Thursday, December 20, 2012

تهويمات في اللا مكان واللا زمان



    أن تكتب – ككاتب يحترم نفسه وكلمته – مقالاً تربط فيه بين السياسة والاقتصاد، أو بين السياسة وعلم الاجتماع، أو بين السياسة والجغرافيا، أو بين السياسة وأي شيء آخر، فهذا مفهوم ويتوقع أن يلاقي الاستحسان والقبول، أما أن تربط بين السياسة وسد هائل من الخرسانة، فهذا تهويم وهذيان لن يُغفر لك، وربما صرف عنك أكثر القراء صبراً وجلداً.

    لكن القصة من الطرافة بحيث تستحق أن تُروى، ففي يوم صيفي قائظ، رمتني إحدى رحلاتي التي لا تنتهي في مكان لا ينتمي إلى مكان، وفي زمان لا ينتمي إلى زمان. كنت أقف في منتصف المسافة الفاصلة بين ولايتي أريزونا في الشرق ونيفادا في الغرب، أبعد عن كل منهما مئة وتسعين متراً بالتمام والكمال، ولا أدري لأي منهما أنتمي مكانياً، فأشعر بأنني في اللا مكان، وأنظر إلى جهة اليمين، فأرى ساعة ضخمة تنتصب على عمود خرساني في أريزونا تشير عقاربها إلى الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق، وألتفت إلى جهة الشِّمال، فأرى ساعة أخرى تنتصب على بر نيفادا وعقاربها تشير إلى العاشرة وخمس دقائق، فلا أدري لأي منهما أنتمي زمانياً، فأشعر أنني أقف في اللا زمان،،، يملؤني إحساس غريب بأنني موجود في اللا مكان واللا زمان.

    أنا هنا في منتصف قمة سد ”هوفر” الشهير، ذاك الذي أنشيء في بداية ثلاثينيات القرن الماضي بين ولايتي أريزونا ونيفادا، لكي يقبض على عنق نهر الكولورادو، فيعتقل مياهه خلف جداره الصلب الذي يتألف من كتلة خرسانية هائلة، وبذلك يؤمن المياه لمناطق شاسعة صحراوية أو شبه صحراوية، ويولد طاقة هائلة من الكهرباء، ويمنع أخطار فيضان النهر في بعض السنين. معلومات المركز السياحي في إدارة السد تقول بأن ارتفاعه يصل إلى 221 متراً، وعرضه عند القاعدة 200 متر، بينما يبلغ عرضه عند القمة 14 متراً، وطوله 380 متراً، وبذا يكون وزن كتلته الخرسانية 6 ملايين طن، (حجمها 2,5 مليون متر مكعب، مضروباً بـ 2,4 طن وزن المتر المكعب من الخرسانة). أما مساحة البحيرة، بحيرة ”ميد”، التي تتشكل وراء السد – تلك التي أنظر إليها الآن – فتبلغ 640 كم مربعاً، أي حوالي ضعف مساحة قطاع غزة، عمقها في المتوسط حوالي 180 متراً، أما كمية المياه التي تتجمع فيها فتبلغ 35200 كم مكعب (لأنه حجم)، أي 35 مليار ومئتي مليون متر مكعب، ولو اعتبرنا أن وزن المتر المكعب من المياه هو طن واحد، لكان وزن المياه التي يحتجزها السد يزيد على 35 مليار طن، فتكون المعادلة ببساطة أن 6 ملايين طن من الخرسانة تسيطر على 35 مليار طن من المياه وتتحكم بها، أي أن وزن المياه يعادل 5833 مرة ضعف وزن السد.

    بينما غص المكان بعدد كبير من السياح الذين انشغلوا بالتقاط صور للبحيرة من جهة الشمال، ثم القفز إلى الجهة الأخرى لتصوير جسم السد من جهة الجنوب، كان ذهني يقفز في عالم آخر له زمانه ومكانه،،، زمانه عصر اضطهاد وتسلط وبطش، تكمم فيه الأفواه، ويرمى الناس في السجون بلا محاكمة دون أن يعلم عنهم ذووهم أي شيء، وفرد أو عائلة تحكم البلاد عقوداً وعقوداً من السنين،،، أما مكانه فمساحات شاسعة من بلدان العالم الثالث، تزخر بموارد حد الغنى الفاحش، بينما تتضور شعوبها جوعاً حد الموت،،، أنظمة الحكم تلك وجدتُ بينها وبين شعوبها، وبين هذا السد وهذه البحيرة، شبهاً كبيراً. تصورت البحيرة شعباً هائلاً بقدراته وخيراته وجيشانه،،، هائل العدد هول عدد الأمتار المكعبة من مياه البحيرة،،، قادر هادر عندما ينطلق بحرية في مجراه الإنساني،،، نافع لنفسه وللإنسانية بعطائه عندما يحوز حريته، لكن، وكما يرقد النهر الهادر هنا خلف هذا السد الديكتاتور، – والذي بحجمه الضئيل مقارنة مع حجم المياه – يستطيع كبح جماحها، يرقد الشعب خلف حكم الدكتاتور، ذاك الذي بنى جسم نظامه السياسي باستخدام كمية هائلة من الخرسانة السياسية، جمعها على شكل خلطة من الخانعين والمنتفعين والخونة، دعمته في صموده أمام فوران شعبه وتدفقه، فكبح جماحه، وحوله إلى بركة راكدة آسنة، ينمو فيها العفن، وتتراكم على حواشيها الطحالب،،، يأسن ماؤها حتى تنتن رائحته، وتتكاثر فيها الكائنات البحرية التي يأكل الكبير منها الصغير. لكنه، وبعقلية خبيثة هي جزء من تركيبته النفسية والأخلاقية، يحرص الدكتاتور على السماح ببعض مظاهر الحرية للذين احتجزهم وكبلهم، فكما يعلم السد أنه لا يستيطع كبح جماح المياه خلفه إلى الأبد، فقام بتصريف كميات منها من خلال فتحات في الجهة الأخرى منه حيث مخرج المياه حتى لا تجرفه في لحظة طوفان، كذلك فعل الديكتاتور، فسمح لشعبه بالتنفس المحدود عبر فتحات مسيطر عليها ومتحكم بها، كبعض الصحف المأجورة التي تهاجم الديكتاتور فقط في شكل ربطة عنقه، أو تسريحة شعره، أو لون عينيه، ولا تتجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، وكذلك من خلال أحزاب كرتونية، تسمى أحياناً ”جبهة القوى الثورية”، وأحياناً أخرى ”اتحاد المعارضة الوطنية”، أو ربما ”كتلة الخلاص الوطني”، إلى غير ذلك من الأسماء التي يتفضل الدكتاتور باقتراحها، وبينما يحتل نواب هذه الأجهزة الكرتونية كراسيهم في مجلس الشعب، إلى جانب حزب الأغلبية، حزب السلطة، ينامون ملء جفونهم خلال معظم الجلسات، وعندما يستيقظون أحياناً، يطالبون بصوت عالٍ باستجواب وزير التموين، أو حتى رئيس الوزراء نفسه، حول أسعار الطماطم والبقدونس، أو يقترحون زيادة رواتب نواب الشعب بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وكذلك مضاعفة أسعار المواد التموينية حفاظاً على صحة الشعب حتى لا يأكل الناس كثيراً، فيصابون بالسمنة وما ينتج عنها من ارتفاع في ضغط الدم والسكر والكولوسترول، ورفع الضرائب على كل شيء للتمكن من سداد قروض البنك الدولي، ولو بالغ هؤلاء النواب وتطرفوا في مواقفهم الناطقة باسم الشعب!، لتقدموا باستجواب لوزير المالية حول عدم دفعه فواتير استهلاك الماء والكهرباء الخاصة بقصره ومصانعه. كذلك لا ينسى الدكتاتور بعض الكتاب المنافقين لكي يساعدوه في التخفيف من كبت جماهير شعبه، فلديه من يكتبون المسرحيات النارية الوقع التي تهاجم قشور حكمه ولا تنفذ إلى العمق، أو الأفلام السينمائية التي تفضح ممارسات الفاسدين، لكنها لا تقترب من عتبات القصر الجمهوري، كما يجد المخرجين والممثلين لهذه الأعمال، أولئك الذين يصل بهم الغرور والجهل إلى حد الادعاء بأنهم إنما يقومون بترسيخ الديمقراطية الشعبية بأعمالهم الوطنية، بينما لا يزيد دورهم الحقيقي على تخفيف الاحتقان الشعبي، ومن ثم إطالة العمر السياسي للدكتاتور. هي مجموعة مطبلة مزمرة، تأتمر بأمر سيدها – الدكتاتور – فلا تتنفس إلا بعدد الأنفاس المسموح لها به، ولا ينطلق لسانها إلا عندما يضغط الزعيم على زر التشغيل. ولكي يكتمل المشهد، لا يمل الدكتاتور من التذمر من الصحافة الوطنية التي تهاجمه ليل نهار، ومن الأحزاب التي تنهش لحمه بأنياب نوابها وكتاب صحافتها، والمسرحيات والأفلام التي أضحكت الجماهير عليه وعلى عائلته، لكنه يصر دائماً على أنه متمسك بهذا العرس الديمقراطي!. كل ذلك يجري بينما مياه الشعب راكدة ساكنة، لا حراك فيها سوى عند فتحات التصريف تلك،،، تصفق دون أن تعي ما تسمع، وتؤيد دون أن تعلم ماذا تؤيد،،، تردد الشعارات كالببغاوات،،، فرِحةٌ بوجود انتخابات حتى ولو كانت مزورة،،، لا تحتفل سوى بعيد ميلاد الرئيس، ولا تذبح الخراف فتتذوق طعم اللحم، إلا عندما يزور سيادته إحدى القرى لتدشين صنبور مياه، وعندما ترى تلك الجماهير وجه الرئيس الضرورة! من خلف زجاج سيارته المصفحة، لا تنام ليلها من شدة الفرح، ولو تجرأ ومد يده مصافحاً، لتهافتت عليها الشفاه مقبلة إياها وكأنها تلثم الحجر الأسود على جدار الكعبة،،، استراحت بين يدي حكمه المديد، فأسِنَتْ وفسدت حد العفونة. ذلك هو السد والبحيرة، وهذا هو الدكتاتور والشعب.

    جميع الناس تذهب إلى الأماكن السياحية لكي تعود منها بصور تذكارية عن رحلاتها الممتعة، ثم لتحدث الأهل والأصدقاء عنها، أما أنا، فبدلاً من الاستمتاع بما أرى كما يفعل الآخرون، إلا أنني، ونظراً لسوداويتي القاتلة التي تميزني عن أقراني من الكتاب المتفائلين، أعود محملاً بهموم عالمنا الثالث التعيس، أجترها كجمل صبور في بيداء قاحلة، وأكتوي بلهيبها كفراشة حلقت حول نور شمعة قاتلة، لكنني، ولكي أخفف بعضاً من ثقل هذه الهموم عن نفسي، وحتى أحفظ توازنها وثباتها استعداداً لرحلات مقبلة، أقوم – وبنوع من العشم – بتوزيعها على القراء الصابرين، متمثلاً القول الشائع:( وزّع الحمل، بينشال).


Saturday, December 8, 2012

المقامة الماسوشية:( هذه ترجمة حرفية، لنص أسطورة شعبية، وجد محفوراً على جدران معبد في إحدى إمبراطوريات أمريكا اللاتينية، والتي اندثرت منذ مليون سنة قبل الميلاد،،، للدقة العلمية ).




    لم يصدق الإمبراطور ما تسمعه أذناه وما تراه عيناه، وقد أحاط به وزراؤه وقادة جيشه ومستشاروه ومن والاه،، عندما قال له مندوب الشعب بلهجة ملؤها التذلل والاعتذار، مع مسحة من العزم والإصرار:
-         سيدي الإمبراطور، إن شعبكم الذي يحبكم، ومستعد لدفع حياته فداء لكم، هذا الشعب الذي تعلمون أنه آخر ما يهتم به الحاكم في هذا البلد العظيم،،، شعبكم الذي بايعكم بالإجماع يوم توليكم العرش، وأقسم على أن يفديكم بروح وبماله وبكل ما يملك، شعبكم الوفي هذا أرسلني إليكم اليوم راجياً منكم التلطف والتكرم والتعطف بتلبية رغبته، وتحقيق أمنيته، وهو يرجو أن تكون هذه آخر آمانيه التي يتوق إليها، وخاتمة مطالبه التي يصر عليها، وتتكرمون بها عليه، وبذلك تردون جميل خضوعه لكم أضعافاً مضاعفة إليه.
-         تكلم يا مندوب الشعب العظيم، فمنذ توليت حكم هذه الإمبراطورية، وأنا أعمل ليل نهار على خدمتكم وتلبية مطالبكم، وتنفيذ ما يدور في رأسي بموافقتكم أو بمعارضتكم، والعمل بمشيئتي سواء بتأييدكم أو بممانعتكم، وأنا هنا رهن إشارة الشعب الذي برهن لعقود طويلة على الخنوع تحت حكمي السديد، واستكان بلا حراك أو تذمر خلال عهدي المديد،،، تكلم ولا تخف أيها المندوب النجيب، ماذا يريد مني شعبي  الحبيب؟.
-         سيدي الإمبراطور: بما أنه قد مضى علينا - نحن الشعب – حوالي المئة قرن الماضية من الزمان ورقابنا تحت نعالكم، ومن قبل ذلك تحت نعال آبائكم وأجدادكم، وأبصارنا عند مستوى أقدامهم وأقدامكم، ورقابنا اعوجت لكثرة طأطأة رؤوسنا أمامهم وأمامكم، ولأننا شعب مسكين لا يستحق عظيم كرمكم وعطائكم، ولأننا قمنا بالقدر الكافي من الخنوع لعرشكم ومقامكم، وعقاباً من الله لنا على تذللنا أمامكم، والذي هو أشرُّ من عقوق الوالدين، وأسوأ من قتل الحسن والحسين، لكل ذلك فقد رمانا الله بعقدة نفسية يسمونها "الماسوشية"، والتي تعني – عافاكم الله - الاستمتاع بالإذلال المفرط والتعذيب المحبط، والذي نتمنى أن يصل في نهايته السعيدة إلى الموت الزؤام، كذلك يعرف شعبكم العظيم  بفطنتته التي لا تغفو ولا تنام، أنه - وكما أصيبت نفوس أفراده بتلك العقدة - فقد أصابتكم أنتم وحاشيتكم عقدة نفسية، تدعى "السادية"، والتي تعني التلذذ بإذلال الناس حد إقناعهم بأنهم أقل أهمية، وأدنى قيمة من البهائم، والاستمتاع بتعذيب الآخرين حتى الموت باعتبارهم نوعاً من سقط المتاع ورخص الغنائم، لذا، ومن منطلق الوفاء لقيادتكم التاريخية، واعتماداً على وعودكم بأن تكونوا مخلصين لنفوس شعبكم الوفية، وحرصكم الدائم على منحه الرعاية الأبوية، فقد جئت إلى أعتاب عظمتكم اليوم لكي أطلب منكم، باسم الشعب، واستكمالاً منه لهذه العلاقة التاريخية المميزة بينكم وبينه، والتي غمرت نفوس أبنائه بالامتنان والشكر والعرفان لشخصكم السامي الكريم، جئتكم باسم المساجين الذين أكلت عتمة الزنازين زهرة شبابهم، والتهمت سياط الجلادين لحم ظهورهم وجنوبهم وأكتافهم، وامتهنت أحذية جنودكم ما تبقى لهم من شهامتهم وكراماتهم،،، باسم الفقراء الباحثين عن قوتهم في صناديق القمامة، وباسم أطفال الشوارع وجموع اليتامى،،، باسم الأرامل والمشردين، الذين أصبحوا الأغلبية الساحقة في شعبكم الخانع المستكين ،،، باسمهم جميعاً جئتكم راجياً أن تبادروا إلى تخليصهم وتخليص أنفسكم من تلك العقد الغبية: السادية والماسوشية.
    نظر الإمبراطور إلى وجوه قادته ووزرائه ومستشاريه، فوجد على محياها علامات الرضى والترحيب والعجب، لِما سمعوه من مندوب الشعب، إلى درجة أن بعضهم لم يملك نفسه من التصفيق، بل والبكاء تأثراً بما يرى ويسمع، فاستمروا بالتصفيق لساعات أربع. ابتسم الإمبراطور مرحباً بهذا المطلب الذي وجد في نفسه قبولاً، وانشرح صدره به لكونه عملياً ومعقولاً، وعبر عن تأييده له بقوة، خاصة وأنه يمنحه الفرصة للبر بالقسم الذي أداه يوم تولى إمبراطوراً منذ سنوات لا يذكر عددها، لا يهم منذ متى، المهم أنه ما زال يتذكر القسم، ولأنه يخاف الله، فالأيمان لها قداستها، وللعهود مكانتها وحرمتها، من نكص عنها تلبّسه العار والشنار، ومن نقضها كان مصيره جهنم وبئس القرار، ولما تساءل الإمبراطور عن الكيفية التي يرتئيها مندوب الشعب لتنفيذ هذا المطلب، ذكّره المندوب بأن الشعب قد أنفق من قوت يومه وعرق جبينه على قواته المسلحة، التي يعتمد عليها في أن تكون خادمة لما يطلبه الشعب من حاجاته الملحة، خاصة وأنها من الشعب وإليه، وتعتمد – بعد الإمبراطور – على الله وعليه، فاشتعل حماس القادة العسكريين، ودارت أعينهم عجباً ذات الشمال وذات اليمين، وازدادت النجوم على أكتافهم لمعاناً، ورقصت الميداليات على صدورهم فرحاً وافتتاناً، فانفرجت أسارير الإمبراطور، وأوعز إلى قادته أن يكونوا هم وجنودهم جاهزين لتنفيذ رغبة شعبه المقهور، فقد جاءهم اليوم الذي يردون فيه الجميل لأبناء شعبهم التقي، وأمرهم الإمبراطور بتنفيذ مطلب هذا الشعب الوفي، طبقاً لرغبته التي يستحيل أن ترد، ولإراته التي لا يمكن أن تحد.
  في الأيام التالية لهذا اللقاء التاريخي الفريد من نوعه، بدأ القادة وجنودهم بتنفيذ مجازرَ قُتِلَ فيها مئات الآلاف وشرد الملايين، مستخدمين فيها جميع أنواع الأسلحة المتوفرة لديهم من سيوف ورماح وخناجر وسكاكين، حتى المنجنيقات استخدمت في دك المدن والقرى، وكان القتل هائلاً كما لم ُيرَ، إلا أنه لم يكن شاملاً كلَّ الورى، وورغم تدمير الكثير من المنشآت، لكن التدمير لم يكن واسعاً، والخراب لم يكن جامعاً مانعاً، وللأسف، فقد نجى الكثيرون من أفراد الشعب من الموت، فبدأت شكاوى وصيحات الجماهير التي نجت، وضج الناس باتهام الإمبراطور وحاشيته، ووزرائه وقادته، بالتمييز والطائفية، في القتل بين أفراد الشعب الواحد حسب اللون والهوية، مما أدى إلى موت قسم وبقاء قسم منه على قيد الحياة، فطلب مندوب الشعب أن يقابل الإمبراطور مرة ثانية وعلى عجل، وفي هذه المرة، قدم المندوب إلى الإمبراطورالتماساً من الشعب يطلب فيه زيادة وتيرة القتل واتساع حملة التدمير، ولما تذرع الإمبراطور بأن بعض القادة والجنود يمتنعون عن تنفيذ الأوامر لأن جميع الناس بدوا مسالمين، هوَّن المندوب الأمر عليه، وأمعن في النفاق والخبث بين يديه، فاقترح على الإمبراطور أن يرسل بعض عناصر استخباراته من النساء والرجال، لكي ترمي الحجارة وجميع ما تصل إليه أيديها على الضباط والجنود من الخلف ومن اليمين ومن الشمال، وبذلك يستفزونهم للانخراط في المعركة الفاصلة، التي يجب أن يكون هدفها السامي النبيل إفناء جميع الشعب بضربة قاتلة، وتخليصه من عقدته اللعينة السادية، وكذلك تخليص الإمبراطور وحاشيته من عقدتهم المزمنة الماسوشية.
    وبالفعل تم تنفيذ عملية الإبادة هذه المرة بنجاح منقطع النظير، فبعد شهر واحد أو نحوه لم يبق من الشعب أي فرد من صغير أو كبير، فقد أبيد الجميع وهم فرحون متلذذون بالموت، فاستراحوا من متاعب ماسوشيتهم اللعينة، وشفي الإمبراطور وقادته من عقدتهم المشينة، وبذلك نجح الإمبراطور – بناء على طلب شعبه الذي لا يرد - في علاج نفسه وحاشيته وقادته من ناحية، وتخليص شعبه المخلص الوفي من ناحية ثانية. بعد انتهاء المجازر والمذابح بالتوالي، ومواراة الضحايا ثرى وطنهم الغالي، أقيم نصب (الشعب المجهول) على قمة التل المجاور لقصر الإمبراطور، الذي سار وقادة جيشه الباسل في موكب فخور، بين صفين من الحرس الإمبراطوري الذين يرفعون قنطرة من السيوف، بينما هرع بعض الخدم يرحبون بالضيوف، ينثرون أمامهم موكبهم البخور، ويقدمون لهم القهوة العربية والتمور، وفرقة موسيقى الجيش تعزف لحن الانتصار العظيم، وأسراب من طيور معدنية تقرقع في الفضاء الرحيب، محلقة بصوتٍ مدوٍّ فوق موكب الحفل المهيب، وقام الإمبراطور بوضع إكليل من الزهور على النصب التذكاري، وقد زين بشريط أسود كتب عليه بخط أحمر ناري:(هنا يرقد الشعب المجهول الذي ضحى بنفسه من أجل خلاص أفراده، وفي سبيل راحة إمبراطورهم وسعادة أولاده وأحفاده).
    ومنذ ذلك اليوم والإمبراطور ووزراؤه وقادته وحاشيته يعيشون بفرحة غامرة، ويهنأون بسعادة آسرة، ولا ينسون وضع إكليل من الورود كل سنة على قبر الشعب المجهول، في حفل مهيب يسلب الألباب والعقول، كيف لا وقد ضحى الشعب بنفسه، من أجل إمبراطوره وأسرته وحرسه، بعد أن تفضل الإمبراطور العظيم بالقضاء عليهم، لأن الأصل في شرعية الحاكم العادل تكون من الناس وإليهم.

Friday, December 7, 2012




المكرم الأستاذ وائل الأبراشي: بعد التحية والدعاء إلى الله أن يوفقك ويمتعك بالصحة والعافية، وبعد:
فمن باب المحبة والاحترام أقول لك بأنك خيبت ظننا بتغطيتك الفاشلة لأحداث يومي الرابع والخامس من الشهر الجاري، فناهيك عن كونك صحفي عليه واجب التمتع بالحياد الإيجابي، والتعبير عن رأيه بلا مبالغة أو تحيز، فإنك بوصفك ما كان يجري أمام الاتحادية بأنه حرب أ
هلية قد ارتكبت زلة مهنية، وخطيئة لغوية، ربما لن يغفرها الله لك قبل عباده. فعبارة (الحرب الأهلية)، كما تعلم أو لاتعلم، تطلق على القتال عندما ينشب بين فئات طائفية مسلحة داخل الوطن الواحد مع غياب تام لقوة الدولة، ومثالها الحي ما جرى في لبنان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وما جرى بين الهوتو والتوتسي في أفريقيا، أما مصر، فيتمتع شعبها ببنية اجتماعية متماسكة، ليس بين أفراده فرق سوى في الديانة: مسلم ومسيحي، وصلى الله وبارك، وجيشها سليم معافى، أما عبارتك (حرباً أهلية)، فقد ساهمت في إحجام الناس عن زيارة مصر وأنا منهم، مصر قلب العرب، ومهبط أفئدتهم، والتي تحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى للدخل من السياحة. أما التزامك بخط من يسمون أنفسهم هذه الأيام (قادة الثورة الحقيقيين)، فعمرو موسى من بقايا النظام البائد، ومحمد البرادعي معتاد على الخضوع لإملاءات واشنطن، وهو الذي استعان مؤخراً بأوربا وأمريكا للتدخل في الشأن المصري، وهذه خيانة لا جدال حولها، أما حمدين صباحي، فقد لوث نفسه بالانضمام إلى المذكورين، وخسر بذلك الكثيرين من أتباعه. أما الذين يهاجمون الإخوان المسلمين اليوم، فهم الذين بتفكك جبهتهم وتخاذلهم ومطامعهم الشخصية في الحكم، قد ساهموا في وصول الإخوان إليه. للعلم فأنا لست من الإخوان، ولست مصرياً، ولكن قلبي مع مصر وشعبها. وفي الختام أرجو أن تكون متوازناً ومنطقياً في طرحك على قناة دريم التي أشاهدها وأنا مقيم في أمريكا.
ختاماً: كنت أود أن تكون رسالتي هذه أكثر لطفاً ورقةً، لكن انحيازك الغير متبصر دفعني، وبدافع من الحب والتقدير والاحترام، إلى كتابة ما كتبت، والذي إن كان له عذر فهو حب مصر وشعبها العظيم، متمنياً لك التوفيق والنجاح.

Wednesday, December 5, 2012

قريبٌ قريب، بعيدٌ قريب



    رغم بعد الشقة الزمنية، إلا أنني ما زلت أحن إليهم،،، أتوق لقربهم،،، أحزن على فراقهم،،، كانوا أشخاصاً من لحم ودم،،، ألمس في حضورهم دفء المشاعر، وأحس في أكفهم حين المصافحة دفق العواطف، وأتوسم في نخوتهم الحصول أية مساعدة أحتاج إليها، صغيرة كانت أم كبيرة،،، أبعدُهُم عني كنت أصله بالسيارة خلال دقائق، وأقربهم مني كنت أراه بمجرد أن أفتح نافذتي، فالبعيد منهم، قريب، والقريب منهم، قريب جداً. هم أصدقاء ما قبل الكهرباء ومشتقاتها،،، طوى الزمان صفحتهم، وطوحت الأقدار بهم بعيداً، لكنهم سكنوا القلب والذاكرة،،، واليوم حل مكانهم أصدقاء جدد، تفصلني عن أقربهم آلاف الأميال، لا أعرف وجوههم إلا بالتخمين من خلال قراءة أفكارهم التي تحملها إلي أحرف سوداء على شاشة صماء، والسعيد منا من امتلك كاميرا رأى من خلالها من يفترض أنه صديق، ولو عن بعد. بعضهم يعمل بتيار بقوة 110 واط ، وآخرون - لاختلاف المكان – يعملون بتيار قوته 220 واط، أما البعض القليل منهم فيعمل بالبطارية إن كان على سفر أو في مقهى. تقطعت بيني وبينهم لغة الجسد وحلت مكانها لغة الطابعة،،، يفاجئني بعضهم بالإصرار على رؤيتي عبر الكاميرا، وبما أن إعجابي بصورتي قد انقطع منذ زمن، فقد أصررت على ألا أستجيب لهم مهما كلفني ذلك من لوم وتقريع، حتى لا أفاجئهم بما لا يحبون، فتتلبسهم الكوابيس في النوم واليقظة، أو يقعون في حب من يرون، فيهجرهم النوم في ليالي الشتاء الطويلة، أما إن كان لهم عتبٌ عليَّ، فليعتبوا على الزمن الذي لم يجمعهم بي عندما كنت صالحاً للمشاهدة. هذا لا يعني أنني دميم إلى الدرجة التي أخشى فيها أن يراني الناس عليها، لكنني بذلك أتيح لهم بأن يرخوا العنان لخيالهم لكي يتصوروني كما يشاؤون،،، أريد أن أبقى قصة مقروءة لا يتحول بطلها إلى هباء عندما يظهر على الشاشة الفضية.
    الفارق الحقيقي الوحيد بين أصدقائي القدامى وأصدقائي الجدد، أن القدامى كانوا غير قابلين للإلغاء، أم الجدد فمن السهل أن تلغيهم بمجرد الضغط على زر delete  . وهل هنالك فارق أهم من هذا؟. لكن: لا ينكرن جاحد بأن من بين الأصدقاء، الذين يعملون بالكهرباء أو بالبطارية على حد سواء، من لديه القدرة على تذكيرك بالزمن الجميل،،، أيام صداقة ما قبل عصر البطارية وما قبل زمن الكهرباء ،،، هؤلاء الأصدقاء لا يخضعون للنسيان، ولا حتى للإلغاء.   

Sunday, December 2, 2012

جرم الدعاة في قذف المحصنات



    اتهام الداعية ”عبد الله بدر” للسيدة ”إلهام شاهين” بالفاحشة قد يكون مدخلاً ومخرجاً مناسبين لهذا المقال. فالسيد المذكور اتهم السيدة المذكورة بأنها زانية من خلال الأفلام السينمائية التي شاركت في تمثيلها، دون أن يقدم الدليل الشرعي وهو أربعة شهود عدول، يرون الواقعة بمواصفاتها الشرعية، ذاك الدليل الذي يستحيل عملياً تقديمه بطبيعة الحال، وهو بذلك قد حكم على نفسه بالجلد ثمانين جلدة، حسب ما قرره القرآن الكريم (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون – النور -4- ) (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم – النور 23).

    وللحديث عن هذا الموضوع، لا بد من العودة إلى نشأة السينما المصرية مع بدايات القرن العشرين، فقد عُرِضت الصور المتحركة على شاشة في الاسكندرية في عام 1897، مباشرة بعد عرضها في فرنسا، ثم تتابع بعد ذلك تمثيل وإخراج الأفلام السينمائية، والتي كان أصحاب استديوهاتها ومنتجوها من الأجانب المقيمين في مصر. وربما ركزت الأفلام الأولى على بعض الروايات العاطفية المترجمة، وعلى قصص من تاريخ العرب، إضافة إلى إظهار معاناة الفلاحين، وعلاقتهم بأصحاب الأراضي الجشعين، وقد تميزت تلك الفترة المبكرة من تاريخ السينما المصرية بالالتزام بالآداب الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن، فمن نوادر فيلم (الوردة البيضاء)، بطولة محمد عبد الوهاب وسميرة خلوصي، والذي عرض عام 1933(وأذكر أنني حضرته في سينما صيفية بحيفا، حيث أنه في أحد المشاهد يقترب البطل من البطلة، فيتحولان إلى شكل وردة بيضاء، ومن هنا أخذ الفيلم اسمه)، فقد احتج الأزهر آنذاك لدى دائرة الأمن العام (الجهة التي كانت تجيز عرض الأفلام) لأن البطل قبَّل البطلة في أحد المشاهد.

    بعد قيام ثورة يوليو 1952، أممت الدولة قطاع السينما، كونها كانت حكراً على جهات أجنبية، وتميزت الأفلام المصرية حتى عام 1970 بمعالجتها الشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بانحياز تام لمصلحة الجماهير، فظهر بوضوح التركيز على القيم العليا، والجنوح إلى مطلب الحرية والعدل الاجتماعي والتقريب بين الطبقات، وكان من البديهي أن تخلو هذه الأفلام من الإسفاف والانحطاط، سواء في القصة أو في الأداء، أما بعد عام 1970، وبسبب سياسة الانفتاح التي انتهجتها دولة ”أنور السادات”، فقد عادت صناعة السينما إلى يد القطاع الخاص، والذي من البديهي أن يكون همه الربح قبل كل شيء، ولكي يحصل أصحاب هذا القطاع على أكبر قدر من الأرباح، وتحت منافسة التلفزيون الذي بدأ يعرض المسلسلات والأفلام الملتزمة، وللهبوط الحاد في أعداد دور السينما، فقد بدأت موجة من الأفلام الهابطة التي لا تقيم للقيم وزناً، ولا للمباديء أهمية، وبدأ التركيز على مفاتن الجسد على حساب القصة الهادفة، فأعطى هذا الإسفاف أُكُلَه، وأقبل الجمهور، وخاصة منه الشباب، على دور السينما بغزارة أرضت المنتجين والمخرجين والممثلين، وقد كانت السيدة ”إلهام شاهين” من بطلات أعوام الثمانينات، حيث بدأت مسيرتها الفنية عام 1981 بفيلم (أمهات في المنفى)، ومنذ ذلك الحين شاركت في نيف وسبعين فيلماً سينمائياً، وأكثر من عشرين مسلسلاً تلفزيونياً. وانعكاساً لظهور التيار الديني بعد ثورة 25 يناير المصرية، فقد ظهرت أصوات تدعي حرصها على الإسلام بطريقة استعراضية، تخاطب عقول العامة من المسلمين، طمعاً في الحصول على أصواتهم في الانتخابات بكافة ميادينها، ومن هؤلاء كان صوت الداعية ”عبد الله بدر”، وهو في موقعه الإلكتروني يعرف نفسه بأنه ( من مواليد القاهرة، تخرج من جامعة الأزهر، قسم التفسير، ثم أصبح يدرس التفسير والحديث، وكانت رسالة الدكتوراة التي يعدها للمناقشة عن تفسير الفخر الرازي)، والمرء يعجب من التناقض الحاد بين ثقافة الدكتور المذكور، والأسلوب الذي اتبعه في نقد الإسفاف في السينما المصرية، فهو لم يعمم خطابه على ممثلات الإغراء دون ذكر أسمائهن، بحيث يتقي الزلل الذي أوقع نفسه فيه، لكنه باختياره واحدة من الممثلات ”المبتذلات!” دون غيرها، مع وجود الكثرة منهن، يوحي بموقف شخصي لا علاقة له بالقيم التي يتكلم عنها، علاوة على أن حديثه الغاضب عن الممثلة المذكورة قد حمل في طياته مفارقات ليس أقلها قوله (أننا كنا ونحن شباباً نرى أفلامها – أولادنا ونساؤنا يرون أفلامها، علمت أبناءنا الزنى!!!،،، إلخ)، ويصف أعمالها بأنها ( عريُ – وهذا صحيح – وخلاعة – وهذا صحيح – ومجون – وهذا صحيح -، وزنى، وهنا بيت القصيد). حيث أن هذا الداعية الإسلامي المثقف لم يتنبه إلى خطورة هذه التهمة الأخيرة، فتهمة الزنى من أخطر ما يقدم عليه مسلم تجاه امرأة مسلمة، فهذه التهمة – خلافاً عن غيرها من التهم – لا تكتفي بشاهدين، بل تحتاج إلى أربعة شهود، يقسمون بأنهم رأوا واقعة الزنى بتفصيلها المخجل دون أدنى شك أو ريبة ، وهي شهادة أكثر من مستحيلة، إذ انه حتى الحيوانات لا تمارس الجنس بهذه الطريقة المكشوفة، لذا فإن اتهام ”إلهام شاهين” هنا تبدو تهمة باطلة، يستحق عليها من أطلقها عقوبة الجلد ثمانين جلدة، وحرمانه من قبول شهادته أمام المحاكم. إذن تهمة الزنى خطيرة إلى الحد الذي يمنع كل عاقل من إطلاقها واتهام أحد بها، وفي هذا حفاظ من المشرع على أعراض المسلمين، فالزنى بالعموم موجود لا مجال لنكرانه على أرض الواقع، والدعارة كما هو معلوم من أقدم المهن في تاريخ البشرية، أما وجود أربعة شهداء، فهو بحكم المستحيل، والسؤال المحير: ألم يكن ذلك الداعية – وهو أعلم بكثير من غيره في الأحكام الشرعية – ألم يكن واعياً بخطورة ما أقدم عليه، وإن كانت زلة لسان، وهذا احتمال وارد لو ادعاه، ألم يكن من واجبه المسارعة إلى تصحيح خطئه؟.

    كل هذا هو المدخل إلى الموضوع، أما صلبه، فلا بد أن يناقش جريمة الزنى كما وردت في القرآن الكريم، كما لا بد أن يناقش تخبط علماء الشريعة والقائمين على تطبيقها في مجال رؤيتهم لعقوبة الزاني والزانية. فالقرآن الكريم، وخلافاً للرأي الشائع، لم ترد فيه أية إشارة واحدة لعقوبة الرجم على المحصنين (المتزوجين)، والزنى بدأت الإشارة إليه في القرآن الكريم بلفظ (الفاحشة)، والفاحشة أوسع من (الزنى)، إذ أن الفواحش هي كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وهي كثيرة والزنى واحد، يقول تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم- النجم 32)، فقد جاء ذكر الفاحشة بمعنى الزنى في الآيتين 15/16 من سورة النساء: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا – النساء 15-)، وفي الآية التالية (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما – النساء 16)، من الآية الأولى يتبين أن العقوبة في بدايات تشريعها قد اشترطت أربعة شهود، وكانت تنحصر في حبس الزانية في البيت حتى الموت، أو تجد مخرجاً كأن يقبل أحد الزواج بها، أما الآية الثانية، فتشير إلى العقوبة بشكل عام وهو الأذى، الذي ربما يكون معنوياً أو جسدياً، ولكنها تفتح باب التوبة للزانيين. كان ذلك في سورة النساء، وترتيب نزولها في القرآن الكريم الثانية والتسعين، أما في سورة النور التي جاء ترتيبها المئة وثلاثة، فقد ذكرت جريمة الزنا باللفظ الصريح (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين –النور- 2)، وتوصف فاحشة الزنى بالخصوص بأنها (مبيِّنة) أي تظهر للعيان بدون لبس أو تخمين، إذ حتى لو وجد الزوج رجلاً مع زوجته وفي غرفة النوم، فإن ذلك لا يمكّن الزوج من اتهام زوجته بالزنى، إذ أنه في هذه الحالة تتم بينهما الملاعنة، والملاعنة الشرعية كما في النص القرآني لا يترتب عليها عقوبة دنيوية، بل يترك أمر عقاب المرأة إلى الآخرة كما ورد في آيتي الملاعنة في سورة النور(6-7)، والعقوبة المقررة شرعاً هي الجلد مئة جلدة لكل من الزاني والزانية (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين – النور 2)، وهذا لا جدال فيه لأنه مقرر بالنص، أما موضوع رجم المحصنين والمحصنات، فلم يرد ذكره بتاتاً في القرآن الكريم، بل احتج بعض رواة الحديث بحديث يبدو متهافتاً حين التمعن فيه، حيث ورد أن رسول الله (ص) سأل اليهود عما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة من عقوبة بشأن يهودي ويهودية زنيا، فأخبروه بأنها الرجم حتى الموت، فأقرهم عليها، وذلك قبل أن تنزل الآية رقم 2 من سورة النور السابق ذكرها، أما ادعاء بعض الشيوخ أن الرجم هو عقوبة الزاني المحصن، فيدحضها الآي الكريم بشكل لا لبس فيه، إذ كيف يمكن أن تنصّف عقوبة الموت بالرجم أو تضاعف، ففي الآية 25 من سورة النساء، تكون عقوبة المرأة الزانية من الذين ملكت أيمانكم من الفتيات المؤمنات نصف ما على المحصنات من العذاب، فهل يعقل أن يكون هناك نصف رجم،أما زوجات النبي (ص)، فعليهن لو ارتكبن فاحشة، ضعف ما على النساء الأخريات (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا – سورة الأحزاب 30)، فهل يعقل أن يكون هناك ضعف رجم. أما الزنى الذي يستحق عليه من قام به عقوبة الموت، فهو الزنى العلني الفاضح الذي يتباهى به الزناة، والذي يؤدي إلى إشاعة الرذيلة بين أفراد المجتمع، وذلك من خلال ممارسته والمجاهرة به علناً، أو من خلال ترويجه لمكسب تجاري، ففي هذه الحالة يلجأ ولي الأمر، أي القاضي، إلى تطبيق حكم آية الحرابة التي تقول (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض – المائدة 33)، وهذا الحكم المقرر في الكتاب الكريم بالنص لا شك يجد قبولاً في نفوس أفراد المجتمع لأنه صيانة لهم، وتطهيراً لأفرادهم من رجس الفاسدين.

    والآن، لو ختمنا هذا المقال بموضوع قذف الداعية ”عبد الله بدر” للممثلة ”إلهام شاهين”، فيبدو أن الواقعة قد أطفئت بتسوية رضيت فيها ”إلهام شاهين”، بل خضعت للتنازل عن حقها، إذ كان يمكن للسيدة أن ترفع دعوى قذف ضد الداعية الذي اتهمها بالزنى صراحة بالصوت والصورة، وفي هذه الحالة كان لا بد أن يقع نظام الإخوان المسلمين الجديد في حرج وهو لمّا يلملم نفسه بعد في سدة الحكم، فمحاكمة داعية إسلامي والحكم عليه بالجلد وفق النصوص القرآنية، أو حتى بعيداً عن النص القرآني، فالمادة 306 من القانون المصري تقول:( إن كل سب لا يشتمل على إسناد واقعة بل يتضمن بأي وجه من الوجوه خدشاً للشرف والاعتبار يعاقب عليه بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تزيد على مئتي جنيه)، وفي أي من هاتين الحالتين، تطبيق النص القرآني أو القانون المدني، فإن ذلك كان سيشكل حرجاً ما بعده حرج للنظام السياسي الجديد، إذ أن التهمة تتلبس المتهم من رأسه إلى أخمص قدميه، أما لماذا لم ترفع السيدة دعواها، فأحسب أنها قد هددت، إن هي استمرت في المقاضاة، بتطبيق آية الحرابة المذكورة عليها، وقد قيل أنها تلقت اتصالاً ودياً هاتفياً من الرئيس محمد مرسي، لا بد أنه قد حمل تلميحاً إلى تطبيق الآية المذكورة عليها.

    من المؤسف له أن حركة الإخوان المسلمين، والتي هرمت، فزاد عمرها على الثمانين عاماً، ما زالت تحتضن تحت جناحها أمثال هذا الداعية الذي تصرف برعونة وبتصادم مع قيم الإسلام السمحاء، فقد نسي، من بين ما نسي، أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه أمام كل من يريد عبوره، و(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء – النساء 48 – 116) إذ يمكن أن تتحول السيدة ”إلهام شاهين” بين عشية وضحاها – كما حدث مع كثير غيرها من الممثلات – إلى داعية إسلامية، ربما تكون أكثر منطقية والتزاماً، وأعمق إيماناً، وأكثر جذباً للمتطلعين إلى التوبة، من ذاك الذي تهور فاتهمها في شرفها دون أن يقدم على ذلك أي دليل شرعي يثبت تلك التهمة الشنيعة، تهمة القذف.