Monday, November 12, 2012

أشد على يد البابا تاضروس


    في الثلاثين من الشهر الماضي دونتُ في صفحتي على الفيس بوك الخاطرة التالية: ”في عصرنا الحالي، من يتصور أنه يمكن إقامة الدولة الدينية، يكن كمن يخلط البنزين بالحليب، فإنه يخسرهما في وقت واحد، فلا سياسة أبقى، ولا ديناً أقام”. بعد ذلك بأيام انتخب إخوتنا أقباط مصر بابا جديداً للكرازة المرقصية المصرية هو البابا تاضروس الثاني، ولسعادتي، سمعت تصريحاً لهذا البابا يقول فيه بأنه لا يجوز لأحد خلط السياسة بالدين، وإن فعل، فإنه يخسر الاثنين معاً. لا أقول هنا بأن قداسته قد اقتبس عني، فهو أكبر من ذلك بكثير، ولكنني أذكر ذلك لكي أذكّر بأن نظرة المؤمنين الحقيقيين، من جميع الأديان، تتفق على أن الدين يفسد إن هو أقحم في السياسية، وأن السياسة تتحجر إن هي ارتدت ثوب الدين، ولذا كثيراً ما جادلنا الإخوة الذين فرحوا بإقامة دولة إيران الثورة على أساس المذهب الجعفري (الإثنى عشري) بأن ذلك خطأ ما كان يجب أن يقحم فيه الدين بالسياسة، وكانت حجتنا أن المذهب الكريم – ولو نظرياً على الأقل – صحيح مئة بالمئة، لأنه قام بناء على دين أنزله الله تعالى على رسوله الكريم، ، آمن به الملايين واعتنقوه، وهو في نقائه أسمى من أن يقحم في السياسة، تلك التي تحتاج إلى الكذب كما تحتاج إلى الصدق، وتمارس الاستقامة كما تمارس اللف والدوران، تتخذ من الشعار الميكيافيللي القذر (الغاية تبرر الوسيلة) نبراساً لها في التعاطي مع الآخرين، لذا فإن إنجازها يحتمل الخطأ والصواب، فهل من العدل أن يتحمل المذهب مسؤولية أخطاء السياسة؟. لهذا فالدين الذي يُخلط بالسياسة قسراً، والسياسة التي ترتبط بالدين جبراً، يفسد أحدهما الآخر ويجر عليه المصائب والويلات والأخطاء، فمحل الدين هو المسجد والكنيسة وما تفرع عنهما من مراكز وهيئات دينية، ومكان السياسة هو القصور الملكية والرئاسية والوزارات وما تفرع عنها من مكاتب وهيئات سياسية، أما عامة المؤمنين، فعليهم اختيار واحد من اثنين: إما الجامع والكنيسة، وإما الرئاسة والوزارة.

    بعد سماعي تصريحه المذكور، لن أتردد – كمسلم يعتز بإسلامه – أن أقول بأنني أشدَّ على يد البابا تاضروس، وأدعم رأيه في ضرورة فصل الدين عن السياسة، ناهيك عن أن هذا الفصل هو فصل ظاهري، لا يعني انبتات عمل الاثنين عن الحياة العامة على أرض الواقع، فالمسجد والكنيسة – اللذان يُنشِّئان جيلاً مؤمناً أميناً صادقاً، ذا ضمير حي يستند إلى وحي السماء – يساهمان في تنظيف الساحة السياسية عندما يرفدانها بكوادر مؤمنة محترمة قادرة على خدمة بلدها بأمانة وإخلاص، وينهضان بالمجتمع بجميع مؤمنيه، مسلمين ومسيحيين، أولئك الذين يمتلكون في الوطن حقاً متساوياً لا انتقاص فيه من جانب لحساب الجانب الآخر.

    وربما كان من المناسب أن نشير هنا إلى أن رفض بعض السلفيين الإسلاميين حضور حفل تنصيب البابا رسمياً، هو رفض لا يشجع على بناء علاقة إيجابية بين عنصري الشعب المصري الرئيسيين، خاصة وأن حفل التنصيب لا يتضمن إقامة الصلوات أو الطقوس الدينية، بل هو حفل تنصيب وحسب، وحتى لو رفضوا هم الحضور، فهذا شأنهم، أما أن يطلبوا من الرئيس المصري عدم الحضور، فهذا يعني ببساطة أن الرئيس – لو انصاع لطلبهم – فإنه بذلك يقر بأنه رئيس المسلمين المصريين فقط، ويقيني أن هؤلاء المتطرفين يتصرفون دون وعي منهم بالسيرة النبوية الشريفة، التي هي نبراس ومثال لكل مسلم، وذلك عندما استقبل الرسول ص وفد نصارى نجران في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وعندما حان موعد صلاتهم، أذن لهم الرسول ص أن ينتحوا جانباً داخل مسجده لكي يؤدوا صلاتهم. هذا هو الخلق النبوي الذي يحبب الآخرين بالدين الحنيف، وهذا هو الدين الحنيف الذي لايسمح فيه للمسلم أن ينصب نفسه حكماً على تصرفات الآخرين (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). أما التهديدات التي أطلقها بعض السلفيين مؤخراً بتدمير الآثار الفرعونية والأهرامات، فلا يدل سوى على قصر نظر إلى حد البلاهة، فهم ليسوا أكثر حرصاً على الإسلام من عمرو بن العاص، فاتح مصر، وغيره من الصحابة الأوائل، الذين أبقوا على هذه الآثار ولم يمسوها بسوء، وعلينا أن نعترف بأنه من سوء طالع المجتمعات أن تضم بين مكوناتها ما يعرف بـ (المتطرفون)، أولئك الذين لا يعترفون بالآخر، ويحبون أنفسهم بطريقة مرضية نرجسية بغيضة، هي نفسها التي تقف وراء جميع الحروب والكوارث التي شهدتها البشرية في تاريخها الطويل.


No comments: