Wednesday, October 24, 2012

فلسطين التي أخشى أن تتحرر الآن


إذا كان أدب الخيال العلمي فن في الكتابة معترف به وله قراؤه، وبمرور الزمن، وبتحقق ما جاء فيه، أو بعضاً منه، أثبت أنه كتابة عن واقع سبق عصره، فلماذا لا يكون لأدب الخيال السياسي من يعترف به ويقرؤه، يصنف الآن على أنه خيال سياسي، لكن الأيام يمكن أن تثبت صدق نبوءته. المقال التالي نوع من الخيال السياسي، ذاك الذي نرجو ألا يتحقق).

{{ أضاع العرب فلسطين عام 48، ثم لما تنبهوا إلى هذا الخطأ الغير المقصود! قرروا استعادتها وتحريرها من أيدي اليهود، أولئك العرب الذين ارتبط زعماؤهم – قبل قيام إسرائيل – بعلاقات صداقة ومودة مع القادة الصهاينة قبل وبعد طرد المحتلين الأتراك!(مراسلات الحسين-

مكماهون، واتفاق فيصل- وايزمن 1919، وعلاقات وايزمن نفسه بالقيادات العربية قبل قيام إسرائيل). بعد عام النكبة بدأنا نحتاج إلى تناول أطنان من أقراص الأسبرين ومهدئات الصداع لكثرة ما جعجع العرب وهددوا بإلقاء إسرائيل في البحر. أيامها كنا صغاراً، وكانت معلوماتنا الجغرافية تنتمي إلى عصر فكرة أن الأرض ليست كروية، فاعتقدنا أن حنث العرب بأيمانهم التي أقسموها لتحرير فلسطين إنما يعود: إما لأن فلسطين تقع في أقصى أقاصي الأرض، أي على حافتها المنبسطة، أو ربما لأنها تقع على سطح كوكب خارج المجموعة الشمسية.

بعد أن عرفنا أن الأرض كروية وأن فلسطين موجودة على سطحها، لم نجرؤ على إظهار تبرمنا من كذب حكامنا، فأيامها لم يكن ليخطر ببالنا أن الحاكم، والذي هو أكبر رأس في البلد، يمكن أن يكذب. قلنا: ربما يكون بعد الشقة، ووجود جبال ووديان وموانع طبيعية، هو الذي يمنع حكامنا الأفاضل من إمكانية الوصول إلى حدودها لكي يبرّوا بأيمانهم }}.

دارت جميع هذه الأفكار والتخيلات في رأسي بينما كانت سيارة الأجرة التي استقليتها من مطار الملكة علياء في عمان، تتهادى هابطة الطريق المؤدية إلى غور الأردن، وسائقها يشعل سيجارة من سابقتها، مدندناً بأغانٍ بدوية جميلة. عندما انتبهت إلى اللحظة التي أنا فيها، شاهدت عن بعد أضواء مدينة تتلألأ، فسألت السائق عن اسم المدينة الأردنية التي أرى أضواءها وأنا أشير باتجاهها. نفث السائق دخان سيجارته مطلقاً ضحكة قطعت صمتاً تواصل لأكثر من نصف ساعة.

- هذ أضواء مدينة القدس يا عزيزي.

لم أصدق ما قاله السائق، واعتقدت أنه يأتي إلى هذه المنطقة لأول مرة في حياته. ألا يمكن أن يكون هذا السائق ممازحاً عندما قال أن هذه الأضواء هي أضواء مدينة القدس؟ وهل يعقل أن تكون القدس قريبة إلى هذا الحد، يا إلهي: إنها تكاد تلامس القلب،،، كررت السؤال عليه، فانتفض معاتباً:” وهل أخبرك أحد أنني كذاب يا رجل؟”. اعتذرت بشدة، مبرراً ذلك بجهلي بجغرافية المكان، وأنني أزور فلسطين لأول مرة منذ غادرتها عام48، ثم عدت إلى أفكاري:

{{ إذن هذه هي فلسطين التي كنا نعتقد أنها في كوكب آخر،،، هذه هي فلسطين التي من أجلها ضحك علينا قادة كذابون وعدونا بتحريرها منذ أكثر من ستين عاماً،،، ستون عاماً لم يستطع هؤلاء الأشاوس! السير بجيوشهم الجرارة ولو كيلومتراً واحداً إلى الأمام. إذن فقد كذبوا علينا والقدس على مرمى حجر، فهل كنا أغبياء فصدقناهم؟ أم كنا نعرف أنهم كاذبون، فخشينا غضبتهم إن نحن كشفناهم؟ فها هي ذي القدس أمامك، تلامس القلب على مرمى حجر}}.

ولأن الطريق هابطة متعرجة، فالسائق يتمهل في سيره، وأعود لأغرق في أفكاري: ماذا لو برَّ العرب بأيمانهم المغلظة، فتقدموا لتحرير فلسطين ” الآن الآن وليس غداً؟ ”.

- {{ سوف يجتاح الجيش السوري الباسل مرتفعات الجولان، ثم سينحدر إلى الجليل الأعلى وسهل الحولة وبحيرة طبريا، كما ستصعد مدرعاته، مدعومة بالطوافات الحربية، مرتفعات الجليل لكي تسيطر على مدينة صفد، تلك التي كانت – أثناء ترسيم الحدود بين مناطق النفوذ البريطاني والنفوذ الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى – تقع داخل الحدود السورية، ثم، ولأنها واحدة من المدن الأربعة المقدسة عندهم إلى جانب الثلاث: طبريا، القدس، الخليل، فقد استطاع الصهاينة، وبجرة قلم رصاص، تحريك خط الحدود الفاصل بين فلسطين وسوريا لكي تدخل صفد في الأراضي الفلسطينية. في الجنوب من بحيرة طبريا سوف تجتاح القوات السورية مدينة بيسان لكي تقترب من طولكرم، وتتوقف شمال حدود الضفة الغربية، وحتى تضمن حماية هذه المناطق التي احتلتها، سوف تتقدم باتجاه الناصرة وحيفا لكي ترابط هناك لدحر أي هجوم يجليها عن تلك المناطق }}.

- {{ في الجنوب: سوف تتقدم القوات المصرية الباسلة لكي تجتاح الجبهة من قطاع غزة غرباً إلى ميناء أم الرشراش شرقاً، متقدمة شمالاً حتى تصل في الغرب إلى شمال أسدود، وفي الشرق إلى جنوب الخليل، وسترابط جنوب حدود الضفة الغربية }}.

- {{ القوات المتقدمة من لبنان سوف تحتل مستعمرة نهاريا، وتتقدم مسرعة جنوباً لكي تصل إلى حيفا، ومنها شرقاً لكي تسترد سهل مرج بن عامر (الذي باعه آل سرسق لليهود على مائدة قمار في باريس أوائل القرن العشرين)، فتجد بأن السوريين قد سبقوهم إليهما، وبما أنه لاقدرة للجيش اللبناني على مواجهة الجيش السوري، فسيقنع اللبنانيون بما حصلوا عليه من مزارع الحمضيات في المنطقة الممتدة من رأس الناقورة إلى جنوب عكا بقليل، وهناك تثبت الحدود بين الجانبين }}.

- {{ في الشرق: القوات الأردنية سوف تتقدم غرباً باتجاه القدس لكي تحتلها بسرعة، منتشرة إلى الشمال حتى تصل إلى حدود الضفة الغربية حيث يرابط السوريون، وإلى الخليل جنوباً لكي تمنع المصريين من التقدم عبر الحدود الجنوبية للضفة الغربية، ثم تتقدم غرباً باتجاه ساحل البحر المتوسط محتلة المنطقة الممتدة بين جنوب حيفا شمالاً إلى شمال أسدود جنوباً، لكي تقف في مواجهة الجيش السوري في الشمال والجيش المصري في الجنوب }}.

بعد هذا التحرير المجيد لفلسطين، وطرد ما تبقى فيها من اليهود على سفن أوربية وأمريكية لكي يعودوا إلى الأوطان التي جاء منها آباؤهم وأجدادهم، بعد ذلك بأسابيع قليلة سوف تنشب معارك طاحنة بين هذه الدول الأربع للحفاظ على ما احتلته كل منها من أرض فلسطين كمرحلة أولى، لكي تتقدم في المرحلة الثانية من أجل بسط سيطرتها على كامل التراب الفلسطيني.

كنا قد أصبحنا على بعد أمتار قليلة من نقطة الحدود عندما أطلق السائق نوبات طويلة من السعال، فتنبهت من تخيلاتي المرعبة،،، قررت كبح رغبتي الجامحة في عبور الحدود إلى القدس، وطلبت من السائق أن يعود بي من حيث أتيت، راجياً الله ألا يحقق للعرب حلمهم بأن يرووا تراب فلسطين بدمائهم الزكية!.

بعد أن استيقظت من نومي فزعاً، وزال عن قلبي كابوس تحرير فلسطين، عاهدت نفسي ألا أتناول عشاء دسماً قبل الذهاب إلى الفراش.


Sunday, October 21, 2012

بائع البطيخ: محمد مرسي


    بحلول فصل الصيف من كل عام، اعتدنا أن نرى كميات من البطيخ تنزل إلى الأسواق، منها ما هو محمول على عربات، ومنها ما هو مكوم على زوايا الشوارع، ينادي باعتها بأصواتهم العالية: ”عالمكسر يا بطيخ”. هذا النوع من الباعة، الذين يبيعون البطيخ مضموناً في اللون والطعم، كان الناس يقبلون عليهم للشراء أكثر من أولئك الذين يرفضون البيع (عالمكسر)، وكانت لحظات شق البطيخة بالسكين لحظات توتر وقلق يشعر بها البائع أمام زبونه، خاصة إن كان الزبون ضخم الجثة، مفتول العضلات، إذ أن أي شك حول اللون، والذي ينبغي أن يكون أحمر قانياً، يعني خسارة البائع تلك البطيخة، زد على ذلك أن الزبون القوي لا يكتفي باللون الأحمر فقط، بل غالباً ما يطلب أن يتذوق الطعم، وبعدها – واستناداً إلى قوته الجسدية طبعاً- له الحق في دفع ثمنها وأخذها إن رضي بها، أو رميها في وجه البائع، حتى واتهامه بالغش، وكانت الحالة الثانية تعني – علاوة على خسارة البطيخة – انفضاض الزبائن الذين كانوا ينتظرون نتيجة فحصها. واستكمالاً لمهرجان البيع هذا، وعندما تكون نتيجة الفحص مرضية، كان البائع يقفز فرحاً وانتشاء بها، فيرفع بيده عالياً القطعة الحمراء التي اقتطعها من البطيخة، ويبدأ بالدوران بها لكي يرى الجميع نوعية سلعته، فيقبلون عليها.

    بطيخة الإخوان المسلمين في مصر، وبعد أن كسرها الشعب المصري متوقعاً أن يجدها حمراء فاقع لونها تسر الناظرين، طعمها كالعسل – كما وعد بائعها محمد مرسي –، كسرها لكي يجد فيها رسالة من رئيسه المنتخب بأغلبية لا تكاد تذكر، مرسلة إلى صديقه العزيز بيريز!!!،،، في سياق ترشيح سفير مصري جديد إلى تل أبيب،،، هذا الشعب بعد أن اكتشف الغش الذي أوقعه به البائع، سوف يعِفُّ عن شراء البطيخ من بسطة الإخوان المسلمين، بل وسيدوس على باقي البطيخات، ويجعلها عبرة لجميع الباعة الغشاشين، وتنبيهاً لجميع المشترين المخدوعين. فعلاً هو أمر لا يصدق أن رئيساً قادماً من حركة سياسية، كان جزء هام من إرثها الذي صدعت به رؤوسنا أنها حاربت اليهود على أرض فلسطين عام 48، يرسل رسالة غرامية إلى رئيس كيان اغتصب الأرض وانتهك المقدسات، فإذا كان مرسي لا يقيم وزناً للشعب الفلسطيني المظلوم، أفلا يقيم وزناً للأقصى الذي هو ملك لمليار مسلم، منهم ستون مليون مسلم مصري؟، ولكنيسة القيامة التي هي ملك لثلاثة مليارات مسيحي، منهم عشرون مليون قبطي مصري؟، أفلا يحترم رئيس مصر! أرواح عشرات آلاف الجنود المصريين الذي قتلوا في سيناء وهم أسرى على يد بيريز وأمثاله؟، ألم يسمع مرسي بمجزرة مدرسة بحر البقر التي قصفها طيران بيريز وقادته، فمزق أجساد تلاميذها؟، ثم لنذهب إلى استكناه معادلة مزرية أخرى: هل إن عداء جمال عبد الناصر لإسرائيل، وعداء الإخوان لعبد الناصر، جعل الإخوان أصدقاء لإسرائيل على قاعدة عدو عدوي صديقي؟، أي: هل اشترك الإخوان والإسرائيليون في العداء لعبد الناصر، فأصبحوا بنعمته إخوانا؟؟؟، فعلاً لقد أسقطت نفسك أيها الشيخ المهندس الدكتور الرئيس، وبذلك كفيت الجماهير المصرية مؤنة إسقاطك، ولن يشتري أحد منك بعد اليوم لا بطيخاً ولا خطابات نارية كاذبة. لكننا في الوقت نفسه، لن نعتب على رئيس سبق وأن وقع رسالة على علَمٍ مُهدىً إلى شهداء القوات المسلحة المصرية الذين استشهدوا في سيناء، تمنى لهم فيها دوام النجاح والتوفيق!، إذ يبدو أن سيادته يوقع على العلم المصري وهو غائب عن الوعي، ويخطب في الجماهير المصرية وهو سارح في ملكوت السماوات والأرض، ويرسل الرسائل إلى إسرائيل وهو مسكون بالحقد على جمال عبد الناصر.

    والمأساة الأكبر أن المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية ”ياسر علي” لم ينف حقيقة ومضمون الرسالة التي تبدأ بـ (عزيزي صديقي العظيم)، بل يبررها بعذر أقبح من ذنب، فيقول بأن {صيغة الخطابات الدبلوماسية أمر بروتوكولي، وأن خطابات ترشيح السفراء الجدد موحدة ليس فيها تمييز لأحد}، ولو تجاهل المتحدث الرسمي الغبي تلك القضية، لكان في ذلك إهانة أقل لمنصب الرئاسة، فالصمت في هذه الحالة أولى، والتجاهل أجدى وأفضل، وهو نوع من الاعتذار السلبي، وإن كان لا يكفي، وربما خير من علق على ذلك التبرير التافه، كان الصحفي ”حمدي قنديل”، عندما تساءل: {هل رسالة ترشيح سفير مصري إلى الجزائر مثلاً، تكون مماثلة لتلك التي ترسل بمناسبة ترشيح سفير مصري إلى إسرائيل}. عندما ثار البعض على وصول محمد مرسي إلى منصب الرئاسة المصرية، وشككوا في أهليته وكفاءته، كنا نقول لهم: ”أمهلوا الرجل أربع سنوات، ثم احكموا عليه”، لكن يبدو أن الرجل نفسه – بحماقته وقلة خبرته – لم يمهل نفسه أربعة أشهر لكي يحكم الناس عليه بقلة الخبرة والحماقة.

    والآن: وبعد هذه الفضيحة المدوية، على القوى الوطنية المصرية أن تحزم أمرها، وأن تحدد وجهتها بدقة، فهل ستكون مع استمرار هذه المهزلة؟، وهل سترضى بهذا الموقف المهين لأرواح شهداء مصر عبر ستين سنة من النضال ضد الكيان الصهيوني؟، وقبل ذلك: هل سوف تناضل من أجل وضع مصر في مكانها الصحيح على خارطة الشرق الأوسط والعالم، مثبتة بذلك عبقرية المكان، مكان مصر؟، أم أنها ستبقى متناحرة متفرقة مفككة، لكي تبقى مهزومة في صناديق الانتخابات؟. أما جماعة الإخوان، فإنها إن لم تتنصل من موقف محمد مرسي هذا، وتغسل يديها منه سبع مرات إحداها بالتراب، هذا إن صدقها الناس، سيبقى هذا الموقف وصمة عار في جبينها أبد الدهر، ولن تستطيع بعد الآن أن تضحك على لحى الجماهير المصرية، سوى على تلك الجماهير التي هي ملتحية، أو على تلك التي هي في طريقها إلى الالتحاء.

Thursday, October 18, 2012

ليس كل ما في المخيم موتاً (من وحي الحرب على المخيمات الفلسطينية في لبنان (1985-1989)


المكان: أطراف جرح مزمن بين أكواخ تستلقي مبعثرة، لا يجمعها إلاّ الفقر والإصرار، والأمل والحصار . 

السكان: أناس طيبون جداً، متهمون بحب الوطن حد التعاسة، يموتون بحساب أحياناً، وبلا حساب في معظم الأحيان، ذنبهم الوحيد أنهم بشر بلا وطن.

الزمان: في وقت لم يخترع بعد، فلهم رئاتهم الخاصة، وزمانهم الذي يتنفسون فيه.

:{عندما يتهددنا الموت في كل ثانية، يتشكل الزمن على نحو أسطوري، فتستطيل الدقيقة لكي تصبح دهراً بأكمله، أو يتكور العمر كله ليصبح في حجم اللحظة، ومابين صوت إطلاق القذيفة وانفجارها، مساحة تكفي للموت ألف مرة}، هكذا كان ”أبو جمال” يفكر بينما هو قابع داخل الملجأ. نظر من فتحة في أعلى الجدار، فرأى جثتي شهيدين، عجز المقاتلون – بسبب غزارة النيران – ، عن سحبهما، تتمددان بهدوء واثق، فانحنت عليهما أغصان شجرة باسقة تحميهما من أشعة الشمس الحارقة، فاكتملت في ذهنه صورة رائعة من صور الموت والحياة، فليس كل ما في المخيم موتاً .

منذ أشهر والسماء تمطر حمماً، والحصار مطبق على المخيم كوحش يريد افتراس سكانه،،، ضاق المكان بالناس وسدت في وجوههم الطرق،،، حتى الأموات منهم لم يعودوا يستطيعون الوصول إلى مثواهم الأبدي في المقبرة العامة، فاضطر ذووهم إلى دفنهم في ساحة المسجد على عجل دون أن يتمكنوا من تثبيت شواهد على القبور، فكانت الساحة قبراً جماعياً، أهال فيه السكان التراب على أجساد أحبائهم، وعلى بقايا الشرف العربي الذي يبدو أنه قد صار في عداد الأموات،،، نفذ الطعام، فاضطر المحاصرون إلى أكل لحوم القطط والكلاب.

بالأمس هدأ قليلاً القصف على المخيم من التلال المجاورة، فاقترحت القيادة خروج النساء والأطفال والشيوخ فراراً من موت محقق،،، خرج معظم أولئك الشيوخ باستثناء ”أبو جمال”. هو رجل سبعيني من مواليد قرية ”الشجرة”، خاض مع والده ”جمال سمارة” معاركها الثلاث، من شباط – فبراير إلى تموز – يوليو 1948، والتي سقط فيها والده وعمه شهيدين، الأول في المعركة الأولى، والثاني في المعركة الثالثة، فكان لا بد له وللعائلة من الهجرة إلى الشمال. بعد سنتين في بلد المهجر، رزق بابنه الأول والوحيد، فأعطاه اسم جده: ”جمال”، وفي الأسبوع الفائت، وبعد زواجه بشهرين، كان لجمال ما أراده من مصير جده، فسقط شهيداً خلال القصف العنيف، وعندما غادرت جموع النساء والأطفال والشيوخ المخيم يوم أمس، كانت زوجة جمال من بينهم.

يأخذ أبو جمال نفساً عميقاً من سيكارته،،، يحضن بندقيته جيداً، وينتظر مع الآخرين توقف القصف كي يخرج ليتفقد أحوال المخيم، فهو مختاره بعد أن توفي ”أبو العبد” مختاره السابق منذ سنوات، وكان هذا ما دفعه إلى البقاء بين المقاتلين، وفاء لمسؤولية كان يحملها على أكتافه تجاه أبناء مخيمه.

طالت أيام الحصار، وبينما ”أبو جمال” وبعض المقاتلين يقبعون داخل الملجأ، بدأت الأرض تبرز مفاتنها الخضراء،،، فعلى البيوت المتهدمة بفعل القصف المستمر، تتسلق الأعشاب فَرِحةً، وتنمو بنشاط عجيب، فتعطي الخرائب شكلاً ناطقاً بالجمال والحياة، وأعشاب الزعتر البري والميرمية تعبق المكان برائحة تبدو قادمة من عمق الذاكرة القروية. هكذا كان يرى ويحس وهو واقف ينظر من فتحة في أعلى جدار الملجأ،،، فليس كل ما في المخيم موتاً .

سمرته في مكانه ضحكات مجموعة من أطفال المخيم – لم يتمكن ذووهم من الخروج بسبب استئناف القصف – كانت تلهو خارج الملجأ، غير عابئة بالقصف المستمر،،، ازدادت رقبته اشرئباباً، وارتفع على رؤوس أصابعه حتى يرى بصورة أوضح . . ها هو يراهم الآن بوضوح تام وقد تفجرت الحياة في وجناتهم ، وفي عيونهم البراقة رأى الأمل متكدساً بإصرار رائع وعجيب، فازدادت قناعته بأنه ليس كل ما في المخيم موتاً .

الطبيب الوحيد في المخيم يربت على كتفه، استدار منتبهاً كمن أفاق من حلم جميل، وابتسامة عريضة على شفتيه… الطبيب يزف إليه البشرى، فالأخبار التي جاءته من خارج المخيم تقول بأن الغثيان الذي كانت تشعر به زوجة ابنه ”جمال”، ليس إلاّ علامة مؤكدة على أن سكان المخيم سوف يزدادون لاجئاً عما قريب … هلل صارخاً: ألم أقل لكم أنه ليس كل ما في المخيم موتاً.

دوّى انفجار هائل ألقاه أرضاً مع الطبيب… عاد إلى الفتحة في أعلى الجدار، فرأى خزان الماء الوحيد في المخيم وقد اخترقته القذيفة، فبدأ ماؤه في التسرب بسرعة، غير أن سقوط القذيفة وانفجارها على سطح الأرض أدى إلى حفر بئر عميقة، تفجر الماء منها بغزارة هائلة… ولا عجب، فليس كل ما في المخيم موتاً .

سرح بفكره وهو ينظر من فتحة الملجأ. قال في نفسه: كم هو رائع هذا المكان المعجزة حين نعيد بناءه، فقذائف المدفعية دمرت أجزاء كثيرة من دوره القديمة، تلك التي فشلت اللجنة الشعبية في استصدار موافقة من السلطات المحلية على هدمها… هناك، في ذلك المكان الكامل التدمير ستكون ساحة الشهداء ونصبهم التذكاري، ومنها ستنطلق الشوارع في كل الاتجاهات: شارع فلسطين، شارع القدس، شارع صلاح الدين، شارع أبو على إياد، شارع عز الدين القسام، شارع عين جالوت، شارع اليرموك، شارع حيفا،،، آه، كاد أن ينسى: وشارع الشجرة أيضاً . . . جميع تلك الشوارع سوف تلتقي مع الشارع الرئيسي الذي سيحيط بالمخيم من جميع نواحيه: إنه شارع العودة.

شكراً جزيلاً للقذائف، فليس كل ما في المخيم موتاً: لا الجثتان، ولا رائحة الزعتر البري، ولا وجنات الأطفال، ولا غثيان زوجة ابنه، ولا بئر الماء، ولا الدمار الشامل، ولا الشوارع العريضة سوى رفض لحصار الموت، فليس كل ما في المخيم موتاً. هكذا اقتنع الآن، فأسند رأس صديقته البندقية إلى صدره، ودخل في سبات عميق.


Monday, October 15, 2012

هل الحدود الدولية قدر لا مناص منه?



    نظراً لثباتها وامتداد عمرها سنوات طوالاً، يحسب الناس أن لحدود الدول قدسية وأبدية، وهي عصية على الزوال، راسخة رسوخ الجبال، لكن واقع الحياة يقول عكس ذلك، فلئن تمتعت الحدود بنوع من القداسة - خاصة بعد ظهور القوانين الدولية وما تبعها من تثبيت للحيز الجغرافي للدول - إلا أن سنة الحياة التي تتصف بالحركة والتحول، تعتري الحدود كذلك، تماماً كما باقي مظاهر الحياة، إذ نستطيع القول بثقة أن:(الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير). ونظرة سريعة على أوضاع الحدود في أوربا خلال القرن التاسع عشر، وما أضحت عليه خلال القرن العشرين، يوضح بطلان إطلاق صفة الديمومة والقداسة عليها، إذ أنه لا يمكن إغفال ما استجد من حدود رسمت على يد البريطانيين والفرنسيين، ترتب عليها ظهوردول عربية بعد الحرب العالمية الأولى، خاصة في بلاد الشام، كما أن نظرة على خريطة يوغوسلافيا السابقة في بداية تسعينيات القرن الماضي والتغير الذي طرأ عليها، مثال يفيد في هذا المجال.
   والظاهر بوضوح للعيان أن الحروب هي القابلة القانونية الوحيدة التي تستولد الحدود، والسبب الرئيسي في التغيير الذي يطرأ عليها، فما من حرب إلا وانتهت بتأثير لا يمكن تجاهله على حدود الدول المتحاربة، وأقرب مثال على ذلك الحدود السورية - الإسرائيلية بعد حرب عام 1967، - بالرغم من عدم اعتراف أحد الجانبين بها، ولا حتى القانون الدولي - كما أنه مما لا شك فيه أن لأي حدث سياسي نتائج تتناسب مع حجمه، فالأحداث الكبرى تتبعها نتائج كبرى، خاصة مع استخدام القوة المسلحة، كما ويزداد الأمر تعقيداً عندما تضلع في الحرب قوى متعددة، متنافرة المصالح، متضادة الرغبات، فبحجم هذا التناقض وذاك التضاد، تكون غرابة النتائج، وربما سيكون للثورة السورية الحالية - سواء نجحت أم فشلت - نتائج من المفيد استعراضها، لأنها توضح جوهر الموضوع، وقد يكون من المفيد البدء بالسؤال التالي، ثم محاولة الإجابة عليه:
 ماذا لو ربح نظام دمشق الحرب الداخلية الحالية، فاستمر في الحكم؟، وماذا لو خسرها، فخرج منه ؟:

أولاً، عمودياً: لو ربح النظام المعركة، ستواجه تركيا أحداثاً عاصفة تتمثل في تقوية شوكة الأكراد في جنوبها الشرقي، أولئك الذين سوف يحصلون على دعم سوري عراقي إيراني، وهو إن لم يؤد إلى قيام دولة كردية - وهي بالطبع ليست في صالح الدول الداعمة للأكراد - فسوف يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة التركية، وربما سيؤدي هذا الأمر، كنتيجة مباشرة، إلى عودة سيطرة الجنرالات على الحكم بدعم غربي كامل – عن طريق انقلاب مدعوم من الغرب، وإعلان حالة الطواريء -، خاصة بعد أن تم إقصاء الجيش عن التحكم بسياسة الدولة على يد حزب الحرية والعدالة الإسلامي، مما سيؤدي بالتالي إلى قيام ربيع شعبي تركي ضد العسكر، يُدخِلُ تركيا في دوامة عنف مرعب، ناهيك عن مطامع اليونانيين في جزر متنازع عليها مع تركيا، وحقد الأرمن والروس من الشرق، كما أن بقاء نظام دمشق سوف يؤدي إلى مطالبة العلويين في لواء الاسكندرون - (يصل عدد العلويين في تركيا إلى حوالي العشرة ملايين) - بالانفصال عن تركيا والعودة إلى الوطن الأم: سوريا. هذا سيستتبع بالضرورة كبح جماح ثورتهم بالقوة العسكرية، وفي ذلك زعزعة للدولة التركية تحسب لها ألف حساب، كما يبدو واضحاً الآن أن تصدي تركيا لإسرائيل منذ محاولات فك الحصار عن غزة، ومشكلة أسطول الحرية، قد سببا لتركيا المشاكل التي تعيشها هذه الأيام، وكأن رد إسرائيل على تركيا قد جاء عن طريق دمشق. أما الناتو، فتجري أحداث هذه الأيام على حدود تركيا الجنوبية بتجاهل تام منه، باستثناء التأييد اللفظي لتركيا، الأمر الذي سوف يؤدي حتماً إلى تصدع ضلعه الجنوبي - المتمثل بتركيا -، مؤقتاً (إلى ما بعد عودة الأتراك العسكر)، فكما رفض الأوربيون قبول تركيا في السوق الأوربية المشتركة، سيجمدون مكانتها في الناتو – أو هم قد فعلوا - حتى تتم إزاحة النظام الديمقراطي الإسلامي لحزب العدالة التركي. يبدو أن أردوغان وغول وأوغلو قد بالغوا في حساباتهم على أن تركيا جزء هام في الناتو، ونسوا عدم رضى أوربا وأمريكا عن قيام نظام تركي يجاهر بالإسلام، ويكون قدوة لدول الشرق الأوسط، خاصة تلك المحاذية لفلسطين (وانتقاد اردوغان في خطابه الأخير لتركيبة الخمس الكبار في مجلس الأمن، مؤشر على تصاعد الصدام التركي مع الغرب). في جميع هذه الأحداث، لنا أن نتخيل الشكل الذي ستكون عليه الحدود التركية الجنوبية والسورية الشمالية.
     أما لو خسر نظام دمشق المعركة، فسيكون لذلك أثر حاسم في تشكيل تحالف عامودي، حيث سينفتح المجال واسعاً أمام تقارب سوري – تركي – مصري، سوف يمتد أثره جنوباً لكي يشمل الأردن – الذي تعزز فيه الحركة الإسلامية مواقعها بإنجازات ملموسة على الأرض -، وربما جذب هذا الحلف إليه دولاً خارج إقليمه مثل ليبيا وتونس، وسيكون لهذا الحلف العمودي أثر ماحق على الحلف الأفقي المتمثل في محور إيران الممتد من حدود باكستان إلى جنوب لبنان مروراً بالعراق وسوريا، فحدث بهذا الحجم سيكون له بلا شك تأثير مباشر على شكل الحدود في الشرق الأوسط. مثلاً: ألم تكن الموصل في تقسيم سايكس بيكو تدخل ضمن منطقة النفوذ الفرنسي، أي داخل الأراضي السورية، ثم فصلت عنها لكي تضم إلى العراق البريطاني؟،فما الذي سيمنع سوريا من المطالبة بها بدعم من باقي دول المحور العمودي؟. كما أن طيف الوحدة المصرية السورية ما يزال ماثلاً في الأذهان (وقد ألمح إليه محمد مرسي في خطاب حملته الانتخابية)، فما الذي سوف يمنع عودتها ثانية؟. الطرف الذي سيكون في موقف لا يحسد عليه هو الطرف الإسرائيلي، الذي لن يرى مندوحة عن فتح باب التفاوض للوصول إلى نتيجة مشرفة تحفظ له وجوده، حتى ولو بالتخفيف من تعنته، وبقبول عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والجنوح إلى قبول قيام دولة ديمقراطية تضم العنصرين العربي واليهودي على أرض فلسطين، هذا مع عدم إقفال ملف الصراع، بل إبقائه مفتوحاً على جميع الخيارات، والتي منها زوال الكيان الإسرائيلي تماماً.
    من البديهي أن حدوث هذه الأمور على الأرض لن يكون بسهولة كتابته على الورق، بل هي عملية صراعٍ وتحدٍ معقدة، تحتاج إلى عوامل قوة ليست بالبسيطة والميسرة لجميع أطرافها بالتساوي.
ثانياً، أفقياً: إذا خرج نظام دمشق منتصراً من معركته الحالية، فسوف تقوى شوكة إيران إلى الحد الذي سيدفعها إلى التمدد في الساحل الغربي للخليج العربي، منطلقة من العراق الشيعي، ومن سوريا العلوية، طبعاً بضمانات قاطعة للغرب فيما يتعلق بوجود قواعده ومصالحه النفطية، وسوف يكون للتمدد الإيراني غرباً – باتجاه سوريا ولبنان، – وجنوباً – باتجاه دول مجلس التعاون الخليجي –، نتائج مذهلة على الخارطة السياسية للشرق الأوسط (من ذلك مثلاً إعادة الكويت إلى العراق الشيعي)، غير أن أهم ميزة لهذه المرحلة ستكون بالتأكيد التعاون الإسرائيلي الإيراني الوثيق، والذي سوف يكون من سمات المرحلة المقبلة دون تحفظ أو حرج ( فتزويد إسرائيل لإيران بالأسلحة خلال حرب الثماني سنوات مع العراق ليس عنا ببعيد – إيران - كونترا)، واشتراك الطرفين في العداء للعرب، قاسم مشترك يجعلهما حليفين وثيقي الصلة، وما التهديد الإسرائيلي والغربي الحالي لإيران سوى ذر للرماد في عيون العرب، فدعم إسرائيل المطلق للنظام السوري خلال الأزمة الحالية - والمتمثل بتثبيت الهدوء على جبهة الجولان، وباستخدام الآيباك لكبح جماح أية محاولة من الإدارة الأمريكية للعمل ضد النظام السوري – يثبت هذا الدعم، إذ لو كان لدى إسرائيل أية رغبة في إزالة النظام، فلن تجد أفضل من الظروف الحالية التي يخوض فيها حرباً شاملة شرسة ضد معارضيه، مما سيستتبع في حالة استمراره في الحكم، رد الجميل بتوقيع صلح وسلام شاملين مع إسرائيل، يتم فيه نزع السلاح من الجولان - كسيناء مع كامب ديفيد - واستئجاره من قبل إسرائيل لمدة 99 سنة، وقيام علاقات ديبلوماسية كاملة، وبالتالي تجاهل إسرائيلي تام للقضية الفلسطينية، وطمس شعلتها المتوقدة منذ عام 48، ألا وهي قضية اللاجئين، وذلك عن طريق منحهم الجنسية وتوطينهم حيث هم، في سوريا ولبنان، وسيكون التمدد الإسرائيلي بين النيل والفرات نتيجة طبيعية لبقاء نظام دمشق مع حلفائه الإيرانيين.

     أما هزيمة النظام السوري، فستنعكس نتائجها على إيران بكارثة تصيب مشروعها القومي – وليس الديني – في مقتل، ربما يستتبعها زوال النظام الديني لآيات الله، وانتفاض المجموعات القومية والدينية للمطالبة باستقلالها عن المركز: طهران. وفي التنوع العرقي الهائل لإيران، (حوالي عشر أقليات عرقية ودينية)، واتساع رقعة الدولة (أكثر من مليون وستمئة ألف كم مربع)، تربة خصبة لمثل هذا الانقسام والتشظي، خاصة مع تدخل دول الجوار، وما عدم نسيان انتزاع عربستان من الأرض العراقية في أوائل عشرينيات القرن الماضي، سوى دليل على الخطر الذي يحيق بالدولة الإيرانية، وينبيء بشكل حدود الدول التي ستقوم على أنقاضها إن هي انهارت كنتيجة لسقوط النظام السوري. أما إسرائيل فسوف تكون خاسراً مؤكداً، وسوف يفتح بينها وبين دول المحور العمودي صراع يتحدى مشروعية وجودها.
    ختاماً: لا بد من التأكيد على أن هذا المقال لا يرمي إلى تبني وجهة نظر بعينها، ولا يتمنى فوز طرف على حساب طرف آخر، بل يهدف إلى الإجابة عن التساؤل الذي ورد في عنوان المقال، أي يرمي إلى نزع فكرة قدرية وقداسة الحدود بين الدول، تلك الفكرة التي رسخت في عقول الذين لم يقرأوا التاريخ السياسي، ولا يقبلون من أحد المساس بما يتمنونه وبما يؤمنون به.



 

هل الحدود الدولية قدر لا مناص منه؟



    نظراً لثباتها وامتداد عمرها سنوات طوالاً، يحسب الناس أن لحدود الدول قدسية وأبدية، وهي عصية على الزوال، راسخة رسوخ الجبال، لكن واقع الحياة يقول عكس ذلك، فلئن تمتعت الحدود بنوع من القداسة – خاصة بعد ظهور القوانين الدولية وما تبعها من تثبيت للحيز الجغرافي للدول – إلا أن سنة الحياة التي تتصف بالحركة والتحول، تعتري الحدود كذلك، تماماً كما باقي مظاهر الحياة، إذ نستطيع القول بثقة أن:(الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير). ونظرة سريعة على أوضاع الحدود في أوربا خلال القرن التاسع عشر، وما أضحت عليه خلال القرن العشرين، يوضح بطلان إطلاق صفة الديمومة والقداسة عليها، إذ أنه لا يمكن إغفال ما استجد من حدود رسمت على يد البريطانيين والفرنسيين، ترتب عليها ظهوردول عربية بعد الحرب العالمية الأولى، خاصة في بلاد الشام، كما أن نظرة على خريطة يوغوسلافيا السابقة في بداية تسعينيات القرن الماضي والتغير الذي طرأ عليها، مثال يفيد في هذا المجال.

    والظاهر بوضوح للعيان أن الحروب هي القابلة القانونية الوحيدة التي تستولد الحدود، والسبب الرئيسي في التغيير الذي يطرأ عليها، فما من حرب إلا وانتهت بتأثير لا يمكن تجاهله على حدود الدول المتحاربة، وأقرب مثال على ذلك الحدود السورية – الإسرائيلية بعد حرب عام 1967، – بالرغم من عدم اعتراف أحد الجانبين بها، ولا حتى القانون الدولي – كما أنه مما لا شك فيه أن لأي حدث سياسي نتائج تتناسب مع حجمه، فالأحداث الكبرى تتبعها نتائج كبرى، خاصة مع استخدام القوة المسلحة، كما ويزداد الأمر تعقيداً عندما تضلع في الحرب قوى متعددة، متنافرة المصالح، متضادة الرغبات، فبحجم هذا التناقض وذاك التضاد، تكون غرابة النتائج، وربما سيكون للثورة السورية الحالية – سواء نجحت أم فشلت – نتائج من المفيد استعراضها، لأنها توضح جوهر الموضوع، وقد يكون من المفيد البدء بالسؤال التالي، ثم محاولة الإجابة عليه:

ماذا لو ربح نظام دمشق الحرب الداخلية الحالية، فاستمر في الحكم؟، وماذا لو خسرها، فخرج منه ؟:

أولاً، عمودياً: لو ربح النظام المعركة، ستواجه تركيا أحداثاً عاصفة تتمثل في تقوية شوكة الأكراد في جنوبها الشرقي، أولئك الذين سوف يحصلون على دعم سوري عراقي إيراني، وهو إن لم يؤد إلى قيام دولة كردية – وهي بالطبع ليست في صالح الدول الداعمة للأكراد – فسوف يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة التركية، وربما سيؤدي هذا الأمر، كنتيجة مباشرة، إلى عودة سيطرة الجنرالات على الحكم بدعم غربي كامل – عن طريق انقلاب مدعوم من الغرب، وإعلان حالة الطواريء -، خاصة بعد أن تم إقصاء الجيش عن التحكم بسياسة الدولة على يد حزب الحرية والعدالة الإسلامي، مما سيؤدي بالتالي إلى قيام ربيع شعبي تركي ضد العسكر، يُدخِلُ تركيا في دوامة عنف مرعب، ناهيك عن مطامع اليونانيين في جزر متنازع عليها مع تركيا، وحقد الأرمن والروس من الشرق، كما أن بقاء نظام دمشق سوف يؤدي إلى مطالبة العلويين في لواء الاسكندرون – (يصل عدد العلويين في تركيا إلى حوالي العشرة ملايين) – بالانفصال عن تركيا والعودة إلى الوطن الأم: سوريا. هذا سيستتبع بالضرورة كبح جماح ثورتهم بالقوة العسكرية، وفي ذلك زعزعة للدولة التركية تحسب لها ألف حساب، كما يبدو واضحاً الآن أن تصدي تركيا لإسرائيل منذ محاولات فك الحصار عن غزة، ومشكلة أسطول الحرية، قد سببا لتركيا المشاكل التي تعيشها هذه الأيام، وكأن رد إسرائيل على تركيا قد جاء عن طريق دمشق. أما الناتو، فتجري أحداث هذه الأيام على حدود تركيا الجنوبية بتجاهل تام منه، باستثناء التأييد اللفظي لتركيا، الأمر الذي سوف يؤدي حتماً إلى تصدع ضلعه الجنوبي – المتمثل بتركيا -، مؤقتاً (إلى ما بعد عودة الأتراك العسكر)، فكما رفض الأوربيون قبول تركيا في السوق الأوربية المشتركة، سيجمدون مكانتها في الناتو – أو هم قد فعلوا – حتى تتم إزاحة النظام الديمقراطي الإسلامي لحزب العدالة التركي. يبدو أن أردوغان وغول وأوغلو قد بالغوا في حساباتهم على أن تركيا جزء هام في الناتو، ونسوا عدم رضى أوربا وأمريكا عن قيام نظام تركي يجاهر بالإسلام، ويكون قدوة لدول الشرق الأوسط، خاصة تلك المحاذية لفلسطين (وانتقاد اردوغان في خطابه الأخير لتركيبة الخمس الكبار في مجلس الأمن، مؤشر على تصاعد الصدام التركي مع الغرب). في جميع هذه الأحداث، لنا أن نتخيل الشكل الذي ستكون عليه الحدود التركية الجنوبية والسورية الشمالية.

    أما لو خسر نظام دمشق المعركة، فسيكون لذلك أثر حاسم في تشكيل تحالف عامودي، حيث سينفتح المجال واسعاً أمام تقارب سوري – تركي – مصري، سوف يمتد أثره جنوباً لكي يشمل الأردن – الذي تعزز فيه الحركة الإسلامية مواقعها بإنجازات ملموسة على الأرض -، وربما جذب هذا الحلف إليه دولاً خارج إقليمه مثل ليبيا وتونس، وسيكون لهذا الحلف العمودي أثر ماحق على الحلف الأفقي المتمثل في محور إيران الممتد من حدود باكستان إلى جنوب لبنان مروراً بالعراق وسوريا، فحدث بهذا الحجم سيكون له بلا شك تأثير مباشر على شكل الحدود في الشرق الأوسط. مثلاً: ألم تكن الموصل في تقسيم سايكس بيكو تدخل ضمن منطقة النفوذ الفرنسي، أي داخل الأراضي السورية، ثم فصلت عنها لكي تضم إلى العراق البريطاني؟،فما الذي سيمنع سوريا من المطالبة بها بدعم من باقي دول المحور العمودي؟. كما أن طيف الوحدة المصرية السورية ما يزال ماثلاً في الأذهان (وقد ألمح إليه محمد مرسي في خطاب حملته الانتخابية)، فما الذي سوف يمنع عودتها ثانية؟. الطرف الذي سيكون في موقف لا يحسد عليه هو الطرف الإسرائيلي، الذي لن يرى مندوحة عن فتح باب التفاوض للوصول إلى نتيجة مشرفة تحفظ له وجوده، حتى ولو بالتخفيف من تعنته، وبقبول عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والجنوح إلى قبول قيام دولة ديمقراطية تضم العنصرين العربي واليهودي على أرض فلسطين، هذا مع عدم إقفال ملف الصراع، بل إبقائه مفتوحاً على جميع الخيارات، والتي منها زوال الكيان الإسرائيلي تماماً.

    من البديهي أن حدوث هذه الأمور على الأرض لن يكون بسهولة كتابته على الورق، بل هي عملية صراعٍ وتحدٍ معقدة، تحتاج إلى عوامل قوة ليست بالبسيطة والميسرة لجميع أطرافها بالتساوي.

ثانياً، أفقياً: إذا خرج نظام دمشق منتصراً من معركته الحالية، فسوف تقوى شوكة إيران إلى الحد الذي سيدفعها إلى التمدد في الساحل الغربي للخليج العربي، منطلقة من العراق الشيعي، ومن سوريا العلوية، طبعاً بضمانات قاطعة للغرب فيما يتعلق بوجود قواعده ومصالحه النفطية، وسوف يكون للتمدد الإيراني غرباً – باتجاه سوريا ولبنان، – وجنوباً – باتجاه دول مجلس التعاون الخليجي –، نتائج مذهلة على الخارطة السياسية للشرق الأوسط (من ذلك مثلاً إعادة الكويت إلى العراق الشيعي)، غير أن أهم ميزة لهذه المرحلة ستكون بالتأكيد التعاون الإسرائيلي الإيراني الوثيق، والذي سوف يكون من سمات المرحلة المقبلة دون تحفظ أو حرج ( فتزويد إسرائيل لإيران بالأسلحة خلال حرب الثماني سنوات مع العراق ليس عنا ببعيد – إيران – كونترا)، واشتراك الطرفين في العداء للعرب، قاسم مشترك يجعلهما حليفين وثيقي الصلة، وما التهديد الإسرائيلي والغربي الحالي لإيران سوى ذر للرماد في عيون العرب، فدعم إسرائيل المطلق للنظام السوري خلال الأزمة الحالية – والمتمثل بتثبيت الهدوء على جبهة الجولان، وباستخدام الآيباك لكبح جماح أية محاولة من الإدارة الأمريكية للعمل ضد النظام السوري – يثبت هذا الدعم، إذ لو كان لدى إسرائيل أية رغبة في إزالة النظام، فلن تجد أفضل من الظروف الحالية التي يخوض فيها حرباً شاملة شرسة ضد معارضيه، مما سيستتبع في حالة استمراره في الحكم، رد الجميل بتوقيع صلح وسلام شاملين مع إسرائيل، يتم فيه نزع السلاح من الجولان – كسيناء مع كامب ديفيد – واستئجاره من قبل إسرائيل لمدة 99 سنة، وقيام علاقات ديبلوماسية كاملة، وبالتالي تجاهل إسرائيلي تام للقضية الفلسطينية، وطمس شعلتها المتوقدة منذ عام 48، ألا وهي قضية اللاجئين، وذلك عن طريق منحهم الجنسية وتوطينهم حيث هم، في سوريا ولبنان، وسيكون التمدد الإسرائيلي بين النيل والفرات نتيجة طبيعية لبقاء نظام دمشق مع حلفائه الإيرانيين.

    أما هزيمة النظام السوري، فستنعكس نتائجها على إيران بكارثة تصيب مشروعها القومي – وليس الديني – في مقتل، ربما يستتبعها زوال النظام الديني لآيات الله، وانتفاض المجموعات القومية والدينية للمطالبة باستقلالها عن المركز: طهران. وفي التنوع العرقي الهائل لإيران، (حوالي عشر أقليات عرقية ودينية)، واتساع رقعة الدولة (أكثر من مليون وستمئة ألف كم مربع)، تربة خصبة لمثل هذا الانقسام والتشظي، خاصة مع تدخل دول الجوار، وما عدم نسيان انتزاع عربستان من الأرض العراقية في أوائل عشرينيات القرن الماضي، سوى دليل على الخطر الذي يحيق بالدولة الإيرانية، وينبيء بشكل حدود الدول التي ستقوم على أنقاضها إن هي انهارت كنتيجة لسقوط النظام السوري. أما إسرائيل فسوف تكون خاسراً مؤكداً، وسوف يفتح بينها وبين دول المحور العمودي صراع يتحدى مشروعية وجودها.

    ختاماً: لا بد من التأكيد على أن هذا المقال لا يرمي إلى تبني وجهة نظر بعينها، ولا يتمنى فوز طرف على حساب طرف آخر، بل يهدف إلى الإجابة عن التساؤل الذي ورد في عنوان المقال، أي يرمي إلى نزع فكرة قدرية وقداسة الحدود بين الدول، تلك الفكرة التي رسخت في عقول الذين لم يقرأوا التاريخ السياسي، ولا يقبلون من أحد المساس بما يتمنونه وبما يؤمنون به.


Friday, October 12, 2012

التصوير الرقمي قاتل المحترفين


بما أن لكل موضوع مقدمة، أقدم بالقول بأن نوازع الشك في نفسي قد وسوست لي ذات لحظة بأن مخترع التصوير الفوتوغرافي إنما كان هاوي رسمٍ فاشلاً، وعندما قصَّرتْ إمكانياته عن مجاراة هوايته، فكر في اختراع وسيلة يستطيع بها أن ينقل ما تراه عيناه إلى الورق بتطابق تام، وقد كان له ما أراد. مجرد وسواس خناس. 

ففي مجال تقنية الكاميرا، كانت الأجيال الأولى منها بسيطة للغاية، فقد ظهر نموذجها الأول عام 1685 حيث كانت تلك الكاميرا عبارة عن صندوق أسود في أحد جوانبه فتحة ركبت عليها عدسة تسمح بمرور الضوء إلى داخل العلبة.

ولكن الحقيقة أن اختراع التصوير على بدايات شكله الحالي كان يد على اثنين: الأول إنكليزي والثاني فرنسي، وفي نفس الوقت تقريباً، في عام 1839، ومنذ ذلك الحين مر فن التصوير وصناعته بمراحل أوصلته إلى ما هو عليه هذا اليوم.

ولا شك أنه بعد العلبة السوداء الأولى ذات الثقب الذي يسمح بمرور الضوء، أي الصورة، لكي تسقط على ورق حساس للضوء ( والذي سمي فيما بعد ” الفيلم ”)، بعد تلك العلبة السوداء بفترة ليست بالطويلة، انصب اهتمام صانعي الكاميرات على تحسين وتجويد تقنياتها ومواصفاتها ( جودة العدسة وفتحتها، سرعة الغالق، متانة هيكلها)، كما تابع كيميائيو التصوير أبحاثهم لتحسين نوعية الفيلم من حيث مادته الأصلية وشدة حساسيته للضوء.

ثم تطورت الآلة بعد ذلك إلى أشكال مختلفة وبمواصفات معينة، وربما فتحنا عيوننا على تلك الكاميرات التي كانت على شكل صندوق، لها من الأمام عينان وفم كأنها قطة، يحملها المصور بين يديه مدلياً إياها حتى وسطه، ناظراً من فتحة زجاجية في أعلاها لكي يرى المنظر الذي يريد تصويره. أما أول كاميرا اشتريتها مع نهاية خمسينيات القرن الماضي فقد كانت من نوع أكفا، تميزت في حينه بإمكانية النظر من خلال فتحة في أعلاها لرؤية المشهد المراد تصويره، كحال كاميرات هذه الأيام، وكان لها خياران فقط للتصوير: التصوير في ضوء الشمس، أو التصوير في الظل، يُنقل من أحدهما إلى الآخر بذراع معدنية صغيرة، أما فتحة العدسة، وسرعة الغالق، والتحكم بالمسافة، فكانت ثابتة لا مجال للمصور أن يتحكم فيها، أما العدسة فقد كانت بدائية، يركب خلفها الغالق الذي يتحرك فتحاً وإغلاقاً بواسطة نوابض دقيقة، كي يُسمح للضوء بالدخول إلى السطح الحساس للضوء (الفيلم) والمثبت في مؤخرة صندوق الكاميرا. بعد هذا النموذج بدأت النماذج الجديدية بالتتابع إلى الأسواق، غير أن توضيح الصورة (أي ضبط المسافة) كان يتم بتحريك العدسة يدوياً، كذلك كان يتم تحديد سرعة الغالق ومقدار فتحة العدسة يدوياً، وهما اللتان كان يتوقف عليهما تلقي كمية الضوء المناسبة للحصول على صورة ناجحة، وفيما بعد كان يعد تطوراً عظيماً تزويد الكاميرا بمؤشر يبين مقدار الإضاءة المطلوبة، فهو يتأرجح بين المنطقة السفلى للمؤشر التي تعني أن الضوء الداخل قليل، والمنطقة العليا من المؤشر التي تعني أن الضوء الداخل زائد عن الحاجة، لذا كان على المصور ضبط المؤشر على المنتصف، وكان ذلك يتم بتغيير فتحة العدسة أو سرعة الغالق أو كليهما معاً، مما يضمن الحصول على الضوء المناسب لصورة ناجحة.

أما الفيلم المستخدم في تلقي الضوء داخل الكاميرا، فقد ظهرت أولى تجلياته منذ العام 1876 على شكل صفيحة من النحاس عليها طبقة من الفضة، واستمرت صناعة الأفلام بالتطور إلى أن وصلت إلى الشكل الذي هي عليه الآن، مروراً بالفيلم البلاستيكي الذي صنعته ”كوداك” عام 1889 وظهور الفيلم الملون عام 1890، والذي لم يطرح تجارياً إلا في عام 1936، وقد تنوعت الأفلام من حيث أطوالها ( 120-220-36) والتي كان كل منها يعطي عدداً معيناً من الصور. في أيام ضيق ذات اليد، كنا نشتري الأفلام الرخيصة من استوديوهات التصوير على شكل ما عرف بـ (التعبئة)، حيث كان البائع يقتطع لنا جزءاً من لفة فيلم كبيرة، ويعبئها في علبة أفلام فارغة، فكنا نحصل على 40 صورة أو أكثر، بينما كانت الأفلام العادية (المختومة) الغالية السعر تعطينا 24 أو 36 صورة.

زبدة الكلام: إن مصور ما قبل عصر التصوير الرقمي كان فناناً بامتياز، فهو في معركة دائمة، وحيل مبتكرة لكي يحصل على صور ناجحة، فاختيار حساسية الفيلم عامل أساسي في نجاح الصورة، إلى جانب تحديد فتحة العدسة وسرعة الغالق وضبط المسافة، وبعد كل هذا عليه الانتظار الممل حتى يحصل على نتيجة جهده من مختبر تحميض الأفلام.

وقد شهد تاريخ التصوير الفتوغرافي، خاصة منه تصوير الأشخاص، مصورين محترفين سيبقى ذكرهم خالداً حتى مع ظهور التصوير الرقمي، ومن هؤلاء كان المصور الأرمني المشهور(هيرش)، الذي عاش في نيويورك منتصف القرن الماضي، ومما عرف عنه أنه كان مصور المشاهير، فلم يكن هناك سياسي (وما أكثرهم من زوار الأمم المتحدة) أو فنان أو مشهور يهبط المدينة دون أن يقصد (هيرش) هذا لكي يلتقط له صورة، وذلك بعد أن يكون قد أخذ موعداً قبل ذلك بأشهر. ومما عرف عن ذلك المصور المبدع أنه لم يكن محترفاً في ضبط الكاميرا فحسب، بل كان يقرأ مسبقاً كل ما يستطيع معرفته عن الشخصية التي سيصورها، حتى يستطيع استخدام هذه المعرفة في إضفاء مسحة النجاح على الصورة، ومن أوضح الأدلة على ذلك صورة (ونستون تشرشل) المشهورة التي يظهر فيها متميزاً غضباً، ممسكاً بسيكاره الشهير. فمما عرفه (هيرش) عن (تشرشل) سرعة غضبه، فأحب أن يركز في الصورة على هذه الخصلة، فلما جاءه زبونه، أدخله باحترام إلى داخل الاستوديو، وبدأ يتحرك بطيئاً في ضبط الإضاءة والستائر الخلفية، ثم استدار خلف الكاميرا لكي يدخل فيها لوحة الفيلم ببطء شديد، ثم اقترب من العدسة فضبط فتحتها، ثم عاد لكي يستبدل لوحة الفيلم بأخرى، وتشرشل ينتظر وينتظر بضيق واضح تحت الأضواء الساطعة، بينما كانت عينا المصور تراقبان باهتمام ما بدى على وجه الضيف من ضيق ونرفزة، وعندما اعتقد (تشرشل) بقرب انتهاء المصور من استعداداته، استأذنه (هيرش) وخرج من غرفة الاستوديو إلى مكتبه، عندها انتفض الرجل العجوز مزمجراً، وكاد أن يقوم عن الكرسي، لولا أن كان المصور أسرع منه، فالتقط له تلك الصورة النادرة التي تبين (تشرشل) في حالة غضب شديد، مثَّل في رأي الكثيرين ممن رأوا تلك الصورة بأنه ليس غيرها كان يمكن له أن يمثل قوة وعظمة وغطرسة بريطانيا في تلك الأيام.

هكذا كان حال المصورين، ليس المحترفين فقط، بل وحتى الهواة منهم،،، كانوا يبذلون جهداً خارقاً للحصول على صورة جيدة، فماذا حدث بعد ظهور التصوير الرقمي، بآلات تصوير تقوم آلياً بضبط كل شيء: الفيلم، والذي حل مكانه مايعرف بـ (CCD)، وحساسية الفيلم، التي تعرف باسم (ISO)، وسرعة الغالق، وفتحة العدسة، وتحديد المسافة؟، ماذا بقي بعد ذلك لحامل الكاميرا (ولا أقول المصور) سوى الضغط بإصبعه والتقاط الصورة؟، فتضاءلت قيمة حرفية المصور درجة الإهمال، وبدأ الأطفال بالتقاط صور ناجحة تضاهي في جودتها تلك التي كانت مدعاة إعجاب الجمهور قبل عقدين من الزمن، ليس هذا فحسب، بل إن ظهور برامج تعديل التصويرالرقمي (الفوتوشوب وأشباهه) أصبحت في خدمة حتى الفاشلين من المصورين، فبواسطتها تعدل الإضاءة، ومقدار تركيز اللون، ودرجة الوضوح والتباين، بل ويمكن قص ولصق الصور، بحيث يمكن لصق صورة (تاتشر) مع صورة (شعبان عبد الرحيم) أثناء زيارته التاريخية لـ 10 داوننغ ستريت في لندن، رغم أن شعبولا كان ما يزال طفلاً عندما كانت تاتشر رئيسة للوزراء، ولو عاش (تشرشل) إلى يومنا هذا، لكان بإمكان ابن حفيده أن يلتقط له صورة أنجح من تلك التي شد الرحال من أجلها إلى نيويورك.

رحم الله المصور المحترف، فقد اغتالته يد التصوير الرقمي الآثمة.


التصوير الرقمي قاتل المحترفين.

Wednesday, October 10, 2012

ماذا لو لم تنتصر الثورة السورية؟




    لا شك أن لأي حدث سياسي نتائج تتناسب مع حجمه، فالأحداث الكبرى تتبعها نتائج كبرى، وربما سيكون للثورة السورية الحالية - سواء نجحت أم فشلت - نتائج لم تخطر على بال أحد:
1
- إن لم يندحر نظام دمشق، ستواجه تركيا أحداثاً عاصفة تتمثل في تقوية شوكة الأكراد في جنوبها الشرقي، الذين سيحصلون على دعم سوري عراقي إيراني، وهو إن لم يؤد إلى قيام دولة كردية - وهي بالطبع ليست في صالح الدول الداعمة للأكراد - فسوف يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة التركية، وربما سيؤدي إلى عودة سيطرة الجنرالات على الحكم، خاصة بعد أن تم إقصاء الجيش عن التحكم بسياسيي الدولة، مما سيؤدي بالتالي إلى قيام ربيع تركي ضدهم يدخل تركيا في دوامة عنف مرعب، ناهيك عن مطامع اليونانيين في جزر متنازع عليها مع تركيا، وحقد الأرمن والروس من الشرق. يبدو أن تصدي تركيا لإسرائيل منذ محاولات فك الحصار عن غزة، ومشكلة أسطول الحرية، قد سببا لتركيا مشاكل هذه الأيام. كما أن بقاء نظام دمشق سوف يؤدي إلى مطالبة العلويين في لواء الاسكندرون بالانفصال عن تركيا والعودة إلى الوطن الأم: سوريا. هذا سيستتبع كبح ثورتهم بالقوة، وفي ذلك زعزعة للدولة التركية تحسب لها ألف حساب.
2-
 يجري كل ذلك على حدود تركيا الجنوبية بتجاهل تام من الناتو، الذي سوف يتصدع ضلعه الجنوبي، المتمثل بتركيا، مؤقتاً (إلى ما بعد عودة العسكر الأتراك)، فكما رفض الأوربيون قبول تركيا في السوق الأوربية المشتركة، سيوقفون فاعليتها في الناتو حتى إزاحة النظام الديمقراطي الإسلامي لحزب العدالة التركي. يبدو أن أردوغان وغول وأوغلو قد أخطأوا حساباتهم على أن تركيا جزء هام في الناتو، ونسوا عدم رضى أوربا وأمريكا عن قيام نظام تركي يجاهر بالإسلام، ويكون قدوة لدول الشرق الأوسط، خاصة تلك المحاذية لفلسطين.
3
- سوف تقوى شوكة إيران إلى الحد الذي سوف يدفعها إلى التمدد في ساحل الخليج الغربي منطلقة من العراق الشيعي، ومن سوريا العلوية، طبعاً بضمانات قاطعة للغرب فيما يتعلق بوجود قواعده ومصالحه النفطية.
4
- الدعم الإسرائيلي المطلق لإيران سوف يكون من سمات المرحلة المقبلة دون تحفظ أو حرج (وما تزويد إسرائيل لإيران بالأسلحة ببعيد)، فاشتراك الطرفين في العداء للعرب قاسم مشترك يجعلهما حليفين وثيقي الصلة، وما التهديد الإسرائيلي والغربي لإيران سوى ذر للرماد في عيون العرب.
5
- دعم إسرائيل المطلق للنظام السوري خلال الأزمة الحالية - والمتمثل بتثبيت الهدوء على جبهة الجولان، وباستخدام الآيباك لكبح جماح أية محاولة من الإدارة الأمريكية للعمل ضد النظام السوري - إذ لو كان لدى إسرائيل أية رغبة في إزالة النظام، فلن تجد أفضل من الظروف الحالية التي يخوض فيها حرباً شاملة ضد معارضيه، مما سيستتبع توقيع صلح وسلام شامل مع إسرائيل، يتم فيه نزع السلاح من الجولان - كسيناء مع كامب ديفيد - واستئجاره من قبل إسرائيل لمدة 99 سنة، وقيام علاقات ديبلوماسية كاملة.
6
- انتصار الثورة السورية هو وحده الكفيل بتفادي الكابوس الموصوف أعلاه، والنتائج الإيجابية لذلك أيضاً لا تخطر على بال بشر من حيث تغير الوضع الجيوسياسي لسوريا بشكل مذهل، وربما ستكون أولى نتائجه الهامة عودة الوحدة بين مصر وسوريا - إذا ما استقر النظامان في البلدين -، ولكن بشكل مختلف بالتأكيد عن الوحدة السابقة (1958-1961)، وربما استتبع ذلك جذب ليبيا وتونس وتركيا للانضمام إلى هذه الوحدة بمعاهدات عسكرية واقتصادية وثيقة، ولكل منا الحق في تخيل نتائج هذا الأمر لو حدث.
إذن: انتصار الثورة السورية أمر هام وحاسم وضروري لتماسك هذه المنطقة من العالم.

Tuesday, October 2, 2012

كفانا نفاقاً وازدواجية


    لا شك أن للمجتمعات، كما للأفراد، طبائع وأخلاقاً، تتبلور على مدار مئات السنين بل حتى آلافِها، متأثرة بمنظومة عوامل سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية معقدة، بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيتها، تستحضرها في المواقف المناسبة لها،وتستخدمها عن غير وعي منها في حالات تمر بها، فخصلة الكرم قد رسختها في نفس الإعرابي قسوة الصحراء وندرة الموارد، والشجاعة التي تحلى بها العربي ابن البادية قد ساعد على تثبيتها التهديد الذي كان واقعاً تحت وطأته من قبل القبائل الأخرى، أما النفاق مثلاً فقد ولّده الخضوع لحكم خلفاء وسلاطين مطلقي الصلاحية، يعزون سلطتهم المطلقة في كثير من الأحيان إلى أنهم ظل الله على الأرض، فشجعوا المنافقين، وأجزلوا لهم العطاء، فهل رأيت نفاقاً أكثر من قول الشاعر ابن هانيء الأندلسي مخاطباً المعز لدين الله الفاطمي، رافعاً إياه، ليس إلى مرتبة النبوة فحسب، بل والألوهية أيضاً؟، فاسمعه يقول:

            ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدار         فاحكم فأنت الواحد القهار

            وكأنما أنـت النـبـــيَّ مـحمـداً         وكأنما أنصارك الأنصار

    وهكذا، فالطباع كما كل شيء آخر، فيها الإيجابي كما فيها السلبي، وإذا كان الإيجابي منها هو طبيعة الأشياء، ولا فضل لأحد بتبنيه لأنه هو الواجب اتباعه، فإن السلبي هو الذي نحتاج إلى إلقاء الضوء عليه، كما وأنه لكون هذه الطباع عامة تتلبس جميع شعوب الأرض، فلا ضير من اعترافنا بوجودها لدينا، بل والتشهير بالسلبي منها واستنكاره، علَّ القادم من الزمن يمحو ما تراكم منها في ما مضى منه، ولربما قدَّمَ عنوان هذا المقال لما يريد أن يقوله، فالنفاق وازدواجية المواقف موجودة عندنا، كما هي عند غيرنا، لكن تجذرها في مجتمعات الأمية والفقر والاضطهاد يكون أعمق وأوضح للعيان، وقد بين الكتاب الكريم هذين النوعين الذميمين من الطباع، فالنفاق نزلت فيه (سورة المنافقون)، وهم الذين يتملقون الآخرين باللسان، ويبطنون عكس ما يظهرون (وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)، (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون – البقرة 14-)أما ازدواجيو المواقف، فقد سمّاهم القرآن الكريم (المطففين)، ونزلت فيهم كذلك (سورة المطففين) وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون 1-2-3- المطففين)، ولكن المأساة الحقيقية للازدواجية والنفاق أنهما وثيقا الصلة بالكذب، فالأولى كذب على الذات، بينما الثاني كذب على الغير، ولأنهما يشتركان في نقيصة الكذب، فربما اختلطا وتماهيا بحيث يصعب تمييز أحدهما عن الآخر، والآية الثانية من (سورة الصف) تعاتب المؤمنين على تناقض قولهم مع فعلهم:( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون- الصف 2) ففيها ذم للازدواجية والكذب في آنٍ معاً. ولو حاولنا تبين بعض مواقف وملامح الازدواجية والنفاق، لما أعيتنا الحيلة لبيان بذلك:

1- فلو بدأنا بالواقعة الأخيرة المتعلقة بالفيلم المسيء إلى سيدنا رسول الله ص، لتبدت لنا الازدواجية واضحة للعيان، فالعالمين العربي والإسلامي انتفضا غضباً لما لحق برسولهم الكريم من أذية عن طريق نشر ذلك الفيلم المبتذل، وتعالت صرخاتهم مطالبين الإدارة الأمريكية بمعاقبة من كان وراء إخراج وإنتاج وتمثيل الفيلم المذكور، وحجبه عن المشاهدة، لكن الإدارة اعتذرت عن تنفيذ ما طلب منها، لأن في ذلك تقييداً لحرية التعبير عن الرأي حسب رأيها، فازداد غضبنا وهياجنا، ولكن، أليست ذريعة الإدارة الأمريكية هي نفس ذريعة الأنظمة العربية والإسلامية عندما نطالبها بإغلاق فضائيات دينية متطرفة، أعملت مبضع التخريب والتهديم داخل البيت الإسلامي؟، فمن محطات شيعية تهاجم أصحاب الرسول وزوجاته، إلى محطات سنية تكفر الشيعة، وتعتبرهم خارج جماعة المؤمنين، هذا إلى جانب فضائيات تتحدث عن الجن والسحر والشعوذة، وهي جميعها مخجلة إلى الحد الذي يدفع إلى الاستغراب من ترخيصها، والسماح لها ببث شعوذاتها وسخافاتها إلى ملايين المشاهدين. فإذا كنا نرفض الحجة الأمريكية في احترام الحريات تبريراً لعدم حجبها مواقع معينة، فلماذا نتمترس خلف نفس الحجة، فتبقى الفضائيات التافهة، تلك التي ينتج عنها تدمير للوحدة الإسلامية، وخراب للفكر الإسلامي، تبقى عاملة بحجة عدم المساس بحرية التعبير؟، وأليس في موقف حكوماتنا هذا ازدواجية في المعايير مخجلة؟. إن إغلاق بل وتحريم الفضائيات الرديئة التي تحض على الفتنة هي أهم بكثير من استنكار ذلك الفيلم البذيء، لأنه إذا كان الفيلم قد جمع المسلمين على قلب رجل واحد، فإن تلك الفضائيات تعمل على تشتتتهم وفرقتهم وتناحرهم، ولا بد للمراجع الدينية والحكومات من أن يكون لها موقف واضح وصريح منها، وإلا فإن صفة الازدواجية ستبقى عاراً يتلبسهم جميعاً.

2- متفرعاً عن الفقرة السابقة، نفتخر دائماً بإيماننا بجميع الأديان والرسل، ونصلي ونسلم عليهم جميعاً، لأن هذا ركن أساسي من أركان الإيمان:( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدا – النساء 136-)، ولكن ما بالنا نسمع ونرى أفلاماً وأعمالاً فنية تسيء إلى السيد المسيح عليه السلام وأمه السيدة مريم العذراء البتول، سيدة نساء العالمين، فلا نتحرك ولا نتظاهر؟، أم أننا رضينا بمقولة أن مكانة نبينا تفوق مكانة جميع إخوته الذين سبقوه على طريق الإيمان، والذين أُمِرنا أن نؤمن بما جاؤوا به؟، أم نقول في أنفسنا (هو نبيهم، وهم أحرار فيه)؟، هذه ازدواجية أخرى لا نعترف بها، ولو اعترفنا بها لبررناها بمئة حجة وذريعة.

3- نأخذ على المسيحيين تبشيرهم بدينهم بين الشعوب والقبائل اللامتدينة، بينما نطالب نحن بالحرية المطلقة في نشر ديننا – وهذا حق لنا – ونبني مساجدنا في كل مكان، لكننا نستغرب، بل ونستنكر، بناء كنيسة في بلد عربي فيه مجموعة من أهل الكتاب، لهم حق مشروع في بيت للعبادة. ليس هذا فحسب، بل إن جهدنا قد تحول – بدل تبشير الآخرين بالإسلام الحنيف – إلى نشر المذاهب الإسلامية بين المسلمين أنفسهم، فبدأنا نسمع مؤخراً عن سني تشيع، أو شيعي تسنن، وفي هذا بلاهة ما بعدها بلاهة، بينما المنطق يقول أنه لو أعجِبَ سني بالفقه الجعفري، فلا بأس عليه من تبنيه مع بقائه سنياً، ولو عثر شيعي على ضالته في الفقه السني، فلا تثريب عليه أن يأخذ به مع استمرار كونه شيعياً، أما هذا الصراع المستعر على الهواء بين فضائيات حمقاء، كل منها يسوِّق مذهبه وفكره الديني، فهي سخافة يجب أن تتوقف، وهي بالبلبة التي تحدثها، تذكرك ببيتي شعر أبي العلاء المعري:

                   في اللاذقية ضجة       ما بين أحمد والمسيح

                   كل يعـزز ديـــنـه       يا ليت شعري ما الصحيح

فإذا كان المعري قد استنكر المعركة القائمة في عصره ما بين أنصار أحمد وأنصار المسيح، فما بالك بالمعركة المستعرة هذه الأيام ما بين أتباع أحمد وأحمد*. نحن اليوم، بتفتتنا وتشتتنا مللاً وشيعاً، هم الذي قال فيهم القرآن الكريم:(ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون– سورة الروم 31-32).وكذلك:(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون – الأنعام 159 -).

4- أما في النفاق، وما أدراك ما النفاق، فكم كانت وعود مؤتمرات القمة العربية والإسلامية كريمة معطاءة مع المشردين في قطاع غزة إثر العدوان الإسرائيلي عام 2008، حيث رصدت مليارات الدولارات – على الورق طبعاً -، ووضعت خرائط ومشاريع إعمار ما دمره العدو – على الورق طبعاً -، ومع ذلك مضى على تلك الحرب 4 سنوات وما زال من فقدوا مساكنهم يعيشون في خيام بائسة، فهل هناك أحط من هذا النفاق؟، أما اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات لبنان وغيرها في باقي الدول العربية، فقد اعتاش الحكام العرب على قضيتهم، فتحكموا برقاب شعوبهم بحجة العمل من أجل تحرير فلسطين، فأكلوا من ورائها السمن والعسل، بينما بقيت تلك المخيمات تضم في أحشائها عشرات آلاف اللاجئين الذين يعيشون، ليس تحت خط الفقر فحسب، بل تحت خط الكرامة الإنسانية، ونستمر في سماع نعيق الذين يقسمون على تحرير فلسطين، بينما هم يمتهنون كرامة أبناءها، فهل بعد هذا النفاق من نفاق؟، ثم أننا كثيراً ما نسمع عبارات تصف تصريحاً لأحد المسؤولين العرب بأنه (للاستهلاك الداخلي) وتصريحاً آخر بأنه (للاستهلاك الخارجي ) فهل نحن بحاجة إلى ذكاء حاد لكي نصنف هذا الأمر على أنه نفاق وازدواجية صريحان وقحان، وقد وردت في مقدمة المقال آيات قرآنية تصف المنافقين لا حاجة لتكرارها.

5- ومتفرعاً عن الفقرة السابقة: نشط الإعلام العربي والإسلامي مؤخراً في إظهار تأييده لطائفة الروهينغيا الإسلامية في بورما، واستنكار ما تتعرض له من اضطهاد على يد البوذيين هناك، وعندما عرفتُ مظاهر اضطهاد الروهينغيا، وجدتها تتطابق تماماً مع مظاهر اضطهاد الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، خاصة في لبنان، فهم ممنوعون من العمل (حتى ولو بواب عمارة)، ومن حق التملك (ولو عربة لبيع الخضار)، ومنعهم من العيش إلا داخل المخيمات، والقتل في بعض الأحيان (وبطولات قصف المخيمات وإعمال المجازر فيهم حفظتها بطون التاريخ القذر لمن قاموا بها)، لكن يبدو أن الإعلام العربي والساسة العرب قد استمرأوا اضطهاد الفلسطينيين على مدى ستة عقود ، فلم يعد لهم ذكر لا في الإعلام ولا في السياسة، حتى أولئك الذين يدّعون نصرة الله ورسوله، نجدهم يتخاذلون عن نصرة وإنصاف عبيد الله وأتباع رسوله، وكأن اللاجئين الفلسطينيين ليسوا عرباً ولا مسلمين، فهل بعد هذا نفاق وكذب وازدواجية.

6- نطالب الآخرين بفعل ما نمتنع عن فعله نحن: فكم سمعنا من نداءات موجهة إلى بابا روما تطالبه بتقديم اعتذار عن الحروب الصليبية، ولو طلب منا أحد تقديم اعتذار عن الفتوحات الإسلامية في أوربا، لكررنا عليه الجملة التي قالها يوماً ما (غوستاف لوبون):”ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب”، لكننا لو تفهمنا رغبة الصحابة الأوائل في الفتح في سبيل نشر دين الله في أقطار الأرض، فليس لنا أن نتوقع بأن كل من خرج مجاهداً قد خرج لنفس الغرض، فللدنيا متطلباتها، وللنفس أهواؤها وأوامرها بالسوء كما بالخير، ولو تفهمنا الفتوحات الإسلامية في البلاد العربية التي كانت خاضعة للروم والفرس، وفيها قبائل عربية، كما في الشام والعراق وشمال أفريقيا، فماذا نقول للأسبان والبلغار والصرب والنمساويين والفرنسيين عن وصول جيوش المسلمين إلى أراضيهم وإزالة ملوكهم وممالكهم واحتلال القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ؟، وماذا سنقول عن جريمة تشكيل الجيش الإنكشاري من قبل العثمانيين، ذلك الجيش الذي كان يتشكل من أطفال أوربيين أسرى، ثم يدخلون في الإسلام ويتدربون على فنون القتال، ثم يرسلون لقتل آبائهم وإخوتهم في الحروب التي يخوضها الأتراك في أوربا؟، صحيح أنه قبل تخطيط الحدود بين الدول، كانت حوافر الخيول وأقدام الجنود هي التي ترسمها، وكنتَ إن لم تغزِ جارك، فسيقوم هو بذلك، ولذا، كان الأجدر بنا السكوت عن طلب الاعتذار، لأننا لن نقدم ما يماثله للآخرين.

7- ومن البديهي والطبيعي، طالما أن الازدواجية والنفاق هما مرضان اجتماعيان، أن نرى تجلياتهما ليس في ميادين الدين والسياسة كما مر ذكره فحسب، بل وفي الميدان الاجتماعي أيضاً، حيث ترى أحدهم مثلاً يمارس سلطة معينة على أهل بيته من حيث اللباس والسلوك العام في بيئة ودولة معينة، لكنه يتخلى عن كل ذلك بمجرد انتقاله إلى بيئة ودولة أخرى تناقض بيئته الأصلية، فتتغير ملابسه وملابس عائلته، ويتبدل سلوكه مع غيره ومع أهله، حتى لتظنه إنساناً آخر، لكنه عندما يرجع إلى بيئته الأصلية، يعود كما كان فيها من قبل، دون أن يخامره أي إحساس بنفاق أو ازوداجية.

8- أخيراً: رغم أن غالبية من سيقرأون هذا المقال متفقون مع جميع ما ورد فيه، ويستطيعون اكتشاف مظاهر أخرى كثيرة للنفاق والازدواجية أكثر مما فعلت، غير أنني مع ذلك أتوقع أنهم سوف يحتجون على مضمونه، والصراحة الواردة فيه، كل ذلك متوقع ومفهوم، لأنه ببساطة: استكمال للازدواجية المتأصلة فينا، والتي نتقن ممارستها بمهارة واقتدار، هذا إذا كنا نمتلك الشجاعة الأدبية الكافية للإقرار بذلك، تمهيداً لتصحيح ما اعوج من خلق.

 =======================================
*- من يزر المسجد الأموي، يرى على جدار القبلة أربعة محاريب، كانت في السابق مخصصة لأتباع المذاهب السنية الأربعة: الشافعي، المالكي، الحنفي، الحنبلي، وكم شهدت شوارع دمشق قديماً، معارك دامية بين أنصار هذه المذاهب، وكان موضوع الخلاف فيما بينهما سخيفاً، يتعلق مثلاً بـ: هل يجب وضع اليدين على السرة، أم يجب تنزيلهما إلى الجانبين أثناء الصلاة؟.