Sunday, November 25, 2012

رجُلٌ على حافة الإيمان


رجُلٌ على حافة الإيمان
    على فضائية عربية متزنة، شدت انتباهي ندوة كانت تناقش فيلماً سينمائياً بعنوان (الملحد)، فهكذا عنوان لا يمكن أن يسمح للمشاهد سوى بمتابعته، وقد كان الحضور مؤلفاً من بعض ممثلي الفيلم ومخرجه وغيرهم من ذوي العلاقة بالعمل. كانت حجة مخرج الفيلم – الذي تلقى هو وبعض العاملين معه تهديدات بالقتل -، بأنه إنما كان يقدم عملاً يشخص فيه حالة يعيشها المجتمع، أي مجتمع، وهي وجود فئة لا تؤمن بالدين ولا بالإله، وتفتخر بأنها (علمانية)، نسبة إلى العلم، مع أن قسماً كبيراً من هذه الفئة لا يعرفون إلا بالكاد كتابة أسمائهم، تماماً مثلما أن في المجتمعات جميعها ممارسات خاطئة بل ومشينة، كتهريب المخدرات وتعاطيها، والدعارة والجريمة وتجارة الأعضاء، فهذه جميعها موجودة بين ظهرانينا، لكننا لا نعلم بوجودها وحجمه بسبب استتارها عن أعيننا، فلكل مدينة شارعها الخلفي، كما أن لكل عملة وجهين، والمجتمعات التي تتمتع بصحة نفسية واجتماعية، تشهّر بهذه الظواهر، و لا تتستر عليها، بل تحاول تعليل أسبابها، وطرق عملها، ووسائل معالجتها للحد منها، إذ أن الواقع يقول بأن تعديل سلوك الأفراد أمر ممكن الحدوث عن طريق نشر العلم والتوعية والرعاية الصحية وغيرها من الأساليب والوسائل، أما تعديل العقائد والمفاهيم الذهنية، فأمر معقد وصعب، وبدون إعمال صاحب هذه العقائد ذهنه واجتهاده الشخصي، فلا يمكن لأية قوة خارجية مهما بلغ منطقها وحجتها أن تصرفه عما اقتنع به واعتقده، وهذا هو حال الملحدين.
    ذكرتني هذه الندوة بلقاء مع صديق لي منذ عقدين من السنين، وهو من أولئك العلمانيين الذين يتباهون بإنكار الإله والأديان، ويعتقدون بأن الدين والإله هما اختراع بشري، أفرزه عقل الإنسان كقوة خفية تستجلب له الخير، وتبعد عنه الشر، وسبب هذا كما يقول هؤلاء، نابع في الأصل من خوف الإنسان من مظاهر الطبيعة الجبارة، فلكي يتقي خطرها ويستجلب نفعها، كان الكهان – وهم أذكى من في القوم -، يقومون بالواجبات الدينية، فهم يستمطرون السماء، ويسترحمون العواصف والأعاصير والبراكين عن طريق تقديم الأضاحي لها من أنواع الحيوان والغلال، وحتى في بعض الأحيان من الأضاحي البشرية، كعروس النيل مثلاً. أما عن خلق الإنسان، فهؤلاء مقتنعون بنظرية النشوء والتطور الداروينية، حيث يؤمنون بأن الأشكال البدائية للحياة قد تخلقت في مياه البحار والمحيطات، ثم تطور بعضها لكي يصبح على شكل الإنسان الحالي.
    أذكر يومها أنني، وبعد استفاضة صاحبي في شرح نظرياته، تظاهرت بمجاراته ودخلت معه في نقاش كنت فيه أنا المستفسر منه، وكان هو الشارح لي:
-       قلت: إذن تقول أن الطبيعة هي المسؤولة عن كل ما في الكون، بما فيه نحن أيضاً؟، قال طبعاً ولا جدال في ذلك.
-       قلت: وما هي الطبيعة؟، هل هي هذه الجبال والبحار والمناظر الجميلة؟، قهقه صاحبي طويلاً ثم قال: هذه هي الطبيعة في نظر العامة، أما نحن العلمانيون، وإن شئت الطبيعيون، فالطبيعة عندنا هي كل ما في هذا الكون بالمطلق من كواكب ومجرات وكل ما يوجد فيها من أصغر ذرة إلى أضخم الأشياء. الطبيعة يا صديقي مفهوم معقد للغاية، يصعب بدون خيال واسع الإحاطة به، وحتى أوسع خيال لا يحيط إلا بجزء يسير منها. قلت: إذن هي عصية على الفهم؟. قال: لا شك في ذلك.
-       قلت: هل عمل الطبيعة منتظم ومنظم؟، قال بالطبع، ألا ترى حتى مظهرها القريب جداً منك، بل داخل جسدك،،، ألا ترى انتظام دقات قلبك وعمل أعضائك الداخلية؟، إنها تعمل بانتظام مدهش، وكذلك جميع ما يمكن أن ينطبق عليه لفظ (الطبيعة)، ألا ترى دقة دوران الكواكب والنجوم في أفلاكها، تلك الدقة وذلك النظام الذي لولاهما لاضطرب الكون بما فيه، ولانتهى أمره خلال ثوانٍ معدودة. طبعاً يا صديقي، عمل الطبيعة منتظم ودقيق حد الإبهار.
-       قلت – بينما هو ينظر في عيني وقد راقه انغماسي في شرحه -: لا شك كما تعلم أن للطبيعة قوانينها، فهل تعتقد أن الإنسان يمكن أن يأتي عليه حين من الدهر يتمكن فيه من الإحاطة بهذه القوانين جميعها؟. عاد صاحبي إلى الضحك المصحوب بنوبات سعال وقال: يا أخي يبدو أنك لم تستطع استيعاب فكرة الطبيعة، إنها عالم لا يمكن الإحاطة به عملياً، ويبدو ذلك بحكم المستحيل، ولو قربت لك الأمر: هل يعلم أحد مهما أوتي من العلم ماذا يوجد على سطح النجوم والكواكب في مجرات تبعد عنا مسافات خيالية؟، وإذا كنا نستطيع الإحاطة بالقوانين الفيزيائية على أرضنا، هل نضمن أن القوانين في تلك المجرات هي نفس قوانين أرضنا، إذن الإحاطة بقوانين الطبيعة هي بالتأكيد بحكم المستحيل.
-       قلت: هل هذا يعني أن الطبيعة ذات قدرة هائلة؟. قال: لو كنت تعرف شيئاً عن الفضاء الخارجي وعلم الفلك، لعلمت مدى سذاجة هذا السؤال. هل تعلم بأنه في ثانية واحدة يحترق في باطن الشمس ستة ملايين طن من الهيدروجين؟، وهل تعلم بأن سرعة الفوتون الواحد، وهو العنصر الرئيسي للضوء، تبلغ متراً واحداً في الثانية داخل الشمس، بينما تصل سرعته حينما ينطلق منها إلى الأرض حوالي 300 ألف كم في الثانية؟، هل تخيلت حجم الضغط الهائل داخل كرة الشمس؟، وتخيل أن هناك في كل متر مكعب من الفضاء 400 مليون فوتون. والثقب الأسود، أحسبك سمعت عنه، ذاك الذي درجة جاذبيته قادرة على سحق الصوت والضوء الواصل إليه، بحيث لو تخيلت أن الكرة الأرضية دخلت فيه، لتحولت بجميع ما فيها إلى كتلة لا تتجاوز حجم كرة تنس الطاولة، ثم تسألني هل للطبيعة قدرة هائلة، طبعاً بل وأكثر من هائلة.
-       قلت: هل الطبيعة محدودة بحيز مكاني معين، أم أنها لا متناهية؟، قال: هل تعلم أن العلماء يقدرون قطر دائرة الكون من أربعة عشر إلى خمسين مليار سنة ضوئية. تظاهرت بأنني لا أعرف كم هي مسافة السنة الضوئية، فاعتقد صاحبي أنه كالإمام علي (رض) باب مدينة العلم ويمتلك مفتاحها، اعتدل في جلسته وقال: هي يا صاحبي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة، وتقدر بتسعة تريليونات ونصف التريليون من الكيلومترات، يعني اضرب هذا الرقم بأربعة عشر مليار في الحد الأدنى، فالناتج هو قطر دائرة الكون. قلت متظاهراً بالمفاجأة: ياه ،، هذا شيء مدهش فعلاً، ولو افترضنا جدلاً أن الإنسان وصل في المستقبل البعيد جداً إلى حافة الكون، فماذا سيجد هناك؟، ابتسم صاحبي ربما على غباء سؤالي وقال: لن يجد شيئاً، سوف يجد كوناً آخر، وبعده كوناً آخر، وهكذا دواليك. قلت: إذن الطبيعة غير محدودة بحيز مكاني. قال: هذا بديهي.          
-       قلت: إذن ليس للطبيعة ماهية معينة يمكن أن تتجسد في شيء محدد؟. قال: كأنك تعود بي إلى استفساراتك اللامنطقية: كيف يمكن لنا أن نحدد ماهية الطبيعة إن كنا لا نستطيع الإحاطة بها لهولها، فهي هائلة إلى حد لا يستطيع العقل تخيله، فهل تستطيع مثلاً أن تتخيل اللانهاية؟. قلت معترفاً: بالطبع لا وألف لا. قال: إذن الجواب معروف: ليس للطبيعية ماهية ملموسة، فهي تعرف بالكلية، وبمجرد أن تذهب إلى التفاصيل، تضيع وترجع إلى نقطة الصفر.
-       قلت: هل تعلم الطبيعة كل ما يدور في الكون، أي هل هي مطلعة على ذاتها أم لا؟، أم أن كل مظهر فيها مستقل بذاته، لا علاقة له بباقي المظاهر؟. قال: لو كان لكل مظهر من مظاهر الطبيعة استقلال عن غيره، لاضطرب الكون وانفلت من عقاله، لأن التناغم السلس بين مظاهرها، والتناسق التام في عمل مكوناتها، هي أبرز سماتها، وأوضح معالم ائتلافها.
    عندها اعتدلت في جلستي وقلت لصاحبي: استمعت إليك مطولاً، فاصغِ إلى ما أقول: هل يمكن أن نعدد مواصفات الطبيعة هذه مرة ثانية: منظمة، علمها واسع جداً، قادرة، لا متناهية، تعلم كل شيء، ومسؤولة عن كل شيء، لا نستطيع الإحاطة بها وبجميع قوانينها، ولا يمكن معرفة ماهيتها، أليس كذلك؟، قال بالتأكيد، أوجزت فأحسنت.
قلت له: خذ عندك يا صاحبي، ولعلمك فنحن متفقان لا خلاف بيننا سوى بالكلمة، فلو وضعت كلمة (الله) بدل كلمة (الطبيعة) في جميع ما قلته سابقاً، لحُلَّ الإشكال، ولاتفقنا في الجوهر، فأنت يا صديقي عميق الإيمان بالله تعالى، غير أن المنحى الذي اتخذه ذهنك في الإفصاح عن مكنونات داخله وإيمانه، قد أخطأ التعبير، فاستخدم كلمة (الطبيعة) بدل كلمة (الله)، واسمع كيف وصف الله تعالى نفسه - بنفس أوصاف الطبيعة هذه، تلك التي تؤمن بها - في القرآن الكريم:
1-    فهي في دقتها كما قلت، تتمثل في عمل أجسادنا ( وفي الأرض آيات للموقنين – 20 - وفي أنفسكم أفلا تبصرون – 21 - الذاريات).
2-    والطبيعة مسؤولة عن كل شيء ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل – الأنعام 102 -).
3-    ولا يمكن الإحاطة بقوانينها ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء – البقرة 255-).
4-    والطبيعة منظمة (إنا كل شيء خلقناه بقدر – القمر 49).
5-     وهي قادرة (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير – الروم 54 -).
6-     وهي عالمة بكل شيء (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين – يونس – 61 -)، ( عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال – الرعد 9 ).
7-    وهي قاهرة، لا يمكن التحكم بها (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير – الأنعام 18 -).
8-     عصية على الفهم، لا نستطيع الإحاطة بها ولا نعرف ماهيتها (وهم يجادلون في الله وهو شديد المِحال – الرعد 13 – ) ، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير – الشورى 11 -).
    بينما كنت أسترسل في حديثي موضحاً لصديقي أنه شديد الإيمان بالله، وأن كل صفات الطبيعة التي ذكرها، هي نفسها الصفات التي نسبها الله تعالى لنفسه في كتابه الكريم. في هذه الأثناء كان الرجل يرمقني بنظرة فهمت منها أنه يشكرني على حسن ظني به، على عكس الذين صادفهم قبلي، فاتهموه بالإلحاد، ووعدوه بنار جهنم وبئس المصير، ومنهم من قاطعه وحرض الآخرين على مقاطعته. وعندما هم بالوقوف للمغادرة، اتكأ صاحبي بكف يده على ركبتي لألم في ركبتيه قائلاً: (يا ألله، بالإذن)، وعلى الفور ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات دلالة، وقبل أن يغلق الباب خلفه، ألقى عليَّ نظرة وداع، قرأت فيها أن هذا الرجل ليس على حافة الإيمان فحسب، بل إنه بالفعل يغوص في أعماقه.

  24 نوفمبر 2012 

1 comment:

Unknown said...

I have no clue how I landed on your blog but I wanted to thank you for this beautifully written piece. It brought tears to my eyes...Thank You!