Monday, September 14, 2009

خداع الصدى


هذه الحديقة الخلفية لمنزله هي التي أغرته بالانتقال إليه منذ أسابيع ثلاثة ، أرضها مبلَّطة محاطةٌ من جهات ثلاث بجدران تفصلها عن الحدائق المجاورة ، وأحواضٌ زُرِعت فيها أنواع مختلفة من الورود ، أما الجهة الرابعة فهي واجهة المنزل ، حيث يشغل حيزاً كبيراً منها باب زجاجي عريض يسير على سكة معدنية . في الأيام الأولى من دخوله منزله الجديد ، وبفضول عادي في مثل هذه الحالة ، كان يستطلع مَن حوله من الجيران ، فالعمارة الواقعة إلى يساره تطل عليه بجدار أصم ، وكذلك العمارة التي على يمينه ، حيث لا شرفات ولا نوافذ تطل على حديقته من الجانبين ، بل جدران اسمنتية صماء ، أما العمارة المقابلة له فكانت شرفات طبقاتها الست تشرف على منزله ، وهو بتفحصه لهذه الشرفات من الأسفل إلى الأعلى لم يكن ليستطيع معرفة جيرانه الجدد باستثناء شرفة الطابق الأول ، حيث يمكنه أن يتبين وجوه سكانه عن قرب نسبي .

منذ سكن هذا البيت ، دَرَجَ على عادة الجلوس في الحديقة وقت الأصيل ، ينظف أصص الزرع المبثوثة في أرجائها ، أو يسقيها بمرش الماء البلاستيكي ، أو يُقلِّم الأغصان الجافة أو المعوجَّة ، وهو في هذه الأثناء يحاول بشكل خفي استجلاء أحوال الشرفات المطلة عليه : هل من أحد ينظر من علّ ؟ ، رجال أم نساء ؟ ، نظراتهم متطفلة أم اعتيادية ؟ ، هل سيدعوه أحدهم أو بعضهم للتزاور والتعارف ؟ ، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث وكأن جميع هذه الشقق خالية من السكان . وحدها الشقة التي في الدور الأول بدأت تجذب انتباهه ، ففي الأيام القليلة الماضية لاحظ أن الباب المفضي إلى شرفة ذلك الدور كان يصدر صريراً يدل على فتحه بمجرد أن يخرج هو إلى حديقته ، ثم يقفل نفس ذلك الباب بمجرد أن يقفل بابه ويدخل إلى منزله ، ولكي يقطع الشك باليقين كان يدخل ثم يخرج بعد لحظات ، فيسمع صرير الباب الآخر يفتح ويغلق ، تماماً كما يفعل هو ، وحتى الآن لم يظهر على الشرفة أحد : لا رجل ولا امرأة ولا حتى طفل ، وهذا مما ضاعف فضوله وأثار استغرابه ، فمن ذا الذي يحاوره عن بعد ؟ ، ومن ذا الذي يحاول استفزازه أو لفت انتباهه ؟ هل هو صاحب المنزل يحاول استجلاء أخلاقيات جاره الجديد ؟ ، هل يراقبه صاحب الشرفة خِفيةً يريد رؤيته وهو يحدق إلى الأعلى صوب الشرفة فيضبطه متلبساً ؟ ، ولكن هل يمكن أن تكون جارته التي ربما أُعجِبت بانهماكه في العناية بالحديقة وتريد لفت انتباهه عن طريق فتح وإغلاق باب شرفتها بالتزامن مع فتحه وإغلاقه بابه ؟ ، هل هي متزوجة ؟ مطلقة أم عزباء ؟ . تناوشته الأفكار والهواجس غير أن دافع الفجور كان قد تلبسه من الداخل ، فأقنعه بأن تلك الحركات لا يمكن أن تصدر إلا عن امرأة لعوب ، وهو مستعد لكل ما تريد رغم أن الشيب قد بدأ يغزو سالفيه ، مع وقار متصنع قد درج على التظاهر به منذ تزوج قبل خمس سنوات ، ولكن كيف السبيل إلى اصطيادها ؟ .

بمجرد دخوله من الحديقة رن جرس الهاتف ، وها هي الأخبار السيئة تجيء من المستشفى : لقد بدأت والدة زوجته تتعافى بشكل أذهل الأطباء ، مع أنه أدخلها بنفسه قبل أربعة أيام إلى غرفة العناية المشددة وهي في أسوأ حال ، ومنذ ذلك اليوم وزوجته تقيم في الغرفة المجاورة لغرفة والدتها للاطمئنان عليها والعناية بها ، وها هي زوجته تخبره الآن بأن والدتها قد نُقِلت الليلة الماضية إلى غرفة عادية ، وأن الأطباء يشيرون عليها بالخروج يوم غد ، ، هذا يعني أن جميع الخطط التي رسمها لاصطياد جارته على وشك أن تبوء بالفشل بعودة زوجته إلى المنزل ، بل ربما باءت بالفعل .

فتح باب الحديقة وخرج ثانية ينفث غيظه في وجه وروده ، في نفس الوقت فُتح باب الشقة المقابلة ، ينتبه جيداً فيتناهى إلى سمعه صوت سفحِ ماءٍ على أرض الشرفة ، وصوت مكنسة تنظفها ، ، يد بيضاء اللون كأنها الشمع تلمع على حاجز الشرفة المعدني ، يا الله : هذه أول مرة يرى فيها يداً بهذا البهاء ، تزينها بضعة أساور ذهبية ، ينتظر بلهفة علَّ صاحبة اليد ترفع رأسها لكي يرى ما انتظر رؤيته أياماً وليالٍ ، وعاودت الآمال الانتعاش في رأسه ، واليد الجميلة تتحرك جيئة وذهاباً على طول حاجز الشرفة دون أن ترفع صاحبتها رأسها لكي تشفي غليله ، طالت مدة انتظاره وهي ما زالت على حالها لا تبدي له سوى يدها ، ، جرس الهاتف يرن بإلحاح فيضطر إلى الدخول ، فيتكرر المشهد على الشرفة المقابلة ويعلو صرير بابها ، ، زوجته على الهاتف تخبره بموعد خروج والدتها يوم غد ، لكنه يرجوها بإلحاح أن تبقى ( الحاجة ) في المستشفى يومين آخرين على حسابه الخاص ( زيادة في الاطمئنان على صحتها ) ثم يقفل الهاتف دون أن يسمح باتساع دائرة النقاش . هدأت نفسه قليلاً ، فزيادة على يوم غد ، مازال أمامه يومان من الزمن يجب أن يكونا كافيين لإنجاز ما صمم عليه : ماذا لو كانت مغامِرةً مثله واستدعته إلى شقتها ؟ هل ستكون لديه الجرأة الكافية لكي يدخل عمارتها ويصعد إلى منزلها مع احتمال أن يراه أحد الجيران فتكون الكارثة ؟ أم هل يستدعيها هو إلى شقته وفي ذلك نفس احتمال أن يراها أحد الجيران وهي تدلف إلى منزله ؟ ، ماذا لو تواعدا على اللقاء في مكان ما خارج منطقتهم السكنية ؟ ، ولكن ما الفائدة من الجلوس في مكان عام مع صاحبة يد كتلك التي شاهد ؟ ، هل سيكتفي بمشاهدة تلك اليد بل وحتى لمسها ؟ ، طبعاً ذلك لن يكفي حتى وإن سمحت له بلثمها ، فالذي وقر في ذهنه أعظم وأكبر من هذه الترهات ، تلك التي تنتمي إلى مرحلة المراهقة ، أما فترة النضج التي يعيشها الآن فتقتضي أن يحصل على أكثر من هذا بكثير ، والفرصة هذه لو ضاعت فربما لن تتكرر ، والزمن لا يعمل لصالحه ، فما يأتي اليوم قد لا يرجع غداً ، وفرصته في غياب زوجته عن المنزل ربما لن تتكرر ثانية قبل أن يبلغ عامه السبعين . تغرب الشمس ويحل الظلام فيؤجل متابعة ما بدأه إلى يوم غدٍ .

صحا مبكراً ، فحلق ذقنه واستحم ثم أفطر وهو مصمم على عدم الذهاب إلى عمله ، ، اتصل بالمكتب وأخذ إجازة طارئة بحجة إحساسه بالتعب . أخذ معه فنجان قهوته وفتح الباب ، ففُتِحَ باب الشرفة وكأنه على موعد معه ، ، تظاهر بمطالعة الجريدة بينما عيناه تتلصصان من بين حافة النظارة العليا وحاجبيه ، فلمح شبحاً لم يتبين ملامحه ، ها قد بدأت الأمور بالتحسن ويبدو أنها سوف تمن عليه برؤيتها بشكل لا لبس فيه ، ، انتهى من شرب قهوته وانتظر دقائق ، ثم نهض حاملاً المقص يقطع به ما زاد من أعواد وأوراق ، مُحْدِثاً بتعمدٍ صلصلة وجلجلة ، تتحرك المرأة على الشرفة فتزداد دقات قلبه تسارعاً فقد اقتربت الساعة ، يتحفز انتظاراً للحظة الحسم ، فماذا هو قائل أو فاعل لو لاحت له فجأة بوضوح لا لبس فيه ؟ ، هنا دعا الله ألا تفعل ، فقد شعر أنه عاجز عن التصرف ، حيث لم يستعد بشكل كافٍ لمثل هذا الموقف ، ثم راجع وضعه ، فاحتقر نفسه ، واشمأز من أسلوب التفكير الذي انتابه في الأيام الماضية ، فالقضية على متعتها تحمل في حناياها روائح الفضيحة والخسة والخيانة ، فكيف تهون عليه كرامته إلى هذا الحد ؟ ، وكيف يخدع زوجته بهذه الطريقة البذيئة ؟ ، وكيف يخون جاره ؟ وافرض أنها قبلت بكل ذلك لنقص في دينها أو سوء في أخلاقها أو خلل في تربيتها ؟ ، فكيف يرضى هو به ؟ ، لكن ألم تنهش عقله وقلبه كل هذه الأيام التي مضت عليه في هذا المنزل ؟ فلماذا يجبن في آخر لحظة متذرعاً بحجج واهية ؟ ، وماذا لو طبق جميع الناس قِيَمَهُ التي يقدسها ويعتز بها ؟ إذاً لانعدمت الخيانة بينهم ، وبالتالي لن تكون هناك توبة ، ومن ثم لا عفو من عند رب العباد ، إذاً بتخاذله هذا سوف يدمر سلسلة من المقدمات والنتائج التي نشأت منذ ظهور الجنس البشري على سطح الأرض واستمرت إلى هذا اليوم . عادت نفسه توسوس له ، فقرر أن يتابع السير في الطريق إلى نهايته .

يستمر في تقليم وروده ، ويحس بأن جارته قد اقتربت من حافة الشرفة ، يتأهب لرفع رأسه لكي يرى الحلم الذي راوده حتى أرَّقه ، فيراها : سيدة بيضاء البشرة قد جاوزت عامها الستين ومازالت محتفظة بملاحة أيام الشباب ، تقول له بأدب جمّ :
- هل يمكن يا بني أن تعيرني مقصك لكي أُقلِّمَ به ورودي ؟ .
- حاضر يا خالتي ، أرجو أن ترسلي أحداً لأخذه .

أخيراً أدرك الرجل أن صدى صوت فتح بابه وإغلاقه ، والمرتد من الحوائط الاسمنتية وجدران الحديقة والأرض المبلطة ، هو الذي كان يخدعه ويدغدغ أحلامه طيلة تلك الفترة ، وتبخر أمل إبليس ، فاندفع إلى داخل المنزل يرتدي ملابسه وينطلق إلى مكتبه متظاهراً بالكثير من الهمة والنشاط .

Monday, June 1, 2009

حاولت جهدي أن أكون حماراً ... ونجحت
( وليد الحلبي )

مللت عيشتي لكثرة تبرمي من كل ما هو حولي:
1- يقفل أحدهم حدوده مع جاره لمدة سبعة عشر عاماً ، فيقطع أوصال الشعبين الجارين ، وتتفكك عرى الأخوة بينهما ، ومع أنه لا يطالني شيء من هذا الأذى والحمق ، غير أنني لا أنام الليل ، ولا أهدأ النهار ، أكيل الشتائم للقطرين ، فيرتفع ضغطي شبرين ، وينصحني طبيبي بأن أطنش المواضيع التي لا تعجبني ، ويوصيني بعدم مشاهدة أخبار الجزيرة ، والتي ينصح مرضاه من أصحاب الضغط المنخفض بمتابعتها باستمرار ، وأن أداوم على قنوات الهز والرقص ، والتي لا يطالها شطب الرقيب ولا بتر المقص ، غير أنني أرفض النصيحة وأتابع الانتحار.
2- يلتزم أحدهم بعهوده ومواثيقه مع قتلة أفراد جيشه دوساً بالدبابات ، فيقفل معبراً يمد أبناء جلدته ودمه ودينه بسبل الحياة ، وذلك دون أن يرف له جفن أو يحمر له خد ، فأبدأ بكيل الشتائم بأقذع العبارات ، وأحقر المفردات ، لكنني أنتبه إلى أن مفرداتي الساقطة وعباراتي المقذعة ، والتي قضيت العمر أجمعها من أرصفة السفالة ومواخير الدعارة ، لا تتناسب والمقام ، وأحسب أن هذه الألفاظ نفسها ترفض ، بل وتشمئز من إطلاقها على هكذا شيء ، فأصمت وأقسم بأغلظ الأيمان أنني سأقاضي مجامع اللغة العربية التي عجز علماؤها الأفاضل عن صياغة شتائم توفي المقام التافه حقه ، ومع أنني تحديتهم كثيراً للقيام بذلك ، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً . طلبت من مومس أن تصف لي الوضع الراهن بالتمام ، فاعتذرت بأدب واحتشام .
3- تتحالف قبائل يعرب العاربة منها والمستعربة والمتعربة مع راعي بقر أحمق لكي تغزو معه غزوة العمر ضد شقيق مجاور ، وتعود محملة بدماء الشهداء ودموع الأرامل وبكاء الأيتام وحفنة من رضى الراعي الحقير ، فتنتفض روحي ، ويغلي الدم في رأسي ، ويحذرني صحبي من الجنون الذي يوشك أن يضرب دماغي . فكرت باستخدام قاموس الشتائم وعجزت ، فطلبت من نفس المومس أن تستحضر الشتائم التي تلعن بها زبائنها الذين يتهربون من دفع المعلوم ، ، ، لم تجد المسكينة مفردات تناسب ما رأت ، فهزت رأسها بيأس ومضت.
4- واحد من متخلفي القرنين العشرين والحادي والعشرين وربما الثاني والعشرين – هذا لو قدر له أن يبقى عميداً للحكام العرب قرناً آخر - يفرغ خزينة شعبه وراء الحصول على تقنية متطورة ينتفخ بها ويتباهى كأنه دولة عظمى ، لكنه ، وفي لحظة ضعف وجبن وانهيار، يضع أبحاثه ومعداته وعلماءه على سطح سفينة تعبر المحيطات والبحار ، لكي تحط رحالها في مستودعات النسيان والسخرية ، فأقفز في الهواء من الغيظ ، وكأن والدي هو الذي تحمل نفقات البرنامج التعيس وحرمني وإخوتي من الإرث. غرقت في ضحكٍ باكٍ من تفاهة المشهد . فتشت عن المومس لكي أستعين بها في التوصيف لكنها لوحت لي من بعيد بابتسامة ساخرة ، واختفت.
5- حركة وطنية تمشي على سير متحرك في مكانه باتجاه الوطن منذ حوالي نصف القرن ، بسرعة صفر في السنة ، غير متنبهة إلى حقيقة أنها تضم عدداً من الفصائل والجبهات المتناقضة التطلعات والرؤى والبرامج ، يفوق عددها عدد أصابع اليدين والقدمين ، متجاهلة أن حركات التحرير على مر تاريخ المقاومة ضد الاحتلال لم تكن تتكون من أكثر من جبهة واحدة ( جبهة التحرير الجزائرية – جبهة تحرير فييتنام – السندنيستا – الكونترا – نمور التاميل - الماوماو ...) ، فأبدأ بالبحث عن الهواتف الجوالة لقادة هذه الفصائل في محاولة للفت انتباههم إلى هذه الحقيقة ، لكنني أفاجأ بأنهم جميعاً يستخدمون شبكة إسرائيل نت ، فيسقط في يدي وقدمي . نظرت في المرآة لكي أتذكر المثل الصيني القائل:( إذا ساءت الأحوال فانظر إلى وجهك في المرآة ) ، لكي أستمد منه حكمة وفلسفة ، فرأيت بدلاً من ذلك أكواماً من القمامة تغطي الوجه عاليه إلى أسفله ، وعجزت حتى عن أخذ رأي المومس فيما يجري ، ولنفترض أنها قالت شيئا ، فماذا كانت ستقول ؟ .
6- كيان عربي احتُلَّ جزءٌ من أرضه منذ حوالي نصف القرن ، يحضِّر لاستعادة الأرض عن طريق تصنيع أشهى أنواع العلكة والمعسّل ومساحيق الغسيل والشامبو وأجود أنواع البامبرز والكلينكس ، دون أن يتمكن من صنع مدفع يصل مداه إلى الكيلومتر الواحد. رغبت في الاستعانة بصديق من ذلك الكيان لكي يملي علي الشتائم المناسبة ، فوجدته أصماً أبكم ضريراً منذ نيف وأربعين سنة ، وأومأت لي المومس إياها بأن عذره مقبول وسعيه موصول وجبنه معقول ، فصمتّْ.
7- سمعت أن صحيفة يابانية تبيع عشرة ملايين نسخة في اليوم الواحد ، فتذكرت أن عشرات الملايين عندنا لا يقرأون جريدة واحدة في السنة الواحدة ، فلعنت الساعة التي اخترعت فيها أوغاريت أبجديتها الأولى منذ قديم الزمان لدرجة أنها نسيتها. وهل هناك أجمل من الأمية في عالم متعلم ؟ . إنه إنجاز اقتصادي لا يصدق أن ترى أمة الجهل تقتصد يومياً الملايين بامتناعها عن شراء الصحف اليومية التي لا تلزمها إلا لوضعها على الشبابيك بدل الستائر ، وعلى طاولات الطعام بدل الشراشف. أنعم بها وأكرم من أمة أكثر من نصفها أمي جاهل ، والباقي من أفرادها بالكاد يفك الخط. من يجد شتيمة مناسبة لهذه الحالة فليتكرم مشكوراً بنشرها في الجرائد الرسمية لدول زمن الانهيار.

نظرت حولي فلم أجد أكثر هدوءاً من الحمار: يقضي عمره يعمل بجد وكد تحت أقسى الظروف والأحوال ، دون أن يتذمر أو ينبس ببنت شفة ، أو يشعر بأي خوف أو سخط . يرى قذارة طبع صاحبه وظلمه له ، فيتقبل ذلك بصدر رحب ، مع أن الحمل ثقيل والطريق صعب . يسير طيلة حياته خلف الجزرة دون أن يظفر بها ، لكنه أبداً لا يكل ولا يسأم ، لا يمل ولا يشتم ، ولذلك فإن ضغط دمه على الدوام ، وعلى مر السنين والأيام ، ثابت على 80/120 ، أي أنه أفضل من ضغط دمي بدرجات ، مع أنه لا يتناول أي دواء ، بينما أتناول أنا من الدواء أكثر مما أتناول من الغذاء ، ولسانه أنظف من لساني بكثير ، إذ لا شتائم في عالم الحمير.

ولذا ، وبعد أن فكرت في مصلحتي ، ورغبت في الحفاظ على ضغطي وبالتالي صحتي
وبما أن العمر ليس بـ( بعزقة ) ، ومتابعة تفاهات الأسياد مهلكة ومحرقة ، لذا قررت
أن أكون حماراً بجدارة ، فأنأى بلساني عن البذاءة والقذارة ، وأحافظ على ضغط دمي
على نفس درجة ضغطه 80/120 ، ونجحت في ذلك أيما نجاح ، وأشعر أنني سعيد
ومرتاح ، ومن يصدق ما جربت ، فلينهج ما نهجت ، ومن يفشل في مسعاه ، فليبق
على حاله إياه ، فهل هناك في هذا الزمن الحقير ، أسعد وأهنأ من طائفة الحمير؟.