Friday, December 7, 2007

الأمير غالب

من الطبيعي أن يتعرف المرء – خاصة في المدن الكبيرة - على مجموعة من الصعاليك أنصاف المجانين، الذين يتخذون من مداخل العمارات أو أسطحها أماكن سكن ليلية لهم ، ومن أرصفة الشوارع والمقاهي ، ميادين نهارية يعرضون فيها أفكارهم الغريبة السخيفة معظم الأحيان ، والبالغة العمق – بالصدفة – أحياناً أخرى.
ففي دمشق اشتهر بعض هؤلاء إلى حد أنهم أصبحوا معروفين لدى معظم سكانها ، بعضهم طغى عليه طابع السذاجة والهبل ، فأصبح موضعاً لتندُّر الجمهور ، أمثال ( شالحة ) و ( الملاك الأبيض ) و ( يا عصفوري يا عصفور ) ، وهي ألقاب هؤلاء السذج ، حيث اختفى الاسم الحقيقي وبقي اللقب ، وقلة من هؤلاء طغى عليه تصنع الفلسفة والتنظير . ولعل من أطرف هؤلاء ( الفلاسفة !!) - إن لم يكن أطرفهم على الإطلاق – رجل عرف باسم ( غالب ) اتخذ من مدخل بناية الكرنك ، وسط العاصمة السورية ، مأوى يلجأ إليه للمبيت ليلاً . كان غالب يحصل على الكثير من النقود من تجار وموظفي وسط المدينة ، غير أنه لم يكن ينفق كل ما يجمعه على نفسه فقط ، بل كان يتصدق بقسم من دخله على الفقراء أمثاله ، وكانت مناسبة استحمام غالب وحلاقة ذقنه – والتي لم تكن تحدث سوى مرة واحدة في السنة – هي المناسبة التي تدر عليه أكثر المبالغ من ( مريديه ) الذين كانوا ينتظرون هذه المناسبة بفارغ الصبر للتخلص من رائحته النتنة ، ومنظر لحيته الكريه.
في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، وفي أواخر عهده في الحكم ، تلقى الملك جورج السادس ، ملك بريطانيا ، ( توفي في فبراير 1952 ) رسالة وردت إليه من دمشق مذيلة بتوقيع ( الأمير غالب ) . كانت الرسالة غاية في الطرافة والغرابة وتحمل المطالب التالية :
1- أن يوافق الملك على طلب الأمير ( غالب ) يد ابنته الأميرة إليزابيث ( الملكة إليزابيث الثانية فيما بعد ) .
2- أن يرث ( الأمير غالب ) عرش بريطانيا العظمى بعد وفاة ملكها جورج السادس.
3- أن يرسل الملك إلى صهره الأمير مبلغ عشرين ألف ليرة سورية ( وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام ) لكي يتدبر أمور الزواج.
4- في حالة رفض الملك لهذه المطالب ، سوف يقوم الأمير غالب باختطاف الأميرة إليزابيث ، وعلى الملك تحمل العواقب.
يبدو أن رسالة الأمير غالب قد أثارت ضجة في الأوساط البريطانية ، كما أن اتصالاً ما قد تم بين الخارجيتين البريطانية والسورية لمتابعة الموضوع ، إذ أن ( غالب ) فوجىء ذات صبيحة دمشقية باردة برجل شرطة يوقظه بعنف على باب العمارة – حيث ينام – طالباً منه المثول فوراً أمام ضابط التحقيق . في قسم الشرطة ، وبعد استجواب سريع ، أقفل الضابط محضر التحقيق بعد أن ذيله بعبارة ( فاقد الأهلية ).
عندما عاد غالب إلى مريديه – الذين يبدو أن بالهم قد انشغل عليه عندما تم استدعاؤه إلى قسم الشرطة – كان يقول : ( لا بد أن خطأ ما قد وقع ، فرغم أنني موافق على الزواج من الأميرة ، ورغم أن أتباعي موافقون أيضاً ، إلا أنني لا أعرف سبباً يدفع الملك إلى الرفض ).
بعد مغادرتي سورية ، لم أعد أعرف الكثير عن غالب ، لكن الأخبار الواردة تقول بأنه مات أعزباً بعد أن عزف عن الزواج بغير الأميرة إليزابيث ، وبدون أن يسمع من الملك البريطاني أي سبب ( منطقي ) لرفض طلبه ، أما أصدقاؤه العارفون بخبثه ومكره ، فيقولون بأنه إنما فعل فعلته تلك لكي يحصل على الشهرة ليس إلا ، وربما قد حصل عليها بالفعل.

No comments: