Saturday, December 1, 2007


كأساً من رحيقٍ . . تأتين كل صباح
( قصة قصيرة)

أشعة الشمس تطرق زجاج نافذتي بلطف خشية أن تكسره ، مترفقة بي أن توقظني قبل
موعدي المعتاد ، وبضعة عصافير تشدو بألحان الصباح الشجية ، مرفرفة تارة ، وحاطّةً على حافة الشرفة تارة أخرى . ولأنه كان نهاراً ربيعياً صافياً يستحق النهوض المبكر ، فقد استيقظت ، وتركتك نائمة ، وتسللت بهدوء على رؤوس الأصابع خشية أن أزعجك ، فتستيقظي من ذاكرتي ، وأنا أريدك أن تبقي مستريحة فيها ، كما أنت على الدوام .

في الشرفة ، وعلى طاولة صغيرة ، وضعت فنجان قهوتي الصباحي ، ورَكَزْتُ بين شفتي سيجارة ، برشفة واحدة منها استقر جزء كبير من روحها في رئتيّ .على مرمى البصر ، وفي الحديقة المستلقية على حافة النهر ، ووسط بساط من عشب أخضر مطرز بأزهار من كل لون ، كان هناك مقعد خشبي يجلس عليه عاشقان في ريعان الشباب ، ولبرودة الصباح ، فقد لفها بذراعه محاولاً حمايتها من تسلل الندى البارد إلى أعطافها ، وإمعاناً في العشق ، فقد تناول بيده كفيها ووضعهما على فمه نافخاً فيهما من روحه ومن هواء رئتيه الدافيء ، لطرد أي برد قد يتمكن من التسلل إليهما ، وهما يتحادثان وضحكاتهما تعطر المكان وتضفي عليه جوّاً من الجنة ، حتى ليكاد صوتهما أن يصل إلى من هو أبعد مني عنهما . كانت إيماءات وجهيهما تتحدث أكثر من لسانيهما ، ربما حول ذكريات حلوة ، أو مصادفات طريفة . كان الحنان الدافق يحوطهما بهالة لا تخطئها عين عاشق .

تلبَّسني فُضولٌ مقلق ، فقد كنت أرغب في معرفة ملامحهما عن قرب ، لماذا ؟ لا أدري . فكرت أن أنزل إليهما متظاهراً بأنني أمارس رياضة المشي الصباحي ، لكنني خشيت أن يسبب ذلك لهما قلقاً وضيقاً ، فيغادرا المكان ، وبهذا أكون قد قطعت على عاشِقَين خلوتهما ، مرتكباً بذلك جريمة عاطفية في الساعات الأولى من الصباح ، فصرفت النظر عن هذه الفكرة .
الفضول يزداد إلحاحاً عليّ ، فهل أدعوهما من الشرفة لتناول القهوة معي ؟ كلام فارغ ، فهل يترك عاشقان جنتهما الصغيرة تلك مقابل فنجان من القهوة ، بل وحتى مقابل العالم بما فيه ؟ ألغيت الفكرة لأن شكلها كان غبياً إلى درجة مخجلة .

تذكرت أنني أمتلك منظاراً مقرباً كنت قد اشتريته منذ عشرين عاماً ، وهو من النوع الجيد ذي التقريب الكبير . راقت لي الفكرة مع أنني ترددت كثيراً في تنفيذها لانطوائها على نوع من الخسة لم أكن قادراً على تحمله ، ذلك أنني في هذه الحالة أخترق خصوصيتهما دون استئذان ، لكن ، كيف لي أن أستأذن أن أراقبهما بالمنظار ؟ ، وهل سبق لأحد أن تصرف بمثل هذه السخافة قبلي ؟ . ترددت في تنفيذ هذه الفكرة أيضاً ، إلاّ أن شعوراً داخلياً كان يلح عليّ ويدفعني إلى فعل ذلك ، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة المتاحة من جهة -ولأنهما كانا يجلسان في الهواء الطلق ، وليسا داخل غرفة منزوية يأمنان فيها من أعين الغرباء المتطفلين أمثالي - من جهة أخرى ، لذا فقد سهّل ذلك عليّ الاقتناع بالفكرة ، علاوة على أنني في لحظة ما ، تخيلت أنني أعرفهما . كان هذا شعوراً من النوع الذي يسميه البعض حدساً ، أو حاسة سادسة .

نهضت من فوري وأحضرت المنظار ووضعته على عينيّ ، في البداية لم تكن الصورة واضحة ، لكنني عندما ضبطت العدسة وتوضح لي المشهد وتأكدت منهما ، سقط المنظار من يدي ، وسقطت أنا على الكرسي المجاور من هول المفاجأة التي لم أستطع احتمالها : رأيتني أنا وأنت جالسين على المقعد الخشبي في الحديقة المطلة على النهر ، فراشتان تعبّان من بعضهما كأنهما كأسان من رحيق معتّق يحيي القلوب ، ويأخذ الألباب إلى عوالم لم يحلم أحد قبلنا بارتيادها .

كنا أنا وأنت مندمجين حدّ الذوبان ، ناسيين كل ما حولنا ، بل والعالم بما فيه ، ولا أحد بيننا يعكر صفونا ، أو يقطع تواصلنا ، إلاّ ذاك المتطفل الذي ما زال يراقبنا من شرفة منزله حاملاً بيده منظاره المقرّب .

No comments: