Tuesday, December 25, 2007


فـــي تـجــاعيــد الـذاكــرة
(شعر)

مفتـونــاً بالأمــسِ المتـســرّب مــــن محـفــظــة التّــاريـخِ

أتــمـدّد فــوق شـعـــاراتٍ

داسـتـهــا أحــذيــة اليــوم المهــترئــةْ

أتعـــاطـــى خمــرة مـاضـــيِّ النــاصــعِ

والنـشـــوة تــأخــذنــي ...

تطــويـنـي أحــلام الأمــس المـشــحونـةِ بالـمُـثُلِ العلــويّــةِ

يـختـلّ تــوازن أمـثـلتــي الـذهنيّـــةِ

فــأعــانـي مــن عــرج فـكــريٍّ

و بــلا عـكّــازيــن أسـيـــر وحــيـداً

وأمــامــي تـفـجـؤنــي الهـــوّاتُ

أتشـبّــث حــال سـقــوطـي فيهــا

بمبــاديءَ إسـفينــيّــةِ

غــطّـت سـفــح الـهــوّةِ

لكـنّــي أدرك أنّ أســافيـن الأفـكــار المـمـضــوغـة خـانتنــي

غــرزت فــي ظـهــري حربتــهـا

زرعــت لــي أجنحــةً وهمـيّـةْ

لــم تمنـع عنّــي خـطــر الـقمّــةِ

وإذا بــي لا أقـدر إلاّ أن أسقـطَ

صوب الأعــلــى

أتسـلّـق قمّــة مــأســاتـي مــع ذاتــي

ألمـح فـي قـاع القـمّـة طيـف سـرابٍ يـجذبنـي

أتـحـــدّى المــاء الـوهــمَ

فـأرى وجـهــي يكبــرُ يكبـُـرُ

وأنــا أمضــــي نحو الأعلى حتّـــى أتـلاشــى فيــــهِ

و هنـاك أرانــي لا أحســن إلاّ

كـلـمـات رثـاء مقـتضـبـةْ

وأعــزّي نفـســـي فــي نفـســـي

أتـقـبّـل كــلّ تعـازي المفـجـوعـين بمــوتـي

يُـدْهِشُــنـي وضــعـي المتـفـرّد بيـن الخلـقِ

فـأنـا فــي القمّـــــــةِ
حـــــــــــــيٌّ
ميّــــتْ

Monday, December 24, 2007

خسارة لا تُعوَّض
( قصة قصيرة )

أشجار النخيل القديمة تتجذر على امتداد الساحل بقوة وعمق ، وحركة الموج الأزلية ما زالت على حالها كما كانت منذ ملايين السنين ، ورمال الشاطئ ما فتئت تستحم بلا كلل ، وعلى الجانب الآخر انتصبت سلسلة جبال سود تشظَّت حوافها كإناء زجاجي مكسور ، وخلفها غويمات رصاصية تحاول استجلاء كنه ما كان يحدث على المنحدر الواصل بين سيف البحر وعنق الجبل.

كان الموكب يسير بخشوع يتقدمه أربعة رجال ، حملوا على أكتافهم نعشاً فيه جسد رجل بدا من كثرة عدد المشيعين أن له مكانة خاصة في قلوب أهل القرية ، يتناوبون على حمله بحنو وحزن واضحين ، يتهادون بين صفين من أشجار سرو عتيقة ، دموعهم تسيل بصمت وحرقة ،،، بعد عبور بوابة المدينة الأبدية ذات السور الملون ، وضع الرجال النعش على مصطبة عالية ، وأهل البلدة يبدون في حيرة من أمرهم ، فهم الآن يواجهون مشكلة من نوع ما لأول مرة في حياة القرية على ما يذكرون ، والراقد في النعش أيضاً في موقف يمر به لأول مرة ، والوجوم الذي خيم على الجمع لم يكن بسبب افتقادهم للميت شخصياً ، بل لافتقادهم العمل الذي كان يقوم به.

الراقد في النعش كان يتوقع ما هو فيه الآن منذ آمن بما يؤمن به المؤمن ، مع أنه كان يستبعده خوفاً منه ، أما هم فلم يخطر لهم على بال في يوم من الأيام أن يفتقدوه في وقت عز فيه مثيله ، ولا أمل لهم في تعويضه ، وهو لم يكن يتوقع أن يتركهم على هذه الحال وقد اعتاد أن تمر بين يديه العشرات ، بل المئات منهم ، مستسلمة راضية بما يجريه عليها من طقوس لازمة لا يستطيع غيره القيام بها. بين يديه استسلم الكبير والصغير ، الغني والفقير ، خاضعاً في صمت أبدي ورضوخ مطلق. قال في نفسه : إلى متى سأبقى منتظراً فوق هذه المصطبة؟ همّ للوقوف ، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، انتبه إلى أنه يحاول ضرباً من المستحيل ، ، اعترته حالة من الخوف اللذيذ الممزوج بقلق محرج ، ، نسمة بحرية أطارت الغطاء عن ذراعه اليسرى ، ، رجل عجوز من الجمع سارع إلى إعادة الغطاء إلى ما كان عليه ، ، ودَّ المستلقي في النعش لو أن العجوز انتظر برهة عله يستطيع التكلم معه ، ، الوقت يمر لزجاً أكثر من المحتمل والرجال المتجمعون حول النعش ما زالوا على حالتهم من الحيرة ، فمنذ وضعوه على المصطبة لم يجرؤ أحد على التقدم منه لإنهاء هذا المشهد ، ، بضعة نوارس حلقت فوق الجمع محدثة بأجنحتها أصواتاً خفيفة ، وثمة نسيمات تهب من جهة الجبل دافعة أمامها غيماً كالليل ، ، تململ الجمع ، واستدارت الأعناق جهة الجبل متنبئة بمطر غزير ، والرياح تشتد أكثر فأكثر ، ورذاذ خفيف بدأ بالتساقط ، والمشكلة التي عرقلت آخر إجراء على صاحب النعش في طريقها إلى الحل ، ، ، هبة ريح قوية أطارت الغطاء عن الجسد ، أعقبها وابل من المطر الأبيض ، فأحس براحة وعذوبة لم يشعر بهما حتى عندما كان على قيد الحياة ، وجسده العاري تماماً تسيل عليه الآن قطرات المطر الناعم برفق ، ، أراد أن يفتح عينيه ، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً ، فاسترخى أو هو أحس ذلك ، ثم ترك جسده مرتعاً لقطرات المطر . همهم الحشد بكلمات لم يفهمها ، وأقبل بعضهم عليه يحملونه بسرعة ، فقد انتهت المشكلة التي أخرت دفنه ، ، إنهم ينزلونه في حفرته الأبدية.

عندما وضعوا البلاطة الأخيرة على صدره وأهالوا التراب عليه كان يقول في نفسه : مَن مِن بعدي سيغسل لأهل القرية موتاهم بعد اليوم ، أما هم فقد تركوه وحيداً في حفرته وعادوا أدراجهم إلى القرية وسؤال وحيد يدور في أذهانهم : مَن مِن بعد ذهابه سيغسل لنا موتانا بعد اليوم ؟.

Friday, December 7, 2007

الأمير غالب

من الطبيعي أن يتعرف المرء – خاصة في المدن الكبيرة - على مجموعة من الصعاليك أنصاف المجانين، الذين يتخذون من مداخل العمارات أو أسطحها أماكن سكن ليلية لهم ، ومن أرصفة الشوارع والمقاهي ، ميادين نهارية يعرضون فيها أفكارهم الغريبة السخيفة معظم الأحيان ، والبالغة العمق – بالصدفة – أحياناً أخرى.
ففي دمشق اشتهر بعض هؤلاء إلى حد أنهم أصبحوا معروفين لدى معظم سكانها ، بعضهم طغى عليه طابع السذاجة والهبل ، فأصبح موضعاً لتندُّر الجمهور ، أمثال ( شالحة ) و ( الملاك الأبيض ) و ( يا عصفوري يا عصفور ) ، وهي ألقاب هؤلاء السذج ، حيث اختفى الاسم الحقيقي وبقي اللقب ، وقلة من هؤلاء طغى عليه تصنع الفلسفة والتنظير . ولعل من أطرف هؤلاء ( الفلاسفة !!) - إن لم يكن أطرفهم على الإطلاق – رجل عرف باسم ( غالب ) اتخذ من مدخل بناية الكرنك ، وسط العاصمة السورية ، مأوى يلجأ إليه للمبيت ليلاً . كان غالب يحصل على الكثير من النقود من تجار وموظفي وسط المدينة ، غير أنه لم يكن ينفق كل ما يجمعه على نفسه فقط ، بل كان يتصدق بقسم من دخله على الفقراء أمثاله ، وكانت مناسبة استحمام غالب وحلاقة ذقنه – والتي لم تكن تحدث سوى مرة واحدة في السنة – هي المناسبة التي تدر عليه أكثر المبالغ من ( مريديه ) الذين كانوا ينتظرون هذه المناسبة بفارغ الصبر للتخلص من رائحته النتنة ، ومنظر لحيته الكريه.
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، وفي أواخر عهده في الحكم ، تلقى الملك جورج السادس ، ملك بريطانيا ، ( توفي في فبراير 1952 ) رسالة وردت إليه من دمشق مذيلة بتوقيع ( الأمير غالب ) . كانت الرسالة غاية في الطرافة والغرابة وتحمل المطالب التالية :
1- أن يوافق الملك على طلب الأمير ( غالب ) يد ابنته الأميرة إليزابيث ( الملكة إليزابيث الثانية فيما بعد ) .
2- أن يرث ( الأمير غالب ) عرش بريطانيا العظمى بعد وفاة ملكها جورج السادس.
3- أن يرسل الملك إلى صهره الأمير مبلغ عشرين ألف ليرة سورية ( وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام ) لكي يتدبر أمور الزواج.
4- في حالة رفض الملك لهذه المطالب ، سوف يقوم الأمير غالب باختطاف الأميرة إليزابيث ، وعلى الملك تحمل العواقب.
يبدو أن رسالة الأمير غالب قد أثارت ضجة في الأوساط البريطانية ، كما أن اتصالاً ما قد تم بين الخارجيتين البريطانية والسورية لمتابعة الموضوع ، إذ أن ( غالب ) فوجىء ذات صبيحة دمشقية باردة برجل شرطة يوقظه بعنف على باب العمارة – حيث ينام – طالباً منه المثول فوراً أمام ضابط التحقيق . في قسم الشرطة ، وبعد استجواب سريع ، أقفل الضابط محضر التحقيق بعد أن ذيله بعبارة ( فاقد الأهلية ).
عندما عاد غالب إلى مريديه – الذين يبدو أن بالهم قد انشغل عليه عندما تم استدعاؤه إلى قسم الشرطة – كان يقول : ( لا بد أن خطأ ما قد وقع ، فرغم أنني موافق على الزواج من الأميرة ، ورغم أن أتباعي موافقون أيضاً ، إلا أنني لا أعرف سبباً يدفع الملك إلى الرفض ).
بعد مغادرتي سورية ، لم أعد أعرف الكثير عن غالب ، لكن الأخبار الواردة تقول بأنه مات أعزباً بعد أن عزف عن الزواج بغير الأميرة إليزابيث ، وبدون أن يسمع من الملك البريطاني أي سبب ( منطقي ) لرفض طلبه ، أما أصدقاؤه العارفون بخبثه ومكره ، فيقولون بأنه إنما فعل فعلته تلك لكي يحصل على الشهرة ليس إلا ، وربما قد حصل عليها بالفعل.

Saturday, December 1, 2007


كأساً من رحيقٍ . . تأتين كل صباح
( قصة قصيرة)

أشعة الشمس تطرق زجاج نافذتي بلطف خشية أن تكسره ، مترفقة بي أن توقظني قبل
موعدي المعتاد ، وبضعة عصافير تشدو بألحان الصباح الشجية ، مرفرفة تارة ، وحاطّةً على حافة الشرفة تارة أخرى . ولأنه كان نهاراً ربيعياً صافياً يستحق النهوض المبكر ، فقد استيقظت ، وتركتك نائمة ، وتسللت بهدوء على رؤوس الأصابع خشية أن أزعجك ، فتستيقظي من ذاكرتي ، وأنا أريدك أن تبقي مستريحة فيها ، كما أنت على الدوام .

في الشرفة ، وعلى طاولة صغيرة ، وضعت فنجان قهوتي الصباحي ، ورَكَزْتُ بين شفتي سيجارة ، برشفة واحدة منها استقر جزء كبير من روحها في رئتيّ .على مرمى البصر ، وفي الحديقة المستلقية على حافة النهر ، ووسط بساط من عشب أخضر مطرز بأزهار من كل لون ، كان هناك مقعد خشبي يجلس عليه عاشقان في ريعان الشباب ، ولبرودة الصباح ، فقد لفها بذراعه محاولاً حمايتها من تسلل الندى البارد إلى أعطافها ، وإمعاناً في العشق ، فقد تناول بيده كفيها ووضعهما على فمه نافخاً فيهما من روحه ومن هواء رئتيه الدافيء ، لطرد أي برد قد يتمكن من التسلل إليهما ، وهما يتحادثان وضحكاتهما تعطر المكان وتضفي عليه جوّاً من الجنة ، حتى ليكاد صوتهما أن يصل إلى من هو أبعد مني عنهما . كانت إيماءات وجهيهما تتحدث أكثر من لسانيهما ، ربما حول ذكريات حلوة ، أو مصادفات طريفة . كان الحنان الدافق يحوطهما بهالة لا تخطئها عين عاشق .

تلبَّسني فُضولٌ مقلق ، فقد كنت أرغب في معرفة ملامحهما عن قرب ، لماذا ؟ لا أدري . فكرت أن أنزل إليهما متظاهراً بأنني أمارس رياضة المشي الصباحي ، لكنني خشيت أن يسبب ذلك لهما قلقاً وضيقاً ، فيغادرا المكان ، وبهذا أكون قد قطعت على عاشِقَين خلوتهما ، مرتكباً بذلك جريمة عاطفية في الساعات الأولى من الصباح ، فصرفت النظر عن هذه الفكرة .
الفضول يزداد إلحاحاً عليّ ، فهل أدعوهما من الشرفة لتناول القهوة معي ؟ كلام فارغ ، فهل يترك عاشقان جنتهما الصغيرة تلك مقابل فنجان من القهوة ، بل وحتى مقابل العالم بما فيه ؟ ألغيت الفكرة لأن شكلها كان غبياً إلى درجة مخجلة .

تذكرت أنني أمتلك منظاراً مقرباً كنت قد اشتريته منذ عشرين عاماً ، وهو من النوع الجيد ذي التقريب الكبير . راقت لي الفكرة مع أنني ترددت كثيراً في تنفيذها لانطوائها على نوع من الخسة لم أكن قادراً على تحمله ، ذلك أنني في هذه الحالة أخترق خصوصيتهما دون استئذان ، لكن ، كيف لي أن أستأذن أن أراقبهما بالمنظار ؟ ، وهل سبق لأحد أن تصرف بمثل هذه السخافة قبلي ؟ . ترددت في تنفيذ هذه الفكرة أيضاً ، إلاّ أن شعوراً داخلياً كان يلح عليّ ويدفعني إلى فعل ذلك ، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة المتاحة من جهة -ولأنهما كانا يجلسان في الهواء الطلق ، وليسا داخل غرفة منزوية يأمنان فيها من أعين الغرباء المتطفلين أمثالي - من جهة أخرى ، لذا فقد سهّل ذلك عليّ الاقتناع بالفكرة ، علاوة على أنني في لحظة ما ، تخيلت أنني أعرفهما . كان هذا شعوراً من النوع الذي يسميه البعض حدساً ، أو حاسة سادسة .

نهضت من فوري وأحضرت المنظار ووضعته على عينيّ ، في البداية لم تكن الصورة واضحة ، لكنني عندما ضبطت العدسة وتوضح لي المشهد وتأكدت منهما ، سقط المنظار من يدي ، وسقطت أنا على الكرسي المجاور من هول المفاجأة التي لم أستطع احتمالها : رأيتني أنا وأنت جالسين على المقعد الخشبي في الحديقة المطلة على النهر ، فراشتان تعبّان من بعضهما كأنهما كأسان من رحيق معتّق يحيي القلوب ، ويأخذ الألباب إلى عوالم لم يحلم أحد قبلنا بارتيادها .

كنا أنا وأنت مندمجين حدّ الذوبان ، ناسيين كل ما حولنا ، بل والعالم بما فيه ، ولا أحد بيننا يعكر صفونا ، أو يقطع تواصلنا ، إلاّ ذاك المتطفل الذي ما زال يراقبنا من شرفة منزله حاملاً بيده منظاره المقرّب .