Saturday, December 8, 2012

المقامة الماسوشية:( هذه ترجمة حرفية، لنص أسطورة شعبية، وجد محفوراً على جدران معبد في إحدى إمبراطوريات أمريكا اللاتينية، والتي اندثرت منذ مليون سنة قبل الميلاد،،، للدقة العلمية ).




    لم يصدق الإمبراطور ما تسمعه أذناه وما تراه عيناه، وقد أحاط به وزراؤه وقادة جيشه ومستشاروه ومن والاه،، عندما قال له مندوب الشعب بلهجة ملؤها التذلل والاعتذار، مع مسحة من العزم والإصرار:
-         سيدي الإمبراطور، إن شعبكم الذي يحبكم، ومستعد لدفع حياته فداء لكم، هذا الشعب الذي تعلمون أنه آخر ما يهتم به الحاكم في هذا البلد العظيم،،، شعبكم الذي بايعكم بالإجماع يوم توليكم العرش، وأقسم على أن يفديكم بروح وبماله وبكل ما يملك، شعبكم الوفي هذا أرسلني إليكم اليوم راجياً منكم التلطف والتكرم والتعطف بتلبية رغبته، وتحقيق أمنيته، وهو يرجو أن تكون هذه آخر آمانيه التي يتوق إليها، وخاتمة مطالبه التي يصر عليها، وتتكرمون بها عليه، وبذلك تردون جميل خضوعه لكم أضعافاً مضاعفة إليه.
-         تكلم يا مندوب الشعب العظيم، فمنذ توليت حكم هذه الإمبراطورية، وأنا أعمل ليل نهار على خدمتكم وتلبية مطالبكم، وتنفيذ ما يدور في رأسي بموافقتكم أو بمعارضتكم، والعمل بمشيئتي سواء بتأييدكم أو بممانعتكم، وأنا هنا رهن إشارة الشعب الذي برهن لعقود طويلة على الخنوع تحت حكمي السديد، واستكان بلا حراك أو تذمر خلال عهدي المديد،،، تكلم ولا تخف أيها المندوب النجيب، ماذا يريد مني شعبي  الحبيب؟.
-         سيدي الإمبراطور: بما أنه قد مضى علينا - نحن الشعب – حوالي المئة قرن الماضية من الزمان ورقابنا تحت نعالكم، ومن قبل ذلك تحت نعال آبائكم وأجدادكم، وأبصارنا عند مستوى أقدامهم وأقدامكم، ورقابنا اعوجت لكثرة طأطأة رؤوسنا أمامهم وأمامكم، ولأننا شعب مسكين لا يستحق عظيم كرمكم وعطائكم، ولأننا قمنا بالقدر الكافي من الخنوع لعرشكم ومقامكم، وعقاباً من الله لنا على تذللنا أمامكم، والذي هو أشرُّ من عقوق الوالدين، وأسوأ من قتل الحسن والحسين، لكل ذلك فقد رمانا الله بعقدة نفسية يسمونها "الماسوشية"، والتي تعني – عافاكم الله - الاستمتاع بالإذلال المفرط والتعذيب المحبط، والذي نتمنى أن يصل في نهايته السعيدة إلى الموت الزؤام، كذلك يعرف شعبكم العظيم  بفطنتته التي لا تغفو ولا تنام، أنه - وكما أصيبت نفوس أفراده بتلك العقدة - فقد أصابتكم أنتم وحاشيتكم عقدة نفسية، تدعى "السادية"، والتي تعني التلذذ بإذلال الناس حد إقناعهم بأنهم أقل أهمية، وأدنى قيمة من البهائم، والاستمتاع بتعذيب الآخرين حتى الموت باعتبارهم نوعاً من سقط المتاع ورخص الغنائم، لذا، ومن منطلق الوفاء لقيادتكم التاريخية، واعتماداً على وعودكم بأن تكونوا مخلصين لنفوس شعبكم الوفية، وحرصكم الدائم على منحه الرعاية الأبوية، فقد جئت إلى أعتاب عظمتكم اليوم لكي أطلب منكم، باسم الشعب، واستكمالاً منه لهذه العلاقة التاريخية المميزة بينكم وبينه، والتي غمرت نفوس أبنائه بالامتنان والشكر والعرفان لشخصكم السامي الكريم، جئتكم باسم المساجين الذين أكلت عتمة الزنازين زهرة شبابهم، والتهمت سياط الجلادين لحم ظهورهم وجنوبهم وأكتافهم، وامتهنت أحذية جنودكم ما تبقى لهم من شهامتهم وكراماتهم،،، باسم الفقراء الباحثين عن قوتهم في صناديق القمامة، وباسم أطفال الشوارع وجموع اليتامى،،، باسم الأرامل والمشردين، الذين أصبحوا الأغلبية الساحقة في شعبكم الخانع المستكين ،،، باسمهم جميعاً جئتكم راجياً أن تبادروا إلى تخليصهم وتخليص أنفسكم من تلك العقد الغبية: السادية والماسوشية.
    نظر الإمبراطور إلى وجوه قادته ووزرائه ومستشاريه، فوجد على محياها علامات الرضى والترحيب والعجب، لِما سمعوه من مندوب الشعب، إلى درجة أن بعضهم لم يملك نفسه من التصفيق، بل والبكاء تأثراً بما يرى ويسمع، فاستمروا بالتصفيق لساعات أربع. ابتسم الإمبراطور مرحباً بهذا المطلب الذي وجد في نفسه قبولاً، وانشرح صدره به لكونه عملياً ومعقولاً، وعبر عن تأييده له بقوة، خاصة وأنه يمنحه الفرصة للبر بالقسم الذي أداه يوم تولى إمبراطوراً منذ سنوات لا يذكر عددها، لا يهم منذ متى، المهم أنه ما زال يتذكر القسم، ولأنه يخاف الله، فالأيمان لها قداستها، وللعهود مكانتها وحرمتها، من نكص عنها تلبّسه العار والشنار، ومن نقضها كان مصيره جهنم وبئس القرار، ولما تساءل الإمبراطور عن الكيفية التي يرتئيها مندوب الشعب لتنفيذ هذا المطلب، ذكّره المندوب بأن الشعب قد أنفق من قوت يومه وعرق جبينه على قواته المسلحة، التي يعتمد عليها في أن تكون خادمة لما يطلبه الشعب من حاجاته الملحة، خاصة وأنها من الشعب وإليه، وتعتمد – بعد الإمبراطور – على الله وعليه، فاشتعل حماس القادة العسكريين، ودارت أعينهم عجباً ذات الشمال وذات اليمين، وازدادت النجوم على أكتافهم لمعاناً، ورقصت الميداليات على صدورهم فرحاً وافتتاناً، فانفرجت أسارير الإمبراطور، وأوعز إلى قادته أن يكونوا هم وجنودهم جاهزين لتنفيذ رغبة شعبه المقهور، فقد جاءهم اليوم الذي يردون فيه الجميل لأبناء شعبهم التقي، وأمرهم الإمبراطور بتنفيذ مطلب هذا الشعب الوفي، طبقاً لرغبته التي يستحيل أن ترد، ولإراته التي لا يمكن أن تحد.
  في الأيام التالية لهذا اللقاء التاريخي الفريد من نوعه، بدأ القادة وجنودهم بتنفيذ مجازرَ قُتِلَ فيها مئات الآلاف وشرد الملايين، مستخدمين فيها جميع أنواع الأسلحة المتوفرة لديهم من سيوف ورماح وخناجر وسكاكين، حتى المنجنيقات استخدمت في دك المدن والقرى، وكان القتل هائلاً كما لم ُيرَ، إلا أنه لم يكن شاملاً كلَّ الورى، وورغم تدمير الكثير من المنشآت، لكن التدمير لم يكن واسعاً، والخراب لم يكن جامعاً مانعاً، وللأسف، فقد نجى الكثيرون من أفراد الشعب من الموت، فبدأت شكاوى وصيحات الجماهير التي نجت، وضج الناس باتهام الإمبراطور وحاشيته، ووزرائه وقادته، بالتمييز والطائفية، في القتل بين أفراد الشعب الواحد حسب اللون والهوية، مما أدى إلى موت قسم وبقاء قسم منه على قيد الحياة، فطلب مندوب الشعب أن يقابل الإمبراطور مرة ثانية وعلى عجل، وفي هذه المرة، قدم المندوب إلى الإمبراطورالتماساً من الشعب يطلب فيه زيادة وتيرة القتل واتساع حملة التدمير، ولما تذرع الإمبراطور بأن بعض القادة والجنود يمتنعون عن تنفيذ الأوامر لأن جميع الناس بدوا مسالمين، هوَّن المندوب الأمر عليه، وأمعن في النفاق والخبث بين يديه، فاقترح على الإمبراطور أن يرسل بعض عناصر استخباراته من النساء والرجال، لكي ترمي الحجارة وجميع ما تصل إليه أيديها على الضباط والجنود من الخلف ومن اليمين ومن الشمال، وبذلك يستفزونهم للانخراط في المعركة الفاصلة، التي يجب أن يكون هدفها السامي النبيل إفناء جميع الشعب بضربة قاتلة، وتخليصه من عقدته اللعينة السادية، وكذلك تخليص الإمبراطور وحاشيته من عقدتهم المزمنة الماسوشية.
    وبالفعل تم تنفيذ عملية الإبادة هذه المرة بنجاح منقطع النظير، فبعد شهر واحد أو نحوه لم يبق من الشعب أي فرد من صغير أو كبير، فقد أبيد الجميع وهم فرحون متلذذون بالموت، فاستراحوا من متاعب ماسوشيتهم اللعينة، وشفي الإمبراطور وقادته من عقدتهم المشينة، وبذلك نجح الإمبراطور – بناء على طلب شعبه الذي لا يرد - في علاج نفسه وحاشيته وقادته من ناحية، وتخليص شعبه المخلص الوفي من ناحية ثانية. بعد انتهاء المجازر والمذابح بالتوالي، ومواراة الضحايا ثرى وطنهم الغالي، أقيم نصب (الشعب المجهول) على قمة التل المجاور لقصر الإمبراطور، الذي سار وقادة جيشه الباسل في موكب فخور، بين صفين من الحرس الإمبراطوري الذين يرفعون قنطرة من السيوف، بينما هرع بعض الخدم يرحبون بالضيوف، ينثرون أمامهم موكبهم البخور، ويقدمون لهم القهوة العربية والتمور، وفرقة موسيقى الجيش تعزف لحن الانتصار العظيم، وأسراب من طيور معدنية تقرقع في الفضاء الرحيب، محلقة بصوتٍ مدوٍّ فوق موكب الحفل المهيب، وقام الإمبراطور بوضع إكليل من الزهور على النصب التذكاري، وقد زين بشريط أسود كتب عليه بخط أحمر ناري:(هنا يرقد الشعب المجهول الذي ضحى بنفسه من أجل خلاص أفراده، وفي سبيل راحة إمبراطورهم وسعادة أولاده وأحفاده).
    ومنذ ذلك اليوم والإمبراطور ووزراؤه وقادته وحاشيته يعيشون بفرحة غامرة، ويهنأون بسعادة آسرة، ولا ينسون وضع إكليل من الورود كل سنة على قبر الشعب المجهول، في حفل مهيب يسلب الألباب والعقول، كيف لا وقد ضحى الشعب بنفسه، من أجل إمبراطوره وأسرته وحرسه، بعد أن تفضل الإمبراطور العظيم بالقضاء عليهم، لأن الأصل في شرعية الحاكم العادل تكون من الناس وإليهم.

No comments: