Tuesday, November 27, 2007

نظارة الدكتور طه
(قصة قصيرة)


في كل عام ، وفي موسم الامتحانات ، تثور في أذهان من مروا بها بهمومها وأثقالها ، مشاعر مختلفة وأحاسيس متنوعة ، لعل أكثرها إثارة عندي قصة الدكتور طه.

أذكر أنني في بداية عملي بالتدريس عينت في معهد للأيتام كان يشتمل على مراحل التدريس الثلاث ، وكان من أطرف زملائنا في المعهد أستاذ عجوز اسمه "عبد المنعم" ، غير أنه لشبه بينه وبين الدكتور طه حسين –عميد الأدب العربي - في الشكل والنظارة ، فقد لقبه زملاؤه في المعهد ( الدكتور طه ) ، ومع مرور الأيام غلب لقبه اسمه الحقيقي بحيث نُسِي الاسم وبقي اللقب.

يروي الدكتور طه عن نفسه أنه كان واحداً من تلاميذ هذا المعهد منذ ما يزيد على الستين عاماً ، فقد كان والده جندياً في الجيش العثماني ، فُقِدَ في حملة جمال باشا على السويس ، فأدخلته أمه المعهد ثم انقطعت أخبارها ، ولما لم يكن له أقارب يحتضنونه ، فقد أصبح المعهد أمه وأباه ، بل وكل شيء في حياته ، ونظراً لتفوقه في الدراسة ، فقد أرسله المعهد في بعثة دراسية إلى جامعة ( الأزهر ) ، عاد بعدها إلى معهد الأيتام ليتولى تدريس مادتي اللغة العربية والدين .

مع مرور الأيام أصاب الوهن عيني الأستاذ عبد المنعم ( الدكتور طه ) ، فنصحه الطبيب بوضع نظارة طبية ، ومنذ ذلك الحين لم تفارق النظارة عينيه إلا عند النوم ، ونظراً للون زجاجها الأسود الغامق ، وشكلها الذي يشبه شكل نظارة الدكتور طه حسين ، فقد أطلق عليه تلاميذه وزملاؤه لقب ( الدكتور طه ) ، فرضي هو بهذه التسمية ، بل وتباهى بها أيضاً.

ومن أطرف ما رُوِيَ عن الدكتور طه أنه عندما كان يُكلف بمراقبة امتحانات نهاية العام ، كان يدخل قاعة الامتحان حاملاً طربوشه الأحمر بيد ، وبالأخرى زهرة فل بيضاء ، ، وبعد تبادل عبارات التحية بينه وبين طلابه – والمبالغ فيها معظم الأحيان – كان يطوف قبل بدء الوقت الرسمي للامتحان بين المقاعد ، مشجعاً طلابه ، باعثاً فيهم شعور الثقة بالنفس ، فإذا ما وُزِّعت أوراق الأسئلة عليهم ، تراجع الدكتور طه إلى الخلف ، حتى إذا ما وصل إلى حافة المنضدة ، نزع طربوشه واضعاً إياه والفلة عليها ، ثم وبصعوبة بالغة ، مستعيناً بالله ، ترفع ذراعاه الواهنتان جسده النحيل إلى الأعلى ، ثم تنزلق مقعدته ببطء إلى الخلف ، وتتدلى ساقاه الطويلتان حتى لتكاد فردتا حذائه تلامسا أرض الغرفة ، وهو يهزهما باسترخاء واضح ، وربما أحس الدكتور طه بعد قليل بتعب ، فسحب جسمه إلى الخلف مسنداً ظهره إلى الحائط مطلقاً العنان لساقيه لكي يتأرجحا بحرية أكبر.

وتمضي الدقائق وتتراكم حتى تصل إلى الساعة أو يزيد ، والدكتور ثابت على نفس الوضعية لا يتحرك ، وبين الفينة والفينة يطلق تحذيراته إلى التلاميذ منبهاً ومحذراً : " وجهك أمامك يا أخانا " ، " انظر في ورقتك وبدون كلام " ، " اعتمد على نفسك يا بني " ، فكانت هذه التنبيهات ومثيلاتها تنطبق على جميع التلاميذ ، فيحسب كل منهم أن الدكتور إنما يوجه تنبيهاته إليه شخصياً ، فلا يشك أحد منهم بأن الدكتور متنبه لسير الامتحان ، لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، كما لم يكن يدور في خلد أي منهم بأن الدكتور كان يغط في نوم عميق ، حيث اختبأت عيناه خلف زجاج نظارته القاتم ، غير أن أصدقاءه القدامى كانوا يعلمون - لكثرة ما راقب من امتحانات ، ونظراً لتطابق موسمها مع بداية فصل الصيف – يعلمون عجزه عن مقاومة النعاس ، إذ اعتاد سيادته أن ينام خلال مراقبته الامتحانات نوماً عميقاً ، مع التنبه على فترات متقطعة لكي يعطى التلاميذ الممتحنين بعض التعليمات والتنبيهات ، ثم يعود بعدها إلى سباته العميق ، بهدوء ودون أن يلحظ ذلك أحد . لكن بطريقة أو بأخرى ، تسرب هذا السر إلى التلاميذ ، فأدركوا أن أستاذهم العجوز كان يخدعهم بذكائه البارع كل هذه السنين ، فعزموا على تعويض ما فاتهم .

كان أول امتحان يراقبه الدكتور طه – بعد افتضاح سره الخطير – امتحان في الرياضيات. دخل الدكتور قاعة الامتحان ، وبعد عبارات التحية وتوزيع الأسئلة وتوجيه التعليمات والنصائح كالمعتاد ، اتخذ موضعه على المنضدة ، وانتظر التلاميذ دخوله في عالم الأحلام ، ولكن دون جدوى ، فقد لاحظوا أنه يعطيهم تعليماته المعتادة ، وتنبيهاته المتكررة ، بينما يهش بيده الواهنة ذبابة كانت تهاجم بشراسة وجهه النحيل من جميع الجهات بلا هوادة ولا رحمة ، فأيقن الجميع أن مستقبلهم معلق على جناحي تلك الذبابة اللعينة ، فالمادة رياضيات ، والحصول من زميل على قانون رياضي مؤلف من عدة أرقام ربما سيكون مفتاح النجاح ، بل ويعادل جهد سنة كاملة .

وانتظر التلاميذ طويلاً بينما عيونهم تتابع بقلق جناحي الذبابة ، وقلوبهم خافقة بعنف تدعو الله أن تكف تلك اللعينة عن الرعي في وجه مراقبهم العجوز ، ، وأخيراً ، ها قد أتى الفرج ، فقد غط الدكتور على ما يبدو في نوم عميق ، إذ كفت يده عن ملاحقة الذبابة ، وتوقفت ساقاه تماماً عن التأرجح ، هل اعتاد وجهه على إزعاجها ؟ هل تعبت يده من ملاحقتها ؟ ومع أنها ما زالت ترعى في وجهه حد الثمالة ، مازال ممسكاً عن طردها ، صابراً على أذاها ، فماذا في الأمر ؟ هل هي خدعة من الدكتور العجوز يحاول من خلالها ضبط أحدهم متلبساً بالغش ؟ أم أن النعاس قد أفقده الإحساس بإزعاج الذبابة ، فانحدر وعيه مسرعاً إلى وادي النوم ؟ لكن ليس لأي من هذه التعليلات والتأويلات الآن أية أهمية أو قيمة ، طالما أن الرجل قد نام وسنحت الفرصة للجميع ، فبدأت همهماتهم ، وسرت حلول المسائل بينهم سريان النار في كومة من القش الجاف ، وتحول الهمس إلى كلام ، والكلام إلى ضجيج، والدكتور ثابت على وضعه لا يتحرك ، فقد كان نوماً عميقاً جداً هذه المرة .

مدير المعهد جذبته الضجة إلى دخول قاعة الفصل الذي يرابط فيه الدكتور طه ، وحالما ظهر على باب القاعة ، صمت الجميع كما لو أنهم ضغطوا بأسنانهم على ألسنتهم ، وصرخ المدير : "دكتور طه ، هل هكذا تُراقَب الامتحانات ؟" ، كرر صرخته مرة ثانية وثالثة دون أن تصدر عن النائم أية حركة ، والذبابة ما زالت ترعى في وجهه ، واغتاظ المدير ، فهو يعرف أن صاحبه ينام أحياناً أثناء مراقبة الامتحانات ، ولكن ليس بهذا العمق . " دكتور طه ، أأنت في المعهد أم في غرفة نوم ؟ " أيضاً ضاع صراخ المدير كمن ينفخ في قربة مثقوبة ، حينئذ اندفع المدير إلى الدكتور وهزه بعنف من كتفه . طارت الذبابة بعيداً ... مال جسد الدكتور ببطء ، سقطت نظارته عن عينيه ، ثم وقع على الأرض بلا حراك . هنا أدرك الجميع – ما عدا الذبابة – بأن الدكتور طه كان قد فارق الحياة.
كان الدكتور طه قد أوغل في شتاء العمر عندما وافاه الأجل ، ولم يكن أحد من الناس يعرف سنه الحقيقية أثناء حياته ، لكن هذا السر انكشف لهم عندما زاروا قبره بعد بنائه ، فقد كتب تلاميذه على شاهدة القبر :
هنا يرقد المغفور له الدكتور طه
تاريخ الميلاد غير معروف ، قضى عن خمسين سنة دراسية

No comments: