Sunday, December 2, 2012

جرم الدعاة في قذف المحصنات



    اتهام الداعية ”عبد الله بدر” للسيدة ”إلهام شاهين” بالفاحشة قد يكون مدخلاً ومخرجاً مناسبين لهذا المقال. فالسيد المذكور اتهم السيدة المذكورة بأنها زانية من خلال الأفلام السينمائية التي شاركت في تمثيلها، دون أن يقدم الدليل الشرعي وهو أربعة شهود عدول، يرون الواقعة بمواصفاتها الشرعية، ذاك الدليل الذي يستحيل عملياً تقديمه بطبيعة الحال، وهو بذلك قد حكم على نفسه بالجلد ثمانين جلدة، حسب ما قرره القرآن الكريم (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون – النور -4- ) (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم – النور 23).

    وللحديث عن هذا الموضوع، لا بد من العودة إلى نشأة السينما المصرية مع بدايات القرن العشرين، فقد عُرِضت الصور المتحركة على شاشة في الاسكندرية في عام 1897، مباشرة بعد عرضها في فرنسا، ثم تتابع بعد ذلك تمثيل وإخراج الأفلام السينمائية، والتي كان أصحاب استديوهاتها ومنتجوها من الأجانب المقيمين في مصر. وربما ركزت الأفلام الأولى على بعض الروايات العاطفية المترجمة، وعلى قصص من تاريخ العرب، إضافة إلى إظهار معاناة الفلاحين، وعلاقتهم بأصحاب الأراضي الجشعين، وقد تميزت تلك الفترة المبكرة من تاريخ السينما المصرية بالالتزام بالآداب الاجتماعية السائدة في ذلك الزمن، فمن نوادر فيلم (الوردة البيضاء)، بطولة محمد عبد الوهاب وسميرة خلوصي، والذي عرض عام 1933(وأذكر أنني حضرته في سينما صيفية بحيفا، حيث أنه في أحد المشاهد يقترب البطل من البطلة، فيتحولان إلى شكل وردة بيضاء، ومن هنا أخذ الفيلم اسمه)، فقد احتج الأزهر آنذاك لدى دائرة الأمن العام (الجهة التي كانت تجيز عرض الأفلام) لأن البطل قبَّل البطلة في أحد المشاهد.

    بعد قيام ثورة يوليو 1952، أممت الدولة قطاع السينما، كونها كانت حكراً على جهات أجنبية، وتميزت الأفلام المصرية حتى عام 1970 بمعالجتها الشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بانحياز تام لمصلحة الجماهير، فظهر بوضوح التركيز على القيم العليا، والجنوح إلى مطلب الحرية والعدل الاجتماعي والتقريب بين الطبقات، وكان من البديهي أن تخلو هذه الأفلام من الإسفاف والانحطاط، سواء في القصة أو في الأداء، أما بعد عام 1970، وبسبب سياسة الانفتاح التي انتهجتها دولة ”أنور السادات”، فقد عادت صناعة السينما إلى يد القطاع الخاص، والذي من البديهي أن يكون همه الربح قبل كل شيء، ولكي يحصل أصحاب هذا القطاع على أكبر قدر من الأرباح، وتحت منافسة التلفزيون الذي بدأ يعرض المسلسلات والأفلام الملتزمة، وللهبوط الحاد في أعداد دور السينما، فقد بدأت موجة من الأفلام الهابطة التي لا تقيم للقيم وزناً، ولا للمباديء أهمية، وبدأ التركيز على مفاتن الجسد على حساب القصة الهادفة، فأعطى هذا الإسفاف أُكُلَه، وأقبل الجمهور، وخاصة منه الشباب، على دور السينما بغزارة أرضت المنتجين والمخرجين والممثلين، وقد كانت السيدة ”إلهام شاهين” من بطلات أعوام الثمانينات، حيث بدأت مسيرتها الفنية عام 1981 بفيلم (أمهات في المنفى)، ومنذ ذلك الحين شاركت في نيف وسبعين فيلماً سينمائياً، وأكثر من عشرين مسلسلاً تلفزيونياً. وانعكاساً لظهور التيار الديني بعد ثورة 25 يناير المصرية، فقد ظهرت أصوات تدعي حرصها على الإسلام بطريقة استعراضية، تخاطب عقول العامة من المسلمين، طمعاً في الحصول على أصواتهم في الانتخابات بكافة ميادينها، ومن هؤلاء كان صوت الداعية ”عبد الله بدر”، وهو في موقعه الإلكتروني يعرف نفسه بأنه ( من مواليد القاهرة، تخرج من جامعة الأزهر، قسم التفسير، ثم أصبح يدرس التفسير والحديث، وكانت رسالة الدكتوراة التي يعدها للمناقشة عن تفسير الفخر الرازي)، والمرء يعجب من التناقض الحاد بين ثقافة الدكتور المذكور، والأسلوب الذي اتبعه في نقد الإسفاف في السينما المصرية، فهو لم يعمم خطابه على ممثلات الإغراء دون ذكر أسمائهن، بحيث يتقي الزلل الذي أوقع نفسه فيه، لكنه باختياره واحدة من الممثلات ”المبتذلات!” دون غيرها، مع وجود الكثرة منهن، يوحي بموقف شخصي لا علاقة له بالقيم التي يتكلم عنها، علاوة على أن حديثه الغاضب عن الممثلة المذكورة قد حمل في طياته مفارقات ليس أقلها قوله (أننا كنا ونحن شباباً نرى أفلامها – أولادنا ونساؤنا يرون أفلامها، علمت أبناءنا الزنى!!!،،، إلخ)، ويصف أعمالها بأنها ( عريُ – وهذا صحيح – وخلاعة – وهذا صحيح – ومجون – وهذا صحيح -، وزنى، وهنا بيت القصيد). حيث أن هذا الداعية الإسلامي المثقف لم يتنبه إلى خطورة هذه التهمة الأخيرة، فتهمة الزنى من أخطر ما يقدم عليه مسلم تجاه امرأة مسلمة، فهذه التهمة – خلافاً عن غيرها من التهم – لا تكتفي بشاهدين، بل تحتاج إلى أربعة شهود، يقسمون بأنهم رأوا واقعة الزنى بتفصيلها المخجل دون أدنى شك أو ريبة ، وهي شهادة أكثر من مستحيلة، إذ انه حتى الحيوانات لا تمارس الجنس بهذه الطريقة المكشوفة، لذا فإن اتهام ”إلهام شاهين” هنا تبدو تهمة باطلة، يستحق عليها من أطلقها عقوبة الجلد ثمانين جلدة، وحرمانه من قبول شهادته أمام المحاكم. إذن تهمة الزنى خطيرة إلى الحد الذي يمنع كل عاقل من إطلاقها واتهام أحد بها، وفي هذا حفاظ من المشرع على أعراض المسلمين، فالزنى بالعموم موجود لا مجال لنكرانه على أرض الواقع، والدعارة كما هو معلوم من أقدم المهن في تاريخ البشرية، أما وجود أربعة شهداء، فهو بحكم المستحيل، والسؤال المحير: ألم يكن ذلك الداعية – وهو أعلم بكثير من غيره في الأحكام الشرعية – ألم يكن واعياً بخطورة ما أقدم عليه، وإن كانت زلة لسان، وهذا احتمال وارد لو ادعاه، ألم يكن من واجبه المسارعة إلى تصحيح خطئه؟.

    كل هذا هو المدخل إلى الموضوع، أما صلبه، فلا بد أن يناقش جريمة الزنى كما وردت في القرآن الكريم، كما لا بد أن يناقش تخبط علماء الشريعة والقائمين على تطبيقها في مجال رؤيتهم لعقوبة الزاني والزانية. فالقرآن الكريم، وخلافاً للرأي الشائع، لم ترد فيه أية إشارة واحدة لعقوبة الرجم على المحصنين (المتزوجين)، والزنى بدأت الإشارة إليه في القرآن الكريم بلفظ (الفاحشة)، والفاحشة أوسع من (الزنى)، إذ أن الفواحش هي كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وهي كثيرة والزنى واحد، يقول تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم- النجم 32)، فقد جاء ذكر الفاحشة بمعنى الزنى في الآيتين 15/16 من سورة النساء: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا – النساء 15-)، وفي الآية التالية (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما – النساء 16)، من الآية الأولى يتبين أن العقوبة في بدايات تشريعها قد اشترطت أربعة شهود، وكانت تنحصر في حبس الزانية في البيت حتى الموت، أو تجد مخرجاً كأن يقبل أحد الزواج بها، أما الآية الثانية، فتشير إلى العقوبة بشكل عام وهو الأذى، الذي ربما يكون معنوياً أو جسدياً، ولكنها تفتح باب التوبة للزانيين. كان ذلك في سورة النساء، وترتيب نزولها في القرآن الكريم الثانية والتسعين، أما في سورة النور التي جاء ترتيبها المئة وثلاثة، فقد ذكرت جريمة الزنا باللفظ الصريح (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين –النور- 2)، وتوصف فاحشة الزنى بالخصوص بأنها (مبيِّنة) أي تظهر للعيان بدون لبس أو تخمين، إذ حتى لو وجد الزوج رجلاً مع زوجته وفي غرفة النوم، فإن ذلك لا يمكّن الزوج من اتهام زوجته بالزنى، إذ أنه في هذه الحالة تتم بينهما الملاعنة، والملاعنة الشرعية كما في النص القرآني لا يترتب عليها عقوبة دنيوية، بل يترك أمر عقاب المرأة إلى الآخرة كما ورد في آيتي الملاعنة في سورة النور(6-7)، والعقوبة المقررة شرعاً هي الجلد مئة جلدة لكل من الزاني والزانية (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين – النور 2)، وهذا لا جدال فيه لأنه مقرر بالنص، أما موضوع رجم المحصنين والمحصنات، فلم يرد ذكره بتاتاً في القرآن الكريم، بل احتج بعض رواة الحديث بحديث يبدو متهافتاً حين التمعن فيه، حيث ورد أن رسول الله (ص) سأل اليهود عما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة من عقوبة بشأن يهودي ويهودية زنيا، فأخبروه بأنها الرجم حتى الموت، فأقرهم عليها، وذلك قبل أن تنزل الآية رقم 2 من سورة النور السابق ذكرها، أما ادعاء بعض الشيوخ أن الرجم هو عقوبة الزاني المحصن، فيدحضها الآي الكريم بشكل لا لبس فيه، إذ كيف يمكن أن تنصّف عقوبة الموت بالرجم أو تضاعف، ففي الآية 25 من سورة النساء، تكون عقوبة المرأة الزانية من الذين ملكت أيمانكم من الفتيات المؤمنات نصف ما على المحصنات من العذاب، فهل يعقل أن يكون هناك نصف رجم،أما زوجات النبي (ص)، فعليهن لو ارتكبن فاحشة، ضعف ما على النساء الأخريات (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا – سورة الأحزاب 30)، فهل يعقل أن يكون هناك ضعف رجم. أما الزنى الذي يستحق عليه من قام به عقوبة الموت، فهو الزنى العلني الفاضح الذي يتباهى به الزناة، والذي يؤدي إلى إشاعة الرذيلة بين أفراد المجتمع، وذلك من خلال ممارسته والمجاهرة به علناً، أو من خلال ترويجه لمكسب تجاري، ففي هذه الحالة يلجأ ولي الأمر، أي القاضي، إلى تطبيق حكم آية الحرابة التي تقول (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض – المائدة 33)، وهذا الحكم المقرر في الكتاب الكريم بالنص لا شك يجد قبولاً في نفوس أفراد المجتمع لأنه صيانة لهم، وتطهيراً لأفرادهم من رجس الفاسدين.

    والآن، لو ختمنا هذا المقال بموضوع قذف الداعية ”عبد الله بدر” للممثلة ”إلهام شاهين”، فيبدو أن الواقعة قد أطفئت بتسوية رضيت فيها ”إلهام شاهين”، بل خضعت للتنازل عن حقها، إذ كان يمكن للسيدة أن ترفع دعوى قذف ضد الداعية الذي اتهمها بالزنى صراحة بالصوت والصورة، وفي هذه الحالة كان لا بد أن يقع نظام الإخوان المسلمين الجديد في حرج وهو لمّا يلملم نفسه بعد في سدة الحكم، فمحاكمة داعية إسلامي والحكم عليه بالجلد وفق النصوص القرآنية، أو حتى بعيداً عن النص القرآني، فالمادة 306 من القانون المصري تقول:( إن كل سب لا يشتمل على إسناد واقعة بل يتضمن بأي وجه من الوجوه خدشاً للشرف والاعتبار يعاقب عليه بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة لا تزيد على مئتي جنيه)، وفي أي من هاتين الحالتين، تطبيق النص القرآني أو القانون المدني، فإن ذلك كان سيشكل حرجاً ما بعده حرج للنظام السياسي الجديد، إذ أن التهمة تتلبس المتهم من رأسه إلى أخمص قدميه، أما لماذا لم ترفع السيدة دعواها، فأحسب أنها قد هددت، إن هي استمرت في المقاضاة، بتطبيق آية الحرابة المذكورة عليها، وقد قيل أنها تلقت اتصالاً ودياً هاتفياً من الرئيس محمد مرسي، لا بد أنه قد حمل تلميحاً إلى تطبيق الآية المذكورة عليها.

    من المؤسف له أن حركة الإخوان المسلمين، والتي هرمت، فزاد عمرها على الثمانين عاماً، ما زالت تحتضن تحت جناحها أمثال هذا الداعية الذي تصرف برعونة وبتصادم مع قيم الإسلام السمحاء، فقد نسي، من بين ما نسي، أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه أمام كل من يريد عبوره، و(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء – النساء 48 – 116) إذ يمكن أن تتحول السيدة ”إلهام شاهين” بين عشية وضحاها – كما حدث مع كثير غيرها من الممثلات – إلى داعية إسلامية، ربما تكون أكثر منطقية والتزاماً، وأعمق إيماناً، وأكثر جذباً للمتطلعين إلى التوبة، من ذاك الذي تهور فاتهمها في شرفها دون أن يقدم على ذلك أي دليل شرعي يثبت تلك التهمة الشنيعة، تهمة القذف.

No comments: