (سبعة أيام)؟ أبداً، لا يوجد، إذ لم يذكر عدد سبعة في القرآن الكريم سوى في سبع بقرات وسبع سنبلات وسبع سنين وسبع سنابل وسبع سماوات، وفي غيرها من المواضيع، أما الأيام فلم يرد عدد سبعة مرافقاً لها على الإطلاق. إذن الأيام الستة التي خلق فيها الله تعالى السماوات والأرض هي أيام الأسبوع الستة، أما الاستواء على العرش، فهو شأن إلهي لا يحتاج إلى زمن كي نعتبره يوماً سابعاً، أليس كذلك"}، هنا استدرك كأنما تذكر دليلاً قوياً يدعم فكرته:{"وفي سورة البقرة، عندما فرض الله تعالى على المتمتع بالحج والعمرة أن يقدم أضحية، قال:" فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ"،،، أرأيت كيف أن التعريف الإلهي للأسبوع على أنه سبعة أيام لم يرد هنا، حيث كان يمكن للآية أن تقرأ " ثلاثة أيام في الحج وأسبوعاً إذا رجعتم"، لكنه قال" سبعة "، هل اقتنعت الآن؟}.
     أثناء انهماكه في شرح فكرته هذه، كنت أفكر في هذا الرجل: ماذا كان سوف ينجز في حياته الفكرية لو أن والده لم يكن يملك محل بقالة؟، وهل كان استكماله الدراسة العليا سوف يسمح له بإنجازات فكرية عبقرية؟، وهل يجب عليَّ في المستقبل أن أُحسن الإصغاء إليه أكثر مما اعتدت فعله في الماضي؟. في الواقع شدت انتباهي هذه الفكرة، غير أنني لم أجدها جديرة بأن تكون محور قصة قصيرة لافتقارها إلى خاتمة منطقية مقنعة، لولا أن جاءني صاحبي في اليوم التالي شاكياً لي والده، قائلاً:{" هل تعلم ماذا كلفتني نظريتي المتعلقة بأيام الأسبوع الستة؟"}، قلت:" وكيف لي أن أعلم إن لم تخبرني"، قال: {" والدي، وبعد أن أقنعته بصعوبةٍ أن في الأسبوع ستة أيام فقط، دفع لي عن الأربعة الأسابيع الماضية التي اشتغلتها عنده أجرة أربعة وعشرين يوماً بدلاً عن ثمانية وعشرين"}. عندها لم أتمالك نفسي من القهقهة بصوت عالٍ، وأمسكت القلم، وبدأت كتابة قصته الطريفة، تلك التي أنهيها الآن.     

No comments: