Tuesday, September 27, 2016

الأكراد والبليارد

         (هذا المقال يتناول مواقف القيادات السياسية الكردية، وليس الشعب الكردي بالتأكيد)
    رغم اختلاف تسمياتها وتنوع قواعدها وبلاد منشئها، تبقى لعبة البلياردو متشابهة في كثير من تفاصيلها، وفي مقدمتها وجود منضدة، عليها كرات اختلفت أعدادها، وتنوعت المواد التي تصنع منها، وعصى لضرب الكرات ودفعها للاتجاه إلى جيوب مثبتة على جوانب المنضدة، ثم السقوط فيها، ولاعب أو أكثر يتناوبون الإمساك بالعصا لضرب الكرات، لكن يبدو أن الكرة البيضاء هي أهم الكرات التي على سطح المنضدة، تلك التي يضربها اللاعب بالعصا لكي تصدم هي بدورها باقي الكرات، محاولة دفعها إلى الجيوب والسقوط فيها.
    ربما تكون هذه المقدمة مناسبة للوصول إلى القول بأن الكرة التي تستهدفها العصا في لعبة البليارد، تشبه إلى حد بعيد القوى السياسية الكردية المتواجدة على أراضي أربعة كيانات سياسية قوية هي دول العراق وإيران وتركيا وسوريا، حيث تقوم هذه الدول باستخدام الكرة الكردية ضد بعضها البعض. وربما كان من سوء طالع قبائل الكرد أنها نشأت وتوضعت في بيئة جبلية قاسية في غرب آسيا منذ أزمنة سحيقة، ونظراً لقسوة الطبيعة هناك وانعزالها عن ساحل بحري، فقد أدى ذلك بالتالي إلى انعزال القبائل الكردية، وتشتتها في جبال شاهقة ووديان سحيقة، مما أدى إلى استحالة قيام دولة كردية متماسكة تجمع شملهم، وتثبت كيانهم سياسياً وقومياً، فاشتراكهم في لغة واحدة، وبتاريخ أقرب إلى الأساطير، وبتوجهات عامة باتجاه هدف مشترك، هذه جميعها لم تمكنهم من تحقيق حلمهم بقيام دولة كردية، فالطبيعة القاسية كانت أقوى من جميع تلك الروابط، مما اضطر القوم إلى الخضوع للكيانات السياسية التي اجتاحت مناطقهم منذ فترة ما قبل الغزو المغولي، إلى ما بعد سقوط الإمبراطوريتين: الروسية والعثمانية، والاتحاد السوفييتي. وبعد نشوء الكيانات السياسية التي يتوضعون على أراضيها (العراق - إيران - سوريا - تركيا) استمر الأكراد في مناطقهم، تفصلهم حدود تلك الدول، دون أن تلغي أحلامهم بقيام دولة واحدة تجمعهم.
    لكن الأخطر في حياة الأكراد كان تنافس الدول التي يقطنونها، وقيامها باستخدامهم ضد بعضها البعض، فباستثناء قيام دولة " مها آباد" الكردية شمال غرب إيران في أربعينيات القرن الماضي - ولمدة لم تزد على ستة أشهر بسبب غياب السلطة المركزية للدولة  الإيرانية -، لم يتمكن الأكراد من الاقتراب من حلمهم التاريخي، وبالتالي كانوا دوماً على استعداد لأن يكونوا الكرة التي تحركها العصا الخشبية لكي تطيح بالكرات الأخرى خدمة لمآرب حامل العصا، أو بعبارة أخرى أصبحوا " بندقية للإيجار"، وكلما ضعفت سلطة الدولة في أي من تلك الدول الأربع، ازدادت قدرة الأكراد على قضِّ مضجعها، وبالتالي خدمة من يريد إلحاق الضرر بها.
العراق: ففي ستينيات القرن الماضي، وبتجدد النزاع التاريخي بين العراق وإيران بسبب قيام حكم قومي في العراق بعد الإطاحة بالملكية عام 1958، وإسقاط حلف بغداد الذي كانت إيران أحد أهم مؤسسيه، دعمت إيران بقوة - معززة بالموساد الإسرائيلي - ثورة الملا مصطفى البرزاني في شمال العراق، وزودته بالمعدات وأجهزة الاتصال والمال والسلاح لكي يقض مضاجع الحكومة العراقية، وصور القادة الأكراد وزياراتهم المتكررة إلى إسرائيل تثبت هذه الوقائع بما لا يدع مجالاً للشك والريبة، ورغم التعاطف العربي مع العراق( حيث أرسلت سوريا عام 1963 لواء اليرموك بقيادة الضابط فهد الشاعر للقتال مع العراقيين)، فقد تواصلت ثورة الأكراد إلى أن توجت – وللمفارقة ليس بقيام دولة كردية -، بل بإجبار شاه إيران العراقيين على توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975، تلك التي خسر فيها العراق السيطرة على كامل مياه شط العرب – النهاية الجنوبية لحدود العراق الشرقية مع إيران – فتقدم خط الحدود الإيراني إلى منتصف مياه الشط. نتيجة لذلك توطد نفوذ البرزاني دون أن يصل إلى حد إعلان قيام دولة، وخلال نشوب الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) وما بعدها، توطد الكيان السياسي لإقليم كردستان العراق، وفي فترة التسعينيات، في أعقاب حرب الخليج الثانية وفرض الحصار الدولي على العراق ورفع الإقليم علمه الخاص به، انحسر النفوذ الإيراني عنه، مع تصاعد واضح للنفوذين الأمريكي والإسرائيلي، كما شهدت تلك الفترة صراعاً مريراً بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، وهما حزب مسعود البرزاني ( الديمقراطي الكردستاني )، وحزب جلال طالباني ( الاتحاد الوطني الكردستاني )، وكلاهما زعيمان تقليديان للأكراد، مارسا النفوذ القبلي من أجل الاستئثار بحكم الإقليم والسيطرة على موارده المتأتية أصلاً من رسوم الترانزيت وعمليات التهريب (أسلحة – بضائع - مخدرات)، ووصل الصراع بينهما حداً استقوى به الطالباني بإيران والبرزاني بحكومة بغداد ، ولم ينته هذا الصراع إلا بدخول المخابرات المركزية فعلياً أراضي الإقليم، لكي تنطلق منه باتجاه العاصمة بغداد، مستفيدة من حظر الطيران الذي حرم العراق من إمكانيات سلاحه الجوي لصد توجهات الأكراد وحلفائهم من القوى الغربية، وبعد احتلال بغداد عام 2003، يبدو أن نزع فتيل الصراع بين مسعود البرزاني وجلال الطالباني قد حسمه الأمريكيون بفرض هذا الأخير رئيساً لجمهورية العراق.  
تركيا: نظراً لتركز غالبية الأكراد في جزئها الجنوبي الشرقي، وبسبب الطبيعة الجبلية القاسية الوعرة، فقد كانوا كذلك أدوات تحركهم دولتا إيران وإقليم كردستان العراق، وربما سوريا في بعض الأحيان. فخلال فترة انحسار نفوذ بغداد عن إقليمها الشمالي، كردستان، نشط فيه حزب العمال الكردستاني التركي، الذي اتخذ من جباله المنيعة منطلقاً لمهاجمة القوات التركية، التي اتخذت من سياسة الهجوم على شمال العراق لمهاجمة قوات الحزب هناك سياسة ثابتة خلال تسعينيات القرن الماضي، كما أن سوريا حافظ الأسد قد ساهمت في دعم ذلك الحزب الكردي باستضافتها زعيمه عبد الله أوجلان، الذي انشأ معسكرات تدريب لرجاله في سهل البقاع اللبناني تحت إشراف سوري، واستمر إلى أن أجبرت تركيا الرئيس حافظ الأسد على التخلي عن أوجلان وطرده من سوريا ولبنان عام 1998، ثم ألقي القبض عليه في نيروبي بكينيا عام 1999. تبدو تركيا وكأنها الطرف الوحيد من منظومة الدول التي يقيم فيها الأكراد، والتي لم تستفد من تحريكهم داخل البلدان المجاورة، بل لعلها تكون الدولة الأكثر تضرراً من محاولات دول الجوار الاستفادة من" الكرة الكردية "، واقتصر الدور التركي على الدفاع عن حدودها الجنوبية الشرقية، وتصديها لسياسات كل من العراق وسوريا وإيران الرامية إلى الاستفادة من الوجود الكردي داخل الأراضي التركية.
سوريا: ربما كانت طبيعة الأرض السهلية التي يقيم فيها الأكراد شمال شرق سورية، من بين المعوقات أمام قيام حركة كردية سورية مسلحة، على عكس ما هو عليه الحال في المناطق الجبلية في كل من العراق وإيران وتركيا، فجبال شمال شرق سورية في أعلى قممها ( 550 متراً عن سطح البحر) هي أقل ارتفاعاً من مدينة دمشق ( 740 متراً عن سطح البحر ) وهذا ما ميز ميل أكراد سوريا إلى النضال الثقافي، وربما السياسي السلمي، والابتعاد عن ترسُّم خطى أقرانهم في العراق وتركيا، وربما في إيران، علاوة على تمدد الأكراد على كامل مساحة الأرض السورية، مما أوجد بينهم نوعاً من ضعف الشعور القومي (ضعف وليس زوال)، فالكثير من أكراد سورية لا يتقنون التحدث باللغة الكردية، ويجهلون تاريخهم، كل ذلك علاوة على القبضة الأمنية الحديدية لنظام البعث في دمشق حيال كل ما كان يمكن أن يصدر من أكراد شمالها الشرقي.
إيران: يتوضع الأكراد في جهاتها الشمالية الغربية مع حدود تركيا والعراق، وكانت أولى محاولاتهم السياسية هي استغلال انشغال طهران بمجريات الحرب العالمية الثانية، فأعلنوا عام 1945 دولة "مها آباد" التي استمرت لمدة لم تزد على الستة أشهر قبل أن تعود القوات الإيرانية لكي تلغيها وتعدم قادتها. وفيما بعد، نجحت دبلوماسية شاه إيران في تدجين القيادات الكردية وتحييدها في صراعات دول المنطقة، بل إن دعمه لأكراد العراق قد جعله أقرب إلى قلوب أكراد إيران، والأكراد بشكل عام، فقد تعاون جهازا السافاك الإيراني والموساد الإسرائيلي في إيصال المساعدات إلى الملا مصطفى البرزاني لتدعيم ثورته ضد الحكومة المركزية في بغداد، ونتيجة لذلك، وبدم ضحايا الصراع من الأكراد والعرب العراقيين، كتبت "اتفاقية الجزائر" لعام 1975، التي وقعها العراق مرغماً بفعل التمرد الكردي، والتي خسر بموجبها – كما أسلفت – نصف شط العرب لصالح إيران، وبعد قيام ثورة الخميني عام 1979، كان طرحها الإسلامي نوعاً من مسكن هدأ من جموح الأكراد عموماً، والإيرانيين منهم بشكل خاص، علاوة على أن استمرار العداء الإيراني للعراق - ربما أشد مما كان عليه الحال زمن الشاه، متمثلاً في حرب الثماني سنوات (22/9/1980-8/8/1988) - والتي اتهم العراق زوراً ببدئها والإصرار عليها* - قد أرضى الأكراد إلى حدٍّ ما، وحال بينهم وبين اللجوء إلى القوة المسلحة للمطالبة بحقوقهم القومية.
    في جميع الحالات، ومهما تغيرت العصا واللاعبون، تبقى الكرة المستخدمة في ضرب باقي الكرات هي الكرة الكردية: تُضرب هي بالعصا، وتَضرِبُ هي غيرها من الكرات في نفس الوقت تقريباً.          
_______________________________________
*- صرح عبد الأمير الأنباري، مندوب العراق في الأمم المتحدة، بأن العراق وافق على وقف القتال بناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 479 بتاريخ 28 سبتمبر 1980 بعد ستة أيام من بدئه، لكن إيران رفضت. وعندما اضطر الخميني إلى الموافقة على وقف القتال مع العراق في 8/8/1988، قال قولته المشهورة:"إن تجرع السم أهون عليَّ من توقيع هذا الاتفاق".


Thursday, September 22, 2016

الصديق فخري البارودي: صاحب "بلاد العرب أوطاني"

    مما لا شك فيه أن معظم المثقفين العرب قد قرأوا الأبيات الشعرية التي عُدَّت من أفضل ما قيل في التعبير عن الحس القومي العربي:
بلاد العرب أوطاني      من  الشام  لبغدان
ومن  نجد إلى  يمن      إلى مصر فتطوان
    كما مما لا شك فيه أيضاً أن قلة من هؤلاء المثقفين يعرفون قائلها، وهو المناضل السوري الكبير، والرجل الذي يقترن اسمه بالحركة الوطنية السورية على مدار القرن العشرين ( فخري البارودي 1887-1966)، وبما أن الوصول إلى المعلومة، أية معلومة، هذه الأيام لا يكلف صاحبها سوى الضغط على زر البحث في أي محرك بحث على الشبكة العنكبوتية، فإن هذا المقال لا يهدف إلى سرد سيرة حياة هذا الرجل العظيم، بل إلى إلقاء الضوء على بعض ما تميزت به شخصيته من سعة علم، واتساع أفق، ووطنية وعروبة متدفقة، وقبل ذلك وبعده، التواضع الذي لا مثيل له في هذا المستوى من الرجال، وذلك عن قرب بحكم صداقتي معه، ولو لفترة قصيرة.
    ولد البارودي في حي القنوات بدمشق لأسرة ترجع أصولها إلى الشيخ ضاهر العمر، حاكم الجليل شمال فلسطين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر زمن الدولة العثمانية، وقد أنهى فخري تعليمه في مكتب عنبر بدمشق، وانخرط في الحركة الوطنية التي تألبت على الدولة العثمانية كنتيجة لسياسة التتريك التي اتبعها حكام تركيا الجدد بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وكان معظم هؤلاء الحكام من يهود سالونيك، الذين عزلوا السلطان عبد الحميد بسبب رفضه منح فلسطين لليهود في مقابلته الشهيرة مع هيرتزل.
    بعد طرد الأتراك من سوريا كنتيجة مباشرة للحرب العالمية الأولى، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، بدأ نضال الحركة الوطنية السورية ضد سلطات الانتداب الفرنسي، وقد كان البارودي في طليعة رجالات هذه الحركة، فنفي وسجن عدة مرات، لكنه لم يساوم على قضية وطنه وشعبه، وبعد الاستقلال استمر وجوده في المجتمع الدمشقي كأبرز وجوهه، وتفرغ في هذه الأثناء للمطالعة والتأليف، فكتب في التاريخ والأدب والشعر والموسيقى، وغيرها من فنون الكتابة، وكم كانت سعادته غامرة بقيام الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير عام 1958، حيث،-  وكما أخبرني فيما بعد – بأن أحلامه في الوحدة العربية قد بدأت تتحقق.  
    بعد العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956، وقفت سوريا إلى جانب مصر، وأذكر أنه تشكلت في تلك الأيام كتائب المقاومة الشعبية في كافة المدن السورية، ووزعت عليها الأسلحة، وبدأت التدريب في ملاعب كرة القدم وغيرها من المرافق ( أذكر أننا كنا أولاداً نتفرج على الشباب وهم يتدربون على إطلاق النار في ملعب الميسات بدمشق )، وربما كان تشكيل هذه المقاومة الشعبية رداً سوريا للجميل على إرسال عبد الناصر فرقة مصرية لكي ترابط على الحدود السورية التركية بعد أن حشدت أنقرة قواتها العسكرية على الحدود السورية الشمالية عام 1955 ( كما ستفعل سوريا فيما بعد عام 1963 عندما أرسلت كتيبة اليرموك بقيادة العقيد فهد الشاعر للقتال إلى جانب حكومة بغداد ضد الأكراد المدعومين من شاه إيران وإسرائيل )، وبعد قيام الوحدة السورية المصرية، منح فخري البارودي رتبة عقيد فخري، وأصبح قائداً لكتائب المقاومة الشعبية.
    وربما أسمح لنفسي بالتميز في هذه المقالة لكي أقول بأنني سعدت بلقاء الرجل وصداقته – رغم الفارق في السن بيني وبينه -، ذلك أنني، وفي بداية حياتي العملية عام 1964، استأجرت داراً في حي ركن الدين بدمشق، صادف أن كان منزل البارودي ملاصقاً لمنزلي، وذات مساء طرق باب منزلي شاب وسيم قدم نفسه لي على أنه مساعد فخري بك (كما كان يطلق عليه )، وقال بأن البيك قد علم بقدومي إلى هذا الحي، وهو يدعوني لشرب فنجان قهوة معه. عجبت لهذه المبادرة، فأين أنا من هذا الرجل العظيم الذي كان اسمه وشخصه في تلك الأيام ملء السمع والبصر، لذا لم يكن بإمكاني سوى تلبية الدعوة، وبالفعل لم يكد مساعده يفتح لي الباب حتى رأيت (البيك )، على كبر سنه، يتقدم مني بصعوبة مصافحاً باشاً مرحباً بي بحرارة كما لو كان يعرفني منذ زمن طويل. منذ تلك المقابلة الأولى بدأت علاقتي الدائمة بالرجل، تلك العلاقة التي استمرت لمدة سنتين حتى وفاته، رحمه الله، في مايو 1966.
    خلال جلساتي المطولة معه، لمست بحق مدى شفافية روح هذا الإنسان العظيم، فإلى جانب علمه الغزير، ووطنيته الدافقة، تواضع جم ينم عن تربية وسمو خلق لم أجد لهما مثيلاً في حياتي، وفي داره المؤلفة من خمس غرف، أفرد البيك غرفتين ملأهما بالأرفف الخشبية من الأرض إلى السقف على مدار الجدران الأربعة، وعليها كدس كمية هائلة من الكتب، وضعت على كل كتاب أختام توضح أنها مقدمة هدية إلى المكتبة الظاهرية بدمشق بعد وفاة صاحبها، ولم تكن هذه الأعداد الهائلة من الكتب فقط هي التي اقتناها البارودي، ولكن لمكتبته الأصلية قصة محزنة. كان للبارودي – قبل هذا المنزل المجاور لمنزلي – فيلا من طابقين تقع في بستان يطل على ساحة الأمويين (حيث حديقة تشرين الآن )، في منطقة الحواكير، وقد كانت عامرة بالكتب من كل فن ولون، وفي يوم 18 تموز من عام 1963 قام العقيد جاسم علوان (ذو التوجه الناصري) بتمرد عسكري هدف إلى الاستيلاء على مقر الإذاعة والتلفزيون والأركان العامة للجيش الواقعة في ساحة الأمويين، ونتيجة للمعارك الشرسة بين المهاجمين والمدافعين، سقطت قذيفة مدفعية على منزل فخري بك فأحرقته بما فيه، وذهبت مكتبته هباء خلال دقائق، وفي هذا الوقت كان صاحب الفيلا يقضي إجازة الصيف في مصيف الزبداني ( وقيل بلودان، ولا بأس في ذلك فهما متجاوران)، وكان كلما تذكر الحادثة، تفر الدموع من عينيه حزناً لا على شيء سوى على المكتبة. كان رحمه الله سخي الدمعة، تسيل من عينيه بسهولة، سهولة ضحكته التي كان يطلقها عند سماع أو قول نكتة، وأذكر أنه – لشغفه بالموسيقى –  كان يطلب من مساعده "فهد المرشد" أن يضع له شريط التسجيل لموسيقى الكلارينيت التركية، وعندما كان يستبد به الطرب، يطلب من فهد أن يناوله الرق، فيبدأ بالضرب عليه والدموع تسيل من عينيه وهو يهز رأسه حبوراً وطرباً، وعندما تتوقف الموسيقى، كان يمسح دموعه ويدعوني، مع صديقين آخرين، إلى شرفة منزله المطلة على غوطة دمشق (يوم أن كانت هناك غوطة)، ثم يطلب من "فهد" إحضار أوراق اللعب لتزجية الوقت والتسلية. كان البارودي شاعراً مجيداً، مرهف الحس إلى درجة كبيرة، ذواق للموسيقى والشعر بشكل يدعو إلى العجب والإعجاب، وربما كانت قلة من الناس تعرف بأن المطرب السوري صاحب القدود الحلبية هو من اكتشاف وتشجيع البارودي، وهو الذي قدمه إلى الإذاعة السورية، وكان اسمه (صبحي أبو قوس) لكنه اتخذ اسماً فنياً هو صباح (تحريف صبحي) وفخري نسبة لفخري البارودي، كما يعود الفضل إلى البارودي في تشجيع وتطوير رقصة السماح، والتي تعود أصولها إلى بلدة "منبج" القريبة من حلب، والتي تؤدى من قبل العنصر النسائي على وقع غناء الموشحات.  
    لم أرَ البارودي يوماً يجلس في بيته وحيداً دون أن يكون عنده زوار من أصدقاء قدامى أو جدد، فقد كان – رحمه الله – يجد نفسه في الناس، وكان يقول لي هامساً: (الناس بالنسبة لي مثل الماء بالنسبة للسمك، بدونهم أموت)، فقلما كان يتناول الغداء أو العشاء وحيداً، بل كانت موائده عامرة بالضيوف في جميع الأوقات، ونظراً للمودة التي جمعتنا، فقد أهداني ديوانين من شعره وبتوقيعه، قلب يحترق، وتاريخ يتكلم، ربما كانا أغلى ما أملك من كتب.
     في أواخر سني حياته، كان يبدو قصير القامة بشكل لافت، بينما كانت صوره في شبابه، والتي كان يعتز بها عندما كان يعرضها علي في ألبوماته الكثيرة، كان يبدو طويل القامة بشكل لافت أيضاً، ولسوء حظي، فقد غادر البارودي هذه الدنيا في أوائل أيار – مايو – 1966، بينما كنت خارج دمشق، فلم أتشرف بمواكبة جثمانه إلى مثواه الأخير في مقبرة الباب الصغير، الواقعة على أول الطريق إلى حي الميدان بعد حي الشاغور، وقيل بأن دمشق بكافة رجالاتها من أدباء ومفكرين وقدماء المجاهدين وما تبقى من السياسيين - بعد أن شتت نظام ثورة! آذار شملهم، فلجأوا إلى دول مجاورة – جميعهم شاركوا في التشييع.
 وحتى هذا اليوم، وكلما ابتعدت ذكراه زمنياً عن ذهني، كلما شعرت بحنين جارف إلى حضوره.
رحم الله فخري بك البارودي فقد كان من نوع الرجال الذين لا يجود بهم الزمان إلا نادراً.    
  


وليد الحلبي - الصديق فخري البارودي صاحب -بلاد العرب أوطاني-

وليد الحلبي - الصديق فخري البارودي صاحب -بلاد العرب أوطاني-