Thursday, October 18, 2012

ليس كل ما في المخيم موتاً (من وحي الحرب على المخيمات الفلسطينية في لبنان (1985-1989)


المكان: أطراف جرح مزمن بين أكواخ تستلقي مبعثرة، لا يجمعها إلاّ الفقر والإصرار، والأمل والحصار . 

السكان: أناس طيبون جداً، متهمون بحب الوطن حد التعاسة، يموتون بحساب أحياناً، وبلا حساب في معظم الأحيان، ذنبهم الوحيد أنهم بشر بلا وطن.

الزمان: في وقت لم يخترع بعد، فلهم رئاتهم الخاصة، وزمانهم الذي يتنفسون فيه.

:{عندما يتهددنا الموت في كل ثانية، يتشكل الزمن على نحو أسطوري، فتستطيل الدقيقة لكي تصبح دهراً بأكمله، أو يتكور العمر كله ليصبح في حجم اللحظة، ومابين صوت إطلاق القذيفة وانفجارها، مساحة تكفي للموت ألف مرة}، هكذا كان ”أبو جمال” يفكر بينما هو قابع داخل الملجأ. نظر من فتحة في أعلى الجدار، فرأى جثتي شهيدين، عجز المقاتلون – بسبب غزارة النيران – ، عن سحبهما، تتمددان بهدوء واثق، فانحنت عليهما أغصان شجرة باسقة تحميهما من أشعة الشمس الحارقة، فاكتملت في ذهنه صورة رائعة من صور الموت والحياة، فليس كل ما في المخيم موتاً .

منذ أشهر والسماء تمطر حمماً، والحصار مطبق على المخيم كوحش يريد افتراس سكانه،،، ضاق المكان بالناس وسدت في وجوههم الطرق،،، حتى الأموات منهم لم يعودوا يستطيعون الوصول إلى مثواهم الأبدي في المقبرة العامة، فاضطر ذووهم إلى دفنهم في ساحة المسجد على عجل دون أن يتمكنوا من تثبيت شواهد على القبور، فكانت الساحة قبراً جماعياً، أهال فيه السكان التراب على أجساد أحبائهم، وعلى بقايا الشرف العربي الذي يبدو أنه قد صار في عداد الأموات،،، نفذ الطعام، فاضطر المحاصرون إلى أكل لحوم القطط والكلاب.

بالأمس هدأ قليلاً القصف على المخيم من التلال المجاورة، فاقترحت القيادة خروج النساء والأطفال والشيوخ فراراً من موت محقق،،، خرج معظم أولئك الشيوخ باستثناء ”أبو جمال”. هو رجل سبعيني من مواليد قرية ”الشجرة”، خاض مع والده ”جمال سمارة” معاركها الثلاث، من شباط – فبراير إلى تموز – يوليو 1948، والتي سقط فيها والده وعمه شهيدين، الأول في المعركة الأولى، والثاني في المعركة الثالثة، فكان لا بد له وللعائلة من الهجرة إلى الشمال. بعد سنتين في بلد المهجر، رزق بابنه الأول والوحيد، فأعطاه اسم جده: ”جمال”، وفي الأسبوع الفائت، وبعد زواجه بشهرين، كان لجمال ما أراده من مصير جده، فسقط شهيداً خلال القصف العنيف، وعندما غادرت جموع النساء والأطفال والشيوخ المخيم يوم أمس، كانت زوجة جمال من بينهم.

يأخذ أبو جمال نفساً عميقاً من سيكارته،،، يحضن بندقيته جيداً، وينتظر مع الآخرين توقف القصف كي يخرج ليتفقد أحوال المخيم، فهو مختاره بعد أن توفي ”أبو العبد” مختاره السابق منذ سنوات، وكان هذا ما دفعه إلى البقاء بين المقاتلين، وفاء لمسؤولية كان يحملها على أكتافه تجاه أبناء مخيمه.

طالت أيام الحصار، وبينما ”أبو جمال” وبعض المقاتلين يقبعون داخل الملجأ، بدأت الأرض تبرز مفاتنها الخضراء،،، فعلى البيوت المتهدمة بفعل القصف المستمر، تتسلق الأعشاب فَرِحةً، وتنمو بنشاط عجيب، فتعطي الخرائب شكلاً ناطقاً بالجمال والحياة، وأعشاب الزعتر البري والميرمية تعبق المكان برائحة تبدو قادمة من عمق الذاكرة القروية. هكذا كان يرى ويحس وهو واقف ينظر من فتحة في أعلى جدار الملجأ،،، فليس كل ما في المخيم موتاً .

سمرته في مكانه ضحكات مجموعة من أطفال المخيم – لم يتمكن ذووهم من الخروج بسبب استئناف القصف – كانت تلهو خارج الملجأ، غير عابئة بالقصف المستمر،،، ازدادت رقبته اشرئباباً، وارتفع على رؤوس أصابعه حتى يرى بصورة أوضح . . ها هو يراهم الآن بوضوح تام وقد تفجرت الحياة في وجناتهم ، وفي عيونهم البراقة رأى الأمل متكدساً بإصرار رائع وعجيب، فازدادت قناعته بأنه ليس كل ما في المخيم موتاً .

الطبيب الوحيد في المخيم يربت على كتفه، استدار منتبهاً كمن أفاق من حلم جميل، وابتسامة عريضة على شفتيه… الطبيب يزف إليه البشرى، فالأخبار التي جاءته من خارج المخيم تقول بأن الغثيان الذي كانت تشعر به زوجة ابنه ”جمال”، ليس إلاّ علامة مؤكدة على أن سكان المخيم سوف يزدادون لاجئاً عما قريب … هلل صارخاً: ألم أقل لكم أنه ليس كل ما في المخيم موتاً.

دوّى انفجار هائل ألقاه أرضاً مع الطبيب… عاد إلى الفتحة في أعلى الجدار، فرأى خزان الماء الوحيد في المخيم وقد اخترقته القذيفة، فبدأ ماؤه في التسرب بسرعة، غير أن سقوط القذيفة وانفجارها على سطح الأرض أدى إلى حفر بئر عميقة، تفجر الماء منها بغزارة هائلة… ولا عجب، فليس كل ما في المخيم موتاً .

سرح بفكره وهو ينظر من فتحة الملجأ. قال في نفسه: كم هو رائع هذا المكان المعجزة حين نعيد بناءه، فقذائف المدفعية دمرت أجزاء كثيرة من دوره القديمة، تلك التي فشلت اللجنة الشعبية في استصدار موافقة من السلطات المحلية على هدمها… هناك، في ذلك المكان الكامل التدمير ستكون ساحة الشهداء ونصبهم التذكاري، ومنها ستنطلق الشوارع في كل الاتجاهات: شارع فلسطين، شارع القدس، شارع صلاح الدين، شارع أبو على إياد، شارع عز الدين القسام، شارع عين جالوت، شارع اليرموك، شارع حيفا،،، آه، كاد أن ينسى: وشارع الشجرة أيضاً . . . جميع تلك الشوارع سوف تلتقي مع الشارع الرئيسي الذي سيحيط بالمخيم من جميع نواحيه: إنه شارع العودة.

شكراً جزيلاً للقذائف، فليس كل ما في المخيم موتاً: لا الجثتان، ولا رائحة الزعتر البري، ولا وجنات الأطفال، ولا غثيان زوجة ابنه، ولا بئر الماء، ولا الدمار الشامل، ولا الشوارع العريضة سوى رفض لحصار الموت، فليس كل ما في المخيم موتاً. هكذا اقتنع الآن، فأسند رأس صديقته البندقية إلى صدره، ودخل في سبات عميق.


No comments: