Thursday, April 26, 2012

شعراء فلسطين: ارفعوا الحصار عنهم




    المفكرون – وفي مقدمتهم الشعراء – هم الروح التي بها الأمة تحيا، واللسان الذي به تنطق،  والرئة التي بها تتنفس،، يتغنون بانتصاراتها، ويستثيرون همم أبنائها،، يشيدون بإنجازاتها ويمجدون أبطالها،، يضيئون مشاعل الطريق إلى المستقبل، ويتنبأون به، وهل أصدق منها نبوءة تلك التي نطق بها شاعر فلسطين الكبير محمود عبد الرحيم، شهيد معركة الشجرة عام 48، أمام الأمير سعود بن عبد العزيز الذي زار فلسطين في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، عندما قال له:         
                   المسجد الأقصى أجئت تزوره   أم جئت من قبل الضياع تودعه   
    ففي فلسطين، قام الشعراء بدورهم على أروع وأكمل وجه، ابتداء من تصديهم للانتداب البريطاني إلى ما بعد قيام إسرائيل على جزء كبير من أرض فلسطين التاريخية، ولكن لسوء حظ هؤلاء الشعراء، فقد وقعوا ضحية المقاطعة العربية للكيان الغاصب فشملتهم، غير أنه في الوقت الذي نتفهم فيه دوافع وضرورات المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، فإنه من غير المفهوم بتاتاً توسيع هذه المقاطعة لكي تشمل شعراء الأرض المحتلة وكأنهم بضاعة إسرائيلية، يحذرون التعامل معها على اعتبار أنها نوع من التطبيع، وهي ليست كذلك. 
    في هذه العجالة سوف أقصر الكلام – كنموذج - على شاعر فلسطيني رائع يقيم في بلدة "المغار" القريبة من طبريا، تلك البلدة التي تتكيء بيوتها على سفح جبل حزّور من جهة الشَّمال، وفي أحضانه تنام وتصحو، مطلة شرقاً على طبريا وبحيرتها، ومن ورائها هضبة الجولان المحتلة، وإلى الجنوب تطل على سهل حطين الذي احتضن المعركة التاريخية التي دارت بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين (1187 م )، والتي مهدت لتحرير بيت المقدس: إنه الشاعر المبدع سليمان دغش، الذي يعيش في تلك البلدة، ومنها يرنو إلى بلاد العرب عبر الهضبة المحتلة، وفي شرفة منزله المطلة على سهل البطّوف، ينسج أشعاره التي تلامس شغاف القلب، وتتغلغل في خلايا الذاكرة، فبراعة الشاعر في استخدام الكلمات في مكانها الصحيح، وتطريزه قصائده بنمنمات لغوية مبهرة، تشير إلى عبقرية لا يمكن أن يقدرها إلا من يقرأ شعره بتمعن وروية، واسمعه في مقطع من ديوانه (جواز الحجر) يمزج بين جرح بيروت وبلدته المغار، مخترقاً حدود الانتداب والاحتلال: 
 يا أيها الجرح الذي 
يستقبل السكين 
في بيــروت 
منتصـــراً 
وينزف في المغار

وفي سن الثامنة عاني من الاعتقال والمحاكمة أمام سلطات الاحتلال بسبب تمزيقه العلم الإسرائيلي، وبعد ذلك سجن بسبب رفضه الخدمة في جيش الاحتلال ( كما سيفعل ذلك فيما بعد ولداه نجد وفاتح ). يقول في حواره مع سجانه: 
من أنت
- عربي يتحدى الموت 
- وأبوك
-  وأمي و جدودي من هذي الأرض
- هل ترفض قانون التجنيد الإجباري 
كل الرفض
يبحر شاعرنا في ثنايا التاريخ مسخراً أحداثه ومعانيه لخدمة الصورة التي يريد منا أن نتخيلها:
كَمْ يَصغُرُ هذا البَحْرُ
إنْ قابَلَ يوماً مُقلَتيْها ..!!
وأوحى للنّدى صورَتَها
كَيْ يَستَدلَّ الطلُّ في طَلَّتِها
مِنها إلَيها
وَلَها الشمسُ خواتيمَ سُلَيمانَ
وما بلقيسُ إلاّ طَفحةً في الصدرِ تُعلي
بَلَحاً في النهدِ لا يُسْلِمُ إلاّ
لِمزاميرِ سُلَيْمانَ
وقَد أمسى أسيراً
مثلَما الهُدهُدُ ما بينَ يَدَيها
وببراعة متناهية يستحضر النبي إبراهيم الخليل عندما يتحدث عن شهداء الحرم الإبراهيمي في قصيدته (المذبحة)، ويبدع في رسم صورة رائعة للشهداء عندما يقول (وهمى النخيل إلى النخيل): 
 سقطَ القتيلُ وكانَ إبراهيمُ
يولدُ في رُخامِ المستحيلِ
ليُعيدَ زنبقةَ الضّحى
ويُعِدّ أسرجَةَ الخيولِ
سقطَ القتيلُ على القتيلِ
وهمى النخيلُ إلى النخيلِ
ولعل استحضاره التاريخ الإسلامي ببراعة متناهية يؤشر على عمق انتمائه العربي الأصيل:
لأني لم أصُدّ الريح عن شبَّاكك الصيفي
ولم أحمل لك الشمس التي ماتت على كفي
فإني أعزل منفي
يطاردني بنو سفيان والكفارُ..
في الصحراء يا وطني
فسامحني
فإن عناكب الصحراء لم تستر..
على كهفي
وانظره كيف يدمج مدن وأنهار فلسطين مع المدن والأنهار العربية في شعره، ويجوب بقاع وطنه العربي الذي عزلته عنه سياج الاحتلال:
لمْ ندَعْ حيفا على شاطىء بيروتَ
ولمْ نعثرْ عليها
في الشآمْ
وبكى النيلُ علينا
وبكى دجلةُ فينا والفراتْ
وعلى الأردنّ ألقينا المراثي
وبكيناهُ اغتراباً
وبكيناهُ صلاةْ
وأما حسه الديني، فيبدو راقياً متعمقاً في حنايا المُقَدَّسْ:
يا أيّها الولدُ الشقيُّ
وأيّها الولدُ الأبيُّ
وأيّها الولدُ النبيُّ
سَمَوْتَ بالإسراء فاصعَدْ سابعَ السمواتِ
واقرأ..
سورةَ الفتحِ المبينِ
وسورَةَ البلدِ الأمينِ
وسورةَ الوطنِ الجَنينِ
وقلْ لجبرائيلَ : هَبني جانحين
وآيتينِ
لأنطلِقْ
ولأحترقْ...
 يعبر بشعره الحدود، فلا تحس بأنه يعاني من الأسر إلا حينما يعرج إلى الحديث عن الوطن، ولا يملك المرء سوى الانحناء أمام التفاؤل الذي تفيض به روحه بغد مشرق زاهر يحرر الأرض ويجمع الأمة، ومن خلال جلسة جمعتني به، عجبت لتجاهله واقع الاحتلال، ويقينه المطلق بزواله وعودة الغائبين، فرغم أنه ولد بعد عام النكبة ( إذ أنه من مواليد 1952 )، غير أنه لم ينس أسماء العائلات التي خرجت من بلدته "المغار" إلى الدول العربية المجاورة عام النكبة، ويكاد أن يعرف جميع أفرادها بالاسم. 
لم يرد الحديث عن الشاعر سليمان دغش في هذه المقالة سوى كونه عينة من شعراء مبدعين جرى تجاهلهم من أبناء جلدتهم. لذا، ففي الوقت الذي يعاني فيه شعراء الأرض المحتلة من توابع المقاطعة العربية، أتوجه بالرجاء إلى جميع الهيئات والجمعيات الأدبية العربية في أوربا والمهجر أن تبادر إلى دعوة هؤلاء الشعراء لإقامة  ندوات شعرية لهم، كي يلمسوا تقدير أبناء جلدتهم  لقيمتهم الأدبية الرفيعة، وهم الذين نذروا شعرهم  لأجل قضية العرب والمسلمين المقدسة: القضية الفلسطينية. 
لا شك أنه لا يمكن لهذه العجالة أن توفي شعر سليمان دغش – شأنه شأن جميع شعراء فلسطين - حقه من التقديم والتقييم، إذ للشاعر  أكثر من عشرة دواوين، يستطيع القراء مطالعتها على موقعه الإلكتروني:
Suleiman-dag.com 
كما أن هناك دراسة جيدة أعدها الدكتور محمد بكر البوجي - أستاذ الأدب والنقد، المشارك في جامعة الأزهر في غزة – حول شعر شاعرنا الكبير سليمان دغش، يمكن متابعتها على الرابط التالي:
http://www.drmosad.com/index350.htm
ففلسطين التي أنبتت إبراهيم طوقان ومحمود عبد الرحيم ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، سوف تظل قادرة على إنبات المئات منهم.
تحية تقدير واحترام لشاعر فلسطين الكبير سليمان دغش ولأمثاله من شعراء الأرض المحتلة.

   

Sunday, April 1, 2012

الإعلام الفلسطيني: أهلاً



    دخلت المناضلة الفلسطينية (هناء شلبي) هذا اليوم، الأول من نيسان – إبريل - إلى قطاع غزة من معبر دير حانون، فاستقبلت بالترحاب، وسارعت فضائيات كثيرة لنقل الحدث مباشرة، ولإحراز سبق صحفي عن طريق المقابلة المباشرة، ولما سئلت (هناء) عن شعورها عندما وطأت قدماها أرض غزة، قالت والدموع تترقرق في عينيها: (شعرت أنني بين أهلي، وفي بلدي الثاني!). صعقتني عبارة (بلدي الثاني)، وأدركت أن الخطيئة الإعلامية التي شارك إعلام منظمة التحرير الفلسطينية فيها، كانت مروعة حد الكارثة.
     جملة (هناء شلبي) الأخيرة هذه قذفت بذاكرتي إلى الوراء، إلى ما يقرب من الأربعين عاماً، أي إلى بداية سبعينيات القرن الماضي، حين جاء وفد إعلامي من منظمة التحرير الفلسطينية، وكان مقرها آنذاك في بيروت، إلى مدينة عنابة، على ساحل الشرق الجزائري، وكان الوفد يضم إعلاميين من مختلف الفصائل الفلسطينية – وما أكثرها -، وقد دُعِيَ أفراد البعثة التعليمية الفلسطينية إلى الاجتماع بالوفد المذكور في مكتب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في عنابة، وكنت من ضمنهم، وقد أسهب الوفد وأطنب في تعداد منجزات الإعلام الفلسطيني من حيث التعريف بالقضية على المستويين العربي والعالمي، وفي بث روح التفاؤل والعزم في نفوس الشباب الفلسطيني من خلال تعريفه بتاريخه الفلسطيني من جهة، وبالتعريف بالعدو على قاعدة (اعرف عدوك) من جهة ثانية، وعندما انتهت كلمات أعضاء الوفد، ودُعي الحضور للاشتراك في مناقشة مفتوحة، رفعت يدي مستأذناً للحديث، وقد بدأت كلامي بأنني لن أطرح سؤالاً حرت في إيجاد جواب عليه، بل أود التعقيب والتعليق على منهج الإعلام الفلسطيني وأسسه، تلك التي في رأيي قد اقترفت زلة تصل إلى مرتبة الخطيئة، وعندما استفسر مقرر الجلسة مني عن هذا التعليق، قلت: ((دأب الإعلام الفلسطيني منذ نشأته، خاصة بعد حرب حزيران 1967، على تقطيع أوصال الوطن الفلسطيني الواحد إلى أجزاء ثلاثة، وَقَرَتْ في أذهان النشء الفلسطيني، فأصبحت من المسلمات، ذلك أن التركيز على ذكر عبارة (الضفة الغربية) و (قطاع غزة)، و (أرض 48)، في الإعلام الفلسطيني، قد شوه صورة الوطن الواحد، وبعثره بين كيانات ثلاثة مصطنعة، كما عزز ذلك المفهوم الخاطيء ورسخه تشتت قيادة المنظمة في تسييرها الشأن الوطني الفلسطيني، فعندما كانت تقوم المظاهرات والاحتجاجات في غزة، كانت الضفة (كما يسمونها) تنعم بهدوء واستقرار لا مثيل له، فيكثر الحديث عن قطاع غزة وتُنسى الضفة الغربية إلى حين، والعكس كان يحدث عندما تقوم الضفة، فكانت تنام غزة، فيكثر الحديث عن (الضفة الغربية) وتنسى غزة إلى حين، وعندما تحرك الفلسطينيون داخل الأرض المحتلة وانتفضوا في يوم الأرض في 30-3-1976، عزى إعلام المنظمة هذا التحرك إلى(فلسطينيي 48). هذا التقسيم القسري للأرض الفلسطينية لم يقم به إعلام العدو – وإن كان سُرَّ به - ، بل كرسه إعلام منظمة التحرير الفلسطينية، مما أدى بالتالي إلى تقسيم فلسطين إلى ثلاثة كيانات متميزة، رسخت في ضمير الشعب الفلسطيني بديلاً عن الأصل (فلسطين). انتهى تعليقي.
    من البديهي ألا يروق ما قلته للوفد ورئيسه، ومنذ متى كان يحق لشخص من خارج المهنة أن ينتقد أبناءها، فبعد همهمات بين أعضاء الوفد، ولأن التعليق على ما قلته في العلن قد أصبح أمراً لازباً ولا بد منه، فقد تنحنح رئيس الوفد لكي يسألني كأنه يريد أن يحرجني: (وماذا تعتقد أننا يمكن أن نسمي الضفة والقطاع بغير هذين الاسمين؟)، أجبته على الفور: (الأمر بسيط: أين تقع الضفة الغربية لنهر الأردن جغرافياً بالنسبة لفلسطين؟)، قال:(في شرق فلسطين). عدت لأسأله: (وأين يقع قطاع غزة جغرافياً بالنسبة لفلسطين؟). قال: (ساحل جنوب فلسطين). قلت مبتسماً: (إذن بسيطة، عندما نتحدث في الأخبار نقول: [حدث كذا وكذا في رام الله شرق فلسطين، ووقع كذا وكذا في خان يونس في الساحل الجنوبي لفلسطين] وبذا يكون القاسم المشترك في جميع الأخبار والتقارير هو كلمة [فلسطين] التي يجب أن نحافظ عليها راسخة في وجدان الأجيال الفلسطينية رسوخ جذور أشجار الزيتون والبرتقال في ثراها الطيب)، وانفض الاجتماع.
    وإلى هذا اليوم، ما زلت أعتقد أن الحاجة ماسة للفت الانتباه إلى أخطاء إعلامية ما زالت ترتكب في الشأن الفلسطيني، دون أن يكلف أحد نفسه مشقة تصحيحها، لكنني، بعد هذا الزمن الطويل الذي انقضى، أجد نفسي مرغماً على تكرار القول: على من تقرأ مزاميرك يا داوود، فقد وعد رئيس الوفد في حينه خيراً، وما زلت، منذ ما يزيد على الأربعين عاماً، أنتظره أن يفي بوعده، وسأبقى أنتظره هكذا إلى نهاية العمر، هذا إن كان ما زال في العمر بقية.    
وليد الحلبي 1-4-2012