Saturday, June 28, 2008




المحروسة
(قصة قصيرة)

في قريتنا الجبلية الوادعة،حيث الأرض كريمة معطاءة والإنسان كسول الهمة متخلف الوسائل،لم تكن الفاقة متفشية بيننا،كما لم يكن الغنى معروفاً عندنا،بل كنا نعيش حياة هي أقرب إلى الكفاية منها إلى الوفرة،،تناول اللحوم كان يتم فقط في الأعياد الدينية– وما أندرها–،أو في مناسبات الأفراح– وما أفقر أصحابها-،وجدتي واحدة من سكان القرية الذين يعتمدون في غذائهم على تناول البروتين النباتي المتمثل في الحبوب المطبوخة والمسلوقة، كالفول والعدس،أما البروتين الحيواني فكان يأتينا من حليب المواشي وبيض الدجاج .

جدتي هذه مربوعة القامة تميل إلى القِصَر،عيناها زرقاوتان صغيرتان،وأنفها مستدق يتوسط وجهاً مازال يحمل بعضاً من نضارة أيام الشباب،أصولها الشركسية تبدو جلية في لغتها العربية، تلك التي كان جدي يسميها(المكسَّرة)حيث كانت تستبدل التذكير بالتأنيث،وكان هذا باعثاً لنا على الضحك-المفضوح أحياناً،والذي كان يُغضبها،والمكتوم في معظم الأحيان،حتى لا يثير غضبها– خاصة في سهرات ليالي الشتاء الطويلة.

بين دجاجات جدتي كانت هناك(المحروسة):دجاجة لونها ناصع البياض،ماهرة في التقاط غذائها بمنقار وردي اللون،ثخينة الفخذين،تباعد ما بينهما حين المشي حتى لتحسبها ديكاً يتبختر،، ذيلها طويل مزدوج الانحناء،وجناحاها متينان كأنهما جناحي صقر شرس،يعلو رأسها عُرفٌ أنيق الشكل،رشيقة القفز،تسير بين بنات جيلها،فتبدو أعلى منهن قامة،وأكثرعنفواناً.(المحروسة) كانت هي الأقرب من بين جميع الدجاجات إلى قلب جدتي وكأنها لم تكن تملك سواها،،كانت تطعمها الحبوب من كفِّها،وتمسح برفق على عُرفها وذيلها،فكانت(المحروسة) تستكين لها وتهدأ بين يديها ، على عكس باقي الدجاجات الجموحة.كانت جدتي تجمع البيض صباحاً من أقنان الدجاج،وتقسم على أن بيض(المحروسة)ألذّ في طعمه من طعم بيض الأخريات،معللة ذلك بالدلال الذي تتمتع به المحروسة على يديها،والحُبوب التي كانت تغدقها عليها دون سائر الطيور.

في ذلك الصباح،لم يعلم أحد منا السر الكامن وراء صراع نشب بين الديك الوحيد في الحظيرة وبين(المحروسة)،فقد انهال ذلك الديك الشرس عليها ضرباً بجناحيه القويين،ونقراً بمنقاره المعقوف الجارح،وركلاً بساقيه الطويلتين،حتى أفقدها الوعي،وسال الدم من رأسها وشارفت على الهلاك،وهي تحاول الدفاع عن نفسها أو الفرار منه دون أن تتمكن من ذلك،والجميع ممن يراقبون المشهد يحاولون الفصل بينهما دون جدوى،إلى أن انهالت جدتي على الديك بعصى غليظة ففر هارباً إلى داخل القن ، تلاحقه توعُّدات جدتي له بالويل والثبور.

حملت جدتي(المحروسةَ)بين يديها والدموع تكاد تنفر من عينيها،والدجاجة تنظر إليها باستعطاف وكأنها تشكو إلى أمها العجوز قسوة ذلك الديك المجرم.وسَّدت جدتي الدجاجة في سلة قديمة،ثم وضعتها على رف في المطبخ،وبدأت تتفقدها مرة بعد أخرى للاطمئنان عليها،والدجاجة تغفو وتصحو ثم تغفو،ربما من شدة الألم.

صباح اليوم التالي،كانت جدتي تجلس في ساحة الدار الترابية وقد تربع على جبينها همٌّ مقيم، إذ يبدو أن الإصابات التي لحقت بالدجاجة بعد عراك الأمس مازالت مؤثرة في نفس جدتي،فقد لاحظنا أنها لم تتناول طعام الفطور كعادتها كل يوم،بل اكتفت باحتساء كوب من الشاي،ومن بعيد كنت جالساً أختلس النظر إلى وجهها،فأقرأ فيه علامات يأس بائس من شفاء(المحروسة) . أطرقت جدتي رأسها وأطالت،دمدمت وهمهمت بلغتها التي لا أفهمها،ثم فجأة،رفعت رأسها وسمعتها تنتهرني قائلة:(تعالي ياولد،خذيها في الحال واذبحيها عند جزّار القرية).إذن صدق ظني في يأس جدتي من شفاء(المحروسة)،وهاهي تريد إنهاء عذاباتها بذبحها على يد جزّار القرية،أما بالنسبة لي فقد كان هذا بشارة باقتراب تناول وجبة دسمة من لحم الدجاج،تلك التي لم نذق طعمها منذ أشهر. أصدرت جدتي أمرها ذاك وانطلقَت إلى الحقل لقطف بعض الخضروات من أجل تجهيز وجبة الغداء.

بفرح غامر قفزت إلى السلة التي ترقد فيها(المحروسة)،ولدهشتي وجدتُها وقد انتعشت قليلاً ، غير أنني خشيت أن أخبر جدتي بذلك فتعدل عن ذبحها،فأسرعت إلى كيس صغير من الخيش أدس فيه الدجاجة،وأنطلق إلى دكان الجزار،بسرعة طفل في العاشرة يحلم بوجبة شهية من لحم الدجاج.

من خلف كفَّي الصغيرتين اللتين غطيت بهما وجهي كنت أرى الدم يتدفق من عنق الدجاجة المسكينة وقد جزَّتها نصل السكين الحادة،والدجاجة انفلتت من بين يدي الجزار تضرب الأرض بجناحيها مثيرة غباراً عالياً في ساحة القرية،والجزار يضحك عليَّ أنا المختبيء خلف أصابعي المرتعشة،،وعدد من الأطفال يتابعون هذا المشهد بكثير من الفضول.

سكنت حركة الدجاجة تماماً،وكان عليّ أن أعيدها إلى كيس الخيش،فنفضت التراب عنها وأنا أرتعش أكثر من ارتعاشها هي بين يدي الجزار،ثم انطلقتُ عائداَ بها إلى البيت،مسرعاَ وكأن جميع شياطين العالم تلاحقنني،وثلة من الأطفال تتبعني مهتدية بخيط الدم الذي بدأ يرشح من أسفل الكيس ،وسحابة من الغبار المتناثر من قدميَّ السريعتين تفصلني عن المطارِدين الذين عجزوا عن اللحاق بي فعادوا أدراجهم،إلى أن وصلت الدار لاهثاً تعِباً.

وضعتُ الكيس أمام جدتي والدم مازال يقطر منه،،تحسَّسَته بلطف ثم فتحته ونظرت داخله. وجَمَتْ جدتي،،راوحت نظرها بيني وبين الكيس،،نظرت إليَّ نظرة كسيرة وتمتمت باللغة الشركسية التي لا أعرف منها حرفاَ،وعندما لم أجبها بشيء،صاحت بي بصوت جمع أهل الدار كلهم : " ياحمارة ، قلت لكِ أن تأخذي الديك لتذبحيها وليس الدجاجة".عندها فقط أدركت أن اللغة العربية(المكسّرة)التي كانت تتكلمها جدتي-وليس طمعي في وجبة شهية من لحم الدجاج-هي التي كانت السبب في إزهاق روح(المحروسة)المسكينة.

Saturday, June 14, 2008

صـــــلاة

أشرق الصبح وعهد الليل راح
يوقظ الفلّ وأزهارالأقـاح

جحفل الليل أمـام النور طاح
قد دنا الفجر فغنّي يابطاح

أشــرق الصبــح وعهـد الليل راح
========================

زهــرة غنّــت علــى غصـن رطيــب
صــوتهـا الشــادي كصـوت العنــدليب

تهمـس الحـــبّ وتهـــدي للحبـيـــــــب
مـن شــذى الذكـرى ومـن عطر يطيب

أنــت يـــــا زهــر لمرضـانـا طبيب
======================

لــؤلــؤ المــاء علــى خــد الـــــورود
عـــقــــد حسـنــــاء تـــدلّــى للنهـــــود

دمـعــه الهـــامي ينـابيــــع تجـــــــــود
كـــــــلّ إصبــــاح وإصــــباح تعـــود

ليــس يـــا دمــع لمجــــراك حــدود
========================

عــــانق النحــل صبــاحاً فـــي الحقول
أزهــــر الــروض بشــوق وذهــول

مــــن شِـفاهـا يـرشــف الشهـد العسول
مـــــن دواء يقتــــل الــداء القتــــــول

صنعــة البــاري متـاهـات العقول
=====================

صنــعة البـاري تجـلّت فــي الصبـاح
كــــــلّ ذي روح غـــــدوّ ورواح

نــقّــل الطّـــرف ودع عنــك النّــواح
لا تبـالـي قــــد مـضــى الليـــل وراح

وانجـــــلى الصبـــح فـغنّي يابطاح
====================