Sunday, January 2, 2011

على من تقرأ مزاميرك يا داوود

http://www.alquds.co.uk/images/empty.gif

ذكر الله تعالى اختلاف ألسنة البشر وألوانهم، ووصفه بأنه من آياته: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين-الروم22) ، ومن يصغي بتمعن إلى اختلاف اللغات بين بني البشر، يوقن بأن ذلك من آيات الله بحق، وكون اللغة هي الوسيلة اللفظية لتفاهم الناس مع بعضهم البعض، وتبادل الأفكار بينهم، فإن رقي اللغة يتناسب مع رقي أصحابها الذين يستعملونها، بل لنقل بأن قدرة الناس على التقدم والتحضر تنعكس تقدماً وتحضراً على لغتهم، وهذا واضح في تطور اللغات من البدائية إلى ما هي عليه اليوم، خاصة لدى الشعوب التي أحرزت تقدماً أدبياً وعلمياً كما هو الحال مع اللغات الأوروبية.
ويبدو أن اللغة العربية - كونها واحدة من أسرة اللغات السامية - قد أحرزت تقدماً رائعاً منذ آلاف السنين عبر تداولها ضمن بيئات اجتماعية مختلفة بين عرب الجزيرة العربية، كالمجتمعات الحضرية كما في ممالك اليمن، والزراعية المتمثلة في الواحات، وبين قبائل البدو الرحل، مع الأخذ بعين الاعتبار تباين اللهجات، الذي لم يكن يمنع التفاهم التام بين الناطقين بها على اختلاف بيئاتهم، وربما كان الكمال الذي وصلت إليه اللغة العربية هو السبب الرئيس في أن الله تعالى قد اختارها على باقي اللغات لتكون لغة آخر الكتب السماوية (القرآن الكريم)، ويحضرني في هذا السياق الصحابي عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) عندما كان يستشهد بآية قرآنية، بحيث كان يستهل حديثه بقوله: (سمعت الله يقول) ثم يذكر الآية الكريمة، وهذا في دلالته يوضح نظرة المسلمين الأوائل إلى لغتهم العربية، بحيث أخذت قداستها من أنها اللغة التي خاطب الله بها الناس جميعاً (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)، وقد أدركت الشعوب غير العربية التي أسلمت، قداسة هذه اللغة، فأتقنتها تحدثاً وقراءةً وكتابةً، فقد دَوَّنَ علماء وفقهاء وأدباء الفرس أعمالهم باللغة العربية، ومخطوطات ابن سينا والفارابي وغيرهما ما زالت محفوظة في الجامعات الغربية باللغة التي دونت بها: العربية. وفيما بعد، ومع أن عصور الانحطاط قد شملت معظم مناحي الدولة الإسلامية، بما في ذلك الأدب، غير أن الانحطاط لم يتناول ألفاظ اللغة بمقدار ما تناول مواضيع الأدب ذاتها.
ولو سمحنا لأنفسنا بقفزة زمنية إلى منتصف القرن الماضي، لوجدنا بسرور وفخر تمسك المثقفين باللغة العربية سليمة من أي خلط أو تشويه، ففي ستينيات القرن الماضي كان مدرسونا في جامعة دمشق يعتبرون الخطأ النحوي خطأً علمياً، إذ لو كنت في امتحان في كلية العلوم وكتبت: (نضيف عشر غرامات من كلور الصوديوم) مثلاً، لاعتبر المصحح هذه الغلطة النحوية (عشر، حيث يجب أن تقول: عشرة) غلطة علمية، وخسرت علامة السؤال، كما عرفت صديقاً كان يعمل مصححاً لغوياً لمذيعي نشرات الأخبار في إذاعة دمشق، بحيث يكون جزء من عمله متابعة المذيع أثناء قراءة النشرة، فإذا أخطأ المذيع، ترتبت عليه غرامة مالية تحسم من راتبه مع نهاية الشهر. ذلك العهد بدأ يذوي، وتحللت ذمم المثقفين من تعهدهم صيانة لغة القرآن الكريم، وبدأ اللحن يغزو اللغة رويداً رويداً إلى أن حلت اللهجات العامية مكان الفصحى، فأصبحتَ ترى جوائز المليون تخصص لشعراء بالكاد يفهم جمهورهم الجالس في نفس القاعة ما يقولون، وبدأ مقدمو البرامج الإذاعية والتلفزيونية يستخدمون العامية بزعم أنهم يسايرون الجمهور، غير واعين إلى أنهم هم الذين يفسدون لغة الجمهور، تلك اللغة التي كان يقدمها المثقف المصري فاروق شوشة في برنامج إذاعي جميل حمل اسم (لغتنا الجميلة)، كما بدأت مجلات - خليجية بالخصوص- تصدر باللهجات المحلية، وانتشرت بين الصحف العربية - خاصة الإلكترونية منها - عادة قبول رسائل القراء بلغة عامية أقل ما يقال فيها بأنها تافهة مضحكة.
في منتصف السبعينيات قابلت لأول مرة المرحوم الدكتور أحمد صدقي الدجاني في القاهرة، فوجدته يتحدث باللغة الفصحى، تعجبت لأول وهلة وابتسمت، لكنني أكبرت فيه هذه المبادرة وقوة الشخصية، وتابعت معه الحديث بالفصحى بمتعة لم أتذوقها منذ ذلك اليوم، وقد ذكّرني المرحوم الدجاني بذلك الصهيوني المدعو (أحد هاعام - واحد من الشعب-) الذي قطع على نفسه عهداً ألا يتكلم إلا باللغة العبرية، وألزم بذلك أفراد أسرته، ثم سرت العدوى إلى المجتمع كله، مما أدى بالتالي إلى إحياء اللغة العبرية التي كادت أن تكون في حكم الميتة، وفي ثمانينيات القرن الماضي جمعتني صداقة ببعض كبار تجار الخليج، الذين كانوا يرسلون طلبات شراء بملايين الدولارات إلى اليابان وهونغ كونغ وتايوان، فاقترحت عليهم إرسال طلبات الشراء تلك باللغة العربية، مع بقاء رقم مبلغ الشراء بالأرقام العربية الأصلية، بحيث عندما يرى البائع هذه الأرقام، فإنه سيسارع إلى إحداث قسم للترجمة من اللغة العربية إلى لغته، وبذلك نعمل على الإعلاء من شأن لغتنا، ولكن (على من تقرأ مزاميرك يا داوود). الحفاظ على لغات الأمم هي مسؤولية الناطقين بها، وما لم تتحرك مجامع اللغة العربية لتدارك هذا الهدر في مكانة اللغة العربية، فسوف نجدها خلال فترة وجيزة محنطة فقط بين دفتي القرآن الكريم، هذا إذا لم تكن قد أصبحت كذلك منذ زمن.

No comments: