Saturday, November 10, 2012

واحدة اليوم، والأخرى غداً



            


   
    اهتزت قصبة الصيد في يده بشدة أفزعته وأفرحته في آن واحد، وانحنى رأسُها إلى حد خشي معه انكسارها. ها قد جاءته هذه السمكة اللعينة بعد طول انتظار، فقد رمى صنارته في الماء حتى الآن أكثر من مائة مرة، على ما يذكر، دون أن يظفر بأي صيد، النهر هنا - في القسم الأعلى من مجراه - صعب المراس، شديد الانحدار، أرضه مليئة بالصخور الكبيرة التي تتكسر عليها المياه مشكلة موجات عنيفة عالية. من شدة تخبط السمكة وعنادها خشي على القصبة من الانكسار، وهو غير مستعد لهذه النهاية بعد أن أمل في صيد ثمين. أرخى القصبة إلى أقصى حد ممكن، فارتخى معها خيط الصنارة، وابتعدت السمكة أكثر باتجاه التيار،،، عاود الشد مرة ثانية، فعاودت السمكة التخبط والشد العنيف من جديد،،، تبادل مع السمكة حركات الجذب والإرخاء، وهي ممعنة بكل عنف في محاولة الإفلات من الصنارة.
    عائلته في المنزل تنتظر عودته بأي شيء يؤكل، فمنذ أن صادر مرابي المنطقة أرضه - لعجزه عن سداد الدين - وهو يقتات مع أسرته ما تيسر له من صيد نهري أو بري، والنهر هذا اليوم، على غير عادته، عنيف الجريان عالي التيار، ربما ساعد ذوبان الثلوج في الجبال القريبة على ارتفاع منسوب مياهه، وبالتالي ارتفاع درجة جيشانه وتمرده،،، يتدفق بعنف وكأنه يحاول مساعدة السمكة على الإفلات من الصنارة،،، أصغر أبنائه يجلس القرفصاء غير بعيد على مرتفع من ضفة النهر، مراقباً هذا الصراع العنيف بين الموت الذي يريده والده للسمكة، وبين إرادة الحياة التي تتمسك بها السمكة بعناد واضح ونضال شرس. يلقي الصبي بحجارة كبيرة في النهر يزعج صوتها أباه المتشبث بالقصبة، فيعنفه الأب طالباً منه المساعدة بدل التفرج عليه، والصبي يهرب من تعنيف والده إلى شجيرات توت برية قريبة، يطفيء بثمارها القليلة بعضاً من نيران جوعه. تهدأ السمكة قليلاً، ويبدو أنها قد تعبت من كثرة الشد والخبط، فيتمكن الرجل من لف الخيط على ماكينة القصبة، وكلما ازداد اللف حول الماكينة، ازداد انحناء القصبة، وبالتالي ازداد خطر انكسارها، ومن ثم ضياع السمكة في هذه اللجة، مما يعني طي يوم آخر من أيام الجوع لكافة أفراد العائلة. من شدة مقاومة السمكة اعتقد أنها ستكون كبيرة إلى الحد الذي سيكفي نصفها لإطعام العائلة، والنصف الآخر لبيعه للحصول على بعض الخبز والسكر والشاي، ذاك الذي لم يدخل البيت شيء منه منذ أشهر، ولو كان محظوظاً - مثل ابن عمه الذي عثر منذ سنوات على خاتم من ذهب في جوف سمكة - فسوف يستعيد أرضه من ذلك المرابي اللعين، وسوف تتحسن الأحوال عندما ستعود الأسرة جميعها للعمل- كباقي عائلات المنطقة - في الزراعة، لذا ازداد تشبثاً بالقصبة، بينما ازدادت السمكة تشبثاً بالحياة .

    كثيرون من الصيادين نصحوه بأن يأتي إلى هذه المنطقة من النهر، ففيها تحاول أسماك السالمون القفز عكس التيار للوصول إلى حوض النبع الهاديء لكي تضع بيوضها هناك، وهي في قفزها هذا تتجاوز حتى الشلالات الهادرة ، مدفوعة في ذلك بغريزة حب البقاء، فماذا لو كانت العالقة بصنارته الآن واحدة كبيرة منها؟، وهل سيكون قاسياً عليها إلى حد حرمانها من استمرار نسلها؟، وماذا عن نسله هو،؟ وهل حرص السمكة على استمرار نسلها يتعارض مع حرصه هو على استمرار نسله ؟، وماذا لو استطاع الوصول إلى حل وسط لهذه الإشكالية؟، . . أقسم - بينه وبين نفسه - أنه لو حصل على هذه السمكة، فإنه سوف يأخذها حية إلى حوض النبع في جردل ماء، وهناك سوف يعتصر بطارخها، سامحاً لبيوضها أن تستقر في الماء الهاديء، ومن ثم سيكون من حقه، بعد أن ضمن لها استمرار نسلها، أن يضمن لنفسه استمرار نسله. . هكذا كانت نفسه تحدثه، بينما انهمك جاهداً في لف الخيط على الماكينة التي تعطلت أكثر فأكثر، ولم تعد تستجيب لرغبته في تقصير طول الخيط، ومن ثم تمكينه من تناول السمكة من الماء. هذه الماكينة اللعينة تتعطل الآن، تماماً في الوقت الذي يلزم أن تكون مطيعة له أكثر من زوجته. الطريقة الوحيدة المتبقية لاستخراج السمكة الآن - وبعد أن تعطلت الماكينة - تكمن في أن يتراجع بسرعة عن حافة النهر ساحباً السمكة منه، بعد أن كادت هي أن تسحبه إلى النهر، وبالفعل بدأ بالتراجع إلى الخلف مبتعداً عن النهر، ولحسن حظه، ها هي السمكة تهديء من روعها، فتستكين حركتها، وتمتثل له بالانسحاب التدريجي من الماء، وحتى لا يبتعد كثيراً عن ضفة النهر، فقد وضع القصبة أرضاً وشرع في سحب الخيط من الماء بكلتي يديه، لكن، وبسبب شدة التيار، ولثقل وزن السمكة، فقد كان عليه الجذب بقوة بدأ معها لحم كفيه بالتشقق، فسال الدم منهما بغزارة ، ، ، لا يهم، طالما أن السمكة على وشك الخروج من الماء.

    كانت الشمس قد بدأت بالتواري خلف التلال المجاورة، والظلام قد بدأ يزحف رويداً رويداً مبتلعاً كل الأشياء بوحشة قاتلة، تماماً كما ابتلع الجوع أحشاء العائلة لعدة أيام،،، عندما وصلت السمكة إلى الشاطيء، لم يستطع أن يتبين ملامحها بين طيات الظلام، ولدهشته كانت حركتها قد سكنت تماماً، فربما لشدة تخبطها، أنهكها التعب فاستسلمت في راحة أبدية، تماماً كما استسلم هو إلى فرح غامر . . انتبه إلى ضرورة تجفيف الدم من على كفيه، فمسحهما بحركة عفوية بجانبي بنطاله، وتوجه نحو السمكة ، ، ، فلتبشر العائلة بعشاء دسم، ووداعاً أيها الجوع الكافر، وسواء حملت هذه السمكة في بطنها ذهباً أم لم تحمل، فالبطون خاوية، والأفواه مستعدة حتى لقضم العظم، ومن المؤكد أن جاره لن يتردد في شراء نصف السمكة، والذي بثمنه سوف يستمتع بشرب كأس من الشاي طال انتظاره، أما أن تطبخ زوجته نصف السمكة مقلياً أو مشوياً أو مسلوقاً، فذلك ليس بالأمر المهم. يزداد اقتراباً من السمكة: هل ينظفها الآن بماء النهر، أم يترك أمر ذلك لزوجته؟،،، هل يتابع الصيد لكي يظفر بسمكة أخرى، ربما أكبر من هذه؟، أم يكتفي بما حصل عليه؟،،، قرر أن من الأفضل له أن يعود إلى بيته فوراً بعد أن حل الظلام، خاصة وأن هذه المنطقة تعج بالحيوانات المفترسة، والتي ربما ستجذبها رائحة السمكة، فيقوم أحدها باقتناصها من يده، وهو الذي أنفق يوماً بانتظارها، وأنفقت العائلة يوماً بانتظارهما.

    وصل إلى حيث تمددت السمكة بلا حراك ،، رفعها عن الأرض،، قلبها بين يديه،،، نظر باندهاش إلى رأسها حتى آخرها،،، رفعها إلى فوق، فسال منها ماء النهر مع طين كثيف،،، قلبها مرة ثانية وثالثة،  أغمض عينيه وهز رأسه ثم نظر إلى الأعلى ثم أطرق … سالت دموعه بيأس واضح ، ، نزع منها الصنارة  ورفعها بيده عالياً مطوحاً بها باتجاه النهر . . . الصبي يصرخ في أبيه من بعيد : " لا . . لا .. أرجوك يا أبي ألاّ تعيدها إلى النهر، يبدو أنها على مقاس قدمي، وأنا حافٍ كما تعلم والعيد على الأبواب،،، دعني أجربها الآن، فربما نعود إلى هنا غداً لكي تصطاد لي الفردة الأخرى" .                            

No comments: