Saturday, November 3, 2012

خسارة لا تُعوَّض



    أشجار النخيل القديمة تتجذر على امتداد الساحل بقوة وعمق، وحركة الموج الأزلية ما زالت على حالها كما كانت منذ ملايين السنين، لكنها تبدو اليوم أكثر صخباً، ورمال الشاطئ فتئت تستحم بلا كلل منذ وُجِدَتْ، وعلى الجانب الخلفي للهضبة انتصبت سلسلة جبال سود تشظَّت حوافها كإناء زجاجي مكسور، شكلت للمشهد خلفية تستدعي الكآبة من تلافيف الروح، وخلفها غويمات رصاصية متمايلة، تحجب شمساً تحاول عبثاً استجلاء كنه ما كان يحدث على المنحدر الواصل بين سيف البحر وعنق الجبل.
  
     موكب تشييع يسير بخشوع، يتقدمه ستة رجال حملوا على أكتافهم نعشاً فيه جسد لرجل بدا من كثرة عدد المشيعين أن له مكانة خاصة في قلوب أهل القرية، يتناوبون على حمله بحنو وحزن واضحين، يتهادون بين صفين من أشجار سروٍ عتيقة شاركت المشيعين حزنهم، فتهادت نائحة يمنة ويسرة،،، بينما دموع الجميع تسيل بصمت وحرقة. بعد عبور بوابة المدينة الأبدية ذات السور الملون، وضع الرجال النعش على مصطبة مرتفعة، واصطفوا أمامها كتفاً إلى كتف وأكفهم متشابكة تحت بطونهم، وقد بدى على وجوههم حيرة وقلق، فهم يواجهون اليوم مشكلة فريدة لأول مرة في حياة قريتهم على ما يذكرون، والراقد في النعش أيضاً يمر بهذا الموقف  لأول مرة - هكذا خمن بعض المشيعين- ،  والوجوم الذي خيم على الجمع لم يكن بسبب افتقادهم شخصَ الميت، فهو غريب، طرأ على القرية منذ كان صبياً بعد أن قضت عائلته في زلزال اجتاح منطقة مجاورة، وفي هذه القرية شب وترعرع، لكن وجومهم كان بسبب افتقادهم مهنته التي لم يتخيلوا في يوم من الأيام أنه سيتركهم بلا بديل يقوم بها مقامه.

    الراقد في النعش كان يتوقع ما هو فيه الآن منذ آمن بما يؤمن به المؤمن، مع أنه كان يستبعده خوفاً منه، إلا أنه لم يكن يشعر برهبته لاحتكاكه به، أما هم فلم يخطر لهم على بال في يوم من الأيام أن يفتقدوه في وقت عز فيه مثيله، ولا أمل لهم في تعويضه، وهو لم يكن يتوقع أن يتركهم على هذه الحال، فقد اعتاد على مدار سنوات عمره السبعين – الذي انتهى صباح هذا اليوم - أن تمر بين يديه العشرات، بل المئات منهم، مستسلمة راضية بما يجريه عليها من طقوس لازمة لا يستطيع غيره القيام بها. بين يديه استسلم الكبير والصغير، الغني والفقير، خاضعاً في صمت أبدي ورضوخ مطلق، يقرضهم ذات اليمين فيتحركون، ويُقلِّبهم ذات الشمال فيستجيبون. قال في نفسه: إلى متى سأبقى منتظراً فوق هذه المصطبة؟، همّ بالوقوف، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً،،، انتبه إلى أنه يحاول ضرباً من المستحيل،،، أمر يده أن ترتفع في الهواء عل الجمع يهرع لنجدته، فلم تستجب له،،، أصخى سمعه عل أصوات الناس تصل إلى أذنيه، فوجدهما مسدودتين عاجزتين عن تلقي أية كلمة،،، اعترته حالة من الخوف اللذيذ الممزوج بقلق محرج،،، نسمة بحرية أطارت الغطاء عن ذراعه اليسرى،،، رجل عجوز من الجمع يهرع إلى إعادة الغطاء إلى ما كان عليه،،، ودَّ المستلقي في النعش لو أن العجوز انتظر برهة عله يستطيع التكلم معه،،، الوقت يمر لزجاً أكثر من المحتمل، والرجال المتجمعون حول النعش ما زالوا على حالتهم من الحيرة، فمنذ وضعوه على هذه المصطبة لم يجرؤ أحد منهم على التقدم منه لإنهاء هذا المشهد،،، بضعة نوارس حلقت على ارتفاع منخفض محدثة بأجنحتها أصواتاً خفيفة، عبرت من فوق النعش برفق كأنها تعرف ذاك الذي يتمدد فيه، وثمة نسيمات تهب من جهة البحر دافعة أمامها غيماً كقطع الليل مظلما، وومضات برق يذهب بالأبصار تقدح من بين السحاب، فيتقي الجمع ضوءها بستر أعينهم بسواعدهم، تتلوها زمجرات رعد يصم الآذان. تململ الجمع، واستدارت الأعناق جهة الجبل متنبئة بمطر غزير، والرياح تشتد أكثر فأكثر، ورذاذ خفيف بدأ بالتساقط، والمشكلة التي عرقلت آخر إجراء على صاحب النعش في طريقها إلى الحل،،، هبة ريح قوية أطارت الغطاء عن الجسد كله، أعقبها وابل من مطر أبيض، فأحس الراقد في النعش براحة وعذوبة لم يشعر بهما حتى عندما كان على قيد الحياة، وجسده العاري تماماً تسيل عليه الآن قطرات المطر الناعم برفق،،، أراد أن يفتح عينيه، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً،،، أراد أن يمسح الماء عن وجهه بكفيه، فلم تطاوعاه، فاسترخى أو هو أحس بذلك، ثم ترك جسده مرتعاً لقطرات المطر. همهم الحشد بكلمات لم يفهمها، وأقبل بعضهم عليه،،، جمعوا على جسده أطراف الكفن،،، ربطوا القماش بإحكام من جهة الرأس والقدمين ،،، حملوه بسرعة وخفة واتجهوا به صوب الحفرة،،، لقد انتهت المشكلة التي أخرت دفنه، فقد غسلته شآبيب المطر، وهاهم ينزلونه الآن في حفرته الأبدية، وإلى الأبد.

    عندما وضعوا البلاطة الأخيرة على صدره وأهالوا التراب عليه، كان هناك سؤال وحيد يدور في نفسه: مَن سيغسل لأهل القرية موتاهم بعد اليوم، أما هم فقد تركوه وحيداً في حفرته وعادوا أدراجهم إلى القرية، وسؤال وحيد يدور في أذهانهم: مَن سيغسل لنا موتانا بعد اليوم؟.     

No comments: