Thursday, December 20, 2012

تهويمات في اللا مكان واللا زمان



    أن تكتب – ككاتب يحترم نفسه وكلمته – مقالاً تربط فيه بين السياسة والاقتصاد، أو بين السياسة وعلم الاجتماع، أو بين السياسة والجغرافيا، أو بين السياسة وأي شيء آخر، فهذا مفهوم ويتوقع أن يلاقي الاستحسان والقبول، أما أن تربط بين السياسة وسد هائل من الخرسانة، فهذا تهويم وهذيان لن يُغفر لك، وربما صرف عنك أكثر القراء صبراً وجلداً.

    لكن القصة من الطرافة بحيث تستحق أن تُروى، ففي يوم صيفي قائظ، رمتني إحدى رحلاتي التي لا تنتهي في مكان لا ينتمي إلى مكان، وفي زمان لا ينتمي إلى زمان. كنت أقف في منتصف المسافة الفاصلة بين ولايتي أريزونا في الشرق ونيفادا في الغرب، أبعد عن كل منهما مئة وتسعين متراً بالتمام والكمال، ولا أدري لأي منهما أنتمي مكانياً، فأشعر بأنني في اللا مكان، وأنظر إلى جهة اليمين، فأرى ساعة ضخمة تنتصب على عمود خرساني في أريزونا تشير عقاربها إلى الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق، وألتفت إلى جهة الشِّمال، فأرى ساعة أخرى تنتصب على بر نيفادا وعقاربها تشير إلى العاشرة وخمس دقائق، فلا أدري لأي منهما أنتمي زمانياً، فأشعر أنني أقف في اللا زمان،،، يملؤني إحساس غريب بأنني موجود في اللا مكان واللا زمان.

    أنا هنا في منتصف قمة سد ”هوفر” الشهير، ذاك الذي أنشيء في بداية ثلاثينيات القرن الماضي بين ولايتي أريزونا ونيفادا، لكي يقبض على عنق نهر الكولورادو، فيعتقل مياهه خلف جداره الصلب الذي يتألف من كتلة خرسانية هائلة، وبذلك يؤمن المياه لمناطق شاسعة صحراوية أو شبه صحراوية، ويولد طاقة هائلة من الكهرباء، ويمنع أخطار فيضان النهر في بعض السنين. معلومات المركز السياحي في إدارة السد تقول بأن ارتفاعه يصل إلى 221 متراً، وعرضه عند القاعدة 200 متر، بينما يبلغ عرضه عند القمة 14 متراً، وطوله 380 متراً، وبذا يكون وزن كتلته الخرسانية 6 ملايين طن، (حجمها 2,5 مليون متر مكعب، مضروباً بـ 2,4 طن وزن المتر المكعب من الخرسانة). أما مساحة البحيرة، بحيرة ”ميد”، التي تتشكل وراء السد – تلك التي أنظر إليها الآن – فتبلغ 640 كم مربعاً، أي حوالي ضعف مساحة قطاع غزة، عمقها في المتوسط حوالي 180 متراً، أما كمية المياه التي تتجمع فيها فتبلغ 35200 كم مكعب (لأنه حجم)، أي 35 مليار ومئتي مليون متر مكعب، ولو اعتبرنا أن وزن المتر المكعب من المياه هو طن واحد، لكان وزن المياه التي يحتجزها السد يزيد على 35 مليار طن، فتكون المعادلة ببساطة أن 6 ملايين طن من الخرسانة تسيطر على 35 مليار طن من المياه وتتحكم بها، أي أن وزن المياه يعادل 5833 مرة ضعف وزن السد.

    بينما غص المكان بعدد كبير من السياح الذين انشغلوا بالتقاط صور للبحيرة من جهة الشمال، ثم القفز إلى الجهة الأخرى لتصوير جسم السد من جهة الجنوب، كان ذهني يقفز في عالم آخر له زمانه ومكانه،،، زمانه عصر اضطهاد وتسلط وبطش، تكمم فيه الأفواه، ويرمى الناس في السجون بلا محاكمة دون أن يعلم عنهم ذووهم أي شيء، وفرد أو عائلة تحكم البلاد عقوداً وعقوداً من السنين،،، أما مكانه فمساحات شاسعة من بلدان العالم الثالث، تزخر بموارد حد الغنى الفاحش، بينما تتضور شعوبها جوعاً حد الموت،،، أنظمة الحكم تلك وجدتُ بينها وبين شعوبها، وبين هذا السد وهذه البحيرة، شبهاً كبيراً. تصورت البحيرة شعباً هائلاً بقدراته وخيراته وجيشانه،،، هائل العدد هول عدد الأمتار المكعبة من مياه البحيرة،،، قادر هادر عندما ينطلق بحرية في مجراه الإنساني،،، نافع لنفسه وللإنسانية بعطائه عندما يحوز حريته، لكن، وكما يرقد النهر الهادر هنا خلف هذا السد الديكتاتور، – والذي بحجمه الضئيل مقارنة مع حجم المياه – يستطيع كبح جماحها، يرقد الشعب خلف حكم الدكتاتور، ذاك الذي بنى جسم نظامه السياسي باستخدام كمية هائلة من الخرسانة السياسية، جمعها على شكل خلطة من الخانعين والمنتفعين والخونة، دعمته في صموده أمام فوران شعبه وتدفقه، فكبح جماحه، وحوله إلى بركة راكدة آسنة، ينمو فيها العفن، وتتراكم على حواشيها الطحالب،،، يأسن ماؤها حتى تنتن رائحته، وتتكاثر فيها الكائنات البحرية التي يأكل الكبير منها الصغير. لكنه، وبعقلية خبيثة هي جزء من تركيبته النفسية والأخلاقية، يحرص الدكتاتور على السماح ببعض مظاهر الحرية للذين احتجزهم وكبلهم، فكما يعلم السد أنه لا يستيطع كبح جماح المياه خلفه إلى الأبد، فقام بتصريف كميات منها من خلال فتحات في الجهة الأخرى منه حيث مخرج المياه حتى لا تجرفه في لحظة طوفان، كذلك فعل الديكتاتور، فسمح لشعبه بالتنفس المحدود عبر فتحات مسيطر عليها ومتحكم بها، كبعض الصحف المأجورة التي تهاجم الديكتاتور فقط في شكل ربطة عنقه، أو تسريحة شعره، أو لون عينيه، ولا تتجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، وكذلك من خلال أحزاب كرتونية، تسمى أحياناً ”جبهة القوى الثورية”، وأحياناً أخرى ”اتحاد المعارضة الوطنية”، أو ربما ”كتلة الخلاص الوطني”، إلى غير ذلك من الأسماء التي يتفضل الدكتاتور باقتراحها، وبينما يحتل نواب هذه الأجهزة الكرتونية كراسيهم في مجلس الشعب، إلى جانب حزب الأغلبية، حزب السلطة، ينامون ملء جفونهم خلال معظم الجلسات، وعندما يستيقظون أحياناً، يطالبون بصوت عالٍ باستجواب وزير التموين، أو حتى رئيس الوزراء نفسه، حول أسعار الطماطم والبقدونس، أو يقترحون زيادة رواتب نواب الشعب بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، وكذلك مضاعفة أسعار المواد التموينية حفاظاً على صحة الشعب حتى لا يأكل الناس كثيراً، فيصابون بالسمنة وما ينتج عنها من ارتفاع في ضغط الدم والسكر والكولوسترول، ورفع الضرائب على كل شيء للتمكن من سداد قروض البنك الدولي، ولو بالغ هؤلاء النواب وتطرفوا في مواقفهم الناطقة باسم الشعب!، لتقدموا باستجواب لوزير المالية حول عدم دفعه فواتير استهلاك الماء والكهرباء الخاصة بقصره ومصانعه. كذلك لا ينسى الدكتاتور بعض الكتاب المنافقين لكي يساعدوه في التخفيف من كبت جماهير شعبه، فلديه من يكتبون المسرحيات النارية الوقع التي تهاجم قشور حكمه ولا تنفذ إلى العمق، أو الأفلام السينمائية التي تفضح ممارسات الفاسدين، لكنها لا تقترب من عتبات القصر الجمهوري، كما يجد المخرجين والممثلين لهذه الأعمال، أولئك الذين يصل بهم الغرور والجهل إلى حد الادعاء بأنهم إنما يقومون بترسيخ الديمقراطية الشعبية بأعمالهم الوطنية، بينما لا يزيد دورهم الحقيقي على تخفيف الاحتقان الشعبي، ومن ثم إطالة العمر السياسي للدكتاتور. هي مجموعة مطبلة مزمرة، تأتمر بأمر سيدها – الدكتاتور – فلا تتنفس إلا بعدد الأنفاس المسموح لها به، ولا ينطلق لسانها إلا عندما يضغط الزعيم على زر التشغيل. ولكي يكتمل المشهد، لا يمل الدكتاتور من التذمر من الصحافة الوطنية التي تهاجمه ليل نهار، ومن الأحزاب التي تنهش لحمه بأنياب نوابها وكتاب صحافتها، والمسرحيات والأفلام التي أضحكت الجماهير عليه وعلى عائلته، لكنه يصر دائماً على أنه متمسك بهذا العرس الديمقراطي!. كل ذلك يجري بينما مياه الشعب راكدة ساكنة، لا حراك فيها سوى عند فتحات التصريف تلك،،، تصفق دون أن تعي ما تسمع، وتؤيد دون أن تعلم ماذا تؤيد،،، تردد الشعارات كالببغاوات،،، فرِحةٌ بوجود انتخابات حتى ولو كانت مزورة،،، لا تحتفل سوى بعيد ميلاد الرئيس، ولا تذبح الخراف فتتذوق طعم اللحم، إلا عندما يزور سيادته إحدى القرى لتدشين صنبور مياه، وعندما ترى تلك الجماهير وجه الرئيس الضرورة! من خلف زجاج سيارته المصفحة، لا تنام ليلها من شدة الفرح، ولو تجرأ ومد يده مصافحاً، لتهافتت عليها الشفاه مقبلة إياها وكأنها تلثم الحجر الأسود على جدار الكعبة،،، استراحت بين يدي حكمه المديد، فأسِنَتْ وفسدت حد العفونة. ذلك هو السد والبحيرة، وهذا هو الدكتاتور والشعب.

    جميع الناس تذهب إلى الأماكن السياحية لكي تعود منها بصور تذكارية عن رحلاتها الممتعة، ثم لتحدث الأهل والأصدقاء عنها، أما أنا، فبدلاً من الاستمتاع بما أرى كما يفعل الآخرون، إلا أنني، ونظراً لسوداويتي القاتلة التي تميزني عن أقراني من الكتاب المتفائلين، أعود محملاً بهموم عالمنا الثالث التعيس، أجترها كجمل صبور في بيداء قاحلة، وأكتوي بلهيبها كفراشة حلقت حول نور شمعة قاتلة، لكنني، ولكي أخفف بعضاً من ثقل هذه الهموم عن نفسي، وحتى أحفظ توازنها وثباتها استعداداً لرحلات مقبلة، أقوم – وبنوع من العشم – بتوزيعها على القراء الصابرين، متمثلاً القول الشائع:( وزّع الحمل، بينشال).


No comments: