Tuesday, April 1, 2008

صفيحة الزبالة
(قصة قصيرة)


شاب في منتصف عشرينياته،معتدل القامة،رقيق العود- ربما لنقص في التغذية –قليل الكلام،خفيض الصوت لو تحدث،على ملامح وجهه تبدو علامات هم وغم لا يبدو عليه أنه قد اعتادهما رغم طول تربعهما في عمق قلبه.وعى (سعدو) على هذه الدنيا ووالده يعمل كناساً في هذه الحارة،وبعد أن منحه المختار حق السكن تحت دَرَجِ مدخل بيته،بادر إلى الزواج من ابنة عمه التي أنجبت له صبياً واحداً فقط.عندما بلغ (سعدو)سنته الثامنة توفيت والدته بعد أن أصيبت بمرض كان من أعراضه السعال الشديد،متبوعاً بخروج الدم من فمها،،أخذوها إلى مستشفى(ابن النفيس) حيث توفيت بعد أسبوع من دخولها المستشفى،،يذكرها الآن صورة باهتة تعبر خياله،،من طفولته لا يذكرالشيء الكثير سوى أنه حرم من الذهاب إلى المدرسة مع باقي أبناء الحارة،فقد كان عليه مساعدة الأسرة بالعمل في بيع بعض الحلوى التي كانت تصنعها والدته في المنزل،كالتفاح المغروس بأعواد والمغموس بسائل السكر،أوالمهلبية المغطاة بذرات جوز الهند،أو ببيع المثلجات صيفاً،ومنذ سن الثامنة إلى السادسة عشرة كان عليه العمل في تنظيف الحارة،مساعدةً لوالده الذي أنهكه المرض إلى أن قضى عليه ولما يكمل (سعدو) السادسة عشرة. بعد وفاة والده سعى له المختار لدى مكتب البلدية لكي يستمر في مكان والده،ورغم عدم بلوغه السن القانونية لقبوله كموظف، فإن وساطة المختار قد نجحت،فوافق المسؤولون على استمراره في العمل الذي كان يقوم به والده،وبالغ المختار في كرمه،فسمح له بالبقاء في نفس البيت:تحت الدرج.

بعد يوم عمل مضن كالمعتاد،ها هو (سعدو) يستلقي بجسده المنهك على بقايا فراش قديم ، ينظر إلى السقف محاولاً النوم بنفس الطريقة التي درج عليها منذ زمن بعيد:سقف غرفته هو درج بيت المختار المكون من أربع وعشرين درجة ،وعلى بقايا أشعة ضوء الشارع المتسربة من شقوق في باب غرفته المتهاوي ،يعد الدرجات الاثنتى عشرة الأولى،ثم يدير رأسه ليستكمل عد الدرجات الباقية،،يعدها صعوداً من الأولى إلى الرابعة والعشرين،ثم نزولاً من الرابعة والعشرين إلى الأولى. يعد الدرجات مرات ومرات إلى أن يدخل في سبات عميق .هذا هو نظام حياته اليومي:يستيقظ في الخامسة صباحاً، يجمع القمامة من الصفائح المعدنية التي كان سكان الحارة قد وضعوها على أبواب بيوتهم عشية الأمس،،يضعها في برميلين معدنيين صدئين،مثبتين على عربة ذات عجلتين،يدفعها أمامه نزولاً ليضعها في حاوية كبيرة موضوعة على بوابة الحارة،إلى أن تأتي شاحنة البلدية فتفرغها وتنقل القمامة إلى خارج المدينة،،يدفع باب غرفته إلى الخارج ليتأكد من وجود العربة،فيراها في مكانها مربوطة إلى عمود الكهرباء بالجنزير والقفل اللذين ضحى ببعض النقود لشرائهما،وذلك بعد أن سرقها بعض الصبية ذات يوم وركبوا فيها مسرعين نزولاً،إلى أن ارتطمت بحجر كبير،مما أدى إلى اعوجاج في العجلة اليمنى،فبدأت تعرج عند دفعها،،فكر أن يأخذها إلى البلدية لاستبدالها،لكنه خاف أن يطلبوا منه غرامة مقابل إصلاح العجلة،فاحتمل عرج العربة على أن يدفع الغرامة.بعد جمع الزبالة باكراً،كان يحمل على كتفه قربة من الجلد،يملؤها من صنبور ماء البلدية،ثم يبدأ برش الماء يمنة ويسرة،فتعانق قطرات الماء النشيطة ذرات التراب الناعسة،مانعة إياها من الانفلات في الهواء،وبعد أن ينتهي من الرش،يبدأ بكنس الزقاق بادئاً من أعلى نقطة فيه،نزولاً إلى آخر مكان تتوقف عنده مسؤوليته لكي تبدأ مسؤولية كناس آخر.منذ شهرين أهدى رئيس البلدية سكان الحي صفائح زبالة كبيرة،ربما تقرباً منهم لإعادة انتخابه،فتقلص عدد مرات جمع القمامة،إذ أن الصفيحة الجديدة أصبحت تكفي لاستيعاب نفايات ثلاثة أيام،ولم تعد هناك حاجة لكي يجمع نفايات جميع السكان كل يوم،فشعر (سعدو) بقليل من الراحة مكنته من ارتياد مقهى الحي مساء،حيث يجود عليه بعض روادها بفنجان من القهوة أو كأس من الشاي .كان هذا هو نظام عمله اليومي،يبدأ قبل انصداع عمود الفجر،وينتهي بعد انتحار الشمس خلف الجبل.

رغم أنه عد الدرجات صعوداً ونزولاً مرات ومرات هذه الليلة،غير أنه لم يدخل في سبات عميق كما اعتاد كل يوم،،انتبه إلى صوت وقع أقدام على الدرج،ففهم من الهمهمات التي طرقت سمعه أن شقيق زوجة المختار قد جاء لاصطحابها إلى بيت أهلها لتنام عندهم ،حيث أن وجهاء الحارة مدعوون للعشاء هذه الليلة على مائدة مختار الحي،،انتبه إلى أن سبب أرقه هذه الليلة يعود إلى إحساس بالجوع يفري معدته،تذكر أنه لم يتناول شيئاً منذ الصباح باستثناء كأس من الشاي وقطعة من الخبز،وليس له الآن سوى أن يدعو الله أن يتذكره المختار،فيرسل له مع ابنه طبقاً من الطعام،،لا يهم نوع الطعام،المهم أن يشبع معدته لكي يستطيع النوم حتى ينهض في الصباح الباكر لاستئناف رحلة الشقاء.ويمر الوقت لزجاً والجوع تزداد وطأته،والمدعوون قد تناولوا العشاء والحلويات- كما خمن- وها هم يغادرون بيت المختار،وطبق الطعام لم يأت بعد،،انتظر وانتظر وبلا جدوى،،البرد والجوع عدوّا الراغب في النوم،فكيف السبيل إلى السبات وهو على هذه الحالة،،فكر أن يخرج لكي يشتري شيئاً يأكله،فانتبه إلى أن الليل يكاد أن ينتصف، وأن المحلات التجارية قد أقفلت،،فجأة يفتح باب بيت المختار،،صوت ابنه يهبط الدرج،،تفاءل خيراً،فها هو الطعام على وشك الوصول،سيأكل أي شيء يأتيه،وبعدها سوف ينام نوماً عميقاً حتى بدون عد الدرجات،،هذا المختار طيب القلب،ولم يشك(سعدو) لحظة في تلقيه طبق طعام ومعه بعض الحلويات،،فتش عن قارورة الماء،فوجدها موضوعة قرب الجدار،فاطمأنت نفسه ،فربما لن يحضر له ابن المختار بعض الماء،وهو لا يستطيع تناول الحلويات بدون إتباعها بشربة ماء تروي عروقه،وتطفيء الظمأ المتزامن مع تناول أي شيء حلو،،لكن ما بال هذا الولد لم يطرق بابه ،،وقع خطوات الغلام لا يتوقف عند أسفل الدرج،من شق في الباب يرى الصبي يحمل صفيحة الزبالة ويتابع سيره إلى المكان الذي اعتاد أن يضعها فيه،ثم يعود مسرعاً،متسلقاً الدرج بهمة وخفة.أمر غريب !! دور صفيحة المختار بعد غد،فقد أفرغها صباح اليوم في العربة،ولكن لا بأس،فربما كانت نفايات وليمة اليوم قد أدت إلى امتلائها،ويحتمل أن الغلام قد صعد لإحضار صحن الطعام،فمن المستحيل أن ينساه المختار،لكن الصبي يقفل الباب وراءه،ويحكم إغلاق المزلاج.إذن فعلها المختار ونسيه هذه الليلة،،،رائحة الطعام المتسللة من الصفيحة تخترق الشارع،وتصل إلى خياشيمه،وتتسرب إلى دماغه،فتتوتر أعصاب معدته ويتضاعف جوعه،،فتح بابه،،نظر يمنة ويسرة فلم ير أحداً،،لم يعد يقاوم رائحة الطعام،فانسل باتجاه صفيحة الزبالة،، سحبها بخفة وأدخلها غرفته وأقفل الباب،،أسرع في نبش الصفيحة،،تناثرت أكياس البلاستيك المليئة ببقايا الطعام،،التهم بعضه بيد بينما استمرت يده الأخرى في الغوص داخل الصفيحة عله يعثر على بعض الفاكهة في قاعها، لكن آخر كيس أمسكه– والذي كان في قاع الصفيحة– كان ثقيلاً بشكل لفت انتباهه،وقبل أن يتابع التهام بقية بقايا الطعام،فتح الكيس الثقيل،فإذا به أمام ثروة لم يحلم برؤيتها من قبل،،رمى في جوفه بضع لقيمات،وطار النوم من جفونه،،فكر في التسلل من غرفته ومغادرة الحارة،لكنه خشي أن يضبطه الحارس في هذه الساعة المتأخرة،فينكشف أمره،،تكاثفت أحلامه إلى درجة شلت ذهنه وعطلت تفكيره،،حضن الكيس في صدره وحاول النوم دون جدوى،،كيف انقلبت حاله خلال ثوانٍ معدودة؟.لم يكن يرى في حياته الماضية شيئاً يستحق الذكر،أما مستقبله فكان مجهولاً لا يرى فيه إلا ما يراه عابر صحراء في ليل بهيم،لا يرى شيئاً ولا حتى السراب،أما الآن فها هو المستقبل يبدو واعداً،ضاجاً بألوان من السعادة لا وصف لها،،استمرت أحلامه في الرقص داخل مخيلته إلى أن صرعه النوم قبل شقشقة الفجر بدقائق.

لم يصحُ إلا وضربات قوية تطرق بابه،وصوت المختار يستفسر عن سبب تأخره في النوم على غير عادته،،دس الكيس تحت الفراش،ورد بصوت خفيض متظاهراً بالمرض،،المختار يتابع خطواته باتجاه مكتبه المقابل لمدخل بيته،يفتحه ويجلس خلف طاولته لاستكمال بعض المهام،فكيف سيستطيع(سعدو) الخروج من الحارة تحت نظر المختار ومعه الكيس؟، اطمأن إلى أنه أخفى الكيس في غرفته تحت كومة ملابسه،،خرج متجهاً إلى عربته،،فتح القفل ثم دفع العربة أمامه مسرعاً لجمع القمامة من الصفائح المعدنية،وعيناه معلقتان على باب غرفته،،قرر أن يستمر في عمله كالمعتاد،متحاشياً إبداء ما يمكن أن يوحي بنيته ترك الحارة،،من عادة المختار أن يغلق مكتبه ويصعد إلى منزله لتناول طعام الغداء وأخذ قيلولته اليومية،،يبقى (سعدو)على مقربة من مكتب المختار،متظاهراً بكنس المنطقة بعناية فائقة،،زوجة المختار تأتي من بيت أهلها بصحبة أخيها وترتقي الدرج،،عينا (سعدو) تراقبان بدقة،،المختار يقفل دُرْجَ مكتبه،،يخطو على مهل باتجاه الباب، يقفل محله،يلقي التحية على (سعدو)،، ويصعد إلى بيته بتثاقل.

بينما كان(سعدو) يخفي الكيس الثقيل تحت ثيابه ويغادر الحارة على عجل،كان صوت المختار يلعلع من فوق،مطلقاً في وجه زوجته صرخة جمعت كل أهل الحارة:(ألم تجدي يا غبية سوى صفيحة الزبالة لكي تخبئي فيها حليك الذهبية؟).




كذبة إبريل
(بمناسبة أول يوم فيه)

تأتي مناسبتها مرة واحدة في السنة،في أول يوم من هذا الشهر،ولأنها تقليد غربي طرأ علينا في فترة التأثر الحضاري بكل ما هو غربي،ولأن الغربيين اعتادوا الصدق في حياتهم العامة (لأسباب لا مجال لذكرها هنا وبعضها اقتصادي) فقد أفردوا للكذب يوماً واحداً في السنة، يكذبون فيه كذبة واحدة فقط ،أما نحن،فبما أننا لا نجد كلمة(صِدقة - قياساً على كِذبة ) مشتقة من كلمة الصدق-لأن الأساس في القول هو الصدق- وبما أن الكذب،وللأسف،قد أصبح سمة مميزة لأقوال وحتى أفعال بعضنا،والعملة الرائجة في التعامل بين الناس،فمن المناسب في هذه الحالة-وقياساً على"كذبة إبريل"-أن نخصص يوماً واحداً في السنة يكون عيداً للصدق،كأن نسميه مثلاً(صِدقَة مايو)،أو أي شهر آخر نختاره للصدق فيه مع أنفسنا ومع الآخرين ولو لمرة واحدة،كأن يكون شهر رمضان المبارك،(ماذا لو أسمينا هذه المناسبة "صِدقة رمضان" تيمناً بالشهر الكريم).المشكلة الهامة التي ربما تعترض البعض"الكثير"منا،والتي لا يصادفون مثلها عادة في مناسبة كذبة إبريل-لأن الكذب متوفر وبغزارة-،هي أنهم لن يستطيعوا العثور أي صدق يقولونه في هذه المناسبة العطرة،سوى أسمائهم ،بل وحتى هذه،،يمكن أن تكون مستعارة ! .
(يقول الله تعالى في الآية الثانية من سورة الصف معاتباً المؤمنين:"ياأيها الذين آمنوا لِم تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"صدق الله العظيم)