Wednesday, March 17, 2010

(واحدة اليوم، والأخرى غداً)
(قصة قصيرة)

اهتزت قصبة الصيد في يده بشدة أفزعته ، وانحنى رأسُها إلى حد خشي معه انكسارها . ها قد جاءته هذه السمكة اللعينة بعد طول انتظار ، فقد رمى صنارته في الماء حتى الآن أكثر من مائة مرة ، على ما يذكر ، دون أن يظفر بأي صيد ، النهر هنا - في القسم الأعلى من مجراه - صعب المراس ، حيث انحداره شديد ، وأرضه مليئة بالصخور الكبيرة التي تتكسر عليها المياه مشكلة موجات عنيفة عالية . من شدة تخبط السمكة خشي على القصبة من الانكسار ، وهو غير مستعد لهذه النهاية بعد أن أمِل في صيد ثمين . أرخى القصبة إلى أقصى حد ممكن ، فارتخى معها خيط الصنارة ، وابتعدت السمكة أكثر باتجاه التيار ، عاود الشد مرة ثانية ، فعاودت السمكة التخبط والشد العنيف من جديد ، ، تبادل مع السمكة حركات الجذب والإرخاء ، وهي ممعنة بكل عنف في محاولة الإفلات من الصنارة . عائلته في المنزل تنتظر عودته بأي شيء يؤكل ، فمنذ أن صادر مرابي المنطقة أرضه - لعجزه عن سداد الدين - وهو يقتات مع أسرته ما تيسر له من صيد نهري أو بري ، والنهر هذا اليوم ، على غير عادته ، عنيف الجريان عالي التيار ، ربما ساعد ذوبان الثلوج في الجبال القريبة على ارتفاع منسوب مياهه ، وبالتالي ارتفاع درجة جيشانه وتمرده ، ، يتدفق بعنف وكأنه يحاول مساعدة السمكة على الإفلات من الصنارة . أصغر أبنائه يجلس القرفصاء ، مراقباً هذا الصراع العنيف بين الموت الذي يريده والده للسمكة ، وبين إرادة الحياة التي تتمسك بها السمكة بعناد واضح . يلقي الصبي بحصى صغيرة في النهر يزعج صوتها أباه المتشبث بالقصبة ، فيعنفه الأب طالباً منه المساعدة بدل التفرج عليه ، والصبي يهرب من تعنيف والده إلى شجيرات توت برية قريبة ، يطفيء بثمارها القليلة بعضاً من نيران جوعه . تهدأ السمكة قليلاً ، ويبدو أنها تعبت من كثرة الشد والخبط ، فيتمكن الرجل من لف الخيط على ماكينة القصبة ، وكلما ازداد اللف حول الماكينة ، ازدادت القصبة انحناء ، وبالتالي ازداد خطر انكسارها ، ومن ثم ضياع السمكة في هذه اللجة ، مما يعني طي يوم آخر من أيام الجوع لكافة أفراد العائلة . من شدة مقاومة السمكة اعتقد أنها ستكون كبيرة إلى الحد الذي سيكفي نصفها لإطعام العائلة ، والنصف الآخر لبيعه للحصول على بعض الخبز والسكر والشاي،الذي لم يدخل البيت شيء منه منذ أشهر ، ولو كان محظوظاً - مثل ابن عمه الذي عثر منذ سنوات على خاتم من ذهب في جوف سمكة - فسوف يستعيد أرضه من ذلك المرابي اللعين ، وسوف تتحسن الأحوال عندما ستعمل الأسرة جميعها - كباقي العائلات - في الزراعة ، لذا ازداد تشبثاً بالقصبة ، بينما ازدادت السمكة تشبثاً بالحياة . كثير من الصيادين نصحوه بأن يأتي إلى هذه المنطقة من النهر ، ففيها تحاول أسماك السالمون القفز عكس التيار للوصول إلى النبع الهاديء لكي تضع بيضها هناك ، وهي في قفزها هذا تتجاوز حتى الشلالات الهادرة ، مدفوعة في ذلك بغريزة حب البقاء ، فماذا لو كانت العالقة بصنارته الآن واحدة كبيرة منها ؟ وهل سيكون قاسياً عليها إلى حد حرمانها من استمرار نسلها ؟ وماذا عن نسله هو ؟ هل حرص السمكة على استمرار نسلها يتعارض مع حرصه هو على استمرار نسله ؟ وماذا لو استطاع الوصول إلى حل وسط لهذه الإشكالية ؟ . . أقسم - بينه وبين نفسه - أنه لو حصل على مثل تلك السمكة فإنه سوف يأخذها حية إلى المنبع في جردل ماء ، وهناك سوف يعتصر بطارخها ، سامحاً لبيوضها ان تستقر في الماء الهاديء ، ومن ثم سيكون من حقه ، بعد أن ضمن استمرار نسلها ، أن يضمن استمرار نسله هو . . هكذا كانت نفسه تحدثه ، بينما انهمك جاهداً في لف الخيط على الماكينة التي تعطلت أكثر فأكثر ، ، ولم تعد تستجيب لرغبته في تقصير طول الخيط ، ومن ثم تمكينه من تناول السمكة من الماء . هذه الماكينة اللعينة تتعطل الآن ، تماماً في الوقت الذي يلزم أن تكون مطيعة له أكثر من زوجته . الطريقة الوحيدة المتبقية لاستخراج السمكة الآن - وبعد أن تعطلت الماكينة - تكمن في أن يتراجع بسرعة عن حافة النهر ساحباً السمكة منه ، بعد أن كادت هي أن تسحبه إلى النهر ، وبالفعل بدأ بالتراجع إلى الخلف مبتعداً عن النهر ، ولحسن حظه ، ها هي السمكة تهديء من روعها ، فتستكين حركتها ، وتمتثل له بالانسحاب التدريجي من الماء ، وحتى لا يبتعد كثيراً عن ضفة النهر، فقد وضع القصبة أرضاً وشرع في سحب الخيط من الماء بكلتي يديه ، لكن ، وبسبب شدة التيار ، ولثقل وزن السمكة ، فقد كان عليه الجذب بقوة بدأ معها لحم كفيه بالتشقق ، فسال الدم منهما بغزارة ، ، ، لا يهم طالما أن السمكة على وشك الخروج من الماء . كانت الشمس قد بدأت بالتواري خلف التلال المجاورة ، والظلام قد بدأ يزحف رويداً رويداً مبتلعاً كل الأشياء بوحشة قاتلة ، تماماً كما ابتلع الجوع أحشاء العائلة لعدة أيام ، عندما وصلت السمكة إلى الشاطيء لم يستطع أن يتبين ملامحها بين طيات الظلام ، ولدهشته كانت حركتها قد سكنت تماماً ، فربما لشدة تخبطها ، أنهكها التعب فاستسلمت في راحة أبدية ، تماماً كما استسلم هو إلى فرح غامر . . انتبه إلى ضرورة تجفيف الدم من على كفيه ، فمسحهما بحركة عفوية بجانبي بنطاله ، وتوجه نحو السمكة ، ، ، فلتبشر العائلة بعشاء دسم ، ووداعاً أيها الجوع الكافر ، وسواء حملت هذه السمكة في بطنها ذهباً أم لم تحمل ، فالبطون خاوية ، والأفواه مستعدة حتى لقضم العظم ، ومن المؤكد أن جاره لن يتردد في شراء نصف السمكة ، والذي بثمنه سوف يستمتع بشرب كأس من الشاي طال انتظاره ، أما أن تطبخ زوجته نصف السمكة مقلياً أو مشوياً أو مسلوقاً فذلك ليس بالأمر المهم . يزداد اقتراباً من السمكة : هل ينظفها الآن بماء النهر ، أم يترك أمر ذلك لزوجته ، ، الأفضل أن يعود إلى بيته فوراً بعد أن حل الظلام ، خاصة وأن هذه المنطقة تعج بالحيوانات المفترسة ، والتي ربما ستجذبها رائحة السمكة فيقوم أحدها باقتناصها من يده ، وهو الذي أنفق يوماً بانتظارها ، وأنفقت العائلة يوماُ بانتظارهما وصل إلى حيث تمددت السمكة بلا حراك ،، رفعها عن الآرض ،، قلبها بين يديه ،، نظر باندهاش إلى رأسها حتى آخرها ،، قلبها إلى الأعلى ، فسال منها ماء النهر مع طين كثيف ، ، قلبها مرة ثانية وثالثة ، أغمض عينيه ونظر إلى الأعلى ،أطرق … سالت دموعه بيأس واضح ، ، نزع منها الصنارة ورفعها بيده مطوحاً بها باتجاه النهر . . . الصبي يصرخ في أبيه من بعيد : " لا . . لا .. أرجوك يا أبي ألاّ تعيدها إلى النهر ، يبدو أنها على مقاس قدمي ، وأنا حافٍ كما تعلم والعيد على الأبواب ، دعني أجربها الآن ، فربما نعود إلى هنا غداً لكي تصطاد لي الفردة الأخرى .

No comments: