Sunday, September 9, 2007

قطرات الزمن المهتريء
(قصة قصيرة)

أصبح صوت قطرات الماء الرا شح من سقف زنزانته الانفرادية رفيقه الوحيد في عزلته ، يقضي ساعات طويلة يتسلى بسماعها تعزف لحناً متسقاً عندما تسقط في حفرة صغيرة أحدثتها في أرض الزنزانة ثم ملأتها . هذه القطرات المُنشِدَةُ أصبحت وسيلته الوحيدة لإدراك حركة الزمن ، فلقد تعلم مع مرور الأيام كيف يستخدمها عداداً للوقت بديلاً عن الساعة .

في كل يوم ، وبعد تسلل أول شعاع للشمس من كوة صغيرة في سقف الزنزانة ، يبدأ بعدّ القطرات ، يتأملها بشغف طفولي ، ويستمتع بأصواتها المختلفة التي تتنوع حسب أحجامها ، مما ينسيه مؤقتاً ما هو فيه ، وما أن يصل إلى العدد 1800 حتى يقذف له الحارس قطعة الخبز الصباحية من فتحة أسفل باب الزنزانة ، فيبللها في ماء الحفرة ويزدردها بنهم شديد . بعد حوالي 18000 قطرة كان الحارس يقذف له قطعة خبز يابسة مع صحن صغير فيه مرق اختلط طعمه برائحة البترول كوجبة غداء ، وما أن تسقط 900 قطرة أخرى حتى تُفتح أبواب الزنزانات مؤذنة بخروج السجناء إلى ( الفورة *) ، وحتى عندما كان ( كامل ) يتمشى مع زملائه في ساحة السجن ، لم يكن ينسى صديقاته القطرات ، بل كان يستمر في عدها ، وما أن يصل إلى القطرة رقم 1500 حتى تنطلق الصافرة معلنة انتهاء فترة الراحة ، فيسرع السجناء إلى زنزاناتهم قبل أن يبدأ الحراس ضربهم بأعقاب البنادق مطلقين عليهم كلاباً المتوحشة .

لم يعد ( كامل ) يخشى جلاديه بعد أن أكلت سياطهم من لحم ظهره ، وكسرت قبضاتهم معظم أسنانه . لم يعد ( كامل ) يخشى الموت بعد أن مات معظم زملائه إن إعداماً أو تحت التعذيب . لم تعد هناك أية قيمة لأي خطر في نظر ( كامل ) بعد أن تشرد عن أسرته منذ النكبة الثانية . والده مازال يُقيم في إحدى قرى ( القدس ) يعيل عشرة من الأبناء والبنات . بعض إخوته عمل مع حكومات أو حركات وطنية أخرى مخالفة لخط الحركة التي ينتمي إليها ، فوصل الخلاف بين الإخوة حد القطيعة .

لم يعد ( كامل ) يخشى أي شيء سوى توقف صديقاته القطرات عن السقوط من سقف زنزانته ، والتي أصبحت الآن رفيقته الوحيدة ، يدعو الله دائماً أن يديمها له طيلة وجوده في السجن حتى لا يضيع زمنه من يديه بعد أن ضاع كل شيء ولم يبق إلاّ الحلم ، وهو إن قُدِّرَ له أن يخرج حياً من هذا القبر ، فلسوف يوصي الزائر الذي سيحل محله أن يصادق هذه القطرات ، وأن يستمر في عدها وأن يدعو لها بطول العمر ، ببساطة ، لأن استمرار سقوطها يعني استمرار الحياة .

إنه الآن يعد القطرات انتظاراً لخبز الإفطار ، بينما تتحسس أصابعه جروحه العميقة التي تنز دماً وقيحاً بعد أن شبعت منها سياط المحققين بأمر من مدير السجن .

السجن قلعة أثرية نائية في صحراء عربية ، تبعد مئات الكيلومترات عن أقرب مدينة مأهولة ، تصلها بالعمران طريق ضيقة تسلكها سيارات الأمن ناقلة إلى السجن المعتقلين الجدد ودوريات الحراسة الأمنية ، وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد من أسوار السجن خُصِّصَت قطعة من الأرض لتكون مقبرة لدفن جثث الذين يموتون تحت التعذيب ، حيث كان هؤلاء يُنقلون إليها تحت جنح الظلام في توابيت خشبية ، تُدفن على عمق بسيط تحت سطح الأرض ، وعشية دفن أحدهم ، كان السجناء يسمعون في جوف الليل أصوات ذئاب وضباع جائعة تنبش الأرض وهي تعوي عند المقبرة .

في التحقيق الذي فقد فيه بعضاً من أسنانه ونُتَفاً من لحم ظهره ، كان المطلوب من ( كامل ) الاعتراف بمسؤوليته عن عمل ( تخريبي ) لم يقم به ، ومع أنه كان يعرف اسم منفذه ، إلاّ أن القِيَم التي تربى عليها كانت تأبى عليه أن يَشِيَ بغيره .

مدير السجن اشترك شخصياً في التحقيق معه ، وأوصى الجلادين بانتزاع الاعتراف منه مهما كلف الأمر . مدير السجن هذا طويل القامة ، أسمر البشرة ، ذو شارب كث وسحنة تقطر لؤماً ، يبدو وجهه وكأنه قد نسي الضحك منذ عقود من السنين ، عيناه مختبئان خلف نظارة سوداء خشية اكتشاف الحقد الذي يقطر منهما مع كل نظرة ، وقبضتان أكلتا من وجوه السجناء ، وأكلت وجوه السجناء منهما ، فبدتا متورمتين محمرتين كيدَيْ خباز ، رضي بأن يعمل كلباً برتبة عقيد لدى سلطة غاشمة .

لن ينسى ( كامل ) كيف استقبله مدير السجن هذا في اليوم الأول لوصوله . مع اللكمة الأولى صرخ اللئيم في وجهه : ومازلت تصرّ على عبور النهر إذن ؟ . . . شرد بذهنه بعيداً وكأن السؤال لا يعنيه : ( عبر النهر ، وإلى الغرب ، تقبع أحلام الأحياء والشهداء ، أما الأصدقاء الأعداء شرق النهر فإنهم يحاولون مصادرة الحلم ، وأما حراس الحلم فيعضون عليه بالنواجذ ، ويعيشون من أجله ويموتون في سبيله ). مع اللكمة الثانية صرخ الأسمر ذو الشارب الكث في وجهه : لن تخرج حياً من هنا إن لم تعترف . قال في نفسه : ( وماذا في ذلك ، سوف أنتقل من حالة الحلم إلى حالة الشهادة ، عندها سأكسب الشهادة ، أما الحلم فإنه ، وإن خسر واحداً في سبيله ، فسيبقى له كثيرون يعيشون من أجله ) . مع اللكمة الثالثة غاب عن الوعي ونقل إلى زنزانته .

يده مازالت تتحسس جروحه ، والألم الممض يعتصر جسده حتى النخاع ، بينما قطرات الماء ما زالت تتابع سيمفونيتها الرائعة ، وهو مازال يَعدُّها بفرح غامر ، وعندما وصل في عده إلى الرقم المناسب ، تدحرجت أمامه قطعة الخبز اليابسة ، فغمسها في ماء الحفرة وازدردها ، بينما تراقصت على ظاهر كفه بضع قطرات مدغدغة جلده الرقيق ، فأحس بنشوة عارمة ، وحمد الله أنه مازال يقبض على زمنه .

تعددت جلسات التحقيق ، وتكررت اللكمات من صاحب الشنب الكث . لعلعت سياط الجلادين ، وتناثر لحم الكتفين والظهر والصدر ، والموقف مازال على حاله ، ونتائج التحقيق تراوح في مكانها . موقف مدير السجن أصبح حَرِجاً للغاية أمام إلحاح رؤسائه بأن يقفل التحقيق مع ( كامل ) بنتيجة إيجابية : توقيع ( كامل ) على اعتراف صريح بارتكاب فعل نضالي يحرمه القانون ، و ( كامل ) لم يعد همه سوى عد القطرات الساقطة من سقف زنزانته ، والعض على حلمه بالنواجذ .

استمر في عد القطرات ، وهاهي ذي قطعة الخبز مع صحن المرق تحضر لنجدة معدته الضامرة ، ويستمر في عد القطرات ، وهاهي ذي الأبواب تفتح للخروج إلى ( الفورة ) ، وبدل أن يمضي مع زملائه إلى ساحة السجن ، اقتاده حارسان إلى مكتب المدير .

وراء مكتبه كان يجلس كتلة من حقد والشرر يتطاير من عينيه ، ورذاذ لعابه يتناثر وهو يتهدد ويتوعد ، وتنفذ كلماته البذيئة من بين أصابع يديه اللتين تلوحان في جميع الاتجاهات ، وبين الجملة والأخرى ضربة بالقبضة على المنضدة الخشبية ، فتتطاير الأشياء المبعثرة على سطحها بفوضى لا تقل عن فوضى تفكير هذا المغرور . أقفل (كامل ) أذنيه ولم يعد يسمع شيئاً مما يتفوه به هذا الكلب العقيد صاحب الشنب الكث ، فقد حفظه عن ظهر قلب . ما يهمه الآن أنه مازال يعد القطرات ، فبعد 1100 قطرة سيدخل السجناء زنزاناتهم ، وبعد 6500 قطرة ستغيب الشمس ، وتظلم زنزانته تماماً ويدخل في سبات عميق ، والرذاذ مازال يتساقط على وجهه ، وكلمات السوء تهطل على أذنيه ، ثم لكمة قوية تلقيه أرضاً فيغيب عن الوعي .

الآن يرى والده العجوز يبحث في حقله عن نعجة أضاعها ، وهو يلهث من شدة الجري في جميع الاتجاهات . أخيراً ، وبعد طول لهاث ، يعثر على عصفور ميت له قرنان وذيل نعجة ، أما النعجة فها هو يراها معلقة على كلاّب لحام القرية الذي يبدأ بتقطيع لحمها وإطعامه لكلاب متوحشة مسعورة . جردل من الماء البارد يُسفَح على وجهه فيصحو من غيبوبته :
" غداً سيحضر والدك لزيارتك ، عليك أن تتظاهر بأنك في أحسن حال ، وإلا كانت نهايتك مع انتهاء الزيارة ، أقسم لك على ذلك ، يكفي أنك ما زلت حياً حتى الآن رغم عدم تعاونك معنا " .

تجاهل ( كامل ) صوت محدثه ، واستمر في عد القطرات حتى وصل إلى 900 فأمره مدير السجن بالعودة إلى الزنزانة ، فهرع من فوره للاطمئنان على حبيباته القطرات ، وحمد الله على أن زمنه مازال يتراقص بين يديه .

أسعده أنه سيرى والده غداً ، وخمن أنه لن ينام هذه الليلة من الفرح ، بل سيقضيها في عد القطرات طيلة الليل ولأول مرة منذ صادقها ، غير أنه ، ولشدة تعبه ، وبسبب الآلام التي كانت تأكل جسده ، دخل في سبات عميق بعد سقوط القطرة الألف .

في الصباح ، وبعد أن ازدرد قطعة الخبز اليابسة ، فتح الحارس باب الزنزانة واقتاده إلى مكتب مدير السجن . نعم ، لقد حضر والده ، وسوف يراه بعد غياب سنين ، ولكن ما هي الطريقة التي تمكن بها والده من الحصول على إذن بزيارته ؟ وكيف استطاع والده الوصول إلى هذه البقعة النائية في هذه الصحراء الموحشة ؟ . . . لاتهم كل هذه الأسئلة ولا إجاباتها طالما أنه سوف يرى والده بعد لحظات ، ومادام والده سيعثر أخيراً على نعجته الضالة . ولكن ماذا سيحل بالكلاب المتوحشة ؟ لتذهب هذه الكلاب مع صاحب الشارب الكث إلى الجحيم ، ولن تأكل بعد اليوم سوى من لحمها هي ، فبعد مقابلته والده ، سوف يعود إلى زنزانته ويعد قطرات زمنه الفضية ، ثم سيدخل في حلم يرى فيه الكلاب المتوحشة تنهش لحم أحد أفرادها ، أما لحام القرية فيجب أن يراه في الحلم وهو نفسه يبقر بطنه بسكينه ويولي هارباً ، وأما العصفور ذو الأرجل الأربع والذيل ، فسوف يستيقظ من الحلم على صوت تغريده .

فتح الحارس باب غرفة المدير ودلف مستأذناً بإدخال السجين . بقي الباب نصف مفتوح ، وهاهو يرى والده واقفاً وسط الغرفة معتمراً عقاله ، هذا العقال الذي سوف يسقط عن رأس العجوز لشدة العناق وتعلق الابن برقبة أبيه ، فهو لن يتركها ولن يكف عن عناقه لمدة يوم بحاله ، ولماذا يوم واحد فقط بعد كل هذا الفراق الطويل ، ، ليكن أسبوعاً على الأقل . الآن الدنيا تدور ب ( كامل ) وهو يرى مدير السجن يعانق الرجل العجوز مندهشاً وهو يقول له : مرحباً بك يا والدي ، ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا ؟

جحظت عينا ( كامل ) ، وفغر فاه ، اكتسحت جسده النحيل قطرات عرق باردة ، أبرد من قطرات زمنه ، أحس وكأن الدم قد تجمد في عروقه ، وأيقن أن قطرات زمنه المهتريء قد توقفت عن التساقط الآن . . . وإلى الأبد .

*( الفورة : خروج السجناء إلى ساحة السجن لاستنشاق الهواء )

No comments: