Saturday, March 17, 2012

علبة البودرة



    أومأ لها برأسه ففهمت الرسالة وبدأت بالتثاؤب. يأتيها اليوم بعد غيبة طويلة، واليوم الذي سبق سفره كان دور ضرتها لكي ينام عندها، ، تزوج الثانية طلباً للذرية، ففشل معها في إنجاب طفل منذ ثلاث سنوات، ومع أنه تزوجها هي بعد قصة حب طويلة، إلا أن عجزها عن إنجاب طفل لأكثر من سبع سنوات دفع والدته إلى إقناعه بالزواج بثانية، وماذا يعني ذلك ؟ ، لا يهم، طالما أنها هي حبه الأول وقُبلته الأولى وفراشه الأثير، معها فقط – كما كان يعترف لها – عرف طعم العشق والسعادة، ولكن هكذا هو الرجل: له عيون كثيرة، بينما يحمل في صدره قلباً واحداً ، وطالما أن قلبه لها، فليتزوج حتى باثنتين أخريين، أما أنها تعيش منذ تزوجا في بيت أهله، فذلك أيضاً لا يهم، فمهما كانت مشاعر أمه تجاهها، فهي في النهاية والدته التي أنجبته وتعبت في تنشئته لكي تهنأ هي به، وهذا ما كان يهوِّن عليها كل الإساءات التي تتعرض لها أثناء غيابه عنها . 
    تمطى وتثاءب، نظر في ساعة يده، ثم استأذن العائلة للذهاب إلى الفراش، وصعد إلى غرفة النوم في الدور العلوي، أما هي فقد تذرعت بترتيب الصحون في خزانة المطبخ، وفي طريقها عودتها ألقت تحية المساء على العائلة التي تقضي بقية السهرة في صحن الدار، وصعدت - يسبقها قلبها - إلى غرفة النوم. لمحته يرش وجهه وصدره بعطرهما المفضل، ارتدى ثياب النوم وتمدد على سريره يتصفح مجلة وينتظر. أسرعت هي إلى الجلوس على الكرسي أمام المرآة، وبدأت في طلي شفتيها بأحمر الشفاه، قليل من عطره المفضل ترشه على صدرها وخلف أذنيها. لفرط وجدها، كلما دخل معها غرفة النوم تتخيل نفسها كأنها في ليلتها الأولى، ليلة الدخلة. في إحدى زياراته لفرنسا أحضر لها علبة بودرة فرنسية، يومها قال لها ممازحاً بأن بنات فرنسا يجذبن الرجال من مسافات بعيدة عندما يتضمخن بهذه البودرة، ومنذ ذلك اليوم تقتصد في استخدامها طمعاً في إطالة مدة استعمالها طالما أنه يحب رائحتها إلى هذا الحد، وهل هناك أنسب من هذه الليلة لِلتَّضَمُّخِ بتلك البودرة.
    تفتش عن العلبة فلا تجدها في أدراج خزانة التجميل، ، تعبث أصابعها بعصبية شديدة بين كافة مواد التجميل وبلا جدوى ، بينما تتابعه عيناها من خلال المرآة، ، مازال يتصفح المجلة وينتظر، وما زالت أصابعها تجري من درج إلى آخر ومن خزانة إلى أخرى ، آه ، تذكرت ، ، شقيقته كانت قد تبرعت لها بتنظيف غرفة نومها قبل أيام، فهل كانت بتلك البادرة النادرة ترمي إلى سرقة العلبة؟ ، ، ألحت عليها الفكرة ، فهبطت درجات السلم مسرعة بحجة أخذ بعض الماء من الثلاجة ، وبخفة وسرعة ولجت باب غرفة شقيقته تفتش أدراج خزانتها درجاً درجاً،،، لا شيء ، لا شيء البتة، يا إلهي أين ذهبت علبة البودرة؟، ( ربما وضعتُها بالخطأ في أحد أدراج خزانات المطبخ، ربما ) .. انطلقت إلى المطبخ تمعن في أدراجه وخزائنه تنقيباً تفتيشاً، ، عندما ستجد العلبة سوف تضمخ رقبتها وخديها بتلك البودرة التي يحبها ، وعندما سيتعانقان، سوف يندمج معها وبها حد الذوبان، ، في أول زيارة له إلى فرنسا سوف تطلب منه أن يأتيها بعلبة جديدة، ومن باب الاحتياط ربما أحضر لها أكثر من علبة طالما أن عبقها يحيي فيه نشوة اللقاء ، ويسعّر في حناياه لواعج الشوق، ، هل بدأوا يصنعون في فرنسا نوعيات أفضل من البودرة؟ ، لتدع ذلك إلى ذوقه وتقديره. فتشت في كافة أرجاء المطبخ بلهفة وتوتر، ، أثناء ذلك تتابع بترقب ضوء مصباح غرفة النوم ، ، كلا لم يطفئه بعد ، فهو سينتظرها ولو حتى إلى الصباح، ، ألم يقل لها إنه يعد الساعات والدقائق لكي يلقاها وحيدين في غرفة النوم . . يا ألله ، ، أين هي تلك العلبة اللعينة؟. لا جدوى من التفتيش في المطبخ، ويستحيل أن تكون العلبة إلا في غرفة النوم، ، تصعد بخفة قِطٍّ درجات السلم، ، تتسلل بهدوء داخل الغرفة . . تتجه إلى الدرج المجاور لجهتها من السرير، ، تفتحه ، وللهفتها تجد العلبة المطلوبة، - آه كم أنا غبية: كيف نسيت أنني وضعتها هنا بعد أن استعملتها آخر مرة .
    بينما كانت تفتح علبة البودرة بلهفة غامرة، كان صوت شخير يأتيها من الجانب الآخر للسرير، يؤكد بأن صاحبه كان قد دخل منذ دقائق في سبات عميق .