Monday, December 24, 2007

خسارة لا تُعوَّض
( قصة قصيرة )

أشجار النخيل القديمة تتجذر على امتداد الساحل بقوة وعمق ، وحركة الموج الأزلية ما زالت على حالها كما كانت منذ ملايين السنين ، ورمال الشاطئ ما فتئت تستحم بلا كلل ، وعلى الجانب الآخر انتصبت سلسلة جبال سود تشظَّت حوافها كإناء زجاجي مكسور ، وخلفها غويمات رصاصية تحاول استجلاء كنه ما كان يحدث على المنحدر الواصل بين سيف البحر وعنق الجبل.

كان الموكب يسير بخشوع يتقدمه أربعة رجال ، حملوا على أكتافهم نعشاً فيه جسد رجل بدا من كثرة عدد المشيعين أن له مكانة خاصة في قلوب أهل القرية ، يتناوبون على حمله بحنو وحزن واضحين ، يتهادون بين صفين من أشجار سرو عتيقة ، دموعهم تسيل بصمت وحرقة ،،، بعد عبور بوابة المدينة الأبدية ذات السور الملون ، وضع الرجال النعش على مصطبة عالية ، وأهل البلدة يبدون في حيرة من أمرهم ، فهم الآن يواجهون مشكلة من نوع ما لأول مرة في حياة القرية على ما يذكرون ، والراقد في النعش أيضاً في موقف يمر به لأول مرة ، والوجوم الذي خيم على الجمع لم يكن بسبب افتقادهم للميت شخصياً ، بل لافتقادهم العمل الذي كان يقوم به.

الراقد في النعش كان يتوقع ما هو فيه الآن منذ آمن بما يؤمن به المؤمن ، مع أنه كان يستبعده خوفاً منه ، أما هم فلم يخطر لهم على بال في يوم من الأيام أن يفتقدوه في وقت عز فيه مثيله ، ولا أمل لهم في تعويضه ، وهو لم يكن يتوقع أن يتركهم على هذه الحال وقد اعتاد أن تمر بين يديه العشرات ، بل المئات منهم ، مستسلمة راضية بما يجريه عليها من طقوس لازمة لا يستطيع غيره القيام بها. بين يديه استسلم الكبير والصغير ، الغني والفقير ، خاضعاً في صمت أبدي ورضوخ مطلق. قال في نفسه : إلى متى سأبقى منتظراً فوق هذه المصطبة؟ همّ للوقوف ، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، انتبه إلى أنه يحاول ضرباً من المستحيل ، ، اعترته حالة من الخوف اللذيذ الممزوج بقلق محرج ، ، نسمة بحرية أطارت الغطاء عن ذراعه اليسرى ، ، رجل عجوز من الجمع سارع إلى إعادة الغطاء إلى ما كان عليه ، ، ودَّ المستلقي في النعش لو أن العجوز انتظر برهة عله يستطيع التكلم معه ، ، الوقت يمر لزجاً أكثر من المحتمل والرجال المتجمعون حول النعش ما زالوا على حالتهم من الحيرة ، فمنذ وضعوه على المصطبة لم يجرؤ أحد على التقدم منه لإنهاء هذا المشهد ، ، بضعة نوارس حلقت فوق الجمع محدثة بأجنحتها أصواتاً خفيفة ، وثمة نسيمات تهب من جهة الجبل دافعة أمامها غيماً كالليل ، ، تململ الجمع ، واستدارت الأعناق جهة الجبل متنبئة بمطر غزير ، والرياح تشتد أكثر فأكثر ، ورذاذ خفيف بدأ بالتساقط ، والمشكلة التي عرقلت آخر إجراء على صاحب النعش في طريقها إلى الحل ، ، ، هبة ريح قوية أطارت الغطاء عن الجسد ، أعقبها وابل من المطر الأبيض ، فأحس براحة وعذوبة لم يشعر بهما حتى عندما كان على قيد الحياة ، وجسده العاري تماماً تسيل عليه الآن قطرات المطر الناعم برفق ، ، أراد أن يفتح عينيه ، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً ، فاسترخى أو هو أحس ذلك ، ثم ترك جسده مرتعاً لقطرات المطر . همهم الحشد بكلمات لم يفهمها ، وأقبل بعضهم عليه يحملونه بسرعة ، فقد انتهت المشكلة التي أخرت دفنه ، ، إنهم ينزلونه في حفرته الأبدية.

عندما وضعوا البلاطة الأخيرة على صدره وأهالوا التراب عليه كان يقول في نفسه : مَن مِن بعدي سيغسل لأهل القرية موتاهم بعد اليوم ، أما هم فقد تركوه وحيداً في حفرته وعادوا أدراجهم إلى القرية وسؤال وحيد يدور في أذهانهم : مَن مِن بعد ذهابه سيغسل لنا موتانا بعد اليوم ؟.

No comments: