Monday, November 12, 2007

سميرة
(قصة قصيرة )

منذ مدة طويلة وهي تعبر خياله بإلحاح عنيد ، رغم أن أربعين سنة قد مرت على آخر لقاء بينهما ، وهاهو ذا يركب الحافلة التي ستوصله إلى الشارع الذي كانت – وربما لا زالت – تقيم فيه ، والمطر في الخارج يهطل بغزارة يخشى أن تمنعه من الاهتداء إلى المنزل المقصود ، يقطع الوقت عابثاً بإصبعه ببخار الماء الذي تكاثف على سطح الزجاج البارد ، يرسم دوائر وخطوطاً ثم يمحوها بكفه ، ينفخ هواء رئتيه الدافيء لكي يعيد تكوين البخار على الزجاج ، ثم يعبث به مرات ومرات ، وهو في هذه الأثناء يستعيد ذكريات العلاقة التي ربطته بها لأسابيع معدودة ، ثم انقطعت لسنوات طويلة . تقابلا في رحلة جماعية إلى أحد المصايف الجبلية ، كانت صحبة شقيقتها ووالدتها ، وخلال تلك الرحلة التي لم تتجاوز الساعات الثمان تعارفا ، وشعر – وربما هي كذلك - كأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ سنوات الطفولة ، ما زال يتذكر جيداً ملامح وجهها البريء ، وجديلتيها الغليظتين ، والحلقات الكبيرة التي كانت تزين بها أذنيها مما أعطاها ملمحاً أندلسياً لا تخطئه العين ، ، مع نهاية الرحلة - وربما بإلحاح من سميرة - طلبت الأم منه أن يعطي ابنتها دروساً في اللغة الإنكليزية ، فهو في بداية مرحلة الدراسة الجامعية ، بينما كانت هي في نهاية مرحلة الدراسة الإعدادية ، كيف سارت الأمور بعدها ؟ ، ، يعبث من جديد بالبخار المتكاثف على سطح الزجاج ، ، ينظر إلى سطح كفه التي بدأ الزمن يطبع بقعه السوداء عليها إيذاناً بدبيب الشيخوخة إليه ، نفس هذه الكف مرَّت مرات على سطح كفيها ، أو قلَّبت معها صفحات كتب ودفاتر كانت تشهد على تصاعد الوجد في قلبيهما الصغيرين ، ، حنين سنوات العشق تتحرك في جوانحه ، أعطافه تهتز بعنف تأهباً للحظة لقاء انتظرها أربعين سنة ، ، لم يكن وضعه المالي والاجتماعي في حينه ، ولا سنها الصغيرة ، تسمح له بخطبتها والارتباط بها ، ، لا أحد يدري كيف تسير سفينة الحياة ، ولا من أية جهة تهب عليها الرياح العاتية تحملها في اتجاهات تعجز مهارة الربان عن السيطرة عليها ، ، خطوط حياتنا مثل هذه الخطوط التي على الزجاج البارد ، تظهر وتختفي دون منطق يحكمها أو أسباب وجيهة تبررها ، لذا كان الفراق قدراً محتوماً استمر كل هذه المدة الطويلة ، لكن وبما أنها كانت تزور خياله مراراً وعلى مدى هذه السنين الطوال ، فإنه يشعر بأنه لن يفاجأ عندما سيراها بعد قليل

ينزل من الحافلة أمام الشارع الذي يذكر أنها كانت تقيم فيه : نعم إنه نفس الشارع ، مع ظهور عدد من المحلات التجارية على جانبيه ، ، شارع ضيق مسدود النهاية تضيئه مصابيح باهتة أضفت - مع المطر الهاطل - مسحة من رهبة ممزوجة بالسكون ، ، يرفع ياقة معطفه اتقاء البرد والمطر ، يُعرِّج على دكان بقال ويسأله عن بيت السيدة سميرة ، فيشير الرجل إلى نفس مدخل العمارة الذي ما زال يتذكره ، ، حسنٌ ، كل شيء يسير حتى الآن على ما يرام ، ، يتحسس خطواته باتجاه باب العمارة ، ، نفس المدخل ذي الضوء الخافت ، مصباح صغير يضيء المدخل الموحش ، وحواف الدرجات الرخامية قد تثلمت تحت وطأة الأقدام ، فأصبحت مصيدة لمن لا يحسن تحسس مواضع خطواته ، وعليه الآن أن يصعد إلى الدور الثاني ، ، نعم الدور الثاني ، مازال يتذكر ذلك بوضوح ، أيامها كان يقفز الدرجات مثنى مثنى أو ثلاث ثلاث يسبقه قلبه قبل خطواته ، أما الآن وقد أذهب الزمن جلَّ نظره ، وأوهنت السنون قوة عضلاته ، فعليه أن يتحسس طريقه مستعيناً بحافة الدرج ، عندما ستفتح له الباب سيسألها مستفسراً : هل هذا بيت السيدة سميرة ؟ . سترد بالإيجاب ، عندها سيقول : وهل عرفتني ؟ ربما ضعف نظرها فاستعانت بنظارة طبية ، سوف تتمعن فيه ثم تصرخ : معقول أنت ؟. لن ينقص المشهد سوى عناق حار ، لكن ربما كانت متزوجة – وهذا مؤكد – إذن فالتقاليد تتعارض مع هذا الأسلوب العصري في التعبير عن الشوق ، لا يهم ، المهم أن المفاجأة ستعقد لسانيهما وبعدها فليكن ما يكون ، ، فيما مضى كانت مربوعة القامة تميل إلى القصر ، لكن نحافة جسمها كانت تضفي عليها مسحة من أناقة ، فهل ما زالت كما كانت ؟ أم تنتظره مفاجآت من نوع ما . وصل إلى الدور الثاني من البناء ، تحسس إطار الباب باحثاً عن الجرس فعثر عليه بعد لأْي ، ربما كان هو نفس الجرس الذي كان يقرعه كلما كان يأتيها بحجة الدرس
رنين الجرس يدوي في الداخل ، حركة أقدام تُسمع تتحرك خلف الباب ، مصباح يُضاء من الداخل ، يُفتح الباب فيظهر وجه امرأة عبثت به الأيام بقسوة : جبين مجعد ، ووجنتين رخوتين ، شفاه تتدلى وكأن صاحبتها مصابة بلوثة عقلية ، طول الجسم مساوٍ لعرضه ، خصر منتفخ مع ترهل نتج عن حالات حمل متكرر ، عينان زائغتان ترقدان خلف نظارة جِدُّ سميكة ، رائحة تبغ وقهوة وهواء ساخن وهمهمات باقي أفراد العائلة تأتيه من الداخل . هي بعينها ، لكنها كائن هَرِمٌ دميمٌ نِتاجُ زمن لا يرحم ، ، ارتعش بعنف ، ، تلجلج صوته ، لكنه تماسك وسألها :
- هل هذا بيت السيد عدنان ؟
- لا يا أخي ، أنت مخطيء بالعنوان .

No comments: