Friday, October 12, 2012

التصوير الرقمي قاتل المحترفين


بما أن لكل موضوع مقدمة، أقدم بالقول بأن نوازع الشك في نفسي قد وسوست لي ذات لحظة بأن مخترع التصوير الفوتوغرافي إنما كان هاوي رسمٍ فاشلاً، وعندما قصَّرتْ إمكانياته عن مجاراة هوايته، فكر في اختراع وسيلة يستطيع بها أن ينقل ما تراه عيناه إلى الورق بتطابق تام، وقد كان له ما أراد. مجرد وسواس خناس. 

ففي مجال تقنية الكاميرا، كانت الأجيال الأولى منها بسيطة للغاية، فقد ظهر نموذجها الأول عام 1685 حيث كانت تلك الكاميرا عبارة عن صندوق أسود في أحد جوانبه فتحة ركبت عليها عدسة تسمح بمرور الضوء إلى داخل العلبة.

ولكن الحقيقة أن اختراع التصوير على بدايات شكله الحالي كان يد على اثنين: الأول إنكليزي والثاني فرنسي، وفي نفس الوقت تقريباً، في عام 1839، ومنذ ذلك الحين مر فن التصوير وصناعته بمراحل أوصلته إلى ما هو عليه هذا اليوم.

ولا شك أنه بعد العلبة السوداء الأولى ذات الثقب الذي يسمح بمرور الضوء، أي الصورة، لكي تسقط على ورق حساس للضوء ( والذي سمي فيما بعد ” الفيلم ”)، بعد تلك العلبة السوداء بفترة ليست بالطويلة، انصب اهتمام صانعي الكاميرات على تحسين وتجويد تقنياتها ومواصفاتها ( جودة العدسة وفتحتها، سرعة الغالق، متانة هيكلها)، كما تابع كيميائيو التصوير أبحاثهم لتحسين نوعية الفيلم من حيث مادته الأصلية وشدة حساسيته للضوء.

ثم تطورت الآلة بعد ذلك إلى أشكال مختلفة وبمواصفات معينة، وربما فتحنا عيوننا على تلك الكاميرات التي كانت على شكل صندوق، لها من الأمام عينان وفم كأنها قطة، يحملها المصور بين يديه مدلياً إياها حتى وسطه، ناظراً من فتحة زجاجية في أعلاها لكي يرى المنظر الذي يريد تصويره. أما أول كاميرا اشتريتها مع نهاية خمسينيات القرن الماضي فقد كانت من نوع أكفا، تميزت في حينه بإمكانية النظر من خلال فتحة في أعلاها لرؤية المشهد المراد تصويره، كحال كاميرات هذه الأيام، وكان لها خياران فقط للتصوير: التصوير في ضوء الشمس، أو التصوير في الظل، يُنقل من أحدهما إلى الآخر بذراع معدنية صغيرة، أما فتحة العدسة، وسرعة الغالق، والتحكم بالمسافة، فكانت ثابتة لا مجال للمصور أن يتحكم فيها، أما العدسة فقد كانت بدائية، يركب خلفها الغالق الذي يتحرك فتحاً وإغلاقاً بواسطة نوابض دقيقة، كي يُسمح للضوء بالدخول إلى السطح الحساس للضوء (الفيلم) والمثبت في مؤخرة صندوق الكاميرا. بعد هذا النموذج بدأت النماذج الجديدية بالتتابع إلى الأسواق، غير أن توضيح الصورة (أي ضبط المسافة) كان يتم بتحريك العدسة يدوياً، كذلك كان يتم تحديد سرعة الغالق ومقدار فتحة العدسة يدوياً، وهما اللتان كان يتوقف عليهما تلقي كمية الضوء المناسبة للحصول على صورة ناجحة، وفيما بعد كان يعد تطوراً عظيماً تزويد الكاميرا بمؤشر يبين مقدار الإضاءة المطلوبة، فهو يتأرجح بين المنطقة السفلى للمؤشر التي تعني أن الضوء الداخل قليل، والمنطقة العليا من المؤشر التي تعني أن الضوء الداخل زائد عن الحاجة، لذا كان على المصور ضبط المؤشر على المنتصف، وكان ذلك يتم بتغيير فتحة العدسة أو سرعة الغالق أو كليهما معاً، مما يضمن الحصول على الضوء المناسب لصورة ناجحة.

أما الفيلم المستخدم في تلقي الضوء داخل الكاميرا، فقد ظهرت أولى تجلياته منذ العام 1876 على شكل صفيحة من النحاس عليها طبقة من الفضة، واستمرت صناعة الأفلام بالتطور إلى أن وصلت إلى الشكل الذي هي عليه الآن، مروراً بالفيلم البلاستيكي الذي صنعته ”كوداك” عام 1889 وظهور الفيلم الملون عام 1890، والذي لم يطرح تجارياً إلا في عام 1936، وقد تنوعت الأفلام من حيث أطوالها ( 120-220-36) والتي كان كل منها يعطي عدداً معيناً من الصور. في أيام ضيق ذات اليد، كنا نشتري الأفلام الرخيصة من استوديوهات التصوير على شكل ما عرف بـ (التعبئة)، حيث كان البائع يقتطع لنا جزءاً من لفة فيلم كبيرة، ويعبئها في علبة أفلام فارغة، فكنا نحصل على 40 صورة أو أكثر، بينما كانت الأفلام العادية (المختومة) الغالية السعر تعطينا 24 أو 36 صورة.

زبدة الكلام: إن مصور ما قبل عصر التصوير الرقمي كان فناناً بامتياز، فهو في معركة دائمة، وحيل مبتكرة لكي يحصل على صور ناجحة، فاختيار حساسية الفيلم عامل أساسي في نجاح الصورة، إلى جانب تحديد فتحة العدسة وسرعة الغالق وضبط المسافة، وبعد كل هذا عليه الانتظار الممل حتى يحصل على نتيجة جهده من مختبر تحميض الأفلام.

وقد شهد تاريخ التصوير الفتوغرافي، خاصة منه تصوير الأشخاص، مصورين محترفين سيبقى ذكرهم خالداً حتى مع ظهور التصوير الرقمي، ومن هؤلاء كان المصور الأرمني المشهور(هيرش)، الذي عاش في نيويورك منتصف القرن الماضي، ومما عرف عنه أنه كان مصور المشاهير، فلم يكن هناك سياسي (وما أكثرهم من زوار الأمم المتحدة) أو فنان أو مشهور يهبط المدينة دون أن يقصد (هيرش) هذا لكي يلتقط له صورة، وذلك بعد أن يكون قد أخذ موعداً قبل ذلك بأشهر. ومما عرف عن ذلك المصور المبدع أنه لم يكن محترفاً في ضبط الكاميرا فحسب، بل كان يقرأ مسبقاً كل ما يستطيع معرفته عن الشخصية التي سيصورها، حتى يستطيع استخدام هذه المعرفة في إضفاء مسحة النجاح على الصورة، ومن أوضح الأدلة على ذلك صورة (ونستون تشرشل) المشهورة التي يظهر فيها متميزاً غضباً، ممسكاً بسيكاره الشهير. فمما عرفه (هيرش) عن (تشرشل) سرعة غضبه، فأحب أن يركز في الصورة على هذه الخصلة، فلما جاءه زبونه، أدخله باحترام إلى داخل الاستوديو، وبدأ يتحرك بطيئاً في ضبط الإضاءة والستائر الخلفية، ثم استدار خلف الكاميرا لكي يدخل فيها لوحة الفيلم ببطء شديد، ثم اقترب من العدسة فضبط فتحتها، ثم عاد لكي يستبدل لوحة الفيلم بأخرى، وتشرشل ينتظر وينتظر بضيق واضح تحت الأضواء الساطعة، بينما كانت عينا المصور تراقبان باهتمام ما بدى على وجه الضيف من ضيق ونرفزة، وعندما اعتقد (تشرشل) بقرب انتهاء المصور من استعداداته، استأذنه (هيرش) وخرج من غرفة الاستوديو إلى مكتبه، عندها انتفض الرجل العجوز مزمجراً، وكاد أن يقوم عن الكرسي، لولا أن كان المصور أسرع منه، فالتقط له تلك الصورة النادرة التي تبين (تشرشل) في حالة غضب شديد، مثَّل في رأي الكثيرين ممن رأوا تلك الصورة بأنه ليس غيرها كان يمكن له أن يمثل قوة وعظمة وغطرسة بريطانيا في تلك الأيام.

هكذا كان حال المصورين، ليس المحترفين فقط، بل وحتى الهواة منهم،،، كانوا يبذلون جهداً خارقاً للحصول على صورة جيدة، فماذا حدث بعد ظهور التصوير الرقمي، بآلات تصوير تقوم آلياً بضبط كل شيء: الفيلم، والذي حل مكانه مايعرف بـ (CCD)، وحساسية الفيلم، التي تعرف باسم (ISO)، وسرعة الغالق، وفتحة العدسة، وتحديد المسافة؟، ماذا بقي بعد ذلك لحامل الكاميرا (ولا أقول المصور) سوى الضغط بإصبعه والتقاط الصورة؟، فتضاءلت قيمة حرفية المصور درجة الإهمال، وبدأ الأطفال بالتقاط صور ناجحة تضاهي في جودتها تلك التي كانت مدعاة إعجاب الجمهور قبل عقدين من الزمن، ليس هذا فحسب، بل إن ظهور برامج تعديل التصويرالرقمي (الفوتوشوب وأشباهه) أصبحت في خدمة حتى الفاشلين من المصورين، فبواسطتها تعدل الإضاءة، ومقدار تركيز اللون، ودرجة الوضوح والتباين، بل ويمكن قص ولصق الصور، بحيث يمكن لصق صورة (تاتشر) مع صورة (شعبان عبد الرحيم) أثناء زيارته التاريخية لـ 10 داوننغ ستريت في لندن، رغم أن شعبولا كان ما يزال طفلاً عندما كانت تاتشر رئيسة للوزراء، ولو عاش (تشرشل) إلى يومنا هذا، لكان بإمكان ابن حفيده أن يلتقط له صورة أنجح من تلك التي شد الرحال من أجلها إلى نيويورك.

رحم الله المصور المحترف، فقد اغتالته يد التصوير الرقمي الآثمة.


No comments: