Sunday, November 25, 2012

رجُلٌ على حافة الإيمان


رجُلٌ على حافة الإيمان
    على فضائية عربية متزنة، شدت انتباهي ندوة كانت تناقش فيلماً سينمائياً بعنوان (الملحد)، فهكذا عنوان لا يمكن أن يسمح للمشاهد سوى بمتابعته، وقد كان الحضور مؤلفاً من بعض ممثلي الفيلم ومخرجه وغيرهم من ذوي العلاقة بالعمل. كانت حجة مخرج الفيلم – الذي تلقى هو وبعض العاملين معه تهديدات بالقتل -، بأنه إنما كان يقدم عملاً يشخص فيه حالة يعيشها المجتمع، أي مجتمع، وهي وجود فئة لا تؤمن بالدين ولا بالإله، وتفتخر بأنها (علمانية)، نسبة إلى العلم، مع أن قسماً كبيراً من هذه الفئة لا يعرفون إلا بالكاد كتابة أسمائهم، تماماً مثلما أن في المجتمعات جميعها ممارسات خاطئة بل ومشينة، كتهريب المخدرات وتعاطيها، والدعارة والجريمة وتجارة الأعضاء، فهذه جميعها موجودة بين ظهرانينا، لكننا لا نعلم بوجودها وحجمه بسبب استتارها عن أعيننا، فلكل مدينة شارعها الخلفي، كما أن لكل عملة وجهين، والمجتمعات التي تتمتع بصحة نفسية واجتماعية، تشهّر بهذه الظواهر، و لا تتستر عليها، بل تحاول تعليل أسبابها، وطرق عملها، ووسائل معالجتها للحد منها، إذ أن الواقع يقول بأن تعديل سلوك الأفراد أمر ممكن الحدوث عن طريق نشر العلم والتوعية والرعاية الصحية وغيرها من الأساليب والوسائل، أما تعديل العقائد والمفاهيم الذهنية، فأمر معقد وصعب، وبدون إعمال صاحب هذه العقائد ذهنه واجتهاده الشخصي، فلا يمكن لأية قوة خارجية مهما بلغ منطقها وحجتها أن تصرفه عما اقتنع به واعتقده، وهذا هو حال الملحدين.
    ذكرتني هذه الندوة بلقاء مع صديق لي منذ عقدين من السنين، وهو من أولئك العلمانيين الذين يتباهون بإنكار الإله والأديان، ويعتقدون بأن الدين والإله هما اختراع بشري، أفرزه عقل الإنسان كقوة خفية تستجلب له الخير، وتبعد عنه الشر، وسبب هذا كما يقول هؤلاء، نابع في الأصل من خوف الإنسان من مظاهر الطبيعة الجبارة، فلكي يتقي خطرها ويستجلب نفعها، كان الكهان – وهم أذكى من في القوم -، يقومون بالواجبات الدينية، فهم يستمطرون السماء، ويسترحمون العواصف والأعاصير والبراكين عن طريق تقديم الأضاحي لها من أنواع الحيوان والغلال، وحتى في بعض الأحيان من الأضاحي البشرية، كعروس النيل مثلاً. أما عن خلق الإنسان، فهؤلاء مقتنعون بنظرية النشوء والتطور الداروينية، حيث يؤمنون بأن الأشكال البدائية للحياة قد تخلقت في مياه البحار والمحيطات، ثم تطور بعضها لكي يصبح على شكل الإنسان الحالي.
    أذكر يومها أنني، وبعد استفاضة صاحبي في شرح نظرياته، تظاهرت بمجاراته ودخلت معه في نقاش كنت فيه أنا المستفسر منه، وكان هو الشارح لي:
-       قلت: إذن تقول أن الطبيعة هي المسؤولة عن كل ما في الكون، بما فيه نحن أيضاً؟، قال طبعاً ولا جدال في ذلك.
-       قلت: وما هي الطبيعة؟، هل هي هذه الجبال والبحار والمناظر الجميلة؟، قهقه صاحبي طويلاً ثم قال: هذه هي الطبيعة في نظر العامة، أما نحن العلمانيون، وإن شئت الطبيعيون، فالطبيعة عندنا هي كل ما في هذا الكون بالمطلق من كواكب ومجرات وكل ما يوجد فيها من أصغر ذرة إلى أضخم الأشياء. الطبيعة يا صديقي مفهوم معقد للغاية، يصعب بدون خيال واسع الإحاطة به، وحتى أوسع خيال لا يحيط إلا بجزء يسير منها. قلت: إذن هي عصية على الفهم؟. قال: لا شك في ذلك.
-       قلت: هل عمل الطبيعة منتظم ومنظم؟، قال بالطبع، ألا ترى حتى مظهرها القريب جداً منك، بل داخل جسدك،،، ألا ترى انتظام دقات قلبك وعمل أعضائك الداخلية؟، إنها تعمل بانتظام مدهش، وكذلك جميع ما يمكن أن ينطبق عليه لفظ (الطبيعة)، ألا ترى دقة دوران الكواكب والنجوم في أفلاكها، تلك الدقة وذلك النظام الذي لولاهما لاضطرب الكون بما فيه، ولانتهى أمره خلال ثوانٍ معدودة. طبعاً يا صديقي، عمل الطبيعة منتظم ودقيق حد الإبهار.
-       قلت – بينما هو ينظر في عيني وقد راقه انغماسي في شرحه -: لا شك كما تعلم أن للطبيعة قوانينها، فهل تعتقد أن الإنسان يمكن أن يأتي عليه حين من الدهر يتمكن فيه من الإحاطة بهذه القوانين جميعها؟. عاد صاحبي إلى الضحك المصحوب بنوبات سعال وقال: يا أخي يبدو أنك لم تستطع استيعاب فكرة الطبيعة، إنها عالم لا يمكن الإحاطة به عملياً، ويبدو ذلك بحكم المستحيل، ولو قربت لك الأمر: هل يعلم أحد مهما أوتي من العلم ماذا يوجد على سطح النجوم والكواكب في مجرات تبعد عنا مسافات خيالية؟، وإذا كنا نستطيع الإحاطة بالقوانين الفيزيائية على أرضنا، هل نضمن أن القوانين في تلك المجرات هي نفس قوانين أرضنا، إذن الإحاطة بقوانين الطبيعة هي بالتأكيد بحكم المستحيل.
-       قلت: هل هذا يعني أن الطبيعة ذات قدرة هائلة؟. قال: لو كنت تعرف شيئاً عن الفضاء الخارجي وعلم الفلك، لعلمت مدى سذاجة هذا السؤال. هل تعلم بأنه في ثانية واحدة يحترق في باطن الشمس ستة ملايين طن من الهيدروجين؟، وهل تعلم بأن سرعة الفوتون الواحد، وهو العنصر الرئيسي للضوء، تبلغ متراً واحداً في الثانية داخل الشمس، بينما تصل سرعته حينما ينطلق منها إلى الأرض حوالي 300 ألف كم في الثانية؟، هل تخيلت حجم الضغط الهائل داخل كرة الشمس؟، وتخيل أن هناك في كل متر مكعب من الفضاء 400 مليون فوتون. والثقب الأسود، أحسبك سمعت عنه، ذاك الذي درجة جاذبيته قادرة على سحق الصوت والضوء الواصل إليه، بحيث لو تخيلت أن الكرة الأرضية دخلت فيه، لتحولت بجميع ما فيها إلى كتلة لا تتجاوز حجم كرة تنس الطاولة، ثم تسألني هل للطبيعة قدرة هائلة، طبعاً بل وأكثر من هائلة.
-       قلت: هل الطبيعة محدودة بحيز مكاني معين، أم أنها لا متناهية؟، قال: هل تعلم أن العلماء يقدرون قطر دائرة الكون من أربعة عشر إلى خمسين مليار سنة ضوئية. تظاهرت بأنني لا أعرف كم هي مسافة السنة الضوئية، فاعتقد صاحبي أنه كالإمام علي (رض) باب مدينة العلم ويمتلك مفتاحها، اعتدل في جلسته وقال: هي يا صاحبي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة، وتقدر بتسعة تريليونات ونصف التريليون من الكيلومترات، يعني اضرب هذا الرقم بأربعة عشر مليار في الحد الأدنى، فالناتج هو قطر دائرة الكون. قلت متظاهراً بالمفاجأة: ياه ،، هذا شيء مدهش فعلاً، ولو افترضنا جدلاً أن الإنسان وصل في المستقبل البعيد جداً إلى حافة الكون، فماذا سيجد هناك؟، ابتسم صاحبي ربما على غباء سؤالي وقال: لن يجد شيئاً، سوف يجد كوناً آخر، وبعده كوناً آخر، وهكذا دواليك. قلت: إذن الطبيعة غير محدودة بحيز مكاني. قال: هذا بديهي.          
-       قلت: إذن ليس للطبيعة ماهية معينة يمكن أن تتجسد في شيء محدد؟. قال: كأنك تعود بي إلى استفساراتك اللامنطقية: كيف يمكن لنا أن نحدد ماهية الطبيعة إن كنا لا نستطيع الإحاطة بها لهولها، فهي هائلة إلى حد لا يستطيع العقل تخيله، فهل تستطيع مثلاً أن تتخيل اللانهاية؟. قلت معترفاً: بالطبع لا وألف لا. قال: إذن الجواب معروف: ليس للطبيعية ماهية ملموسة، فهي تعرف بالكلية، وبمجرد أن تذهب إلى التفاصيل، تضيع وترجع إلى نقطة الصفر.
-       قلت: هل تعلم الطبيعة كل ما يدور في الكون، أي هل هي مطلعة على ذاتها أم لا؟، أم أن كل مظهر فيها مستقل بذاته، لا علاقة له بباقي المظاهر؟. قال: لو كان لكل مظهر من مظاهر الطبيعة استقلال عن غيره، لاضطرب الكون وانفلت من عقاله، لأن التناغم السلس بين مظاهرها، والتناسق التام في عمل مكوناتها، هي أبرز سماتها، وأوضح معالم ائتلافها.
    عندها اعتدلت في جلستي وقلت لصاحبي: استمعت إليك مطولاً، فاصغِ إلى ما أقول: هل يمكن أن نعدد مواصفات الطبيعة هذه مرة ثانية: منظمة، علمها واسع جداً، قادرة، لا متناهية، تعلم كل شيء، ومسؤولة عن كل شيء، لا نستطيع الإحاطة بها وبجميع قوانينها، ولا يمكن معرفة ماهيتها، أليس كذلك؟، قال بالتأكيد، أوجزت فأحسنت.
قلت له: خذ عندك يا صاحبي، ولعلمك فنحن متفقان لا خلاف بيننا سوى بالكلمة، فلو وضعت كلمة (الله) بدل كلمة (الطبيعة) في جميع ما قلته سابقاً، لحُلَّ الإشكال، ولاتفقنا في الجوهر، فأنت يا صديقي عميق الإيمان بالله تعالى، غير أن المنحى الذي اتخذه ذهنك في الإفصاح عن مكنونات داخله وإيمانه، قد أخطأ التعبير، فاستخدم كلمة (الطبيعة) بدل كلمة (الله)، واسمع كيف وصف الله تعالى نفسه - بنفس أوصاف الطبيعة هذه، تلك التي تؤمن بها - في القرآن الكريم:
1-    فهي في دقتها كما قلت، تتمثل في عمل أجسادنا ( وفي الأرض آيات للموقنين – 20 - وفي أنفسكم أفلا تبصرون – 21 - الذاريات).
2-    والطبيعة مسؤولة عن كل شيء ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل – الأنعام 102 -).
3-    ولا يمكن الإحاطة بقوانينها ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء – البقرة 255-).
4-    والطبيعة منظمة (إنا كل شيء خلقناه بقدر – القمر 49).
5-     وهي قادرة (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير – الروم 54 -).
6-     وهي عالمة بكل شيء (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين – يونس – 61 -)، ( عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال – الرعد 9 ).
7-    وهي قاهرة، لا يمكن التحكم بها (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير – الأنعام 18 -).
8-     عصية على الفهم، لا نستطيع الإحاطة بها ولا نعرف ماهيتها (وهم يجادلون في الله وهو شديد المِحال – الرعد 13 – ) ، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير – الشورى 11 -).
    بينما كنت أسترسل في حديثي موضحاً لصديقي أنه شديد الإيمان بالله، وأن كل صفات الطبيعة التي ذكرها، هي نفسها الصفات التي نسبها الله تعالى لنفسه في كتابه الكريم. في هذه الأثناء كان الرجل يرمقني بنظرة فهمت منها أنه يشكرني على حسن ظني به، على عكس الذين صادفهم قبلي، فاتهموه بالإلحاد، ووعدوه بنار جهنم وبئس المصير، ومنهم من قاطعه وحرض الآخرين على مقاطعته. وعندما هم بالوقوف للمغادرة، اتكأ صاحبي بكف يده على ركبتي لألم في ركبتيه قائلاً: (يا ألله، بالإذن)، وعلى الفور ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات دلالة، وقبل أن يغلق الباب خلفه، ألقى عليَّ نظرة وداع، قرأت فيها أن هذا الرجل ليس على حافة الإيمان فحسب، بل إنه بالفعل يغوص في أعماقه.

  24 نوفمبر 2012 

Sunday, November 18, 2012

الأهرامات، مقابل الحرية



    منذ تهاوت أمارة بني الأحمر في غرناطة، فخرج المسلمون من الأندلس بعد حوالي سبعة قرون وواحد وثمانين عاماً من تواجدهم هناك (711-1492) بسبب تمزق أماراتها وتشتتها شذر مذر بين أيدي ملوك الطوائف، والذين يشبههم إلى حد بعيد حكام عرب هذه الأيام،،، منذ ما يزيد على القرون السبعة تلك وحلم زيارة بلاد الأندلس يراود أذهان جميع العرب والمسلمين، استذكاراً  لمجد غابر، وبكاءً على حضارة بكى عليها قبلهم أبو عبد الله محمد الثاني بن الأحمر، ذاك الذي سخرت منه والدته عندما سلم مفتاح آخر مقعل للمسلمين، مدينة غرناطة، لأعدائه قائلة: (ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال)، وكأولئك الملايين كان ذلك حلمي أنا أيضاً، إلى أن قيض الله لي زيارتها في ربيع السنة التاسعة من القرن الحادي والعشرين، وبالرغم من وجود مئات الآثار الإسلامية في مختلف مدن الأندلس، إلا أن سمعة قصر الحمراء في غرناطة قد طبقت الآفاق، فأصبح شمعة الحضارة الأندلسية، حيث يزوره ملايين السياح كل عام، وتجني إسبانيا من هذه الآثار الإسلامية مليارات الدولارات سنوياً، وبدون هذه الآثار لم يكن بالإمكان أن يزور تلك البلاد من السياح سنوياً ما يوازي عدد سكانها البالغ حوالي الخمسة والأربعين مليون نسمة.
    لا شك أن زيارة قصر الحمراء هي واحدة من متع العمر لما لهذا البناء الشامخ من روعة وإتقان، فهو عبارة عن مدينة حصينة صغيرة، تقع على تلة مرتفعة تطل على غرناطة المدينة، ومن شمالها تطل عليها سلسلة جبال "سييرا نيفادا" بقممها التي تغطيها الثلوج معظم أشهر السنة، والإسهاب في وصف هذا المعلم السياحي الهام لا يوفيه حقه في التدليل على عظمته، لكن المثير للانتباه حقاً، أنه بالرغم من العداء الديني والقومي الذي كان ناشباً بين العرب المسلمين والإسبان المسيحيين على مدى مئات السنين، وبعد حروب طاحنة لسنوات طويلة، ورغم أن محاكم التفتيش قد طاولت الفكر والبشر، فأحرقت أطناناً من الكتب، وأكرهت المسلمين واليهود على التنصر أو مغادرة البلاد إلى البر الأفريقي، إلا أنها رغم كل ذلك لم تدمر القصر والحجر، بل حافظت على الآثار الإسلامية كما هي، فالزائر للآثار الإسلامية الأندلسية، وبالخصوص قصر الحمراء، يلاحظ بقاء الكثير من الآيات القرآنية التي تزين الجدران والأبواب والأفاريز، كما أن شعار بني الأحمر (لا غالب إلا الله) ما زال يزين الجدران، ولا تخطئه العين حيثما جالت بين هذه التحف المعمارية، فبقيت هذه المنجزات الحضارية على حالتها الأصلية، بل وتتلقى عناية وترميماً دائمين، فالإسبان المتعصبون لمسيحيتهم لم يروا ضرراً في بقاء هذه الآيات القرآنية على حالتها الأصلية، ولم يخافوا أن يعود المسلمون لاسترجاعها مرة ثانية بعد أن أضاعوها بتفرقهم وتخاذلهم، والأغرب من ذلك ما يراه الداخل إلى أحد أبهاء (جمع بهو) قصر الحمراء، إذ أن دائرة السياحة قد وضعت حاجزاً من الأعمدة الصغيرة حول بقعة من أرض البهو على شكل مستطيل لكي تمنع الناس من المشي على هذه البقعة، وعندما تتمعن في الأرضية، تجد لفظ الجلالة (الله) وقد نقش عليها باستخدام بلاطات ملونة، ويقال بأن هذه البقعة هي الوحيدة على سطح الأرض التي يوجد فيها اسم الجلالة منقوشاً على أرضية بناء،،، عندها لا تملك سوى الإعجاب والاحترام لمن سوّر الأرضية بتلك الأعمدة لكي يمنع الزوار من الدوس على لفظ الجلالة.
    جالت بذهني هذه الذكريات وأنا أشاهد على إحدى الفضائيات العربية سلفياً غضنفرَ، يُرغي ويزبد متوعداً بتحطيم الأهرام والآثار الفرعونية، وذلك بحجة أنها أصنام، فهو يخشى على الناس الفتنة، فيعودون لعبادتها، وكأني به أحرص من المسلمين على عقيدتهم، معتقداً أن الإسلام قد لامس الألسن ولم ينفذ إلى القلوب، وأنهم بانتظار رؤية أي صنم فيعبدوه لكي يعودوا إلى جاهليتهم التي ما زالت راسخة في القلوب والعقول!، ومن ثم لم أعجب من رأي بعض السلفيين  بضرورة تحزيم المرأة بمئة طبقة وطبقة من الملايات وأغطية الوجه، وكأنهم يشكون فيما لو أن أي مسلم رآها على غير هذه الحالة، فسوف يغتصبها على الفور، مما يؤكد لنا بأن إخواننا السلفيين هؤلاء هم الذين لم يرسخ الإسلام في قلوبهم، ولم يتحكم في تصرفاتهم الإنسانية، بل اكتفوا بأن أخذوا منه الثوب الطويل واللحية الكثة والزبيبة التي تتوسط الجبهة، أما غير ذلك من صفات فلا أدري عنها شيئاً، فأمرهم إلى الله. من هنا تأكدت من أنه لو قيض الله لآثارنا في الأندلس إسبانياً سلفياً مثل ذلك المسلم السلفي الهِزَبر، فهدمها حتى سواها بالأرض، ومحاها من الوجود بحجة وجود آيات قرآنية على جدرانها، إذن لاعتقد الناس أن المسلمين سكان الأندلس كانوا حفاة عراة، يعيشون في خيام منسوجة من شعر الماعز، ولخسرت إسبانيا مئات مليارات الدولارات التي ضختها وتضخها الأثار الإسلامية في الخزينة الإسبانية كل عام.
    نقطة أخرى ربما تكون هامة في هذا السياق: بما أن الله تعالى قد أخبرنا في قرآنه الكريم أنه (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير – فاطر 24 -)، وكما يخبرنا في سورة إبراهيم الآية 9 عن أقوام وأمم بادت واندثرت، ولا يعلم عنها شيئاً سوى الله تعالى( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم)، ويحدثنا القرآن الكريم عن رسل لم يرد ذكر أسمائهم في متنه (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما – النساء 164)، كما أن بعض المؤرخين يعيدون اسم الإله الفرعوني (أوزيريس) إلى أصله القديم وهو النبي (إدريس)، وبما أن بعض الرموز والكتابات الهيروغليفية الموجودة على التماثيل وجدران المعابد والقبور الفرعونية لم تحل أسرارها وتُقرأ بشكل واضح لا لبس فيه، أفلا يمكن والحال هذه أن تكون تلك الرموز والنقوش بعضاً من آيات كتب سماوية أنزلت لانعلم عنها شيئاً حيث لم يذكرها القرآن الكريم، ويمكن للقادم من الأيام أن يكشف أسرارها؟، أفلا يمكن أنها قد نقشت في الصخر لأن الله تعالى تعهد في حينه بخلودها أبد الدهر؟، فهل يتحمل ذلك الأخ السلفي وزر محو وإزالة ما يمكن أن نشك بأنه، ولو واحداً في مئة مليون، بعضاً من كلام الله؟، ولماذا لا تقوم جهات دينية وسطية مصرية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، بشرح هذه الفكرة وغيرها لهؤلاء المتزمتين، وإلزامهم بوقف هذا الهراء الذي يجعل الآخرين يستهزئون بديننا وأسلوبنا في التفكير؟.
    وطالما أن الشيء بالشيء يذكر، ففي قناة فضائية أمريكية، يتجول مقدم البرنامج في بعض الشوارع، يسأل المارة بعض الأسئلة البسيطة، فتأتي بعض الإجابات وكأن المجيب عليها ما زال يعيش في العصر الحجري، ومن تلك المقابلات أذكر أن مقدم البرنامج سأل إحدى الفتيات هذا السؤال: من هو الذي أهدى تمثال الحرية إلى الولايات المتحدة؟، فأجابت الفتاة بثقة مطلقة: مصر. عاد المقدم ليسألها ويستكمل المهزلة: وماذا قدمت الولايات المتحدة لمصر مقابل ذلك؟، نظرت الفتاة إلى الأفق البعيد نظرة تأمل، ثم قالت: الأهرامات. على هذا الأساس، أتمنى على وزير السياحة المصري - إن صحت رواية تلك الفتاة –، أن يعيد الأهرامات - قبل أن يدمرها السلفيون - إلى الأمريكان، وأن يستعيد للمصريين " تمثال الحرية "، أو نصفه الثاني على الأقل: " الحرية ".






Monday, November 12, 2012

أشد على يد البابا تاضروس


    في الثلاثين من الشهر الماضي دونتُ في صفحتي على الفيس بوك الخاطرة التالية: ”في عصرنا الحالي، من يتصور أنه يمكن إقامة الدولة الدينية، يكن كمن يخلط البنزين بالحليب، فإنه يخسرهما في وقت واحد، فلا سياسة أبقى، ولا ديناً أقام”. بعد ذلك بأيام انتخب إخوتنا أقباط مصر بابا جديداً للكرازة المرقصية المصرية هو البابا تاضروس الثاني، ولسعادتي، سمعت تصريحاً لهذا البابا يقول فيه بأنه لا يجوز لأحد خلط السياسة بالدين، وإن فعل، فإنه يخسر الاثنين معاً. لا أقول هنا بأن قداسته قد اقتبس عني، فهو أكبر من ذلك بكثير، ولكنني أذكر ذلك لكي أذكّر بأن نظرة المؤمنين الحقيقيين، من جميع الأديان، تتفق على أن الدين يفسد إن هو أقحم في السياسية، وأن السياسة تتحجر إن هي ارتدت ثوب الدين، ولذا كثيراً ما جادلنا الإخوة الذين فرحوا بإقامة دولة إيران الثورة على أساس المذهب الجعفري (الإثنى عشري) بأن ذلك خطأ ما كان يجب أن يقحم فيه الدين بالسياسة، وكانت حجتنا أن المذهب الكريم – ولو نظرياً على الأقل – صحيح مئة بالمئة، لأنه قام بناء على دين أنزله الله تعالى على رسوله الكريم، ، آمن به الملايين واعتنقوه، وهو في نقائه أسمى من أن يقحم في السياسة، تلك التي تحتاج إلى الكذب كما تحتاج إلى الصدق، وتمارس الاستقامة كما تمارس اللف والدوران، تتخذ من الشعار الميكيافيللي القذر (الغاية تبرر الوسيلة) نبراساً لها في التعاطي مع الآخرين، لذا فإن إنجازها يحتمل الخطأ والصواب، فهل من العدل أن يتحمل المذهب مسؤولية أخطاء السياسة؟. لهذا فالدين الذي يُخلط بالسياسة قسراً، والسياسة التي ترتبط بالدين جبراً، يفسد أحدهما الآخر ويجر عليه المصائب والويلات والأخطاء، فمحل الدين هو المسجد والكنيسة وما تفرع عنهما من مراكز وهيئات دينية، ومكان السياسة هو القصور الملكية والرئاسية والوزارات وما تفرع عنها من مكاتب وهيئات سياسية، أما عامة المؤمنين، فعليهم اختيار واحد من اثنين: إما الجامع والكنيسة، وإما الرئاسة والوزارة.

    بعد سماعي تصريحه المذكور، لن أتردد – كمسلم يعتز بإسلامه – أن أقول بأنني أشدَّ على يد البابا تاضروس، وأدعم رأيه في ضرورة فصل الدين عن السياسة، ناهيك عن أن هذا الفصل هو فصل ظاهري، لا يعني انبتات عمل الاثنين عن الحياة العامة على أرض الواقع، فالمسجد والكنيسة – اللذان يُنشِّئان جيلاً مؤمناً أميناً صادقاً، ذا ضمير حي يستند إلى وحي السماء – يساهمان في تنظيف الساحة السياسية عندما يرفدانها بكوادر مؤمنة محترمة قادرة على خدمة بلدها بأمانة وإخلاص، وينهضان بالمجتمع بجميع مؤمنيه، مسلمين ومسيحيين، أولئك الذين يمتلكون في الوطن حقاً متساوياً لا انتقاص فيه من جانب لحساب الجانب الآخر.

    وربما كان من المناسب أن نشير هنا إلى أن رفض بعض السلفيين الإسلاميين حضور حفل تنصيب البابا رسمياً، هو رفض لا يشجع على بناء علاقة إيجابية بين عنصري الشعب المصري الرئيسيين، خاصة وأن حفل التنصيب لا يتضمن إقامة الصلوات أو الطقوس الدينية، بل هو حفل تنصيب وحسب، وحتى لو رفضوا هم الحضور، فهذا شأنهم، أما أن يطلبوا من الرئيس المصري عدم الحضور، فهذا يعني ببساطة أن الرئيس – لو انصاع لطلبهم – فإنه بذلك يقر بأنه رئيس المسلمين المصريين فقط، ويقيني أن هؤلاء المتطرفين يتصرفون دون وعي منهم بالسيرة النبوية الشريفة، التي هي نبراس ومثال لكل مسلم، وذلك عندما استقبل الرسول ص وفد نصارى نجران في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وعندما حان موعد صلاتهم، أذن لهم الرسول ص أن ينتحوا جانباً داخل مسجده لكي يؤدوا صلاتهم. هذا هو الخلق النبوي الذي يحبب الآخرين بالدين الحنيف، وهذا هو الدين الحنيف الذي لايسمح فيه للمسلم أن ينصب نفسه حكماً على تصرفات الآخرين (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). أما التهديدات التي أطلقها بعض السلفيين مؤخراً بتدمير الآثار الفرعونية والأهرامات، فلا يدل سوى على قصر نظر إلى حد البلاهة، فهم ليسوا أكثر حرصاً على الإسلام من عمرو بن العاص، فاتح مصر، وغيره من الصحابة الأوائل، الذين أبقوا على هذه الآثار ولم يمسوها بسوء، وعلينا أن نعترف بأنه من سوء طالع المجتمعات أن تضم بين مكوناتها ما يعرف بـ (المتطرفون)، أولئك الذين لا يعترفون بالآخر، ويحبون أنفسهم بطريقة مرضية نرجسية بغيضة، هي نفسها التي تقف وراء جميع الحروب والكوارث التي شهدتها البشرية في تاريخها الطويل.


Saturday, November 10, 2012

واحدة اليوم، والأخرى غداً



            


   
    اهتزت قصبة الصيد في يده بشدة أفزعته وأفرحته في آن واحد، وانحنى رأسُها إلى حد خشي معه انكسارها. ها قد جاءته هذه السمكة اللعينة بعد طول انتظار، فقد رمى صنارته في الماء حتى الآن أكثر من مائة مرة، على ما يذكر، دون أن يظفر بأي صيد، النهر هنا - في القسم الأعلى من مجراه - صعب المراس، شديد الانحدار، أرضه مليئة بالصخور الكبيرة التي تتكسر عليها المياه مشكلة موجات عنيفة عالية. من شدة تخبط السمكة وعنادها خشي على القصبة من الانكسار، وهو غير مستعد لهذه النهاية بعد أن أمل في صيد ثمين. أرخى القصبة إلى أقصى حد ممكن، فارتخى معها خيط الصنارة، وابتعدت السمكة أكثر باتجاه التيار،،، عاود الشد مرة ثانية، فعاودت السمكة التخبط والشد العنيف من جديد،،، تبادل مع السمكة حركات الجذب والإرخاء، وهي ممعنة بكل عنف في محاولة الإفلات من الصنارة.
    عائلته في المنزل تنتظر عودته بأي شيء يؤكل، فمنذ أن صادر مرابي المنطقة أرضه - لعجزه عن سداد الدين - وهو يقتات مع أسرته ما تيسر له من صيد نهري أو بري، والنهر هذا اليوم، على غير عادته، عنيف الجريان عالي التيار، ربما ساعد ذوبان الثلوج في الجبال القريبة على ارتفاع منسوب مياهه، وبالتالي ارتفاع درجة جيشانه وتمرده،،، يتدفق بعنف وكأنه يحاول مساعدة السمكة على الإفلات من الصنارة،،، أصغر أبنائه يجلس القرفصاء غير بعيد على مرتفع من ضفة النهر، مراقباً هذا الصراع العنيف بين الموت الذي يريده والده للسمكة، وبين إرادة الحياة التي تتمسك بها السمكة بعناد واضح ونضال شرس. يلقي الصبي بحجارة كبيرة في النهر يزعج صوتها أباه المتشبث بالقصبة، فيعنفه الأب طالباً منه المساعدة بدل التفرج عليه، والصبي يهرب من تعنيف والده إلى شجيرات توت برية قريبة، يطفيء بثمارها القليلة بعضاً من نيران جوعه. تهدأ السمكة قليلاً، ويبدو أنها قد تعبت من كثرة الشد والخبط، فيتمكن الرجل من لف الخيط على ماكينة القصبة، وكلما ازداد اللف حول الماكينة، ازداد انحناء القصبة، وبالتالي ازداد خطر انكسارها، ومن ثم ضياع السمكة في هذه اللجة، مما يعني طي يوم آخر من أيام الجوع لكافة أفراد العائلة. من شدة مقاومة السمكة اعتقد أنها ستكون كبيرة إلى الحد الذي سيكفي نصفها لإطعام العائلة، والنصف الآخر لبيعه للحصول على بعض الخبز والسكر والشاي، ذاك الذي لم يدخل البيت شيء منه منذ أشهر، ولو كان محظوظاً - مثل ابن عمه الذي عثر منذ سنوات على خاتم من ذهب في جوف سمكة - فسوف يستعيد أرضه من ذلك المرابي اللعين، وسوف تتحسن الأحوال عندما ستعود الأسرة جميعها للعمل- كباقي عائلات المنطقة - في الزراعة، لذا ازداد تشبثاً بالقصبة، بينما ازدادت السمكة تشبثاً بالحياة .

    كثيرون من الصيادين نصحوه بأن يأتي إلى هذه المنطقة من النهر، ففيها تحاول أسماك السالمون القفز عكس التيار للوصول إلى حوض النبع الهاديء لكي تضع بيوضها هناك، وهي في قفزها هذا تتجاوز حتى الشلالات الهادرة ، مدفوعة في ذلك بغريزة حب البقاء، فماذا لو كانت العالقة بصنارته الآن واحدة كبيرة منها؟، وهل سيكون قاسياً عليها إلى حد حرمانها من استمرار نسلها؟، وماذا عن نسله هو،؟ وهل حرص السمكة على استمرار نسلها يتعارض مع حرصه هو على استمرار نسله ؟، وماذا لو استطاع الوصول إلى حل وسط لهذه الإشكالية؟، . . أقسم - بينه وبين نفسه - أنه لو حصل على هذه السمكة، فإنه سوف يأخذها حية إلى حوض النبع في جردل ماء، وهناك سوف يعتصر بطارخها، سامحاً لبيوضها أن تستقر في الماء الهاديء، ومن ثم سيكون من حقه، بعد أن ضمن لها استمرار نسلها، أن يضمن لنفسه استمرار نسله. . هكذا كانت نفسه تحدثه، بينما انهمك جاهداً في لف الخيط على الماكينة التي تعطلت أكثر فأكثر، ولم تعد تستجيب لرغبته في تقصير طول الخيط، ومن ثم تمكينه من تناول السمكة من الماء. هذه الماكينة اللعينة تتعطل الآن، تماماً في الوقت الذي يلزم أن تكون مطيعة له أكثر من زوجته. الطريقة الوحيدة المتبقية لاستخراج السمكة الآن - وبعد أن تعطلت الماكينة - تكمن في أن يتراجع بسرعة عن حافة النهر ساحباً السمكة منه، بعد أن كادت هي أن تسحبه إلى النهر، وبالفعل بدأ بالتراجع إلى الخلف مبتعداً عن النهر، ولحسن حظه، ها هي السمكة تهديء من روعها، فتستكين حركتها، وتمتثل له بالانسحاب التدريجي من الماء، وحتى لا يبتعد كثيراً عن ضفة النهر، فقد وضع القصبة أرضاً وشرع في سحب الخيط من الماء بكلتي يديه، لكن، وبسبب شدة التيار، ولثقل وزن السمكة، فقد كان عليه الجذب بقوة بدأ معها لحم كفيه بالتشقق، فسال الدم منهما بغزارة ، ، ، لا يهم، طالما أن السمكة على وشك الخروج من الماء.

    كانت الشمس قد بدأت بالتواري خلف التلال المجاورة، والظلام قد بدأ يزحف رويداً رويداً مبتلعاً كل الأشياء بوحشة قاتلة، تماماً كما ابتلع الجوع أحشاء العائلة لعدة أيام،،، عندما وصلت السمكة إلى الشاطيء، لم يستطع أن يتبين ملامحها بين طيات الظلام، ولدهشته كانت حركتها قد سكنت تماماً، فربما لشدة تخبطها، أنهكها التعب فاستسلمت في راحة أبدية، تماماً كما استسلم هو إلى فرح غامر . . انتبه إلى ضرورة تجفيف الدم من على كفيه، فمسحهما بحركة عفوية بجانبي بنطاله، وتوجه نحو السمكة ، ، ، فلتبشر العائلة بعشاء دسم، ووداعاً أيها الجوع الكافر، وسواء حملت هذه السمكة في بطنها ذهباً أم لم تحمل، فالبطون خاوية، والأفواه مستعدة حتى لقضم العظم، ومن المؤكد أن جاره لن يتردد في شراء نصف السمكة، والذي بثمنه سوف يستمتع بشرب كأس من الشاي طال انتظاره، أما أن تطبخ زوجته نصف السمكة مقلياً أو مشوياً أو مسلوقاً، فذلك ليس بالأمر المهم. يزداد اقتراباً من السمكة: هل ينظفها الآن بماء النهر، أم يترك أمر ذلك لزوجته؟،،، هل يتابع الصيد لكي يظفر بسمكة أخرى، ربما أكبر من هذه؟، أم يكتفي بما حصل عليه؟،،، قرر أن من الأفضل له أن يعود إلى بيته فوراً بعد أن حل الظلام، خاصة وأن هذه المنطقة تعج بالحيوانات المفترسة، والتي ربما ستجذبها رائحة السمكة، فيقوم أحدها باقتناصها من يده، وهو الذي أنفق يوماً بانتظارها، وأنفقت العائلة يوماً بانتظارهما.

    وصل إلى حيث تمددت السمكة بلا حراك ،، رفعها عن الأرض،، قلبها بين يديه،،، نظر باندهاش إلى رأسها حتى آخرها،،، رفعها إلى فوق، فسال منها ماء النهر مع طين كثيف،،، قلبها مرة ثانية وثالثة،  أغمض عينيه وهز رأسه ثم نظر إلى الأعلى ثم أطرق … سالت دموعه بيأس واضح ، ، نزع منها الصنارة  ورفعها بيده عالياً مطوحاً بها باتجاه النهر . . . الصبي يصرخ في أبيه من بعيد : " لا . . لا .. أرجوك يا أبي ألاّ تعيدها إلى النهر، يبدو أنها على مقاس قدمي، وأنا حافٍ كما تعلم والعيد على الأبواب،،، دعني أجربها الآن، فربما نعود إلى هنا غداً لكي تصطاد لي الفردة الأخرى" .                            

Saturday, November 3, 2012

خسارة لا تُعوَّض



    أشجار النخيل القديمة تتجذر على امتداد الساحل بقوة وعمق، وحركة الموج الأزلية ما زالت على حالها كما كانت منذ ملايين السنين، لكنها تبدو اليوم أكثر صخباً، ورمال الشاطئ فتئت تستحم بلا كلل منذ وُجِدَتْ، وعلى الجانب الخلفي للهضبة انتصبت سلسلة جبال سود تشظَّت حوافها كإناء زجاجي مكسور، شكلت للمشهد خلفية تستدعي الكآبة من تلافيف الروح، وخلفها غويمات رصاصية متمايلة، تحجب شمساً تحاول عبثاً استجلاء كنه ما كان يحدث على المنحدر الواصل بين سيف البحر وعنق الجبل.
  
     موكب تشييع يسير بخشوع، يتقدمه ستة رجال حملوا على أكتافهم نعشاً فيه جسد لرجل بدا من كثرة عدد المشيعين أن له مكانة خاصة في قلوب أهل القرية، يتناوبون على حمله بحنو وحزن واضحين، يتهادون بين صفين من أشجار سروٍ عتيقة شاركت المشيعين حزنهم، فتهادت نائحة يمنة ويسرة،،، بينما دموع الجميع تسيل بصمت وحرقة. بعد عبور بوابة المدينة الأبدية ذات السور الملون، وضع الرجال النعش على مصطبة مرتفعة، واصطفوا أمامها كتفاً إلى كتف وأكفهم متشابكة تحت بطونهم، وقد بدى على وجوههم حيرة وقلق، فهم يواجهون اليوم مشكلة فريدة لأول مرة في حياة قريتهم على ما يذكرون، والراقد في النعش أيضاً يمر بهذا الموقف  لأول مرة - هكذا خمن بعض المشيعين- ،  والوجوم الذي خيم على الجمع لم يكن بسبب افتقادهم شخصَ الميت، فهو غريب، طرأ على القرية منذ كان صبياً بعد أن قضت عائلته في زلزال اجتاح منطقة مجاورة، وفي هذه القرية شب وترعرع، لكن وجومهم كان بسبب افتقادهم مهنته التي لم يتخيلوا في يوم من الأيام أنه سيتركهم بلا بديل يقوم بها مقامه.

    الراقد في النعش كان يتوقع ما هو فيه الآن منذ آمن بما يؤمن به المؤمن، مع أنه كان يستبعده خوفاً منه، إلا أنه لم يكن يشعر برهبته لاحتكاكه به، أما هم فلم يخطر لهم على بال في يوم من الأيام أن يفتقدوه في وقت عز فيه مثيله، ولا أمل لهم في تعويضه، وهو لم يكن يتوقع أن يتركهم على هذه الحال، فقد اعتاد على مدار سنوات عمره السبعين – الذي انتهى صباح هذا اليوم - أن تمر بين يديه العشرات، بل المئات منهم، مستسلمة راضية بما يجريه عليها من طقوس لازمة لا يستطيع غيره القيام بها. بين يديه استسلم الكبير والصغير، الغني والفقير، خاضعاً في صمت أبدي ورضوخ مطلق، يقرضهم ذات اليمين فيتحركون، ويُقلِّبهم ذات الشمال فيستجيبون. قال في نفسه: إلى متى سأبقى منتظراً فوق هذه المصطبة؟، همّ بالوقوف، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً،،، انتبه إلى أنه يحاول ضرباً من المستحيل،،، أمر يده أن ترتفع في الهواء عل الجمع يهرع لنجدته، فلم تستجب له،،، أصخى سمعه عل أصوات الناس تصل إلى أذنيه، فوجدهما مسدودتين عاجزتين عن تلقي أية كلمة،،، اعترته حالة من الخوف اللذيذ الممزوج بقلق محرج،،، نسمة بحرية أطارت الغطاء عن ذراعه اليسرى،،، رجل عجوز من الجمع يهرع إلى إعادة الغطاء إلى ما كان عليه،،، ودَّ المستلقي في النعش لو أن العجوز انتظر برهة عله يستطيع التكلم معه،،، الوقت يمر لزجاً أكثر من المحتمل، والرجال المتجمعون حول النعش ما زالوا على حالتهم من الحيرة، فمنذ وضعوه على هذه المصطبة لم يجرؤ أحد منهم على التقدم منه لإنهاء هذا المشهد،،، بضعة نوارس حلقت على ارتفاع منخفض محدثة بأجنحتها أصواتاً خفيفة، عبرت من فوق النعش برفق كأنها تعرف ذاك الذي يتمدد فيه، وثمة نسيمات تهب من جهة البحر دافعة أمامها غيماً كقطع الليل مظلما، وومضات برق يذهب بالأبصار تقدح من بين السحاب، فيتقي الجمع ضوءها بستر أعينهم بسواعدهم، تتلوها زمجرات رعد يصم الآذان. تململ الجمع، واستدارت الأعناق جهة الجبل متنبئة بمطر غزير، والرياح تشتد أكثر فأكثر، ورذاذ خفيف بدأ بالتساقط، والمشكلة التي عرقلت آخر إجراء على صاحب النعش في طريقها إلى الحل،،، هبة ريح قوية أطارت الغطاء عن الجسد كله، أعقبها وابل من مطر أبيض، فأحس الراقد في النعش براحة وعذوبة لم يشعر بهما حتى عندما كان على قيد الحياة، وجسده العاري تماماً تسيل عليه الآن قطرات المطر الناعم برفق،،، أراد أن يفتح عينيه، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً،،، أراد أن يمسح الماء عن وجهه بكفيه، فلم تطاوعاه، فاسترخى أو هو أحس بذلك، ثم ترك جسده مرتعاً لقطرات المطر. همهم الحشد بكلمات لم يفهمها، وأقبل بعضهم عليه،،، جمعوا على جسده أطراف الكفن،،، ربطوا القماش بإحكام من جهة الرأس والقدمين ،،، حملوه بسرعة وخفة واتجهوا به صوب الحفرة،،، لقد انتهت المشكلة التي أخرت دفنه، فقد غسلته شآبيب المطر، وهاهم ينزلونه الآن في حفرته الأبدية، وإلى الأبد.

    عندما وضعوا البلاطة الأخيرة على صدره وأهالوا التراب عليه، كان هناك سؤال وحيد يدور في نفسه: مَن سيغسل لأهل القرية موتاهم بعد اليوم، أما هم فقد تركوه وحيداً في حفرته وعادوا أدراجهم إلى القرية، وسؤال وحيد يدور في أذهانهم: مَن سيغسل لنا موتانا بعد اليوم؟.